في المفهوم
منذ أطلت إدارة الرئيس الأميركي الجمهوري دونالد ترامب على العالم، ظهرت مؤشرات كثيرة على أنها مولعة بالمختلف والمثير والجاذب، وأنها تطرب لوصفها بأنها تفكر نظريًا وتتحرك عمليًا من خارج الصندوق والمألوف .. هذا، على الرغم من كونها لم تسع ولا هي حاولت تطبيق ما هو في الصندوق؛ الذي يحوي، بالنسبة للتسوية الفلسطينية، ما يكفي وزيادة لإبرام سلام قد لا يكون شافيًا؛ لكنه يفي بغرض معالجة جراح قرن مضى إلى حدود قرن آت.
بغض النظر عمن أطلقه للمرة الأولى، فإن مصطلح صفقة القرن حلق بقوة في الآفاق الإقليمية والدولية، وصار أثيرًا لدى المعنيين بشؤون القضية الفلسطينية وشجونها، يلوكه الكثيرون منهم حتى وإن لم يتحدد مضمونه ومحتواه، وكان أقرب إلى الهلامية والسيولة. وهذا في حد ذاته بدعًا من القول والفعل .. فحديث الصفقة بات يحاكي قصة العميان الذين وصفوا الفيل، كل بحسب ما جال في خاطره حول العضو الذي تحسسه.
ومن أبرز ما رشح بقصد على سبيل التسريب واستطلاع ردود الأفعال، أو بغير قصد جراء فلتات اللسان، أن الصفقة تنطوي على:
- أولوية التطبيع العربي، وربما الإسلامي أيضًا، مع إسرائيل، على التسوية السياسية مع الفلسطينيين.
- التشكيك في أهلية الحركة الوطنية الفلسطينية بقوامها التقليدي؛ الذي يتضمن منظمة التحرير والسلطة الوطنية ومؤسساتهما، للمشاركة في إنجاز التسوية “الواقعية” التي يبغيها التحالف الإسرائيلي الأميركي وبعض المتذيلين له.
- تنحية قضايا بالغة الأهمية والحساسية من جدول البحث والتفاوض، كالقدس واللاجئين، عوضًا عن أسلوب التأجيل والإرجاء؛ الذي ساد خلال آليات مدريد وأوسلو وتوابعهما.
- إعادة تأكيد السيطرة الأميركية الإسرائيلية على رقبة تحديد خطوط التسوية الفلسطينية وشعائرها الإقليمية، وتحديد أدوار الأطراف والفواعل الآخرين، بشكل فج بعيد عن اللياقة الدبلوماسية وزخرف القول.
- تفتيت الهوية الوطنية الفلسطينية واشتقاق مسار سياسي اقتصادي إنساني لقطاع غزة، تأسيسًا على ضائقته .. ويتضمن ذلك تسهيلات مغرية في مجالات الكهرباء والمياه والصرف الصحي والتجارة وحركة التنقل والتواصل مع العالم الخارجي .. وابتداع مسار آخر لما يتبقى من الضفة بعد خصم الاستيطان والمستوطنين. ويفترض أن يتأتى عن هذين المسارين كيان فلسطيني منقوص السيادة والصلاحيات؛ قد يسمى دولة.
- مع انزواء وعجاف مفهوم الدولة بمعناه الفلسطيني، تستقر القدس بكاملها في جوف إسرائيل، ويختفي حق العودة الفلسطيني .. وتبقى صلة “كانتون” الضفة بالدولة الأردنية غامضة، وتهيمن إسرائيل على منطقة الأغوار.
- على سبيل الإرضاء النفسي للفلسطينيين المولعين بمركزية القدس في حياتهم السياسية والروحية، ينسحب الإسرائيليون من بعض البلدات والضواحي المجاورة للمدينة، وأهمها بلدة أبو ديس، لتتخذ مسمى القدس. ويستطيع الفلسطينيون إعلانها عاصمة لهم .. ولا يتضمن هذا التصور، لا جغرافيًا ولا سياسيًا، رحاب الحرم القدسي الشريف والمستوطنات المحيطة به إحاطة السوار بالمعصم.
- أولوية الاقتصادي والتنموي والإنساني على الجوانب السياسية والحقوقية القانونية، ليس فقط فيما يخص غزة، وإنما الضفة أيضًا، فضلاً عن المحيط الإقليمي المستضيف للشطر الأعظم من اللاجئين في الأردن وسوريا ولبنان ومصر. يقول جاريد كوشنر مستشار الرئيس الأميركي وصهره؛ وأحد أبرز عرابي “الصفقة” .. إن نقاط الصفقة الفعلية هي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لكن الخطط الاقتصادية التي تعمل عليها تتضمن استثمارات ضخمة تمتد إلى الشعبين الأردني والمصري في البنية التحتية، لجعل المنطقة أكثر ترابطًا وتحفيزًا لاقتصادات المستقبل .. وفي ذلك إيعاز بالمكافأة على استيعاب اللاجئين حيث يقيمون، تمولها مصادر عربية وأوروبية.
ما عرف عن الصفقة، عمومًا، أن إدارة ترامب؛ التي يمارس فيها الصهاينة أدوارًا ريادية في صنع السياسات والقرارات وإنتاج المشروعات ورسم الخرائط، تتعامل مع القضية الفلسطينية بضفيرة من اللاءات والمواقف المتبجحة: لا حديث عن احتلال؛ لا إدانة للاستيطان؛ لا لحل الدولتين؛ لا حق للفلسطينيين في العودة؛ القدس خالصة لإسرائيل وهي عاصمتها. وهذا كله يعبر عن تبني رؤية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأركان حكومته مما يسمى باليمين الديني والعلماني، وقوامها أن ما لا يقبله الفلسطينيون والعرب طوعًا يقبلونه كرهًا. وقد ترجمت واشنطن هذه الرؤية عبر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والتعجيل بنقل السفارة الأميركية إليها.
عاصفة التكهنات
كل النقاط التي أشير إلى أنها تمثل جزءًا أو آخر من الصفقة الجاري تصنيعها أميركيًا، جاءت على شاكلة توقعات وتسريبات واستنتاجات، ولم يكن بينها ما يمكن التأكد منه بحيثية يقينية .. ذلك لأن منتجيها تعمدوا عدم الإفصاح عن مضامينها، وراحوا يكررون الوعد تلو الآخر بأنهم سوف يعلنون عنها دفعة واحدة فور استكمال هذه المضامين، وأنها ستكون ساعتئذٍ للتطبيق وليس للتفاوض. وكان الفلسطينيون أكثر الأطراف المخاطبين بهذا الوعيد.
هذا الغموض المصحوب بحراكات أميركية عاطفة على الجانب الإسرائيلي بلا مواربة، كان مدعاة لإثارة الهواجس السلبية لدى الفلسطينيين. وقد تجلت هذه الهواجس في الخطاب السياسي والإعلامي للقيادة الفلسطينية في كافة مستويات المسؤولية. وكان ذلك حدسًا مقبولاً بسبب تراكم الخبرات الفلسطينية مع ما يحاك في أروقة السياسة الدولية بليل وفي الخفاء، كاتفاقية سايكس ومشروعات تقسيم فلسطين. ثم إن الهواجس صعدت إلى طور الغضب وإعلان منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية القطيعة السياسية وإيقاف كافة أشكال التواصل مع الإدارة الأميركية، بعد خطوة اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل. وفي السياق جرى إطلاق وصف الصفعة على الصفقة. ومنذ تلك اللحظة في أواخر عام 2016، أصبح الموقف الفلسطيني هو الأكثر وضوحًا في التعبير عن رفض الوساطة الأميركية برمتها في عملية التسوية، والبحث في كافة الأوساط الدولية عن استبدال العراب الأميركي بآلية دولية متعددة الأطراف والوسطاء، دون إغلاق الباب أمام القبول باستمرار الدور الأميركي داخل هذه الآلية.
وللإنصاف، لم يلق حديث الصفقة بمواصفاتها التي رشحت متلصصة، تجاوبًا أو إقبالاً من معظم، حتى لا نقل من كل، المهتمين دوليًا بالتسوية الفلسطينية .. وهنا كانت إسرائيل الطرف الوحيد الذي يشعر بالطمأنينة ويتمتع بالسكينة في هذه الأجواء المحمومة والمغلفة بالمحاذير. وكان ذلك سلوكًا طبيعيًا في إطار المؤشرات والنذر والوعود، التي تؤكد أن الصفقة العتيدة، لن تخرج إلا من عباءة السياسات الإسرائيلية ولن تتجاوز طموحات إسرائيل ومراداتها وخرائطها. بل وقيل في غضون هذا الحديث أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو هو المؤلف الحقيقي للنقاط التي يجرى إعدادها، بينما يتم الإخراج والتسويق من واشنطن.
البعد العربي
لا يمكن عزل حديث الصفقة، ولاسيما من الناحية التطبيقية، عن المحيط العربي. يصح هذا الاعتقاد عند التأمل في دور هذا المحيط كما تستبطنه الصفقة لجهة ممارسة ضغوط على الطرف الفلسطيني، أو لجهة التمويل المالي لاحتواء اللاجئين واستيعابهم عربيًا، أو لجهة إغواء بعض العرب بمكاسب ترتجى لهم أو بدفع إيذاءات محتملة عنهم، نظير التواطؤ أو عدم التواطؤ في الضغط على الطرف الفلسطيني.
بناء على هذا التقدير المقتضب، يصبح توصيف الصفقة بالعنكبوتية جائزًا ومفهومًا. فصانع الصفقة قد يسعه الترويج للاعتقاد والظن بأنها ستمر فلسطينيًا شاء الفلسطينيون أم أبوا؛ لكنه لا يملك ترف الادعاء بأن الصفقة بوارد التطبيق والحياة رغمًا عن إرادة المحيط العربي وخياراته. فهذا المحيط يمثل ابتداء وانتهاء طرفًا أصيلاً لا غنى عن دوره، بالنظر إلى واحد أو أكثر من الأسباب المشار إليها (تطويع الاستعصاء الفلسطيني؛ تمويل الوعود الاستثمارية واستيعاب اللاجئين؛ الرجاء في مكاسب أو الخوف من عقوبات).
تتجلى صدقية هذا التصور، بشكل نسبى أو آخر، في كثرة الجولات والمشاوير التي يقطعها عرابو الصفقة جيئة وذهابًا إلى العواصم العربية، ولاسيما تلك التي يظن في قوة تأثيرها في شؤون الفلسطينيين وشجونهم، كالقاهرة والرياض وعمان والدوحة. للصفقة العتيدة إذًا خيوط وتداعيات ممتدة إلى، ومتغلغلة في، الجغرافيا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العربية. ومن ذلك ما يقال عن إبلاغ واشنطن بأن المطلوب من عمان الموافقة على نشر قوات إسرائيلية في غور الأردن، والسماح بتوطين عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين، وأن على النظام الأردني أن يستجيب وإلا سيكون الأردن هو الوطن البديل للفلسطينيين عمومًا.
وفي السياق العربي للصفقة يجري تداول الحديث عن توجه واشنطن إلى استدعاء مساعدة الدول الخليجية في التمويل، وإمكانية تمديد جغرافية غزة على حساب جزء من سيناء، وتمديد الضفة شرقًا، في عملية معقدة لتبادل الأراضي بين مصر والأردن وإسرائيل .. وذلك لقاء وعود بغمر المشاركين بدعم اقتصادي واستثماري واسع النطاق.
في غضون هذه التلميحات، المعنية بتغيير خرائط وإنشاء ورشة هدم وبناء تطال أكثر من دولة عربية، يجري استخدام آليات دعائية ودبلوماسية وعمليات للتسميم السياسي، من شأنها إشاعة الفتن وبث الشكوك بين عرب وعرب .. محورها أن بعض العرب بوارد الانفضاض من حول الوصف التقليدي للقضية الفلسطينية كالقضية المركزية الأولى في شواغلهم، والتحول نحو التصدي لخطرين داهمين آخرين، هما عمليات التفكيك والفوضى والإرهاب الداخلي من ناحية، وميول إيران للتوسع والتدخل في شؤونهم من ناحية أخرى.
وكامتداد مبالغ فيه لهذه المقاربة، يتم الترويج “.. لاحتمال تبلور تحالف عربي سني / إسرائيلي ضد القوس الشيعي الإيراني، الآخذ في التمدد من طهران إلى ضفاف المتوسط، عابرًا العراق وسوريا ولبنان، فضلاً عن أتباعه ومحازبيه في جنوب الجزيرة العربية ومنطقة الخليج ..”. وعليه، فإن الزعماء العرب عليهم التوقف عن بيع الوهم للفلسطينيين أو الارتهان لهم، ولاسيما أن هؤلاء الأخيرين غير قادرين على اتخاذ قرارات تاريخية تنتشلهم وقضيتهم من المأزق الذي يعيشونه منذ عقود. ويلجأ أصحاب هذا التصور من الصهاينة الأميركيين والإسرائيليين إلى التدليل على صحة مزاعمهم بالقول بأن “.. ثمة قادة عربًا طلبوا من الرئيس الفلسطيني محمود عباس الإقرار بقرية أبو ديس كعاصمة للفلسطينيين، وأن تبقى المستوطنات الإسرائيلية في مكانها. وأن آخرين منهم لم يجدوا حرجًا في أن تكون مدينة رام الله هي هذه العاصمة .. وفي كل حال، تؤكد التجارب أن العلاقات العربية الإسرائيلية قابلة للتغير نحو الأمام، بصرف النظر عن التوصل للتسوية الفلسطينية، ومن ذلك اتفاقات السلام بين دول عربية وإسرائيل، وحالات الخرق المتوالية لقرارات وتوجهات رفض التطبيع ..”.
للإنصاف، لم تذهب كل هذه التقولات جفاء في البيئة العربية؛ وإنما وجدت لها أصداء وآثارًا في التناظر الذي احتدم حولها .. الأمر الذي أوشك على تحقيق مرادات أصحابها في إحداث البلبلة والوقيعة في لحظة عربية تعتورها الأراجيف والمكايدات والتربص. وكانت هذه الأصداء السلبية، ومازالت، تطل أكثر فأكثر بالتوازي والتزامن مع كل إعلان أميركي عن قرب إطلاق بنود الصفقة، وكذا بين يدي أي جولة شرق أوسطية لواحد أو أكثر من مسؤولي إدارة ترامب المعنيين بملفها. على أنه في المقابل لم يخل المشهد العربي من مؤشرات واقعية تنكر احتمال المرور الآمن للصفقة .. ومنها بصفة استثنائية قرارات القمة العربية التاسعة والعشرين في العربية السعودية، وإعلان الظهران الذي صدر عنها (أبريل 2018)، متضمنًا “.. التأكيد على مركزية قضية فلسطين لدى الأمة العربية جمعاء والهوية العربية للقدس الشرقية عاصمة لفلسطين؛ والتمسك بخيار السلام الاستراتيجي من خلال مبادرة السلام العربية المعروضة منذ العام 2002، وبخاصة ما تضمنته حول الوضع النهائي للتسوية الفلسطينية وفي مقدمتها قضية اللاجئين، وحل الدولتين والقرارات الأممية ذات الصلة بأبعاد القضية كالاستيطان ومصادرة الأراضي، وعلى مخرجات مؤتمر باريس الدولي (يناير 2017) الذي ألزم المجتمع الدولي بحل الدولتين سبيلاً وحيدًا للسلام الدائم ..”.
على هذا النحو، يكون النظام العربي، ممثلاً في أعلى مستوياته السياسية، قد تبنى الموقف الفلسطيني بكامله. ثم إن هذا الالتزام تأكد مجددًا من خلال مواقف العواصم المرشحة للتأثير في توجهات القيادة الفلسطينية؛ حين أبت جميعها إثناء هذه القيادة عن ثوابتها كي تتجاوب مع الصفقة العتيدة .. وتجلى هذا تمامًا في مباحثات مبعوثي الرئاسة الأميركية جاريد كوشنير وجابسون جرينبلات، التي تلت قمة الظهران؛ ومفادها الإحباط الأميركي من إمكانية ممارسة ضغوط عربية على الفلسطينيين، أو إيداعهم فريسة لتسوية لا يرضون عنها، أو الحلول مكانهم والتفاوض بالإنابة عنهم، بعد أن قاطعوا إدارة ترامب غداة قرارها بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها.
مصائر التسويات الإذعانية
يتردد أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سيقول للفلسطينيين عند رفع الستار عن ما يسمى بالصفقة؛ المبنية حتى اللحظة للمجهول وغير المحدد “.. هذه هي خطتي اقبلوها أو ارفضوها كما هي ..”.
هل يعني ذلك أن الولايات المتحدة وإسرائيل وأشياعهما سيحاولون فرض خطتهم عنوة وبالإكراه؟!.. وحتى إن افترضنا ذلك جدلاً، من يضمن تطبيقها على من لا ينسجمون معها وينصاعون لها ؟. ومنذ متى صمدت التسويات والحلول المملاة وتمكنت من تحقيق السلام والاستقرار؟. ترى، هل نسيت واشنطن ومشايعوها من العواصم المعنية، بما فيها تل أبيب، ما جرى غداة إكراه المنهزمين في الحرب العالمية الأولى، على القبول بما أملي عليهم من خرائط جغرافية وقيود اقتصادية وسياسية ؟. هذا مع العلم بأن القياس هنا مع الفارق، لأن الفلسطينيين ومؤيديهم لم يرفعوا الراية البيضاء، ولا يبدو أنهم بوارد الاستسلام في أجل قريب أو بعيد.
تقول السوابق والخبرات بأن كل الموادعات والاتفاقات والتعاقدات لا تستعصي على التقادم والهجران وإعادة النظر، تبعًا لمرور الزمن وما يستجد فيه من متغيرات وتحولات في موازين القوى والمحددات .. وتصدق هذه القناعة أكثر فأكثر على الاتفاقات الإذعانية؛ التي ربما يذهب ريحها قبل أن يجف الحبر الذي كتبت به. ولو كانت أدوات القوة وعمليات لي الأعناق والأذرع، كفيلة وحدها بتمرير الحلول السياسية، لكانت إسرائيل ومحازبوها في عالم الغرب قد كسروا إرادة الفلسطينيين منذ أمد بعيد.
لا يصح عمومًا مطالبة طرف بالقبول جبرًا بما يملى عليه، إلا إن جرى ذلك في سياق تنفيذ القوانين الدولية وقرارات التنظيمات الساهرة عليها .. وفي تقديرنا أن هذا هو الطريق الآمن؛ الذي يسمح للولايات المتحدة بأن تسوق الفلسطينيين من خلاله سوقًا إلى دائرة الخضوع والقبول. ولعل تعثر “صفقة أوسلو” الشهيرة وتوابعها على هوانها، ناجم عن إهمال هذا الطريق والاستماتة في تجاوزه وانتهاك حرمته.
الأقرب للصواب والعقلانية واستلهام دروس الماضيين القريب والبعيد، أن نصدق الطرف الفلسطيني عندما يتوقع فشل أية خطة للتسوية لا تضمن الحد الأدنى من حقوقه. وفي بعض تصريحاته، شكك جاريد كوشنير في قدرة الفلسطينيين على التصدي لها وذهب إلى أن “.. المجتمع العالمي يشعر بالإحباط من القيادة الفلسطينية؛ التي تلقي بكثير من الإدانات، ولا تقوم بأعمال بناءة لتحقيق السلام ..”. هذا مثير للاستهجان. فالرجل وإدارته يعترفون بالقدس على بعضها عاصمة لإسرائيل وينقلون سفارتهم إليها، رغمًا عن موقف الخلق أجمعين والميراث التاريخي والثقافي والديني الروحي والحقوقي للمدينة، وفي الوقت ذاته يريدون من الفلسطينيين أن لا يتوقعوا الأسوأ وأن لا تكون لهم ردود أفعال غاضبة وإدانات حادة.
زيادة على هذا الاستقواء المغلف بمظاهر الطهرية والبراءة، تدعي إدارة ترامب أن الفلسطينيين لديهم نقاط حوار لم تتغير على مدار ربع قرن بطوله، الأمر الذي حال دون التوصل إلى السلام. المفارقة هنا أن هذه الإدارة لم تتساءل من جانب آخر، عما إن كان الإسرائيليون قد غيروا أقوالهم خلال الفترة ذاتها. ولو كانت لدى واشنطن نية الالتزام بأصول الوساطة المتوازنة، لاحتكمت في هذين الموقفين المتصلبين فرضًا وفصلت فيهما، وفقًا لمواثيق الشرعية الدولية ذات الصلة كحد أقصى، أو لعملت في الحد الأدنى وأضعف الإيمان على تطبيق مرجعية أوسلو وتوابعها.
يؤكد الشاب كوشنر أن “.. القادة العرب يودون رؤية دولة فلسطينية عاصمتها القدس؛ واتفاقًا يمكن شعبها من العيش بسلام، وأن تتاح له الفرص الاقتصادية ذاتها التي تتمتع بها شعوب بلدانهم ..”. حسنًا، إذا كان هذا هو رأي العرب؛ المتوافق مع الموقف الفلسطيني على ما أشرنا أعلاه، فكيف سيتم تمرير الصفقة ؟!. من هي القوى الجهنمية التي ستجبر الجميع على السمع والطاعة؛ وما الكيفية التي سيتم بها هذا الإجبار؟.. اللهم إلا إن كان كوشنر ورهطه يخفون بعض الحقائق الموصولة ببعض المواقف العربية ويموهون على الرأي العام، بما يوحي بأن المؤثرين العرب سيستقبلون الصفقة لحظة إعلانها بقبول حسن، وعندئذ تحدث مفاجئات. والحق أن هذا التصور يبدو للآن مفارقًا للواقع والمحتمل والمعلن من لدن العواصم العربية .. والأهم أنه ينحو إلى إثارة الفتن والدسيسة بين الفلسطينيين والعرب، وربما بين عرب وعرب أيضًا.
الشاهد، أن الرفض الفلسطيني، المؤيد بالظهير العربي، أحرج صناع “صفقة القرن”، وجعل صفقتهم حتى الساعة أقرب إلى القنبلة الصوتية .. لكن ظلال هذه المحاولة، والنسيج العنكبوتي الذي صاحب دويها لنحو العامين، لن تختفي من الأجواء العربية في وقت قريب.