2018العدد 173ملف ثقافي

فنانون عرب أثَّروا في الموسيقى العربية: منير مراد في ذكراه الثامنة والتسعين

لو طرحنا على ملايين العرب هذا السؤال: من يعرف اسم موريس موردخاي لجاءت النتيجة أقل من واحد بالمائة. ولو غيرنا السؤال إلى ما يلي: من يعرف اسم منير مراد لارتفعت النسبة إلى 98 بالمائة وقد تصل إلى 100 بالمائة.

منير مراد هو أحد أبناء فنان كان أحد المسيطرين على ساحة الغناء العربي في بداية القرن العشرين، وهو زكي موردخاي المعروف باسم زكي مراد، وهو أيضًا أخ الفنانة ليلى مراد، وهم من عائلة يهودية مصرية.

وُلِد منير مراد في 13 يناير/كانون الثاني 1920، وبدأ منذ شبابه الغناء في الإذاعة المصرية منذ تأسيسها سنة 1934. في سنة 1939 بدأ الحياة العملية بعد تركه الدراسة، فدخل مجال السينما كعامل كلاكيت عند المخرج الكبير توجو مزراحي، ثم كعامل كلاكيت ثم كمساعد مخرج في 24 فيلم عند المخرج الكبير كمال سليم مخرج فيلم العزيمة الذي أدرجه المخرج السينمائي العالمي الفرنسي جورج سيدول في قائمة أعظم مائة فيلم في تاريخ السينما العالمية، في موسوعته السينمائية التاريخية.

وتعرَّف منير مراد على محمد عبد الوهاب في بداية حياته بعد أن ظهرت أخته ليلى مراد مع الموسيقار الكبير في فيلم يحيا الحب (أول عرض: 24/1/1938)، وكان يصحبه في جميع رحلاته إلى أوروبا. إلى أن قرر (وقد يكون ذلك بسبب تأثره بمحمد عبد الوهاب) ترك التمثيل والاتجاه إلى التلحين. وكانت أولى محاولاته أغنية في فيلم من إخراج حلمي رفلة غناء شادية. لكن المخرج رفض إدراجها في الفيلم لطابعها الحزين. صدمته كانت كبيرة لولا إقناع شادية له بتلحين أغانٍ متفائلة ومرحة. وجاءت الفرصة عندما كان أنور وجدي (زوج شقيقته ليلى مراد) يستعد لإخراج فيلم «ليلة الحنة» بطولة شادية وكمال الشناوي (أول عرض 19/2/1951)، عرض عليه منير أغنية واحد اثنين، فقبلها أنور وجدي بعد تردد كبير، وأدرجها في الفيلم مع أغنيات أخرى من تلحين العملاق محمود الشريف: يا ميزان الحرارة، وغاب عني ليه، ويا حسن يا خولي الجنينة. وتنطلق هذه الأغنية (واحد اثنين) كالصاروخ في سماء أغاني الفيلم لترفع اسم ملحنها فجأة إلى جانب اسم أحد أهم الملحنين في تاريخ الموسيقى العربية الحديثة: محمود الشريف، لينبثق عنها ثنائي موسيقي من أهم الثنائيات في تاريخ الموسيقى العربية الحديثة: منير مراد وشادية، حتى أكاد أن أشبه هذا الثنائي بالأخوين رحباني وفيروز (مع حفظ النسب). فقد كان فضل شادية كبيرًا في صُنع وإطلاق شهرة منير مراد كملحن، كذلك كان فضل منير مراد عليها كبيرًا بصُنع مجدها ويجعلها أحد أهم أعلام الأغنية السينمائية من خلال 69 أغنية من أهم وأشهر أغنياتها، قدمتها شادية في أفلامها الكثيرة.

وكان لا شك تأثير محمد فوزي على منير مراد كبيرًا في اختيار أسلوبه الجديد في التلحين لشادية: الأسلوب المتفائل المرح الاستعراضي الذي وجده منير في أول فيلم لشادية (العقل في أجازة) المفقود، مع محمد فوزي. ومن يذكر أغاني هذا الفيلم لابد أن يذكر أغنيتين: تانجو «ياللي وهبتك حياتي»، غناء محمد فوزي، ودويتو «متشكر» غناء محمد فوزي وشادية. أغنية «متشكر» هذه كانت قاعدة الانطلاق لأسلوب منير مراد الخفيف المرح المتفائل والاستعراضي الذي لازمه طوال حياته الفنية وبالذات في ألحانه لشادية.

ويعود شوقه للتمثيل، فيقرر أن ينتج فيلمًا تشاركه فيه شادية: فيلم (أنا وحبيبي) سنة 1953، حيث ظهر كفنان شامل: كملحن ومغن وراقص ومقلد للفنانين، وسوف نتناول كل هذا بالتفصيل لاحقًا.

كان نجاح أغانيه لشادية سببًا في أن يسعى المغنون والمغنيات وراء ألحانه، فلحن لسعاد حسني ونعيمة عاكف ونيللي وفيروز ولبلبة وإسماعيل ياسين وشكوكو وثريا حلمي وفايزة أحمد ومحمد قنديل وشريفة فاضل ووردة وهدى سلطان وصباح وعبد الحليم حافظ. وفي المسلسل الإذاعي (لا تفهمني بسرعة) غنى عادل إمام مع عبد الحليم حافظ من ألحانه استعراض الطلبة.

وبعد معاهدة كامب ديفيد حاولت إسرائيل استقطابه وأخته ليلى للانتقال النهائي إلى إسرائيل فكان رفضهما قاطعًا.

توفي منير مراد في 17/10/1981، وكانت مصر في حالة حداد لوفاة الرئيس أنور السادات، فلم ينتبه أحد إلى وفاة هذا الفنان الشامل النادر. وتذكِّر هذه الحادثة بالحادثة المرتبطة بيوم إعلان السلطات السوفيتية وفاة الزعيم ستالين في نفس اليوم الذي توفي فيه أحد أهم عباقرة القرن العشرين في الموسيقى الكلاسيكية الغربية، إن لم يكن أهمهم، سرجي بروكوفييف، فمرت وفاته من دون أي اهتمام جماهيري أو رسمي أو إعلامي طبعًا.

بعض ألحان منير مراد

إذا كانت شهرة منير مراد قد ارتبطت بشكل رئيسي بأغنياته لشادية وعبد الحليم حافظ، فقد لحن أغانٍ رائعة لكثير من مشاهير الغناء، قد لا يعرف الكثيرون أنها من ألحانه:

1– فايزة أحمد: شغلوني عيونك، هذه الأغنية الرائعة التي تبرز فيها مقدرته ومعرفته بالأساليب التلحينية المختلفة وثقافته الموسيقية الواسعة، فبداية الأغنية ومطلعها مكتوبة بأسلوب الفلامنكو الأسباني الشهير وعلى إيقاع البازو دوبلي الرقصة الإسبانية.

2– شريفة فاضل: آه من الصبر، إذا كانت أغنية «أمانة يا بكره» التي لحنها محمد الموجي قد أطلقت شهرة شريفة فاضل فإن أغنية «آه من الصبر» لمنير مراد قد رسخت شهرتها وجعلت الكثير من الملحنين يسعون للتلحين لها. وتعتبر مع أغنية الموجي من أجمل أغنياتها.

3– مها صبري: غلاب الهوى، وهي أجمل وأشهر أغنية غنتها، وتتمتع بألحانها السلسة الجميلة وإيقاعها المتوثب الراقص.

4– وردة: من يوميها، إحدى أشهر وأجمل أغنيات وردة بطابعها المليء بالحنين للماضي واستذكاره بطابع حزين رومانسي شفاف.

5– هدى سلطان: تسلم لقلبي، من أجمل أغنياتها.

6– محمد رشدي: كعب الغزال، التي اقتحم بها منير مراد عرين أسد الأغنية الشعبية بليغ حمدي، وكنا نعتقدها من ألحانه. أغنية تتميز باللحن المتوثب والإيقاع الجارف وبطابع مرح متفائل مشرق ومسافات لحنية رائعة جديدة. كل هذه الصفات تجعل من هذه الأغنية إحدى أجمل الأغنيات الشعبية المصرية.

منير مراد وشادية:

قد لا يصدق القارئ أن أكبر عدد من أغنيات شادية كانت من ألحان منير مراد (69 أغنية)، يليه بليغ حمدي المعروف بغزارته الهائلة في التلحين (61 أغنية). وسوف يدهش القارئ أكثر عندما يعرف أسماء بعض أغنيات منير مراد لشادية التي تشكل مجدها الغنائي، خصوصًا السينمائي. وما لنا إلا أن نذكر بعض هذه الأغنيات: إن راح منك يا عين – ألو ألو (مع فاتن حمامة) – إيرما لادوس (من فيلم عفريت مراتي) – إحنا كنا فين (مع عبد الحليم حافظ) – أحب بكره – تعالي أقول لك (مع عبد الحليم حافظ) – تعالى يالله بغمضة عين – حاجة غريبة (مع عبد الحليم حافظ) – دوَّر عليه تلقاه (مع كمال الشناوي) – سونة يا سونسون – سوق على مهلك (مع كمال الشناوي) – سيد الحبايب يا ضنايا أنت – على عش الحب – أغنيته الرائعة فين السعادة – لو سلمتك قلبي (مع كمال حسني) – ما أقدرش أحب اثنين – منايا أغني – ما تقولش بكره – وديني مطرح ما توديني – ماما يا حلوة – واحد اثنين – يا شاغلني وقلبك خالي – يا سارق من عيني النوم – يا حبيبي عود لي تاني (بطابعها السوداني) – يا دبلة الخطوبة (التي تحولت إلى إحدى أشهر أغاني الأفراح).

منير مراد وعبد الحليم حافظ:

اقتصرت ألحان منير مراد لعبد الحليم حافظ على أفلامه فقط، فكانت من أجمل أغاني أفلامه هذه، ووضعته على مصاف كبار ملحني عبد الحليم حافظ: محمد الموجي، كمال الطويل، محمد عبد الوهاب، وبدأ المشاركة بالتلحين منذ أول فيلم لعبد الحليم حافظ «لحن الوفاء» (أول عرض 3/3/1955)، حيث لحن دويتو (تعالى أقولك) لعبد الحليم وشادية، ودويتو (إحنا كنا فين) لعبد الحليم وشادية في فيلم «دليلة» (أول عرض 15/10/1956)، الحق عليه ويخاصمني لعبد الحليم ولم تشتهر – أول مرة تحب يا قلبي من فيلم «الوسادة الخالية» (أول عرض 7/10/1957) – بكره وبعده من فيلم «فتى أحلامي» (أول عرض 23/12/1957) هذه التحفة الاستعراضية المكتوبة بأسلوب الجاز المتطور. ومن فيلم «يوم من عمري»: «خايف مرة أحب» والاستعراض الرائع «ضحك ولعب وجد وحب» والتحفة الرومانسية «بأمر الحب». ومن فيلم الخطايا تبرز أغنيته «وحياة قلبي وأفراحه» التي تحولت إلى أغنية النجاح في أي مجال من مجالات النشاطات الحياتية.

ويعود في فيلم «معبودة الجماهير» إلى الدويتو: «حاجة غريبة» مع شادية، ويتحفنا في آخر فيلم للعندليب «أبي فوق الشجرة» بتحفته الاستعراضية «قاضي البلاج» الذي ينهيها برائعته «دقوا الشماسي». إذن لا بد من التنويه بالدويتات الثلاثة التي لحنها في أفلام عبد الحليم حافظ وشاركته في الغناء شادية: تعالى أقولك من فيلم لحن الوفاء – إحنا كنا فين من فيلم دليلة – حاجة غريبة من فيلم معبودة الجماهير. وتجدر الإشارة أن منير مراد سبق بليغ حمدي إلى صوت عبد الحليم حافظ، إذ أن أول أغنية لحنها بليغ للعندليب كانت «تخونوه» في فيلم «الوسادة الخالية» (أول عرض 7/10/1957)، بينما لحن منير مراد الأول له كان دويتو «تعالى أقولك» في أول أفلامه «لحن الوفاء» (أول عرض 3/3/1955).

شخصية منير مراد الفنية

يُعتبر منير مراد فنانًا شاملاً. فإلى جانب التلحين الذي نبغ فيه، نراه مغنيًا في أفلامه، وقد حصر غناءه هذا في تقليد أصوات مشاهير المغنيين، ومَن منَّا لم يرَ استعراض «حدش شاف» حيث يقلد ببراعة صوت محمد عبد الوهاب (بنحنحته المشهورة) وعبد الغني السيد، وفريد الأطرش بصوته الحزين. ولم يقتصر التقليد عند هذا الفنان الشامل على تقليد الأصوات، بل تعداه إلى تقليد الأسلوب التلحيني لمدارس تلحينية مختلفة، وهذا ما يُعرف في العلم الموسيقي بـ «Stylisation»، وهذا نراه بشكل واضح لكن كاريكاتوري في إحدى مقابلاته الإذاعية، وللدلالة على اختلاف التلحين بين المدارس التلحينية العربية المختلفة يأخذ كلمات أغنية محمد عبد الوهاب «لأ مش أنا اللي أبكي» التي يمكن اعتبارها متطرفة في الحداثة، ويرتجل على كلماتها لحنًا من عنده بأسلوب مدرسة القرن التاسع عشر وهو العارف بعمق بهذا الأسلوب كونه ابن أحد أقطاب هذه المدرسة: زكي مراد.

وبالرغم من كل هذا لا تقتصر الصفات الفنية الشاملة لهذا الفنان على ما ذكرناه. فهو راقص استعراضي من الطراز الأول، وقد يكون الوحيد في نوعه. وقد ساعدته ثقافته الفنية الشاملة بلا شك على معرفة جميع أنواع الفنون الموسيقية الاستعراضية العالمية، وبالذات الرقص الاستعراضي السينمائي الأمريكي. ولا شك في تأثره بأقطاب هذه المدرسة: جين كيلي وفريد أستير، عباقرة الرقص الأمريكي الحديث. والمخضرمون في السن لا بد وأن يذكروا أفلام فريد أستير الاستعراضية: أبي ذو السيقان الطويلة Daddy Long Legs، مع الفنانة الممثلة الراقصة ليسلي كارون، والجوارب الحريرية Slik Stockings، وفيلم جين كيلي الاستعراضي الرائع: أمريكي في باريس An American in Paris، مع ليسلي كارون، حيث تظهر عبقرية هذين الفنانين الاستعراضية الراقصة في لوحات استعراضية رائعة إلى جانب رقصات دويتو يقوم بها كلٌ في أفلامه مع راقص أو راقصة، بالإضافة إلى مجموعة من الراقصين يؤدون حركات متزامنة بشكل مدهش.

لقد استطاع منير مراد أن يستوعب هذه المدرسة الراقصة الحديثة وجعلها جزءًا من موهبته الفنية الشاملة. وقد أورد منير مراد عبقريته الاستعراضية في الأفلام الثلاثة التي مثلها: أنا وحبيبي (1953)، الذي ضم 12 أغنية واستعراضًا، نهارك سعيد (أول عرض 3/1/1955)، موعد مع إبليس (أول عرض 4/4/1955). ومن أغانيه في هذه الأفلام: قولي آه، إحنا ثلاثة، استعراض عن الوطن، أنا متأسف، أهلاً، أين تذهب هذا المساء (غناها مع شادية).

لغز كبير يبقى بعد كل ذلك، وهو ندرة ألحانه لشقيقته الفنانة الكبيرة ليلى مراد. فمن مئات الألحان التي وضعها لا نعرف إلا أغنية «يا طبيب القلب» من غناء ليلى مراد في فيلم «الحبيب المجهول» (أول عرض 23/5/1955). وسيظل هذا الأمر سرًا بينه وبين ليلى مراد قد لا نعرف سببه مطلقًا.

ثمانٍ وتسعون عامًا مرت على ميلاد منير مراد، وخمس وثلاثون عامًا على وفاته، وأعماله مازالت تحتفظ بنضارتها وحيويتها ومكانتها في الوجدان العربي رغم عوامل التصحُّر والتعرية التي تتعرض لها موسيقانا العربية حاليًا.

وتحضرني هنا مقولة بليغ حمدي: «نحن في حالة هيصة … الغناء أصبح ملطشة لكل من يريد … والتلحين أصبح عمل من لا عمل له … ولهذا نصل في النهاية إلى ما نحن فيه … نحن في حالة غريبة من الضياع».

وفي النهاية نقول لمنير مراد قول الشاعر أبي فراس الحمداني:

وفي الليلة الظلماء يُفتَقَدُ البدرُ

اظهر المزيد

سليم سحاب

قائد اوركسترا وناقد وباحث ومؤرخ موسيقي - لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى