مضى حوالي 14 شهرًا على حرب الإبادة الجماعية الوحشية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة، دون أن يعرف أحد متى ستتوقف، أو إلى أين قد تصل، أو ما الذي ستفعله في قطاع غزة أو بالفلسطينيين فيه؟ وهي حرب لا يمكن تفسيرها- فقط- بالرد على هجوم حركة “حماس” (طوفان الأقصى)، في السابع من أكتوبر2023، ولا بسعي إسرائيل فقط؛ لتأكيد ذاتها كدولة قوية ورادعة لمحيطها، مع تقويض قدرات تلك الحركة في غزة.
في تفسير حرب الإبادة.
ما يفسِّر انتهاج إسرائيل حرب الإبادة الجماعية والمحو ضد فلسطينيي غزة، وضمن ذلك إصرارها على المضي فيها مهما طالت، ومهما كانت الأثمان، والتي باتت تشمل مناطق في لبنان، في جنوبه وفي ضاحية بيروت الجنوبية والبقاع_ سوى اعتبارها استمرارًا لحرب النكبة التي أسست لقيام هذه الدولة الاستعمارية الاستيطانية العنصرية العدوانية 1948، والتي أقيمت بواسطة القوة وبالاعتماد على دعم الدول الغربية الاستعمارية، في محاولة من حكومتها اليمينية المتطرفة استكمال ما لم يستكمله أسلافهم الصهاينة الأوائل، بتحقيق “ترانسفير” لكامل الشعب الفلسطيني، وتقويض الكيان الفلسطيني في الضفة والقطاع المحتلين 1967، الذي أتاحه أسلافهم الصهاينة الأقربون، في اتفاق أوسلو 1993.
يمكن تفسير تلك الحرب أيضًا بامتداداتها، أو توظيفاتها (السياسية، والأمنية) باعتبار إسرائيل نفسها في معركة على وجودها، أو تصويرها الأمر على هذا النحو، مستغلة الفرصة التي أتاحها هجوم “طوفان الأقصى”؛ لتأمين إجماعات داخلية من حولها، واستقطاب الدعم الغربي لها، وإطلاق يدها في البطش بالفلسطينيين ولبنان، مع شمول تلك الحرب، التي باتت بمثابة حرب استنزاف إسرائيلية (سوريا، العراق، واليمن) كأن إسرائيل في حرب متعددة الجبهات، أو كأنها تستعير شعار “وحدة الساحات” على طريقتها.
من جانب آخر، فتلك المعركة، من وجهة النظر الإسرائيلية، هي على صورة إسرائيل كدولة رادعة، وعلى مكانتها المهيمنة في المشرق العربي، بمعنى أن أهداف إسرائيل لا تتوقف على تحقيق غلبة عسكرية فقط؛ إذ إن أهدافها باتت تتعدى مجرد سحق القوة السياسية لحركة “حماس” أو “حزب الله” في لبنان إلى السعي لفرض مناطق واسعة عازلة على حدودها مع سوريا ولبنان، وتاليًا محاولة فرض ترتيبات أو هندسة جديدة لمنطقة المشرق العربي، يكون في المركز منها تقويض نفوذ إيران على الصعيد الإقليمي، وتطبيع وجودها (سياسيًّا، عسكريًّا، واقتصاديًّا).
عملية محو غزة.
في قطاع غزة، على وجه التحديد، فإن ما يفسر هذه الحرب المهولة، التي تجري أمام العالم كله، ليس فقط أهدافها العسكرية؛ إذ إن إسرائيل في ظل حكومتها اليمينية المتطرفة تتوخى -على الأرجح- استثمار الفرصة الراهنة، التي أتاحتها عملية “طوفان الأقصى” للبطش بالشعب الفلسطيني من النهر إلى البحر إلى أقصى حد ممكن؛ لإخضاعه وتطويعه، وضمن ذلك لحمل قطاعات منه على الهجرة، بعد تحويل القطاع إلى منطقة غير صالحة للعيش، وربما إعادة الاستيطان في شمالي غزة، بعد تفريغه من الفلسطينيين، وهذا ما تحاوله بكل وحشية في مدن الشمال في (جباليا، بيت لاهيا، بيت حانون، ومخيم جباليا) مع محاولة تحويل غزة إلى منطقة تحت إدارة خاصة، منفصلة عن الكيان الفلسطيني في الضفة، الذي يخضع هو الآخر لحالة تفكيك وتهميش وضغط.
على ذلك، فإن ما تحاوله إسرائيل شمالي قطاع غزة يشبه تمامًا ما فعلته في جنوبه؛ إذ إن الهدف تجزئة القطاع وتحويله إلى كانتونات لا صلة بينها مع قواعد عسكرية إسرائيلية تشكل حاجز فصل مع ممرات وخنادق وربما جدران، بحسب الوضع، تخضع لإشراف أجهزة الأمن الإسرائيلية، وهو الوضع ذاته الذي فعلته أو كرّسته في الضفة بعد الانتفاضة الثانية مع الجدار الفاصل والأنفاق والجسور والطرق الالتفافية، التي قطّعت التواصل بين الفلسطينيين في مدنهم وقراهم ومخيماتهم.
معلوم أن قطاع غزة يتشكل من ثلاث مناطق رئيسة: شمال، وسط، وجنوب، حيث يضم الشمال منطقتين: الأولى (جباليا، مع بيت لاهيا، وبيت حانون، ومخيم جباليا)، والثانية: مدينة غزة، أما المنطقة الوسطى فأهم مدنها دير البلح، في حين يضم الجنوب منطقتي (خان يونس، رفح).
وثمة تقسيمات طبيعية- أيضًا- في القطاع؛ إذ إن شارع صلاح الدين يقسمه أو يقطعه في المنتصف إلى قسمين (شرقي، وغربي) ويمتد الشارع من الشمال حيث معبر (إيريتز، ومدينة جباليا) وصولًا إلى الجنوب، حيث رفح على الحدود المصرية، بطول 45 كيلومترًا.
بيد أن إسرائيل عملت على تقسيم قطاع غزة من الوسط بمعبر “نتساريم” (على اسم مستوطنة سابقة) إلى قسمين أساسيين: شمالي، يفصل جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون ومدينة غزة عن الجنوب الذي يضم باقي القطاع من دير البلح إلى رفح مرورًا بخان يونس، وطوله من الشرق حيث حدود القطاع إلى الغرب حيث البحر الأبيض المتوسط حوالي 7 كيلومترات وعرضه 7 كيلومترات، أي إنه بمثابة منطقة عازلة كبيرة تبلغ مساحتها حوالي 50 كيلومترًا مربعًا، وقد حولها الجيش الإسرائيلي إلى منطقة قواعد عسكرية له.
لم تكتفِ إسرائيل بتلك التقسيمات؛ إذ عملت على فصل كل مناطق القطاع عن بعضها بممرات ذات طابع عسكري، بحيث قسمت الشمال إلى منطقتين (جباليا، غزة) وقسمت الجنوب إلى ثلاث مناطق: دير البلح التي يفصلها ممر “كيسوفيم” عن خان يونس، التي تفصل بدورها بممر “صوفا” عن رفح، التي بات يحدها من جهة الحدود مع مصر محور فيلادلفيا، أو محور صلاح الدين، وطوله 14 كيلومترًا، من معبر كرم أبو سالم في الشرق إلى البحر الأبيض المتوسط في الغرب.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى اشتغلت إسرائيل على خلق مناطق عازلة على طول حدود قطاع غزة، بعمق كيلومتر واحد، بحيث تُبقي القطاع في حالة حصار مطبق، إضافة إلى سيطرتها على محور فيلادلفي على الحدود مع مصر، وتبلغ مساحة المناطق الحدودية العازلة حوالي 50 كيلومترًا مربعًا أيضًا.
وما يفترض ملاحظته أن تلك التقسيمات الجغرافية هي، أولًا: ذات طابع أمني وعسكري وسياسي، تحت الهيمنة الإسرائيلية. ثانيًا: أن تلك التقسيمات تنطوي على إزاحة السكان، أو تجميعهم في مناطق معينة، ما يعني تقليص مساحة قطاع غزة، من كل الجهات، وتجميع الفلسطينيين في مربعات أو بلوكات تسهل السيطرة عليها، مع محو العمران المدني التاريخي لكل مدن غزة، وهذه البلوكات تتركز في الجنوب ولجهة الغرب أي من جهة البحر؛ ما يفسر سعي إسرائيل لدفع فلسطينيي جباليا نحو الجنوب.
بِناءً على كل ما تقدم، فإن السيطرة الأمنية والسياسية لإسرائيل، مع عملية الإزاحة إلى الجنوب وإلى الغرب، تحمل في طياتها مخاطر عودة الاستيطان والمستوطنين إلى شمال وشرق غزة، وهو أمر لا ينفيه كثير من أركان الحكومة الإسرائيلية، كما قدمنا.
وتبعًا لكل تلك التغييرات في هندسة القطاع، فربما تصل مساحة الممرات والمناطق العازلة إلى 150 كيلومترًا مربعًا، تتوخى إسرائيل حسمها من المساحة الإجمالية للفلسطينيين في قطاع غزة، والتي تقارب 365 كيلومترًا، أي إن الفلسطينيين في غزة قد يجدون أنفسهم في مساحة تناهز نصف مساحة غزة السابقة، مع حصار مشدد، وممرات أمنية.
وكانت صحيفة “يديعوت أحرونوت” تحدثت بشكل مبكر عن ذلك في تقرير عنوانه “التطويق والتقسيم في غزة”، بقولها: “التطويق وربما التقسيم هما المصطلحان اللذان يلخّصان هذه المرحلة من القتال، ويبدو أن التطويق يتحول إلى خط فاصل على طول مدينة غزة، هناك خط يفصل شمال القطاع عن وسطه، ولا خروج ولا قدوم، كما طُرحت خطط لتشريح غزة أفقيًّا في جولات القتال السابقة، ولم تُنفَّذ لأسباب عديدة، لقد تم ذلك الأمر هذه المرة”. (يديعوت أحرونوت- 27/ 10/ 2023).
شمالي غزة.
وكانت إسرائيل بدأت في الشهر الثالث عشر لتلك الحرب الوحشية التركيز في القصف على شمالي غزة (جباليا، مخيم جباليا، بيت لاهيا، وبيت حانون)، مع طلبها إفراغ تلك المناطق من سكانها والرحيل إلى الجنوب، تحت القصف والنيران، وتحت التهديد بوقف دخول المساعدات الإنسانية، مع تعمد قصف ما تبقى من مستشفيات ومدارس وأماكن إيواء، في منطقة كان يعيش فيها نحو 400 ألف فلسطيني، من أصل 2.3 مليون فلسطيني يقيمون في كامل مدن القطاع ومخيماته.
وفي ذلك، من الواضح أن ثمة جانب ثأري تبتغيه إسرائيل من تحويل منطقة الشمال إلى جحيم للفلسطينيين؛ إذ تعتبرها بمثابة البؤرة الأساسية التي أطلقت هجوم “طوفان الأقصى”، بيد إن ثمة جانب آخر إستراتيجي يتمثل بمحاولتها عزل شمال غزة واقتلاع الفلسطينيين منه، بالقوة والقسر، مع وجود أطراف تدعو لإعادة الاستيطان فيها، وضمن ذلك شخصيات في الحكومة اليمنية المتطرفة، مثل: سموتريتش، بن غفير، وأيضًا نتنياهو ذاته.
هكذا، مازالت منطقة شمالي غزة تتعرض لحرب وحشية مهولة مركزة، تتضمن القتل والتدمير والتجويع والاقتلاع والتشريد والإذلال والاعتقال، مع مجازر يومية جماعية، نتيجة توغل الجيش الإسرائيلي في تلك المنطقة، وقصفها من الجو والبر، مع إجبار الفلسطينيين على الرحيل إلى الجنوب، أي جنوب محور “نتساريم”، وهو الوضع الذي يعيشه أكثر من مليونين من فلسطينيي غزة منذ أكثر من 400 يوم، أي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، مع دفعهم تحت أطواق الرصاص والقصف للرحيل من منطقة إلى أخرى.
خطط الإبادة والمحو.
تم تسريب عدد من الخطط لعزل شمال غزة وأخذه، لعل أشهرها “خطة الجنرالات”، والتي يعتقد كُثر بأن إسرائيل تنفذها عمليًّا، انطلاقًا من (جباليا، بيت لاهيا، وبيت حانون) وإن كانت تنفي ذلك.
وتنص تلك الخطة المنسوبة أساسًا إلى اللواء احتياط “غيورا إيلاند”، وتم وضعها في سبتمبر/أيلول الماضي، على إخلاء منطقة شمال غزة، شمال خط نتساريم، نهائيًّا من الفلسطينيين، بإجبارهم على الرحيل من ممرات معروفة إلى جنوب خط نتساريم، وذلك بوسائل القوة والتجويع والحصار المشدد، وضمنه الحؤول دون وصول المساعدات الدولية إليهم، واعتبار شمالي غزة منطقة خالية من الفلسطينيين وتحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية، باعتبار أن هذا الوضع هو الذي يمكن إسرائيل من إنهاء وجود “حماس” تمامًا في الشمال، بجعل المقاتلين أمام خيارين: إما الاستسلام وإما الموت، تمامًا في الشمال، ومنع عودة أي تهديد من شمال غزة لسكان مستوطنات الغلاف، ما يمكِّن من عودتهم إلى بيوتهم في أقرب وقت.
خطة إيلاند تلك تتقاطع مع خطة وزير الدفاع الإسرائيلي الجنرال “يوآف غالانت” والتي تتضمن تقسيم القطاع إلى 24 منطقة إدارية وتشكيل قوة محلية في شمال غزة لتوزيع المساعدات، مع اقتراح تشكيل إدارة مؤقتة تشرف عليها قوة مشتركة من الولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة، في حين تتولى قوة فلسطينية محلية الحكم المدني، حتى إن تلك الخطة وصلت إلى حد تقسيم قطاع غزة إلى أكثر من 2300 بلوك صغير، بحيث يتم استيعاب غزة على شكل 1000 شخص في كل بلوك.
أيضًا، خطتا (إيلاند، وغالانت) تنسجمان مع رؤية نتنياهو بشأن جعل قطاع غزة كيانًا إقليميًّا منفصلًا عن الضفة الغربية، أي ليس تحت سيطرة السلطة الفلسطينية “ليس حماسستان ولا فتحستان، وتعزيز ظهور قيادة محلية في غزة، مستقلة عن الاتفاقيات القائمة”. (معهد بحوث الأمن القومي- 21/ 3/ 2024)
وبحسب “نوال نداو” نائب رئيس تحرير “هآرتس” فإن نتنياهو، الذي يبعث برسائل مختلفة، متعمدًا “الضبابية”، والذي “ضم أجزاء واسعة في الضفة الغربية شيئًا فشيئًا، دون تشريع احتفالي، بشكل فعلي_ يفعل ذلك بالضبط في قطاع غزة، أولًا عن طريق احتلال مناطق واسعة في القطاع وطرد السكان وتدمير البيوت وشق طرق جديدة وبناء مواقع وبُنى تحتية أخرى للمدى البعيد، وفي الوقت الحالي أيضًا عن طريق الدفع قُدمًا بخطة لنقل السيطرة المدنية في القطاع إلى جهات خاصة مأجورة، يدور الحديث عن خصخصة الحكم العسكري في غزة ونقله إلى جهات خاصة لها مصالح اقتصادية خاصة (هآرتس-23/ 10/ 2024).
وتلخص “مايا روزنفيلد” ما يجري في غزة بالآتي: “إستراتيجية الحرب التي تم تطبيقها بالفعل كانت إستراتيجية إبادة جماعية وتدمير شامل، الإبادة الجماعية وتدمير أركان الوجود التي يتسبب بها الهجوم في القطاع، ليست نتيجة غير مقصودة للرد على هجوم “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول، بل هي هدف بحد ذاته، وهي جزء من إستراتيجية إسرائيل الشاملة، وهدفها النهائي هو منع الفلسطينيين من حقهم في تقرير المصير في وطنهم في المستقبل المنظور، ومنع إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، الهدف النهائي هو إفشال الإمكانية المادية، ليس السياسية فقط، للحل السياسي عن طريق تحويل الفلسطينيين إلى غبار بشري وتدمير فلسطين”. (هآرتس- 25/ 10/ 2024).
ثمة ملاحظتان هنا: الأولى، أن إسرائيل لا زالت تواجه مقاومة وتتكبد خسائر بشرية كبيرة، رغم كل جبروتها، ورغم أن تلك المقاومة لا تعادل ولا تغطي ولا تخفف- ولو نسبيًّا- توحش إسرائيل في غزة. والثانية، أن الفلسطينيين الذين ليس لديهم أي مكان يذهبون إليه، يصرون على البقاء في الشمال. وهم “عندما يضطرون تحت الإكراه مغادرة جباليا فإنهم يذهبون إلى منطقة أخرى في غزة، إلى غرب مدينة غزة مثلًا، رافضين في ذلك اجتياز محور نتساريم خوفًا من ألا يسمح لهم الجيش بالعودة مرة أخرى”. (هآرتس- 23/ 10/ 2024).
وتبعًا لما تفعله إسرائيل على الأرض في (جباليا، بيت لاهيا، وبيت حانون) بغض النظر عما تقوله، يتضح أنها تشتغل على فرض خطتها المتعلقة بإعادة الهندسة البشرية والجغرافية والأمنية والسياسية لمجمل قطاع غزة، وهي كناية عن عملية محو للبشر والشجر والحجر، بما يتجاوز ادعاءها بالرد على عملية “طوفان الأقصى”، أو القضاء على القدرات العسكرية لحركة “حماس”، كما قدمنا؛ لأن حرب الإبادة، أو عملية المحو تلك باتت تتعلق بإخضاع الفلسطينيين من النهر إلى البحر لهيمنة إسرائيل، وتعزيز مكانتها كقوة إقليمية لا منازع لها في الشرق الأوسط، ما يتطلب تحجيم إيران بهذا القدر أو ذاك.
مشكلة حماس.
المشكلة عند الفلسطينيين تكمن في خلافاتهم وانقساماتهم، كما تكمن في أن حركة “حماس” التي اعتبرت “الطوفان” بمثابة مقاومة مستمرة للتخلص من إسرائيل، أو أقله من الاحتلال، ودعت الناس في العالمين (العربي، والإسلامي) وفلسطينيي الضفة والقدس و48، للانقضاض على إسرائيل (حسب خطاب محمد الضيف- 7/10/2023)، والتي لم تجدِ صدى، باتت هي، أي “حماس”، التي تطلب الهدنة ووقف الحرب، بل وتتهم حكومة نتنياهو بالتملص من مقترحات بايدن، رغم حديثها عن استمرار المقاومة وعن غرق الجيش الإسرائيلي في رمال غزة!
بالإضافة إلى ذلك، فإن إسرائيل هي التي باتت تستدرج الحرب على جبهات أخرى أيضًا، كأنها تترجم “وحدة الساحات” الذي أسست “حماس” عليه فكرتها عن هجوم “الطوفان” وهي مفارقة تستحق الانتباه مع هجمات إسرائيل في (لبنان، سوريا، العراق، اليمن، وحتى في إيران ذاتها).
وتفيد التجربة، بأثمانها الباهظة، بأن “حماس” أخطأت في تقدير قوتها، وبمراهنتها على مدد “الملائكة”، و “وحدة الساحات” وندائها للعالمين (العربي، والإسلامي) وبهجمتها كجيش مقابل جيش، وفي عدم تقديرها للدعم الذي تحظى به إسرائيل من الولايات المتحدة والغرب عمومًا، إلى درجة دعمها في حرب إقليمية.
أيضًا، تفيد التجربة أن “حماس” أخطأت بعدم تقديرها قوة إسرائيل ومجتمعها، الذي وضعته إزاء حرب وجودية؛ إذ تبين أنها مستعدة لخوض حرب طويلة، وتحمل خسائر بشرية واقتصادية كبيرة، وحتى خوض حرب إقليمية؛ إذ إن التصدع الداخلي فيها لا صلة له تمامًا بالصراع ضد الفلسطينيين، بخلاف ما يصور البعض ممن راهن على أزمات إسرائيل الداخلية.
ما تقدم يبين مدى الاستعصاء في الوضع الفلسطيني، سيما الناجم عن قصور إدراك قيادة “حماس” لخطورة خياراتها، والتي يدفع الشعب ثمنها من تضحياته ومعاناته، فتلك الحركة غير قادرة على مواصلة القتال بالقدر الذي تملكه إسرائيل، مع الاحترام للتضحيات والبطولات، وحتى لو استمرت، فهذا للأسف لا يغير من معادلات تدمير غزة. أيضًا، فإن “حماس” ترفض أن تعترف بالواقع؛ لأنها ترى في ذلك استسلامًا ونهاية لطريقها.
مع ذلك لنلاحظ أن كل شروط “حماس” لم يعد لها أرضية، وهي ليست العنوانات التي شنت “الطوفان” على أساسها، مثلًا: المطروح اليوم انسحاب إسرائيل من القطاع، بخاصة من محوري (نتساريم، وفيلادلفيا) وليس من الضفة، وغابت مسألتا وقف الانتهاكات للأقصى، التي زادت، وتبييض السجون لصالح صفقة محدودة.
المطروح أيضًا وقف نهائي للحرب، وليس استمرار المقاومة، مع طرح البعض هدنة لسنوات، ويأتي ضمن ذلك فتح المعابر للمساعدات الإنسانية، ووضع خطة للإعمار، علمًا بأن كل ذلك كان قائمًا قبل السابع من أكتوبر، فقط المتغير الوحيد هو أن حرب إسرائيل حولت القطاع إلى منطقة غير صالحة للعيش، وأن غزة ما قبل السابع من أكتوبر لم تعد موجودة، هذا غير الأثمان البشرية والعمرانية المهولة.
اللافت أن “حماس” لا تمتلك عمليًّا، في خضم هذا الواقع الكارثي، سوى ورقة الأسرى الإسرائيليين، وحتى هذه لم تعد تشتغل كقوة ضغط كافية على حكومة نتنياهو؛ إذ وظفتها لاستمرار حربها وتبريرها، فضلًا عن أنه في المقابل ثمة مليونا فلسطيني في أسر إسرائيل.
ولعل مشكلة “حماس”، إضافة إلى كل ما تقدم، أنها في خطاباتها، وإعدادها لـ “الطوفان”، لم تخطط لإستراتيجية تراجع وفقًا لإدراكاتها عن وضعها وعن إسرائيل والعالم. علمًا أن التجربة التاريخية تفيد بأن المعطيات الدولية لا تسمح للفلسطينيين بتحقيق إنجاز سياسي، مهما كانت بطولاتهم وتضحياتهم، هذا حصل بعد الانتفاضة الشعبية (1987-1993)، والانتفاضة الثانية (2000-2004)، وفي حروب غزة (2008-2012-2014-2021)، وحتى في الحرب العربية -الإسرائيلية الرابعة 1973 مع (مصر، وسوريا) ليس فقط بسبب التفوق العسكري لإسرائيل؛ وإنما لأنها بمثابة وضع دولي في الشرق الأوسط، تتمتع بضمانة الدول الغربية الكبرى (سيما الولايات المتحدة) لأمنها وتطورها وتفوقها من كل النواحي، وليست مجرد دولة عادية فيه، بخلاف الصراع مع أية دولة استعمارية، أو استعمارية -استيطانية، كتجربتي (الجزائر، أو جنوب إفريقيا).
ملاحظات عن الحرب وما بعدها.
ما تقدم يؤكد أن إسرائيل، في ظل حكومة: بنيامين نتنياهو، بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير، حسمت أمرها باتجاه حرب طويلة وقاسية ومؤلمة ومكلفة، وفقًا للمعطيات التي ذكرناها في: غزة، الضفة، لبنان، سوريا وضد الحوثيين، وحتى ضد إيران، كما ذكرنا، مستغلة توفر سلة ظروف ومعطيات مواتية لها.
المشكلة الأساسية باختصار، في تلك الحرب، لا تتوقف فقط على الخلل في موازين القوى وضمنها (العسكري، التكنولوجي، الاقتصادي، والسياسي) التي تشتغل لصالح إسرائيل، التي هي وضع دولي أفضل، وإنما تكمن أيضًا بخوض الصراع معها، من قبل الأطراف الميلشياوية المعنية، وفق إدراكات غيبية وقدرية، لا تفيد ولا تتفوق على إسرائيل في شيء سوى الاستعداد لتقديم الضحايا، بالألوف وعشرات الألوف، مع التباهي بذلك، مع نقطة ضعف أخرى أن كل تلك الأطراف ترتبط بشكل عضوي بإيران، وتخضع لأجنداتها الإقليمية.
في مقابل كل ذلك فإن إسرائيل، مستغلة كل تلك الظروف، تحضِّر ذاتها لمرحلة أو لحقبة جديدة، تكرس فيها هيمنتها على الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، وتعزيز مكانتها في محاولة الولايات المتحدة لإعادة ترتيب أو هندسة الخريطة الجغرافية والسياسية والأمنية في الشرق الأوسط.
تبعًا لذلك، فإن المطلوب من القيادات والكيانات السياسية الفلسطينية إدراك الواقع ومعطياته على نحو صحيح، والتعامل على أساسه، بعيدًا عن العواطف والشعارات والرغبات والتوهمات، وتأكيد أن الأولوية في ظل هذه الظروف والمعطيات هي لتعزيز صمود الفلسطينيين في أرضهم وترسيخ وتطوير مؤسساتهم، قبل المقاومة وفي أثناءها وبعدها، قبل “فتح” و”حماس” وبعدهما؛ إذ إن هزيمة إسرائيل تتطلب تغيرًا إيجابيًّا لمصلحة الفلسطينيين في المعطيات الدولية والعربية؛ لأنه من دون ذلك يعني نجاح إسرائيل بإيقاع الفلسطينيين في نكبة أخرى ربما أشد وأقسى من النكبة الأولى.