مقدمة
العشر أيام بين (11 و21 فبراير) شاهدوا تطورات يقرأها المسؤولون وأعضاء جماعات السياسة الخارجية الأوروبية على أنها احتضارُ العلاقات عبر الأطلسية([1])، بعد عدد من القرارات والتصريحات الأمريكية توحي بالتخلي عن أوكرانيا وربما عن أوروبا، وبالسعي إلى الصلح وربما التوافق مع موسكو، تصريحات تتبنى كل الادعاءات الروسية، وقرارات تقدم عددًا هائلًا من التنازلات لموسكو قبل بداية المحادثات، دون أي مقابل. يخشى الأوروبيون أن المفاوضات بين الولايات المتحدة وروسيا ستعرض تلبية كل مطالب موسكو في أوكرانيا وربما في شرق أوروبا مقابل تحقيق مطالب أمريكية في مناطق أخرى ومنحها مزايا اقتصادية، قد تكون هذه القراءة الأوروبية خاطئة، وقد يكون الهلع غير مبرر، ولكن هذه الأزمة هي أسوأ الأزمات التي تعرض لها حلف الناتو، ولم يعد من الممكن استبعاد احتمال تخلي واشنطن عن القارة.
خطاب ومدركات الرئيس ترامب وفريقه.
يتسم خطاب الرئيس ترامب بكراهية رافضة للثقافات السياسية والإستراتيجية وللأسس الفكرية والمادية التي قام عليها كلٌّ: من الحلف الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، والعولمة الاقتصادية، ويرى الرئيس أن الأطر التي تحكم أداء النظام الدولي و”الأسرة الغربية” تفرض تكاليف على الولايات المتحدة تفوق بكثير ما تجلبه، وأن منظومة القيم التي أفرزت هذه الأطر ومعها الممارسات التي تُسمي “العمل المتعدد الأطراف” التي تفرزها هذه الأطر منظومة تخدم مصالح النخب الليبرالية من ناحية ومصالح دول أخرى تنتهج سلوك الراكب الذي لا يدفع التذكرة من ناحية أخرى، على حساب مصالح الشعب الأمريكي. وينم هذا الخطاب عن نوع من عبادة القوة، ورفض غريزي لمفهوم الأحلاف والالتزامات الطويلة الأمد المترتبة عليها، وتفضيلًا لمبدأ الصفقات. وإلى جانب هذا، كان لدى الرئيس ميلٌ قوي إلى عدم الاكتراث بالقانون الدولي؛ لأنه حدَّ من تأثير حقائق موازين القوة، وميل آخر إلى احتقار العمل المؤسسي البطيء والصبور، وإلى التقليل من شأن المعارف التي تراكمت في دواليب أجهزة الدولة، وإلى تفضيل العلاقات الشخصية بين القادة، وصاحب هذه الميول حرصٌ شديد فيما يتعلق بقرار الحرب، وتفضيل لسياسة العقوبات. ويمكن القول أيضًا أن خطابه شدد على أهمية مفهومي “الحدود الجغرافية” كقيد على حرية التنقل والنقل وكحماية للشعب، و”سيادة الدولة” التي تسمح بالتعبير عن الإرادة السياسية.
وتجب الإشارة إلى بعض مقولات بعض تيارات اليمين الغربي بصفة عامة واليمين الأمريكي بصفة خاصة، يقولون إن الصراع الهام هو الصراع مع الصين وربما – لا سيما عند اليمين الأوروبي- مع العالم الإسلامي، وأن الغرب يحتاج إلى وجود روسيا معه في هذه المعركة، بيد أن العديدين من التيارات المؤيدة للرئيس ترامب أبدت استياء واضح من تبني الرئيس لمقولات روسيا وللتقارب معها.
وترى بعض تيارات اليمين أن عالمًا جديدًا يتشكل، وأن الذكاء الاصطناعي والروبوتات سيقلل من الحاجة إلى عمالة غير مدربة (وبالتالي إلى مهاجرين)، وأن التقدم في فنون الطب والبيولوجيا سيسمح للفرد بالعمل بلياقة معقولة لمدد أطول بكثير – أي أنه تجب مراجعة منظومة التقاعد.
ويجب التشديد على أن بعض مقولات الإدارة الحالية تعكس إجماعًا أمريكيًّا، مثل: الاستياء من العجز والتقاعس الأوروبيين في شؤون الأمن والدفاع، واعتبار التنافس والصراع مع الصين القضية صاحبة الأولوية المطلقة، وضرورة إعادة عدد من الصناعات الإستراتيجية إلى الولايات المتحدة لتقليل الاعتماد على الخارج، وضرورة مراعاة أكبر لمصالح الطبقات الوسطى والشعبية الأمريكية.
أزمة المشروع الوحدَوي الأوروبي.
في المقابل، الفكر وروح مشروع الوحدة الأوروبية يقدسان حرية نقل وتنقل الأفراد والسلع والخدمات ورأس المال، ويعتبران إزالة الحدود ركنًا أساسيًّا. حاليًّا وبسبب الهجرة تراجع مفهوم إزالة الحدود الخارجية والسعي إلى التمدد الدائم، ولكن فكرة إزالة الحدود الداخلية (بين الدول الأعضاء) ما زالت موجودة وبقوة، الواقع يفرض أحيانًا إجراءات تخالف هذا التوجه ولكنه ما زال حاكمًا مسيطرًا. الفكر والروح متوجسان من المشاعر والأيديولوجيات القومية، ويسعيان بقدر الإمكان إلى “نزع التسييس”([2]) من أغلب الملفات، وأقصد بهذا إخضاع أكبر عدد من المجالات والأنشطة لحكم القانون وتضييق نطاق القرار السياسي والإرادة السياسية أو بمعنى أدق الإرادة السيادية. الاتحاد أصبح في المخيال العام آلة تنتج تشريعات مقيدة، وهو يرى أن حجم السوق الأوروبية يعطي له القدرة على سن تشريعات يلتزم بها كل من يرغب في أن يعمل في هذا السوق، وظل لفترة طويلة أسير وهم رواية “نهاية التاريخ”، رواية تقول أن التاريخ قال كلمته، وأن النموذج الأمثل هو الجامع بين الديمقراطية التمثيلية واقتصاد السوق ودولة الرفاة وسيادة قانون توسع باستمرار من حقوق الأفراد، وأنه نموذج كتب له الدوام، وأن الاتحاد حامل رسالة عالمية تفرض بث هذه المنظومة في كل أنحاء المعمورة؛ لأنها تتفق ورغبات كل شعوب العالم، وأن الاتحاد يستطيع الجمع بين بث هذا النموذج والاستغناء عن القوة العسكرية بسبب جاذبية الصيغة. يجب أن نضيف بعض النقاط، اليورو كعملة موحدة مشروع سياسي لا يقوم على أسس اقتصادية سليمة([3])؛ لاختلاف بنية اقتصاديات الدول الأعضاء وعدم توحيد السياسات الضريبية والمالية والاقتصادية، وجود الناتو – أي الضمانة الأمريكية- سمح بعدم الاهتمام لفترة طويلة بالإنفاق الحربي، وأخيرًا وليس آخرًا ألمانيا هي الدولة المهيمنة على الاتحاد، واعتمد نموذجها الاقتصادي: على استيراد طاقة رخيصة من روسيا، وعلى الاعتماد على الولايات المتحدة فيما يخص الأمن والدفاع، وعلى السوق الصينية لتسويق منتجاتها، وعلى توطين مصانعها في أوروبا الشرقية وعلى المهاجرين فيما يخص قوة العمل، ولها إستراتيجية صناعية وتجارية بالغة الدقة، على عكس ثقافتها الدفاعية والأمنية القاصرة. عاب هذه الصيغة هشاشتها وإهمالها للرقمنة وللمستجدات التكنولوجية، وأصاب العطب هذا النموذج لأسباب جلية. ويجب القول إن عددًا كبيرًا من الدول الأوروبية أدرك بعد غزو القرم أن الصيغة والتوجهات تحتاج إلى مراجعة، ولكن هذه الصيغة وهذه التوجهات كانت عميقة الجذور، ولذلك اتسمت السياسات الإصلاحية بالتردد والبطء وتسببت في انقسامات.
اختلال موازين القوة.
وتجدر الإشارة إلى اختلال موازين القوة الاقتصادية بين الولايات المتحدة وأوروبا، الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي (أقل من 27 ترليون يورو بقليل) أكبر بـ 60% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي (أكثر من 17 مليار يورو بقليل) رغم أن عدد سكان الثاني أكبر بكثير من عدد سكان الأول. من خمسين سنة، كانت الطاقة العمود الفقري للاقتصاد العالمي، والسبعُ شركات الكبرى في هذا المجال كانت إما أمريكية (3) أو أوروبية (4)، اليوم، قواعد المعلومات الكبرى هي العمود الفقري والشركات الكبرى فيها إما أمريكية أم صينية ولا توجد شركة أوروبية([4])، وأشار تقرير دراغي إلى التأخر التكنولوجي والصناعي الأوروبي. ويمكن القول بصفة عامة إن أوروبا قادرة على الابتكار، ولكنها عاجزة عن تحويل هذه القدرة إلى مشاريع رأسمالية، وفي المقابل المجتمعات الأوروبية أكثر تحقيقًا للمساواة وقدرة على محاربة الفقر، ونستطيع أن نضيف أن البنية السكانية الأمريكية أقل اختلالًا من البنية السكانية الأوروبية. وعلى العموم “حاجة أوروبا إلى الولايات المتحدة أكبر من حاجة الولايات المتحدة إلى أوروبا”([5]).. أكبر بكثير.
الأزمة الحالية: ملاحظات أولية.
يلاحظ أن الرئيس ترامب وإدارته تبنَّا سياسة يمكن أن تُوصف بأنها “طوفان قرارات هامة”، وفي نفس الوقت يبدو واضحًا أن الرئيس ترامب يتيح لأعضاء إدارته مجالًا واسعًا نسبيًّا للتعبير عن وجهات نظرهم، وإن كانت تناقض بعضها البعض، ومما يزيد قلق العواصم الأوروبية تبني الرئيس ترامب للرواية الروسية حتى عندما يكون واضحًا أنها تخالف الحقيقة تمامًا.
وفي الوقت نفسه، الوضع السياسي والاقتصادي مأزوم في عدد كبير من الدول الأوروبية، على رأسها (ألمانيا، فرنسا، والمملكة المتحدة)، في باريس وبرلين شلل سياسي قد يكون مؤقتًا (ست أشهر) وقد يدوم، في الدول المذكورة تتعدد الأزمات الاقتصادية أو المالية والاجتماعية (التأخر في مجال التكنولوجيات الجديدة، أزمات قطاعات الزراعة والصناعة والإسكان والتعليم، سعر الطاقة علي سبيل المثال)، مع زيادة الاستقطاب الداخلي تتآكل القواعد الاجتماعية للحكومات، إضافة إلى ذلك العلاقات بين قادة ونخب ألمانيا وفرنسا متوترة وأحيانًا سيئة. يمكن القول إن بولندا أفضل حالًا ولكنها مقبلة على انتخابات في مايو ويؤثر هذا على سلوكيات حكومتها، وإسبانيا وإيطاليا في حالة جيدة أيضًا ولكن توجهات كل منها مختلفة عن توجهات الأخرى وعن توجهات باقي حكومات الاتحاد في عدد هام من الملفات ليس أقلها العلاقات مع الولايات المتحدة.
هناك اختلافات في تفسير تصريحات وسياسات الرئيس ترامب، من التفسيرات الممكنة صلاته القديمة بالنخب والنظام الروسي وتأثره الشديد برواياته ووجهات نظره في مسألة الناتو وفي ملف أوكرانيا مثلًا، ربما يتصور الرئيس أنه قد ينجح في دفع روسيا على الابتعاد عن الصين، ومنها أنه لم يحسم أمره تمامًا، وأنه يتصرف بمنطق البائع في المزاد العلني، يبحث عمن يتقدم بالعرض الأحسن، مع تقييم العروض بمعايير اقتصادية أكثر منها إستراتيجية، معايير اقتصادية تعطي أهمية قصوى للمواد الأولية والمعادن النادرة، ومع وضع البائع لشروط تعجيزية –على الأقل أمام بعض المشتريين – وممارسته لضغوط على البعض على نحو قد يكون غير منتج لتأثيره السلبي على سمعة الولايات المتحدة، ومنها رغبة عارمة في إعادة تشكيل، وفي بعض الأحوال تفكيك منظومات التحالفات والشراكات التي تكون الولايات المتحدة عضوًا فيها، إما لتعظيم عائدها وتقليل تكلفتها، وإما بتغيير المنطق الحاكم لها وأدواتها مع الإبقاء عليها، وإما التخلص من بعضها أو كلها. وقد تلعب توجهاته الشخصية دورًا، هو يكره منظومة التجارة الحرة، ويكره الليبرالية السياسية المائلة إلى اليسار، ويكره ميل أوروبا إلى التصرف كالراكب الذي لا يدفع التذكرة، وذات مرة في الماضي وصفها بالعدو، ويكره الرئيس زيلنسكي، ويكره الأحلاف مفضلًا الصفقات، ويكره الحروب واستسهال بلاده اللجوء إليها. وربما يسعى الرئيس – أو فاعلون مؤثرون في إدارته- في دعم حركات أقصى اليمين في عدد من الدول وإقامة علاقات وثيقة معها.
ونشير إلى اختلاف المقاربات الأوروبية لمسألة العلاقات عبر الأطلسية في مجال الأمن والدفاع، لفرنسا ثقافة إستراتيجية لم تثق أبدًا في متانة ومصداقية الحماية والضمان الأمريكيين، ولا في دوامهما، ولطالما رأت أن أمريكا لن تخاطر بسلامة مدن أمريكية لإنقاذ عاصمة أوروبية، ولذلك تطالب دائمًا باستقلال إستراتيجي أوروبي، ودفاع مشترك أوروبي، إما في إطار الناتو أو خارجه، وتستاء علنًا من ميل الدول الأوروبية إلى شراء أسلحة أمريكية، وتنادي بشراء أسلحة أوروبية، وبتطوير الصناعات الحربية الأوروبية، وترى باريس (ومعها غيرها من العواصم) الآن أن مواقف إدارة ترامب تؤكد تحليلاتها، ولكنها تؤكدها في أسوأ توقيت بالنسبة لأوروبا ولفرنسا، وتبحث فرنسا الآن مسألة تعديل عقيدتها النووية، ويقر الرئيس أنه يجب ألا تقتصر على حماية سلامة الأراضي الفرنسية.
ولكن باقي الدول الأوروبية لا تثق في النوايا الفرنسية، ولا في ضمانة وحماية نووية فرنسية، مع اختلافات في مقاربتها. في ألمانيا حنينٌ فترَ، ولكنه لم يختفِ إلى عصر العلاقات الجيدة مع روسيا وساد لفترة طالت اعتقاد أن الحماية والضمان الأمريكيين دائمين، وإضافة إلى هذا فإن اقتصادها في حاجة إلى التصدير إلى أمريكا، والصين، وإلى الطاقة الروسية، ولطالما مالت إلى إخضاع سياستها الأمنية والدفاعية لمقتضيات إستراتيجيتها الصناعية، أي أنها اعتادت مهادنة الكل، وتعرف أن إعادة بناء جيش وقوات برية عملية قد تكون غير ممكنه وستستمر على أي حال فترة طويلة، وستركز السياسة الدفاعية الألمانية على القدرات على ضرب الداخل الروسي بعنف بالغ، أي على تطوير الطيران والصواريخ ووسائل الدفاع الجوي. ومن الواضح، أن ميزاتها النسبية هي صناعاتها الحربية. المملكة المتحدة من ناحيتها تراجع حاليًّا سياساتها الدفاعية على ضوء المستجدات من ناحية وضائقة مالية من ناحية أخرى، ولكن المؤكد أنها لن تستطيع تحديث القوات (البرية، البحرية، والجوية) في آنٍ واحد وأن عليها ترتيب الأولويات، ومما يعقد الأمور عمقُ الارتباطات بين الجيشين (الأمريكي، البريطاني) وبين الصناعات الحربية للبلدين وأجهزة استخباراتها.
تقليديًّا، لا تثق بولندا في دول أوروبا الغربية، تتفق مع فرنسا على ضرورة تقوية سريعة وجادة للدفاع الأوروبي، ولكنها لا تؤمن بالاستقلال الإستراتيجي التي تنادي به باريس وتفضل إقناع واشنطن أن أوروبا جادة في الإنفاق العسكري، قد تتغير مقاربتها الآن، ولكنها على العموم انتبهت مبكرًا إلى خطر الانسحاب الأمريكي، ولذلك نوعت مصادر مشترياتها العسكرية بالانفتاح والتعاون الوثيق مع كوريا الجنوبية، ولها سياسة دفاعية طموحة تهدف إلى تشكيل أقوى قوات برية في الاتحاد الأوروبي، وتشتري أسلحة موجودة فعلًا وتعطي أهمية أقل نسبيًّا لتصميم وصناعة أسلحة المستقبل. ولم تبدِ أي تحمس لفكرة نشر قوات بولندية في أوكرانيا في إطار خطة سلام، وحكومتها الحالية تسعى إلى تقوية علاقاتها الدفاعية مع دول أوروبا، الاختلاف في الإستراتيجيات يعود جزئيًّا إلى الفارق في جسامة التهديد الروسي.
وعلى أي حال، يجمع وزراء دفاع أوروبا على أن بناء منظومة دفاع أوروبية مستقلة وقادرة على الاستغناء عن الولايات المتحدة أمرٌ يتطلب جهدًا متواصلًا وإنفاقًا كبيرًا لمدة لا تقل عن عشر سنوات وربما تصل إلى خمس عشرة سنة.
الأزمة الحالية وملفاتها.
هناك أربعة ملفات على جدول الأعمال (عبر الأطلسي): أوكرانيا، الناتو، جرينلاند والحرب التجارية، ويمكن إضافة التدخل في الشؤون الداخلية الأوروبية، نقوم بعرض سريع لها، وفقا لما هو معلوم يوم 20 فبراير.
أوكرانيا.
الملف الأوكراني حيويٌ بالنسبة لأمن أوروبا، وليس كذلك بالنسبة للولايات المتحدة
الحجم الكلي لمساعدات أوروبا أكبر من الحجم الكلي للمساعدات الأمريكية، ولكن أمريكا متفوقة فيما يخص المساعدات العسكرية، وهناك إجماع على اعتبار أن هذه المساعدات منعت انهيار أوكرانيا، ولكنها لم تكن كافية لرد روسيا على أعقابها، أو لضمان تماسك الجبهة وثباتها، ويلاحظ أن أوروبا وأمريكا امتنعتا عن تسليم أوكرانيا عدد من المنظومات العسكرية ومن الأسلحة البالغة الأهمية.
التحليل السائد في أوروبا بعد فشل الهجوم الأوكراني المضاد في صيف 2023، هو أن الحل الأمثل هو وقف إطلاق النار وقبول ضمني أو صريح لاستحالة استرداد أوكرانيا للأراضي التي اغتصبتها روسيا مقابل تقديم ضمانات لها مصداقية لأوكرانيا دون انضمامها للناتو.
كان معروفًا أن الرئيس ترامب وعد بإنهاء الحرب في 24 ساعة، وأن صلاته بالدولة الروسية قديمة وأنه معجب بالرئيس الروسي، وأنه ومنذ أول يوم دائم الانتقاد للمساعدات لأوكرانيا، ويعتبرها هدرًا للمال. ورغم وجود تحفظات حول التوقيت، لم يكن هناك اعتراضات أوروبية على مبدأ التفاوض من أجل إيقاف الحرب، ولكن ما حدث كان صادمًا للأوروبيين.
من ناحية، عكست التصريحات الأمريكية، في فبراير، تراجعًا سريعًا عن الموقف الأصلي للإدارة، كما شرحته تسريبات في ديسمبر الماضي، وفوجئ الأوروبيون بما وصف بالهدايا المجانية السابقة لأي مفاوضات، فيما يخص استبعاد انضمام أوكرانيا للناتو، وإبعاد كلٍ من (أوكرانيا، الاتحاد الأوروبي) عن المفاوضات، وقبول مبدأ لقاء قمة بين الرئيسين (الروسي، الأمريكي)، ومطالبة الرئيس زيلنسكي بالاستقالة وبتنظيم انتخابات وتلميحات فجة إلى ضرورة عدم ترشيح نفسه، وتبني الرئيس الأمريكي لمقولات الدعاية الروسية بما فيها الغير معقولة منها، إن أضيف إلى كل هذا الموقف الغامض من مسألة الضمانات الأمنية لأوكرانيا تبدو الصورة قاتمة. حجم التنازلات يوحي بأن الرئيس الأمريكي قرر التخلي عن أوكرانيا مقابل مزايا اقتصادية كبرى يحصل عليها من روسيا، حاول وزير الخارجية الأمريكي تطمين الأوروبيين ([6])، ولكنه لم يفلح في هذا.
زار وزير الخزانة الأمريكي كييف، وطلب من الرئيس الأوكراني التوقيع على اتفاق تتنازل بمقتضاه أوكرانيا للولايات المتحدة عن نصف ثرواتها من المعادن النادرة، ورفض الرئيس الأوكراني التوقيع لأسباب وجيهة، وأن هذا الرفض أغضب الرئيس ترامب الذي قرر لعب “الورقة الروسية” الملوحة بأرباح اقتصادية كبرى. هناك عدة تفسيرات لما يحدث، وفقًا لرأي المفاوضات مع روسيا، غرضها ابتزاز الطرف الآخر و”إيقاظ أوروبا”، ويمكن في المقابل التصور أن مشروع الاتفاق مع أوكرانيا كان إبراءً للذمة وأن الإدارة الأمريكية تعمدت المبالغة في الطلبات وتقديمها بصورة مهينة معولة على رفض أوكراني يبرر تحولها إلى روسيا. وهناك تفسيرات أخرى ممكنة، لا أحد يعلم.
الناتو.
الرئيس ترامب يتبنى موقفًا سلبيًّا من الناتو، وأشار عدة محللين إلى عدم حاجة الرئيس ترامب إلى الانسحاب من الحلف لإضعافه وإفساده، وجوده في البيت الأبيض يكفي للتشكيك في التزام واشنطن بروح نص المادة الخامسة لمعاهدة الحلف، التي تقول إن العدوان على أي دولة عضو عدوانٌ على كل الدول الأعضاء.
ويواصل الرئيس ترامب الضغط على الأوروبيين مطالبًا برفع معدلات الإنفاق الدفاعي في أوروبا إلى 5%، وهذا مستحيل في المستقبل القريب، وصدم وزير الدفاع الأمريكي “هيجست” الأوروبيين عندما قال إن مسؤولية الدفاع عن أوروبا تتحملها بصفة أساسية دول القارة، وبالتالي عليها أن تزيد إنفاقها الدفاعي وأن تتكفل بالنصيب الأكبر من المساعدات لأوكرانيا، وأضاف أن وجود القوات الأمريكية في أوروبا ليس أبديًّا، وأن الدفاع عن أوروبا لم يعد متصدرًا لقائمة أولويات الولايات المتحدة، صحيح أن مجمل خطابه أكثر توازنًا لأنه تكلم عن ضرورة تقوية الناتو وقدراته القتالية وضمان أمن أوروبا؛ ولأنه أشار إلى احتمال ممارسة واشنطن لضغوط قوية على موسكو، ولكن هذا لم يزِلْ آثار الصدمة
مجمل التصريحات الأمريكية توحي بأن الإدارة الجديدة تريد وضعًا تقل فيه التزامات الولايات المتحدة حتى تتفرغ للمسرح الآسيوي، وتزيد فيه الدول الأوروبية من حجم شرائها لأسلحة أمريكية، وتريد أيضًا إنهاء سريع للحرب الروسية الأوكرانية، ويبدو الرئيس ترامب مستعدًا لتقديم تنازلات هائلة لروسيا لتحقيق هذه الأهداف وللحصول على امتيازات اقتصادية. وتجب الإشارة إلى مخاوف يعبر عنها عدد من المحللين، أن مطالب الرئيس ترامب لا تستهدف دفع أوروبا إلى الجدية في أمور الدفاع بل تمهد للتخلي عنها أو عن جزءٍ منها لصالح روسيا أو لتحويل أوروبا إلى مستعمرة، وأن هناك قواعد لعبة جديدة في النظام الدولي تعطي للأقوياء حق تقرير مصير الضعفاء في صفقات بينهم.([7])
التصريحات الأوروبية – مع بعض الاستثناءات- واضحة في إدانة السلوك الأمريكي، ولكن السؤال الهام يتعلق بقدرة الدول الأوروبية على الفعل في ظل وضع اقتصادي صعب وعلى الاتفاق على خطوط عامة للتحرك المشترك. هناك اتفاق على وجوب زيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي، وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية إنه يجب فصل ميزانية الدفاع عن ميثاق الاستقرار وبنوده عن الحد الأعلى للعجز المسموح([8]) (أي أن قياس العجز يتم دون حساب الإنفاق الدفاعي). وتوافق أغلب الدول على ضرورة شراء المزيد من الأسلحة الأمريكية، والاستثناء البارز هو فرنسا التي تريد دفع الأوروبيين إلى تفضيل شراء أسلحة أوروبية (يقصدون) فرنسية الصنع. ويلاحظ توثيق علاقات بولندا وكوريا الجنوبية، وهناك في فرنسا حديث عن ضرورة مراجعة العقيدة النووية الفرنسية لتوسيع تعريف المصالح الحيوية الفرنسية التي يمكن الدفاع عنها باللجوء إلى النووي، ولعدم استبعاد اللجوء إلى النووي في حال اعتداء روسيا على إحدى الدول الأعضاء في الناتو أو في المجموعة الأوروبية، وفي الأيام الأخيرة هناك مطالبة المملكة المتحدة بالاشتراك مع فرنسا في هذا.
ونكرر هنا ما أسلفناه، الوقت تأخر جدًا ولن تكون أوروبا جاهزة للدفاع عن نفسها دون دعم أمريكي في المستقبل المنظور.
الحرب التجارية.
الرئيس ترامب دائم الشكوى من العجز في الميزان التجاري ومن الممارسات الموصوفة بالحمائية لأغلب الدول بما فيها الدول الأوروبية، ويتحدث عن معاملة بالمثل، وعندما يتكلم عن الرسوم الجمركية التي يفرضها الآخرون يشير إلى الرسوم طبعًا، وإلى ضريبة المبيعات، وهي مرتفعة في كل الدول الأوروبية، كما يشير إلى قيام الاتحاد بمنع استيراد عدد من السلع الأمريكية، أو إلى تعامل الاتحاد مع الشركات العملاقة الأمريكية في مجال المعلومات والبيانات. وهناك مشكلات أخرى، منها السعي الأمريكي الحثيث على اجتذاب المستثمرين والصناعات الأوروبية ليقيموا مصانع في الولايات المتحدة، وستدعم الرسوم الجمركية إن فرضت هذا التوجه، وتزامن هذه الجهود ارتفاع سعر الطاقة في أوروبا واضطرار عدد من الدول الأوروبية إلى رفع ضرائبها، ومنها أيضًا رد الفعل المتوقع للصين إن شنَّ الرئيس ترامب عليها حرب تجارية، أي تبنيها سياسة تدعم صادراتها إلى أوروبا.
فرض الرئيس ترامب يوم 13 فبراير رسومًا جمركية قدرها 25% على استيراد الصلب والألومنيوم، ويتوجس الجميع من إجراءات أخرى، ولكن الاتحاد الأوروبي يمتلك عدة أوراق، ومن غير المتصور ألا يتخذ إجراءات انتقامية، لا سيما في ظل تدهور العلاقات مع واشنطن والحاجة الماسة إلى إثبات أن أوروبا قادرة على الفعل، الاتحاد جهز نفسه منذ عامين بتأسيس “أداة لمكافحة الإكراه” تسمح له بإطلاق مجموعة من التدابير المضادة القوية قادرة على الاستهداف النوعي (تقييد الوصول إلى سوقها، وإلى المناقصات، وإلى تسجيل حقوق الملكية الفكرية، والاستثمارات،)([9]). السؤال الهام هل ستوافق كل الدول الأعضاء على التصدي النشيط لإجراءات واشنطن؟
نشير إلى نقطة جانبية وهو التكتيكات الألمانية، ألمانيا هي أكثر الدول استفادة من الخلل في الميزان التجاري مع الولايات المتحدة، وللتعامل مع غضب واشنطن تحث ألمانيا الدول الأوروبية على شراء أسلحة أمريكية([10]).
إشارة سريعة إلى المملكة المتحدة، الولايات المتحدة أكبر مشترٍ للصادرات البريطانية، وقبضة الرأسمال الأمريكي على الاقتصاد البريطاني قوية، إلى درجة دفعت محلِّلًا إلى تأليف كتاب اسمه “دولة تابعة”([11]). تبعات هذا الوضع السلبية واضحة، ولكن هناك وجه آخر للعملة، وهو أن صوت لندن مسموع إلى حد ما في واشنطن.
الجرينلاند.
بعد انتخابه وقبل توليه السلطة عقد الرئيس ترامب مؤتمرًا صحفيًّا قال فيه إنه لا يستبعد استخدام القوة الاقتصادية أو العسكرية للسيطرة على جرينلاند، التابعة للدانمارك([12])، وهي دولة حليفة صغيرة تعداد سكانها أقل من 6 مليون، وهي عضو مؤسس في الناتو، وتتمتع جرينلاند بموقع إستراتيجي فريد وبالحكم الذاتي، وسكان الجزيرة البالغ عددهم 57 ألف نسمة الآن على الطريق نحو الاستقلال. وفي الوقت الحالي، تظل الدنمارك مسؤولة عن أمنها العسكري وسياستها الخارجية، بالتشاور مع الحكومة الجرينلاندية. وهناك قاعدة أمريكية كبيرة في جرينلاند([13])، وحاول عدد من الخبراء تبرير التحرك الأمريكي باعتبارات إستراتيجية واقتصادية – الموقع الإستراتيجي للجزيرة وثرواتها الطبيعية- وقالوا إن هذا الطلب الغير معقول هو تكتيك تفاوضي لإجبار حكومة الدانمارك على مزيد من التعاون ومن التنازلات. وهناك من يقول إن الرئيس يؤمن بنظرية “الرجل المجنون”، الذي يخاف منه الكل فيقدمون له التنازلات. ولكن هناك مشكلات في مقاربة الرئيس، كيف تبرِّر المزيج المكون من مهادنة الخصوم والمنافسين والاعتداء على الحلفاء؟ لا سيما أن الدانمارك تحديدًا كانت وثيقة التعاون مع الولايات المتحدة، وتعطي مواقف الرئيس ترامب قدرًا من المصداقية للتحليل الذي يرى أن موقفه من العدائيات مختلف، فأوروبا باتت العدو، وليست روسيا. أو للتحليل الذي يرى أن أوروبا غنيمة، وأنه يتعين على الكبار الثلاثة تقسيم العالم فيما بينهم، لكل منهم منطقة نفوذ يتصرف فيها كما يشاء.
وفي هذه المسألة تحديدًا، سيكون الرد الأوروبي موحدًا، ومبنيّا على إجماع، وسيتخذ غالبًا شكل عقوبات اقتصادية.
تدخل الإدارة الأمريكية في الشؤون الأوروبية.
شكلت خطبة نائب الرئيس الأمريكي في مؤتمر ميونخ صدمة كبرى للنخب الأوروبية، فمن ناحية لم يتطرق إلى الحرب الروسية الأوكرانية ولا إلى التهديد الروسي، ومن ناحية أخرى قال “إن أكبر تهديد تواجهه أوروبا هو تهديد داخلي، وهو تخليها عن القيم الديمقراطية وعن مبدأ حرية الكلام”، وما وصفه بأنه “إسكات للقوات الشعبوية اليمينية واليسارية”، وانتقد مثلًا إلغاء الانتخابات في رومانيا، والتقى فانس بزعيمة حزب اليمين المتطرف الألماني، في حين أنه لم يلتقِ لا بالرئيس ولا بالمستشار الألمانيين، وجاء كل هذا بعد تدخلات سافرة لماسك في السياسات الداخلية لألمانيا والمملكة المتحدة، وهي تدخلات تدعم أيضًا أحزاب اليمين المتطرف.
الخلاصة.
تسارع الأحداث جاء في توقيت بالغ السوء لأوروبا، وهي فشلت طوال الألفية الجديدة في تطوير اقتصادها وفي الاحتفاظ بقوة عسكرية يعتد بها، وفي الحد من الاستقطاب الداخلي.
التوقيت بالغ السوء؛ لأن ألمانيا وفرنسا وبدرجة أقل المملكة المتحدة يواجهها أزمات عميقة، إضافة إلى ذلك هناك شبه إجماع على أن منح روسيا انتصارًا مبينًا سيشجعها على معاودة الاعتداء على دولة مجاورة، ولو بعد حين.
سلوك الإدارة الأمريكية أكد صحة مقولات الثقافة الإستراتيجية الفرنسية، وصدق تحذيرات الرئيس ماكرون، ولكن هناك شكوك قوية في قدرته على ترجمة أقواله إلى أفعال، ألمانيا تواجه واقعًا لم تتوقعه أبدًا، عدم وجود ضمانة أمريكية، وعليها إجراء مراجعة شاملة لثقافتها الإستراتيجية ولبنية اقتصادها.
إضافة إلى هذا، قد يفضل عدد من الفاعلين الأوروبيين التفاوض الانفرادي مع واشنطن (حاليًّا) ومع موسكو (في المستقبل).
أود الإشارة في النهاية إلى تقارب محتمل بين الاتحاد الأوروبي والصين، لا نقول “حلفًا” بل تخفيض حدة التوتر، الطرفان لا مصلحة لهما في تقارب أمريكي روسي، ولهم مصلحة في تنمية التجارة والتعاون، ولكن اختلاف الأنظمة الاقتصادية والسياسية والإستراتيجيات الصناعية سيكون عائقًا هائلًا.
([1]) https://lerubicon.org/collimateur-21-02-25/,
بودكاست يجمع بين خبراء سياسة خارجية أحدهم فرنسي، والثانية ألمانية، والثالثة فرنسية أمريكية من أصل لبناني.
([2]) Middelaar, Luuk Van : Quand l’Europe improvise, Le débat, Gallimard, Paris 2018,
([3]) Stiglitz, Joseph E : L’euro, comment la monnaie unique menace l’avenir de l’Europe, Actes Sud, Paris 2021
([4]) Gomart, Thomas : L’affolement du monde : dix enjeux géopolitiques, Taillandier, Paris 2019, 352 pages
([5]) https://www.newstatesman.com/world/europe/2025/02/ukraine-jd-vance-threat-of-peace
([6]) https://www.nytimes.com/2025/02/20/us/politics/rubio-russia-europe.html?searchResultPosition=3
([7]) انظر على سبيل المثال: الحديث التلفزيوني لرئيس المخابرات البريطانية السابق “أليكس يونجر”.
([8]) https://www.swissinfo.ch/fre/d%C3%A9fense:-von-der-leyen-propose-plus-de-flexibilit%C3%A9-budg%C3%A9taire/88877783
([9]) https://www.lefigaro.fr/vox/economie/l-editorial-de-gaetan-de-capele-la-guerre-commerciale-de-trump-un-test-pour-l-europe-20250210
([10]) https://www.latribune.fr/opinions/edip-un-poison-potentiellement-mortel-pour-les-interets-francais-en-matiere-de-defense-1012141.html
([11]) Hanton, Angus : Vassal state, how America runs Britain, Swift Press, 2024, 304 pages
([12]) https://www.theatlantic.com/politics/archive/2025/01/greenland-annexation-trump/681279/
([13]) https://www.theatlantic.com/international/archive/2025/02/greenland-trump-borgen/681588/