في مواجهة الوباء الكوني، وجد البشر أنفسهم موزعين على مناطق جغرافية متباعدة ونطاقات حضارية مختلفة تباينت ردود أفعالها إزاء الوباء، وتناقضت مسالكها في مواجهته على نحو أعاد طرح سؤال العالمية الذي شغل الناس منذ تسعينيات القرن المنصرم: هل تستطيع الدول والمنظمات الإقليمية المختلفة تبنِّي سياسات مشتركة أو ترتيبات منسقة لإنتاج اللقاحات وتوزيعها، تجسد مفهوم النظام العالمي، وتعكس شعورًا بالمسؤولية الأخلاقية عن المصير الإنساني المشترك، وإيمانًا حقيقيًّا بالمواطنة العالمية؟. والحق أن المجتمع العالمي بدا ثقيل الحركة أمام التحدي المفاجئ، بل يمكن القول أنه قد ظهر مشلولًا، فلم تنهض مؤسساته الكبرى بإجراء جماعي يذكر إلا على استحياء، وإن بدت لتلك المؤسسات أدوارًا ملموسة في وقت متأخر على صعيد التخفيف من الآثار الاقتصادية للوباء.
كما وجد هؤلاء البشر أنفسهم رعايا لدولة وطنية بدت سيدة للموقف، سواء في فرض القواعد وتطبيق القوانين والإشراف على جميع إجراءات الوقاية والعلاج، أو حتى في تقديم الرعاية الاجتماعية للمضَرِّين بشدة من مواطنيها الذين أدى الإغلاق الاقتصادي إلى شلِّ قدرتهم على كسب أقواتهم. هكذا برز دور الدولة- على وجه العموم- كفاعل أساسي يسبق بالمطلق الكيانات الأضيق منه كـ(الطائفة والقبيلة) في المجتمعات المتخلفة، ويتقدم كثيرًا على التكتلات الإقليمية في المجتمعات المتقدمة كالاتحاد الأوروبي، ومن ثم تبدَّت الدولة وكأنها “الحقيقة السياسية” الوحيدة أو على الأقل أكثر الحقائق صلابة في عالم يموج بالسيولة، وحائط الصد النفسي في لحظة تموج بالخوف، غير أن التباين في مدى مرونة وعمق استجابة الدول المختلفة للتحدي كان كبيرًا، فبعضها أسرع إلى اتخاذ التدابير الفعالة في مواجهته، وبعضها الآخر أظهر بطئًا وترددًا ملحوظين، فيما اتخذ البعض الثالث قرارات خاطئة بعد فترة طالت أو قصرت سادها الإنكار والتحايل والمراوغة، الأمر الذي أعاد طرح سؤال الدولة وأي أنظمة الحكم أقدر على تنظيم المجتمعات وحماية الشعوب من الكوارث بفعالية تتوازى مع خطورتها وعدالة تتسع لجموع مواطنيها: هل هي الدولة الشمولية، ذات الاقتصاد المركزي المخطط الأكثر سيطرة بالطبع على سلوكيات الأفراد؟ أم هي الدولة الديمقراطية الأكثر إيمانًا بحرية الاقتصاد والسوق وتسامحًا مع الحريات الفردية؟.
العدالة الصحية وسؤال الرأسمالية
كانت مدينة وهان الصينية- موطن الوباء الأول- هي أول من خرج من أسره بصرامة إجراءات الدولة المركزية، ونظامها الصحي الفعال، وربما ثقة الجمهور في قياداتها، ولأن الصين تظل نموذجًا للدولة الشمولية، ولا يزال نظامها السياسي شيوعيًّا مغلقًا رغم انفتاحها الاقتصادي، فقد اُعتبر هذا النموذج هو الأكثر نجاحًا، رغم أن شموليته هي التي دفعت إلى عقاب الطبيب الذي استشعر الفيروس وحذر منه قبل أن يموت به، ورغم أن انغلاقه ربما أعاق وصول خبر الوباء إلى العالم بضعة أسابيع، لا شك في أن لها قيمتها الخطيرة في مجابهته. وفي المقابل بدا الدور الأمريكي خافتًا في مواجهة الوباء، على عكس ما اعتاد عليه الناس طيلة القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين، وما روجته هوليود عن الحلم الأمريكي، حول قدرة الولايات المتحدة الفذة على مواجهة مخاطر الأوبئة والكوارث، بداية من توقعها والتنبؤ بها، مرورًا بالجاهزية العلمية والتكنولوجية لها، وصولًا إلى النهايات السعيدة التي تحققها الروح البطولية الأمريكية رغم لحظات الخطر الوجودي المحيطة بها وهي تؤدي مهماتها المقدسة لأجل الإنسانية، ولأن الولايات المتحدة أبرز نموذج للديمقراطية الليبرالية والنظام الرئاسي، اعتبر هذا النموذج هو الأكثر فشلًا، خصوصًا وقد تكرر أداؤه المتدني في (إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا)، ثم في الهند التي صارت مسرحًا للوباء، خصوصًا في ظل موجته الثالثة.
وفي اعتقادنا الشخصي، أن تلك الأحكام متسرعة وربما تكون جائرة من الأصل، تحفزها ضغوط اللحظة أكثر مما تلهمها سنن التاريخ، إذ تتنكر لمثل الحداثة السياسية كـ(الديمقراطية الليبرالية، والحرية الفردية والنزعة الإنسانية، والمجتمع المفتوح)، تلك التي كافحت الإنسانية طويلًا، وأراقت من الدماء كثيرًا حتى تصل إلى فضائها الرحيب انعتاقًا من كهف الإقطاع الكئيب وقبضة التسلط الديني والسياسي الرهيب. فابتداءً، تنطوي تلك الأحكام على تعميمات تتجاهل حقيقة أن اليابان وكوريا، البلدين الديمقراطيين في جوار الصين نفسها، حققا نجاحًا كبيرًا في مواجهة الفيروس، ربما لانضباط شعبيهما، وقوة حضور القيم الجماعية لديهما، ناهيك عن وجود نظام صحي فعال يشي بقوة حضور الدولة رغم ديمقراطيتها. وعلى الجانب الآخر نجد أن بلدانًا شمولية، ولو تدثرت شموليتها بغطاء ديمقراطية طائفية، كإيران على سبيل المثال، قد عانت من الفشل ولم تحقق النجاح الصيني ذاته، وهو الأمر الذي ينطبق على عشرات البلدان السلطوية خارج آسيا وأوروبا سواء في أفريقيا أو في العالم العربي.
ومن ثم نعتقد أن العامل الحاسم في إعاقة المواجهة مع الفيروس اللعين ليس هو الديمقراطية في حد ذاتها، والتي لا يمكن أن تكون عبئًا على أية مهمة تاريخية، بل هو الليبرالية المتطرفة التي تمجد النزعة الفردية المطلقة، ولا ترى للدولة دورًا يذكر في ضبط التوازنات السياسية بين مواطنيها، اعتقادًا منها في أن مفاهيم كالعدالة والحق إنما تتشكل تلقائيًّا على هدي الجدل والسجال بين الآراء الفردية المستنيرة التي يُفترض فيها الحصانة ضد الاتجاهات التي لا تطابق العقل، وكذلك الرأسمالية المتوحشة التي تنبثق عن هذا الفهم المتطرف لليبرالية، والتي تشل يد الدولة وتعطل دورها الاجتماعي في الإشراف على جل قطاعات الحياة الأساسية، بذريعة أن للسوق يد خفية تملك من الحكمة في توجيه الاقتصاد ما يوازي حكمة الفرد في بلورة مفهوم الحق، الأمر الذي أفضى إلى فساد الاقتصاد وتوحش السوق. وفي اعتقادنا أن هذا التصور الليبرالي يعاني من قصور وضيق أفق يكمن في موضعين أساسيين:
الموضع الأول: هو ذلك التصور التنويري بالغ التفاؤل حول الطبيعة البشرية، والذي بلغ نقطة ذروته في مذهب جان جاك روسو في “الكمالية”، والذي يقول بقدرة الإنسان على الترقي وصولًا إلى درجة الكمال، وبأنه إذ تُرك إلى نفسه فسوف يسلك بالضرورة على نحو أخلاقي، وهو الفهم الناجم عن التصور الرومانسي لحالة الطبيعة الأولى القائل بخيريتها وبكارتها الأصلية. من جانبنا نقبل هذا التفاؤل التنويري بشرط أن نفهم تلك الكمالية باعتبارها قدرة النوع الإنساني كله على تحقيق تقدم معرفي وأخلاقي مطرد عبر التاريخ من خلال التربية والتعليم والتحرر والمسؤولية، أي قابليته للتغير نحو الأفضل عندما يدرك قدراته الداخلية الكامنة ويسعى للتخلص من نقائصه بحسن تنظيم مهاراته ووقته وجهده، وليس باعتبارها سمة أصيلة أو منة مجانية لجميع البشر.
هنا يتعين علينا إدراك حقيقة أن الأفراد ليسوا جميعًا أذكياء، ذوي إرادة، أخلاقيين، فمنهم قليل الوعي والحكمة الذي لا يدري ما هو الأفضل له، ومنهم من هو ضعيف الشخصية وعديم الإرادة لا يستطيع اتخاذ القرارات الأفضل لحياته، ولو أدرك فحواها، كما أن الأذكياء وذوي الإرادة معًا، لا يظلون دائمًا على القدر نفسه من الحكمة حتى يتمكنوا من اتخاذ أفضل القرارات في كل المواقف، ناهيك عن أنهم قد لا يرغبون في اتخاذ القرار الأفضل بدافع من مصالحهم الأنانية الضيقة وطمعهم الذي قد يغريهم بقرارات مهلكة.
والموضع الثاني: هو التصور الخيالي عن سوق يشبه صندوقًا زجاجيًّا شفافًا، وكأنه ملعب كرة قدم يتصارع على ساحته فريقان في وجود حكم عادل وقوانين لعب معروفة وجمهور يتفرج، ورأي عام يراقب، أو حتى حلقة ملاكمة يتوافر فيها الحياد التام بين الشخصين المتصارعين ولو أفضى الصراع إلى موت أحدهما، مادام قد اختار اللعبة بإرادته الحرة، عالمًا بأنها إما أن تقوده إلى تحقيق الربح الوفير أو تفضي به إلى الموت السريع.
حسب هذا الفهم المثالي لطبيعة السوق يُفترض أن تلتقي كل الآراء المتناقضة عن الاقتصاد في نقطة اتفاق نهائية تحكمها القدرات المختلفة للفاعلين دون أن تقوم السلطة الحاكمة برعاية طبقات فقيرة أو ردع جماعات مصلحة نافذة أو حتى تنسيق أهداف قومية، والحق أن هذا التصور يعاني من مثالب واضحة تُعمِّي على رؤية الواقع، فالملعب الاقتصادي غالبًا ما تحكمه احتكارات خفية ومصالح غير مرئية تتحكم فيها السياسة أحيانًا والأمن أحيانًا أخرى، وقد يرتبط بثقب أسود من جماعات المصالح داخل الدولة نفسها أو بمصالح عالمية تربط بين الطبقات الغنية في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة وبين الطبقات الطامحة إلى الثراء في المجتمعات الفقيرة والمتخلفة، أي الطبقات (الكومبرادورية)، التي تبلغ من الأنانية حدًا تفضل معه العمل كوكلاء تجاريين لصناعات غيرهم، والعيش على فوارق الأسعار والعملات، واحتكارات السلع الوافدة بما يضمن تراكم سريع للثروة دونما بذل أي جهد لتصنيع بلادها أو ترقية عيش مواطنيها، ناهيك عن اتجارها بكل القيم الإنسانية ومحاولة إفساد الآخرين أخلاقيًّا لتحويلهم إلى أُناس وظيفيين موالين لها يدعمون برامج عملها من أجل الحصول على الفتات منها، ومن ثم يتحول السوق من صندوق زجاجي شفاف إلى كهف معتم يمتلئ بالظلال والأشباح.
هنا تبدو القطاعات الاقتصادية الكبرى: (الطاقة، العقارات، السلاح، السيارات، الخدمات) أشبه بجزر منعزلة، يتطور كل منها بعيدًا عن السياسة العامة للدولة المفترض أن ترسم مسارًا يحقق مصلحة أغلبية المواطنين، بل يزدهر كل منها ويطغى على فرص القطاعات الأخرى في النمو بحسب قوة جماعة المصلحة التي تقف خلفه.
فمثلًا، تسبب انفلات القطاع العقاري في الأزمة المالية العالمية 2008 م، التي لم تكن لتقع أصلًا، أو كان ممكنًا تجنبها بقدر أقل من الخسائر لو لم يُترك الاقتصاد للمضاربين الماليين، والمغامرين العقاريين. أما القطاع الصحي فتعاملت معه النيوليبرالية كأي قطاع استثماري يقدم خدمة في مقابل ثمن، ينهض السوق بإنتاجها وتوزيعها، فلا علاج إلا لمن يستطيع الدفع، وهو ما حدث في دول أوروبا الغربية بدرجاتٍ مختلفة، ولكنه كان أكثر حدة وبشاعة في الولايات المتحدة؛ لأنها كانت تخلصت من إرث دولة الرفاة الكينزية، واستسلمت لرأسمالية متوحشة متحالفة مع المجمع الصناعي العسكري، تعيش على الكوارث والأزمات والحروب، تستثمر فيها وتتغذى عليها.
نعم كانت الدولة التدخلية- بقدر ما تمتلك من سلطة الضبط ومقومات الترشيد- هي الأكثر قدرة على المواجهة، خصوصًا وأنها تدير نظامًا صحيًّا فعَّالًا استطاعت من خلاله أن تقول كلمتها قياسًا إلى الدولة الحارسة، التي تدخلت بقدر محدود أو حتى أعلنت حيادها، مثل حكم ساحة في مباراة لكرة القدم، مكتفية بالفرجة على الصراع الاجتماعي الدائر، بعد أن تخلَّت طويلًا عن مهمتها الرعوية، حتى فقدت القدرة على المبادرة في لحظة الأزمة. لكن من الذي قال بأن النزعة التدخلية تعني فقط الشمولية الصينية؟ ومن قال إن الإنسان كائن لا غاية له سوى البقاء، وأن وباء عابر مثل كورونا يستطيع أن يهزم كل أحلامه وطموحاته التاريخية إلى الحرية الفردية والكرامة الشخصية؟. إذ أجيب نافيًا ومستنكرًا، أطرح هنا نموذج الاشتراكية الديمقراطية ودولة الرفاة الكينزية اللذين عرفتهما أوروبا الغربية، كأفق سامٍ للتطلع الإنساني إلى نظام حكم يضمن تحقيق العدالة والحرية معًا، إذ يُبقي على حضور الدولة من دون إنكار لدور المبادرة الفردية، وفي ذلك ربما تكمن حكمة التاريخ، التي تهدرها نزعات القهر السياسي، مثلما يقوضها التحيز الاقتصادي والشعبوية السياسية والعنصرية الثقافية.
المركزية الغربية وسؤال العالمية
طالما اعتبر الغرب أن التحديث هو رسالته التي يبشر بها، وأثار جدلًا كبيرًا حول نمط تلقي المناطق الحضارية المختلفة له، متهمًا المناطق الممانعة بالتخلف الثقافي بل نظر إليها أحيانًا على أنها عدو، وضمنها المشرق العربي الإسلامي، الذي أوقعته ممانعته للحداثة في مشكلات كالإرهاب.
تبدو لنا تلك السردية أقرب إلى فرية تاريخية، فلم يكن تحديث العالم هدفًا- بالمعنى الجوهري- للغرب الذي لم يحاول قط أن ينشر المكونات الأساسية للحداثة (الفلسفية والعلمية)، فما سعى إلى تصديره للمجتمعات الأخرى لا يعدو نمط الحياة الاستهلاكي؛ كي تصبح هوامش فعالة وأسواق مفتوحة لسلعه وخدماته دون إنتاج، وجمهور مستهلك لإعلامه دون ثقافة. أما تحديث متون تلك المجتمعات فظل موضع مقاومة منه، بل إن بنية العولمة، التي أفضت آلياتها، وفي قلبها حرية رأس المال، إلى انتقال الكثير من الصناعات للبلدان الأسيوية في جنوب وشرق القارة الأسيوية، فأحدثت بها مستويات تنمية عالية كـ(الصين، وأندونيسيا، وماليزيا، وفيتنام)، قد أثار حنق الطبقات العاملة البيضاء التي تأثرت بهجرة شركات إنتاج سلع الثورة الصناعية الثانية وبعض معاقل الثورة التكنولوجية، خصوصًا الكمبيوتر المحمول والتليفون المحمول_ إلى عالم الجنس الأصفر، ما أدى إلى تبطل فئات عديدة سواء من الطبقة العاملة أو حتى من الشرائح الدنيا للطبقة الوسطى ذات المهارات العادية، والتي دخلت في منافسة خسرتها بوضوح ٍكبير أمام نظيراتها الأسيوية ذات الأجور المنخفضة إلى نحو15 % من أجورها، ومن ثم نبتت مفارقة مناهضة العولمة داخل المجتمعات الغربية.
تفسير تلك المفارقة هو أن الفجوة بين الثراء والفقر قد اتسع خرقها على نحو يصعب رتقه، فلم تعد فقط بين دول غنية (مركزية)، وأخرى فقيرة (طرفية)، بل صارت واضحة داخل كل المجتمعات بين طبقات غنية تزداد غنىً، وأخرى فقيرة تزداد فقرًا، بل إن هذا التفاوت شق طريقه إلى قلب الطبقة الوسطى نفسها داخل المجتمع الواحد، وذلك بين الفئات الأكثر اندماجًا في الثورة التكنولوجية الثالثة، والقادرة بمهاراتها الفائقة على تحدي هجرة رأس المال الصناعي إلى الخارج، ونمو معدلات الأتمتة (الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا بديلًا عن العمل البشري في أداء العديد من الخدمات التي لا تحتاج إلى مهارات خاصة) وبين الفئات الأكثر ارتباطًا بالصناعات الثقيلة الهندسية والكهربائية ربيبة الثورة الصناعية الثانية، والتي واجهت اختيارًا مريرًا بين الاستمرار في أعمالها ولكن مع دخول أقل في بعض الأحيان، وبين تسريحها عندما جرى تصدير تلك الصناعات إلى الدول الأسيوية في أغلب الأحيان، الأمر الذي دفع المتضررين إلى الانتفاض ضد حركة العولمة، أملًا في إعادة احتباس الثروة والتقدم التكنولوجي، وهو أمر ليس غريبًا على المشروع الحضاري الغربي بل يفسر لنا سر الإشكالية المألوفة عن ازدواجية المعايير الغربية، والتي لا تتفق مع الأسس الفلسفية الإنسانية والكونية للتنوير، والحق أن مشروع التنوير- منذ بدايته- انطوى على تيارين متناقضين:
التيار الأول: (نفعي) ومعلمه الرئيس الفيلسوف ليبنتز، الذي أراد تسخير الآخرين في خدمة أوروبا الصاعدة، ومن ثم دعى إلى استعمار الأقاليم المركزية في العالم وضمنها مصر التي حرَّض العرش الفرنسي” لويس الرابع عشر”، على احتلالها منذ القرن السابع عشر حتى جاءها نابليون في نهاية الثامن عشر باسم (الثورة والجمهورية).
أما التيار الثاني: (الإنساني) فرمزه الأساسي كانط، الذي أراد التعايش مع الآخرين على أرضية الإنسانية المشتركة والحكومة العالمية، انطلاقًا من دول وطنية ديمقراطية يتحرر فيها العقل وتنمو الإرادة. غير أن تلك الرؤية الأخلاقية للعالم ظلت هامشية في تيار التنوير، قياسًا إلى المتن العريض الذي جسده التيار النفعي وبلغ ذروته في نزعة المركزية الأوروبية، وما رافقها من نظريات ومعارف إثنية وأنثروبولوجية وفلسفية تبرر هيمنة الغرب برسالة الرجل الأبيض التي عبرت عن نفسها بوحشية كاملة في النزعة الكولونيالية.
سار الغرب مرارًا خلف ليبنتز، فاحتل معظم أقاليم العالم ووظف أصحابها في خدمة مشروعاته، دعاهم إلى الحداثة فيما عطل تطورهم الطبيعي نحوها، حتى لو اضطر إلى بناء بعض المرافق الحديثة كي تخدم وجوده فيها وتسهل من عملية استنزافه لها، نصَّب نفسه داعية للديمقراطية وحقوق الإنسان لكنه اعتبر الإنسان الغربي وحده الأجدر بهما، ومن ثم ظل البناء الفلسفي المعتمد لمشروعه الحضاري عاجزًا -سواء في ظل القيادة الأوروبية بالأمس أو الأمريكية اليوم- عن حمل أعباء مشروع حضاري إنساني يستطيع مواجه التحديات الأساسية لعالمنا؛ لأنه استمر في التعاطي معها من خلال العقل النفعي نفسه الذي حكم مفهوم النظام العالمي في كل مراحله منذ العصر المركنتيلي وحتى عصر العولمة، وهو عقل انتهازي يدور في فلك ذاته، يوظف كل القيم والمثاليات والرموز في تبرير هيمنته، فلم يكن الخطاب الكوني الإنساني الذي تم الترويج له منذ نهاية الحرب الباردة 1991م وحتى بداية الوباء الكوني كورونا 2020م، سوى غطاء لتبرير الهيمنة الأمريكية يجنبها مخاطر إعلان الانتصار بوضوح يستفز المنافسين الجدد، وذلك عبر قفزة إلى الأمام تبشر بعالم جديد يسع الجميع ظاهرًا لكن تحت قيادة وإشراف الطرف المنتصر، ينطلق مثل هذا العقل النفعي/ البرجماتي من افتراضين أساسيين:
الافتراض الأول: أن العلاقة مع الآخر صراعية بالأساس، فإن لم يوجد الصراع بالفعل تعين اختراعه، انطلاقًا من الفلسفة الاجتماعية الداروينية التي استعارت قانون البقاء للأصلح من مملكة الحيوان وعممته على عوالم الإنسان إلى درجة أبدت معها الحماس لدور الحرب في التاريخ، باعتبارها القانون الشامل للحياة الإنسانية، مثلما أن الصراع لأجل البقاء هو القانون الضروري للحياة البيولوجية، فما أن انتهت الحرب الباردة وزال الانقسام بين المعسكرين الشرقي والغربي إلا وجرى إنتاج نظرية / خطاب صدام الحضارات كضرورة لتكتيل الغرب خلف الولايات المتحدة بذريعة أن العالم الإسلامي كله حول العرب، والعالم الأسيوي برمته حول الصين باتا خطرين جديدين داهمين على الغرب بعد زوال الخطر الشيوعي.
ألقت النظرية بثقلها على المصير الإنساني كله، ورغم أن سجالات عديدة دارت حولها، مثلما جرت محاولات عديدة لتفكيكها طيلة التسعينيات الماضية من قبل مفكرين بعضهم من خارج الغرب، وبعضهم الآخر من داخله، فإن أحداث 11 سبتمبر منحتها جرعة حيوية تم توظيفها في احتلال العراق وأفغانستان بحجة محاربة السلاح النووي ومكافحة الإرهاب، ويجري توظيفها الآن ضد الصين في سياق الحرب الاقتصادية والتجارية، رغم تناقضها المنطقي والجوهري مع الحرب الروسية – الأوكرانية، والتي تدور بين بلدين يتشاركان الهوية التاريخية، والعقيدة الدينية، بل المذهب الأرثوذكسي نفسه، ولا يمكن تفسيرها إلا بالعامل القومي المتطرف لدى البلدين، وبغواية الغرب لأوكرانيا، ورغبة الولايات المتحدة تحديدًا في استنزاف روسيا، وتحويل أوكرانيا لأفغانستان جديدة، وهو ما تكاد تنجح فيه مغتنمة الجهل السياسي لدى الرئيس الأوكراني، الذي لا يعي هوية بلده، ولا جغرافيتها السياسية، ولا المحددات الإستراتيجية المحيطة بها.
والافتراض الثاني: هو أن الرأسمالية تعمل في دائرة مفتوحة بين الإنسان والطبيعة، ومن ثم استمرت الدول الرأسمالية المتقدمة تستمد الموارد ومصادر الطاقة من الدول الفقيرة وتستثمرها لرفع مستوى معيشتها وحدها، ورغم أن سكانها لا يزيدون عن 20 % من البشرية فإنهم يستهلكون 80% من المصادر الطبيعية، والنسبة نفسها أو أكثر قليلًا من الثروة العالمية، فإذا ما تمكن بقية البشر من أن يتقدموا، فسوف يصلون إلى المعدلات الاستهلاكية نفسها، ومن ثم يتم استهلاك المصادر الطبيعية في مدى زمني محدود، وتصبح البشرية على حافة الإفلاس أو الصراعات العنيفة على الموارد الطبيعية. أما قضية التلوث الناجم عن النفايات الصناعية، وضمنها النفايات النووية فأكثر إثارة وتعقيدًا، حيث أن الدول التي تستهلكها تعود وتصدرها إلى صحاري الدول الفقيرة، أحيانًا عبر التدليس وأحيانًا أخرى مقابل المال أو في سياق تحالفات سياسية تتسم بالتبعية، وقد أثبتت دراسات متعددة أن تلوث الطبيعة قد زاد عن المعدل المحتمل بعد الطفرة الإنتاجية التي صاحبت نمو المجتمعات الصناعية والسوق الرأسمالية، فما كان يتورط فيه إنسان الماضي من سلوكيات خاطئة كان يتم داخل الدورة الطبيعية دون أن يتحدى قوانينها، ولذا كان ممكنًا علاج تلك السلوكيات عبر سنين معدودة. أما التلوث الرأسمالي فممتد ومتسارع على نحو يتجاوز قدرة الطبيعة على إصلاح نفسها، فالتلوث الإشعاعي الناجم عن السلاح النووي، مثلًا، يحتاج إلى 250 ألف سنة للخلاص من تأثيراته كما يقول بعض الخبراء.
أما تجارب الهندسة الوراثية فقد تأتي بمخلوقات خطيرة كالحشرات والفيروسات، ربما كان الكوفيد واحدًا منها، ورغم أن خطابًا فكريًّا جرى إطلاقه حول البيئة في سياق العولمة، إلا أنه ظل خطابًا خفيض الصوت، ربما تمكن من إلهام جماعات الخضر، وتبنته بعض الأحزاب، لكنه لم يستقطب جهدًا دوليًّا صادقًا وفعالًا، ولم تقف وراءه دولة كبرى كالولايات المتحدة مثلما وقفت خلف نظرية صدام الحضارات، بل إنها انسحبت من معظم الاتفاقيات متعددة الأطراف أو جمدت مشاركتها فيها وسحبت تمويلها منها في ظل حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، وعلى رأسها اتفاقية باريس للمناخ، والمفارقة المخزية إنها هددت بتجميد تمويلها لمنظمة الصحة العالمية في قلب محنة كورونا.
مطلع العقد الثالث من القرن الأول للألفية الثالثة باتت المفارقة واضحة بين الخطاب الانتصاري الزاعق حول العولمة الرأسمالية والسوق الكوكبي المفتوح، وبين الخطاب الإنساني التنويري الواهن حول القرية العالمية والمجتمع الكوكبي.
فالخطاب الأول: يحتل موقع السلطة الحاكمة بالفعل، لا يزال يواصل الحديث عن ثقته المطلقة في قوى السوق والتكنولوجيا، استنادًا إلى عقل نفعي أحالها من مجرد أدوات وقنوات صنعها البشر أنفسهم، والمفترض أن يديروها حسب مصالحهم إلى غايات نهائية مطلوبة لذاتها، ما يعني التغاضي عن أخطائها والعجز عن تصحيح مساراتها وهو الخطأ الذي وقعت فيه النيوليبرالية خصوصًا في ظل اقتصاد المعرفة المتحيز لأرباب التقدم التكنولوجي على حساب ملاك الموارد الطبيعية حتى بات بعض الأفراد من رجال الأعمال ورواد التكنولوجيا في الدول الغنية أكثر ثراء من دول فقيرة كاملة، وقد أسهمت حالة الانكشاف الإعلامي في مجتمع الاتصال الرقمي المعولم في تعميق الشعور بحدة هذا الاستقطاب، حيث وجد العالم نفسه ضمن مشهد إنساني واحد مفعم بالتناقضات بين أقصى درجات الجمال والقبح، الثراء والفقر، ومن ثم شديد التوتر، وقد تبدَّى ذلك جليًّا في مواجهة الوباء الكوني؛ حيث صارت الكرة الأرضية ساحة واحدة ينتشر فيها المرض، تدور عليها الشائعات وتنتشر الاتهامات وتجري المناورات، ولكنها ليست أرضًا للتضامن بين المجتمعات والتنسيق بين الحكومات كما يفترض من مجتمع دولي يمتلك منظمة جامعة للصحة العالمية.
أما الخطاب الثاني: فيحتل موقع المعارضة الهامشية، لا يزال يواصل تحذيره من ذلك الاستقطاب العالمي، مؤكدًا على أن ثمة حدًّا يجب على الفجوة بين الشمال والجنوب أن تتوقف عنده لا تتجاوزه أبدًا وهو ما يعرفه المفكر الأرجنتيني” إنريك داسل” بحد “تدمير البشر” ويعني به الحد الأقصى الذي يمكن احتماله لعمق ومساحة تلك الفجوة، إذ يؤدي تجاوز هذا الحد إلى اختلال بنية النظام العالمي بفعل زيادة عدد المحتجين ضده والمتمردين عليه، ومن ثم يطالب هذا الخطاب بصياغة عقل أخلاقي/ نقدي ينهض على قاعدة افتراضين مضادين للعقل النفعي:
فضد الدور السلبي الذي يلعبه العقل النفعي في دفع العالم نحو “صدام حضارات” يؤكد العقل الأخلاقي علي أهمية الإدراك السوسيولوجي للثقافة، الذي يرى في تعدد الحضارات وسيلة لإثراء المشترك الإنساني وليس لتدمير البشرية، ومن ثم يطمح إلى ترسيخ مفهوم “القرية العالمية” بالمعنى الجوهري، فلا يبقى مجرد مرادف للقدرات الاتصالية والتبادلات الشبكية التي تدمج البشرية في مشهد واحد شديد التناقض، وتضع جميع الدول على مسرح سياسي واحد شديد التوتر، بل يصبح مرادفًا للمثاليات المرتبطة بمفهوم القرية في السوسيولوجيا الثقافية كـ(التكافل، والحميمية، والتراحم)، والتي يمكن ترجمتها إلى قيم العدالة والتجانس والنمو العالمي المتوازن. يتطلب بناء المجتمع العالمي توزيعًا شبه متكافئ للاستثمارات وشروط عادلة للتجارة الدولية، والأهم من ذلك السماح بانتقال التكنولوجيا وتوطينها مع رأس المال لدى الدول الأقل تقدمًا وهو ما لم يسمح به المشروع الحضاري الغربي إلا في حدود ضيقة رافقت خطاب العولمة الرأسمالية- سرعان ما عاد وندم عليها- تحت ضغط التيار النفعي الأناني في التنوير.
أما المطلوب اليوم وبوضوحٍ شديد، فلا يقل عن انصياع المشروع الغربي لتيار التنوير الإنساني، والقبول الطوعي “الأخلاقي” بتقديم تنازلات لا تقلل فقط من درجة تركز الثروة في جانب والفقر في جانب آخر، بل تلهم التاريخ البشري مفردات مباراة حضارية غير صفرية، يمكن للجميع أن يربحوا فيها ولو بدرجات مختلفة، تجعلهم أكثر سيطرة على مصيرهم الجمعي.
وضد افتراض العمل في دائرة مفتوحة: يعترف العقل الأخلاقي بأن العمل بات يدور داخل حلقة كثيفة الأزمات، أحكمت الحداثة الأوربية والثورات الصناعية غلقها، الأمر الذي يفرض تكامل الجهود البشرية للحفاظ عليها في مرحلة ما بعد الحداثة، ومن ثم يؤكد على أن المستوى الأدنى من الاهتمام الذي تحظى به البيئة لدى العقل النفعي قد ينجح في تجنب الكوارث أحيانًا وفي المدى القصير، ولكنه لا يضمن تجنبها دومًا ولا في المدى البعيد حينما تتراكم المشكلات وتتحول إلى معضلات، ناهيك عن وجود تأثيرات ضارة قد تستمر طويلًا ولو عند مستويات أدنى من مفهوم الكارثة. وهنا يجادل العقل الأخلاقي بأن كل منظومة رشيدة يبتغي لها النجاح لا يمكن أن تقوم على عقل نفعي أو منهج انتقائي يعمل حسب الملابسات الطارئة والدوافع الأنانية؛ لأن هكذا منهج لا يمكن أن يقر نظامًا، ولا أن يحدث تراكمًا، ولذا فإنه لا يصلح مع قضية تمس المشترك الإنساني كالبيئة وما تتطلبه من هندسة معتبرة للسلوك الإنساني وإدارة رشيدة للموارد الطبيعية في أربعة أنحاء للكوكب.
نحتاج إذن إلى ثورة كوكبية يفترض أن تخوضها الأسرة البشرية معًا بكل ما تملكه من معرفة وإرادة وأمل، فهي ليست ثورة جماعة على أخرى أو أيديولوجية ضد نقيضها أو دولة على عدوها، تنتصر لطرف على حساب الآخر، بل هي ثورة إنسانية وحضارية ليس فقط ضد الفقر والجهل والخرافة والأوبئة والكوارث بل ضد الثراء الفاحش والتخمة والغرور والغطرسة والعنصرية، تنشد مجتمعًا عالميًّا حقيقيًّا وتتطلع إلى التقدم جوهريًّا. يقينًا ستنجح الإنسانية في النهاية على منوال نجاحاتها السابقة، التي لولاها ما بلغت هذه الدرجة من التمدن، وربما استمرت على أعتاب العصر الجليدي، ورغم أن الانتصار شبه مضمون فإن ثمة تكاليف لابد وأن تتحملها مجتمعاتنا بدرجة أو بأخرى، والمؤكد أنها ستزداد كلما تأخر اصطفافنا وتنافرت قراراتنا على النحو الذي كشف عنه وباء كورونا اللعين، طائر الموت المحلق.