لا يتعرف الإنسان على الله حقًا إلا عندما يكون حرًا، فيؤمن به أو يشرك، يطيعه أو يعصيه، ولن يكون مؤمنًا حقًا إلا إذا كان حرًا تمامًا، فالإيمان اختيار ضمير لا دخل فيه للغير، وهذا سر حلاوته ومصدر روعته، أما الخروج على الضمير خضوعًا لأي سلطة فليس إلا استعادة لمحاكم التفتيش التي أهدرت مئات آلاف الأرواح في أتعس تجربة عرفها التاريخ الإنساني، حيث أن قمع الضمير لا يبني إنسانًا فاضلًا، ولا مجتمعًا حرًا، بل يؤدي لتدمير الحرية، من دون الحفاظ على الإيمان. ولعل كل متأمل في الصيرورة التاريخية يدرك كيف سارت الحرية في قلب الزمان عبر جهاد طويل وكفاح دامٍ شَهَد تراجعات مؤقتة مع تقدم مطرد صارت معه الحرية ضمير البشرية، وإذا كان الضمير يحتل موضع القلب من نظام الإيمان، الذي يتهدم بنيانه بحضور الكهانة الدينية، فإن الحرية هي قلب نظام الحكم الذي تنتفي ديمقراطيته بحضور الكهانة السياسية، وإذا ما تأملنا كيف رفع جُلَّ المستبدين يافطة الدين، وكيف توارى جُل الكهنة خلف حكام قمعيين، أدركنا كم أن الحرية جوهر الدين الصحيح، بقدر ما هي جوهر الحكم المستنير، فالحرية ضمير الحكم مثلما أن الضمير هو دين الأحرار، ولا تناقض بين الضمير والحرية، بل هما معًا نقيضان للكهانة والاستبداد.
وعلى هذا، ارتبطت مسيرة النهضة البشرية إما بلحظات الوحي، عندما ينبثق دين وليد، أو الثورة، عندما ينبثق وعيٌ جديد، فلا يمكن لعالم أفضل أن يُولد على جثة السائد والمألوف إلا بواسطة شخصية استثنائية سواء من متلقِّي الوحي، المبشرين بما فوق عالمنا (الرسل، والأنبياء)، أو من حاملي الأفكار المبشرين بمستقبل أيامنا (الفلاسفة، والأبطال)، حيث الإيمان والثورة قادرين، وحدهما، على توليد تلك النشوة الوجدانية، التي تنير باطن الإنسان لتشرق روحه إما بالحضور القدسي لقوة علوية متسامية على الوجود (الله)، وإما بالحضور الملهم لفكرة محفزة للوجود (الحرية)، وعندها تتحقق الفعالية القصوى للشخصية الإنسانية، فتخرج من دائرة الخبرة (العادية) بحيزها المحدود، وفعاليتها الجزئية إلى خبرة جديدة (استثنائية) تبلغ معها الرؤية ذروة صفائها، والإرادة منتهى كمالها، والتضحية أقصى حدودها ليصير (الكل في واحد) عن وعي وتبصُّر لا عن قسرٍ أو إرغام. يفترض هنا أن تكون الحرية مسؤولة، وهي لن تكون كذلك إلا إذا التزمت بالمُثُل العليا كـ(العدالة، والمساواة، والإخاء)، تلك التي يُفضِّل الإنسان الحر أن يموت لأجلها على أن يحيا بدونها، كما يموت المؤمن دفاعًا عن دينه؛ لأن الموت مع الإيمان خلود للإنسان، والحياة من دونه فناء في الزمان.
أما التدهور البشري فغالبًا ما يرتبط بفساد التدين، أو بجمود السياسة، تتجمد السياسة بفعل التسلط الذي يُفضي إلى ركود المجتمعات، حينما يحتكر شخص أو جماعة المجال العام، فتُحرم طوائف المجتمع المختلفة من طرح مطالبها، والعقول الكبيرة من عرض تصوراتها، وتتوارى حكمة الأمة التي لا تجتمع على باطل خلف رؤية فرد يملك أوهامًا عن حكمة مطلقة، يسعى إلى فرضها بقوة أكثر المؤسسات صلابة كـ(الجيش، والأمن)، ومن ثم يتحرك رجال السياسة إلى موضع البطاركة في الدين؛ حفاظًا على موقعهم المتميز في سلم القهر، متنكرين لكل إيمان خلاق، وكل فكر فعال يتفجر أملًا لا يرومونه، ويتدفق عدلًا لا يطيقونه. كما يفسد الدين بالخروج من فلك الأرواح والخضوع لمؤسسات (بطريركية) تسعى إلى فرض الوصاية أو الوقوع في أسر جماعات حركية تعمل على سلب الوعي وتبرير الظلم، على النحو الذي جسّده بروعة فائقة الفنان الراحل حسن البارودي في أحد أبرز أفلامنا السينمائية وهو يطلب من الفنان الراحل شكري سرحان أن يطلق امرأته الفنانة الراحلة سعاد حسني لتتزوج من عمدة القرية، رمز الاستبداد والقهر مردِّدًا الذكر الحكيم: “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”؛ فهنا يقترب الدين من الشكل الذي رسمه له النقد الماركسي باعتباره أفيون الشعوب، ويصير هدفًا لحركات التغيير الكبرى من قبيل الثورات الفكرية والحركات الإصلاحية، مثلما جرى الأمر في السياق الغربي المسيحي منذ القرن السابع عشر، أو لا يزال يجري في العالم العربي الإسلامي منذ القرن التاسع عشر.
الحركة البروتسانتية وعصر الإصلاح الأوروبي:
لم يكن “مارتن لوثر” زعيم حركة الإصلاح الديني في التاريخ الأوروبي، مارقًا على الإيمان المسيحي، ولم يكن رسولًا للعقلانية، ولا حتى داعية للدولة القومية أو للعلمانية السياسية، لكن المفارقة الكبرى أن حركته قد أفضت إلى توسيع وتعميق الطريق الذي أفضى إلى تلك المسارات جميعِها، ولعل هذا هو دهاء التاريخ، الذي يسير إلى مقصده الأسمى عبر كوات صغيرة ونوافذ ضيقة يتم فتحها في لحظة مناسبة فإذا بضوء نافذ فريد يعم الأركان ليبدد ظلام الكهوف، حيث أفضت جهود (لوثر، وكالفن، وزونجلي)، رواد حركة الإصلاح الكبار، إلى تفكيك السلطة البابوية وتأسيس الدولة القومية مثلما تم التأسيس للحرية الإنسانية، وهو ما تحقق عبر طريقين أساسيين:
الطريق الأول: هو مفهوم التسامح الديني، بفعل انقسام البروتستانتية ذاتها إلى طوائف كبرى وفروع صغرى، على نحو مهد السبيل لنزعة الشك الدينية؛ ذلك أن العقل النازع بطبيعته إلى الشك، أو الملتزم بالتفكير المنطقي، حين يرى مشهدًا يضم كمًّا هائلًا من المعتقدات المتناقضة، كل منها يزعم احتكار الحقيقة، لابد أن يتخذ من هذا المشهد ذاته بينة على أنه لا وجود هناك لحقيقة واحدة مطلقة حتى يحتكرها هؤلاء. والبادي أن ظهور الطباعة الحديثة منتصف القرن السادس عشر في هولندا، أحد بؤر الحركة البروتستانتية، ومن ثم طباعة الإنجيل وتداوله على نطاق واسع، قد دفعت في هذا الاتجاه، حيث أفضت إلى علمنة علاقة القارئ بالحقيقة التي كان يحاول الوصول إليها واكتسابها. في الماضي، كانت الكنيسة –بدرجة ما– قد استطاعت الإشراف على تدفق المعلومات والأفكار، لكن تكاثر الكتب والكتيبات بغزارة بعد منتصف القرن السادس عشر جعل هذه الرقابة أكثر صعوبة بكثير، وفيما بدأ الكتاب المطبوع يحل محل نهج التواصل الشفاهي، أصبحت المعلومات المستقاة من الكتب غير مشخصنة. وهكذا كانت الحركة البروتستانتية عاملًا مذيبًا لسلطة العصور الوسطى الجمعية، حيث أفضت إلى بذر حبوب النزعة الفردية، وفتح الطريق أمام التسامح الديني، إنه الطريق الذي سار عليه جون لوك في رسالته عن التسامح، متجاوزًا المفهوم المسيحي للخلاص قائلًا: “إن الطريق الضيق الذي لا طريق سواه، والذي يؤدي إلى السماء، لا يعرفه القاضي بأفضل مما يعرفه كل إنسان لنفسه؛ لذلك لا أستطيع أن أتخذ من هذا القاضي هاديًا يهديني لأنه قد يكون على جهل بالطريق مثل جهلي، والمؤكد أنه أقل اهتمامًا بنجاتي مني بنجاة نفسي، لهذا كان روح الفرد من شأن صاحبه وحده دون سواه، ولابد أن يُترك وشأنه فيه”. وعلى هذا الأساس يتساءل لوك: كيف يجوز للسلطان المدني أن يتدخل في عقيدة أي فرد من الأفراد مع أن لهذا الفرد عنصرًا عقليًّا خاصًا به لا يشاركه فيه إنسان آخر؟
إنه الفهم الذي وصل إليه الفيلسوف كانط في الوقت نفسه تقريبًا باسم فلسفة التنوير، عندما دعى إلى تخليص الإنسان (المسيحي) من كل أشكال الوصاية والتسلط سواء على العقل أو على الإرادة؛ كي يتمكن من فحص الإيمان السائد والتصرف تجاهه قبولًا أو رفضًا، مؤكدًا: “أن مملكة الله ليست مملكة من القساوسة تفقهوا في قراءة الكتاب المقدس، فخيل إلى الناس أنهم بذلك قد تفردوا من دون الخلق بالاتصال بالله، بل أنه عالم مفتوح لجميع من صفت قلوبهم”. وهكذا أصدر كانط إعلان استقلال يطالب الناس بأن يتسلحوا بالشجاعة الكافية للتخلص من اعتمادهم على المعلمين والكنائس والسلطات، وأن ينشدوا الحقيقة بأنفسهم، حيث التنوير لديه هو خروج الإنسان من الوصاية التي جلبها لنفسه، والوصاية معناها عجز الإنسان عن الانتفاع بقدرته على الفهم دون توجيه من شخص آخر.
وأما الطريق الثاني: فهو تمزيق الوحدة الشكلية التي أبقت عليها الكاثوليكية لنحو ألف عام، تمتد بين القرنين الخامس والخامس عشر الميلاديين، عاشت خلاله أوروبا فيما أُسمِىَ اصطلاحًا بـ(العصور الوسطى)، في حالة من التجانس الثقافي العام كحضارة مسيحية تحت إمرة الإمبراطورية الرومانية. نعم استمر الله رب الأوروبيين أجمعين، بعد حركة الإصلاح كما كان قبلها، ولكن من خلال الممارسة العملية ومباشرة الشؤون الدينية في الحياة اليومية كفت الكنائس القومية الجديدة- التي تخضع لسلطان الحاكم الإقليمي أو الوطني- عن الإسهام في الحياة الدينية العالمية التي كانت الكنيسة الكاثوليكية قد رسختها، حيث عملت البروتستانتية- خصوصًا في صورتها اللوثرية- كدعامة لتعزيز المشاعر الوطنية لأبناء الدول الإقليمية الجديدة. ففي تلك المناطق التي انتصر فيها الإصلاح الديني، اعتبر الأمير الذي أصبح رئيسًا للكنيسة، رجال الدين مجرد مساعدين له؛ وتحولت الممتلكات الكنسية جزئيًّا إلى ملكية الدولة، ولم تعد تنهض بمهمة جمع الضرائب لصالح البابوية في روما. وقد أفضى غياب الرئاسة العالمية/ البابوية إلى المذهب البروتستانتي، إلى التفاف المؤمنين به في كل إقليم حول حاكمهم، ومن ثم تطابق المذهب مع الشعور القومي الوليد آنذاك؛ ففي بريطانيا- على سبيل المثال- كان الملك هو رأس الكنيسة الأنجليكانية (كنيسة نشأت في أعقاب مجمع لا ترانت، على سبيل التوفيق بين العقائد الكاثوليكية الأساسية وبين جوهر الحركة البروتستانتية، خصوصًا مفهوم الكنيسة القومية). كما كان المذهب البروتستانتي أكثر تواؤمًا مع حركة الفكر العقلاني، حيث كان رجال الدين البروتستانتي يتعلمون في الجامعات المدنية ومن ثم كانوا أكثر تأثرًا بالتفكير العقلي من أسلافهم الكاثوليك، وإن كان بعض المتدينين من بينهم عارضوا هذا التطور. وقد زاد الفكر الحر من تعدد الطوائف التي وافقوا على وجودها، وإن لم يصل الحال إلى الحرية التامة للعقيدة، واستمر الكاثوليك يعانون من الاضطهاد بعض الشيء، ولم تكن الروابط الاجتماعية تتم بسلاسة ملحوظة إلا فيما بين المسيحيين، أما اليهود فكانوا على جانب، بينما كان الملحدون مبعدين بشكلٍ شبه تام.
ورغم أن الحروب الدينية التي اختتمت بحرب الثلاثين عامًا (1618 – 1648)، قد مثلت نتيجة سلبية لحركة الإصلاح البروتستانتي أُريق في سياقها كثير من الدماء خصوصًا لطوائف مثل: الأناباتيست، والهوجونت، والجزويت،… وغيرهم، إلا أن انتهاءها بعقد معاهدة “وستفاليا” قد رتب نتائج بالغة الإيجابية؛ حيث فتح الطريق إلى بناء الدولة القومية على قاعدة التسامح الديني، بعد أن باتت فكرة الوحدة السياسية والفكرية للعالم المسيحي الكاثوليكي من الماضي البعيد الذي صار يطلق عليه منذئذ لقب “العصور المظلمة”. نعم لم تكن هذه الحروب ترمي في البداية إلي إقرار الحرية، بل كانت نزاعًا بين معتقدات دينية استغرق أكثر من قرن، وولد العديد من المآسي التي أصابت الناس بالشك في جدوى إيمانهم، ولكن المعاهدة التي نتجت عنها هي التي وضعت الأساس للدولة القومية عندما اعترفت بأن كل دولة “صاحبة سيادة” على أراضيها بحيث يصبح أي تدخل في شؤونها الداخلية خرقًا للقانون الدولي، ومن ثم حدثت النقلة الكبيرة في أوروبا على صعيد علاقة الإنسان بالأرض، والأرض بالسلطة والسلطة بالدولة، والتي أفضت تاليًا إلى نظريات العقد الاجتماعي التي سعت جميعها إلى إعادة تأسيس الشرعية السياسية، باعتبارها قضية دنيوية تنبت من أرض المصلحة البشرية، ولا تنزل من السماء باسم حق إلهي مقدس.
فكر نهضوي بلا عصر نهضة عربي:
بدأ نضال مفكري النهضة العربية مطلع القرن التاسع عشر، واستمر إلى القرن العشرين دون أن ينجز نهوضًا حقيقيًّا، فاستمرت النهضة لدينا مجرد أفكار تمت بصلة إلى مفكرين توزعوا على تيارات مختلفة، لكنها لم تصبح بناء راسخًا في واقعنا أو عصر ممتدًا في تاريخنا له بدايات ونهايات، نعم امتلكنا خطابًا نهضويًّا لكننا لم نمتلك عصر نهضة حقيقيًّا نشير إليه. يفسر لنا ذلك حقيقة أننا لم نتجاوز حتى اليوم القضايا الفكرية التي أثارها هؤلاء الرواد، فالعقلانية التي شغلتهم لا تزال همنا، والعلمانية التي أرهقتهم لا نزال نخشى منها، والوحدة القومية التي راودتهم يومًا صارت محض أوهامنا، أما الديمقراطية التي مارسوها زمنًا ولو قصير فباتت فريضتنا الغائبة، بل إن مواقفنا اليوم إزاء كثير من القضايا العملية تبدو أكثر رجعية عما كانت قبل قرن كامل، حتى إن القضايا التي بدت محسومة آنذاك لم تعد كذلك، فمن كان يتصور حينما بُنيت مدرسة الفنون الجميلة أوائل القرن العشرين أن يأتي من يحرم الرسم والنحت في مطلع الحادي والعشرين، ومن كان يتخيل في ستينيات القرن الماضي أن لباس المرأة سيعود هاجسًا بعد أكثر من نصف قرن، وبعد أن كانت بعض زوجات شيوخ الأزهر يرتدين الزي المحتشم دون غطاء رأس كعموم المصريات، أصبح غطاء الوجه نفسه (النقاب) يجد أنصارًا يدافعون عنه، ناهيك عن فوائد البنوك التي لا يزال البعض يصمها بالربا ويدعو إلى أنظمة ادخار بديلة لا تتمايز عنها سوى في مسمياتها، وفي المقابل تفضي إلى كوارث من قبيل شركات توظيف الأموال، وعلى منوالها تذوق الفنون السمعية والبصرية كالأغاني والموسيقى الذي بات البعض يراه رجسًا من عمل الشيطان، وغير ذلك كثير من قضايا فكرية وعملية بدت محسومة لكنها عادت مجددًا لتكشف عن ترددنا وتراجعنا.
حدث ذلك لأننا عجزنا عن إنجاز النهضة واكتفينا بتداول فكرها، ولأن التاريخ الإنساني بطبيعته جدلي والموقف الإنساني فيه ديناميكي، فإن من لا يتقدم محكوم عليه بالتخلف، وهو حكم يطال الفكر الذي يتعاطاه. أما عجزنا عن إنجاز النهضة فيرجع بدوره إلى تبعية الفكر العربي لنظيره الأوروبي، حيث سار خلفه يحاكيه ويتمثله حتى وقع في إشكالاته من دون أن يمتلك نفس قدرته على الحسم، فالحسم سمة للفكر الرائد والتردد قدر الفكر التابع. يعكس الفكر الرائد هوية إيجابية منفتحة على التاريخ، كان لديها من الوقت والفرص ما سمح لها بالتطور عبر التجربة والخطأ، أما الفكر التابع فيعكس هوية سلبية، لا ترى نفسها إلا في عيون الآخر، ما يضع على أهلها عبئًا نفسيًّا يكاد يمزقهم؛ لأنهم إذا وافقوا الآخر ذابوا فيه، وإن رفضوه تحولوا إلى ضده، معكوس لصورته في المرآة، مجرد ظل هلامي لا يمكن تحديده إلا بالجسد الأصلي.
كانت النهضة الأوروبية بمثابة ظاهرة تلقائية في التاريخ، حركة مستقلة في أفق مفتوح يمتد بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، تلا العصر المدرسي خروجًا من أفق العصور الوسطى، حيث تعانق لاهوت توما الأكويني مع منطق أرسطو ليصبغا معًا فلسفة هذا العصر بالروح المدرسية المعروفة. وقد ترافقت مع حركة الكشوف الجغرافية التي مثلت قطيعة مع صورة الغرب الذهنية عن العالم القديم بحدوده المألوفة، وساهمت مساهمة فائقة في انطلاق الغرب نحو العصر الحديث لسبب مباشر هو أن العصر الحديث قد ارتبط (اسميًّا) بالعالم الجديد في الأمريكتين خصوصًا بـ “الولايات المتحدة الأمريكية”، ولسبب آخر أعمق، وهو أن العقل الغربي إذ شهد تحطم الجغرافيا العالمية أمامه وبإيقاع خطواته هو نفسه قد شعر بقدرته على تحطيم أو تكسير التاريخ؛ أي أبنيته وتقاليده، ورموزه، وإلهاماته الموروثة، وإعادة بنائه بشكل مغاير، وبخاصة تاريخه الوسيط الذي ارتبط بتركيبة اجتماعية وسياسية واقتصادية تقوم على نوع من الإقطاع شاركت فيه السلطة السياسية المستبدة والكنيسة الكاثوليكية بادعاء الحق الإلهي المقدس في حكم الشعوب. هكذا ولد الاندفاع الغربي المقتحم للعالم الجديد في العقل الغربي، درجة أعمق من الثقة والجرأة وروح الاكتشاف والمبادرة لدرجة المغامرة: اكتشاف الأفكار، والمعارف والتجارب المنثورة في ثنايا التاريخ الذي تم تحطيم صورته الميتافيزيقية المتعالية الغامضة مع تحطيم أستار الجغرافيا التي شهدت قصصه وأساطيره ورواياته وسردياته الكبرى والصغرى، وهو الأمر الذي نقل الوعي الغربي إلى فضاء حديث مكَّنه من طرح أسئلة جديدة تمامًا على تاريخه، وأنماط تنظيمه الاجتماعي، غذَّت قدرته على تفكيك بنيته الإقطاعية، وكسر سياجه الكنسي بإطلاق حركة الإصلاح الديني التي أفضت في النهاية إلى قصر الدين على المجال الروحي، وانبلاج الدولة القومية والعلمانية السياسية.
وفي المقابل، لا يمكن لأحد أن يدعي بمثل تلك الاستقلالية لحركة النهضة العربية، فقد توارت تقريبًا الدوافع الداخلية للتغيير في ظل الحكم العثماني البليد، ولم تصدر محاولات نهوضنا الحديث عن حركة ذاتية لتجربة تاريخية تتطور بثقة واستقلال بل في سياق دفاعي حكمته الدهشة والخوف والرغبة العارمة في اللحاق بالغرب، فلم يحدث أن شارك العرب في الكشوف الجغرافية من حولهم إلا بقدر المشاهدة عن بعد وربما دون اهتمام، ولذلك لم يشعروا تقريبًا بأهمية التغير الحادث لصورة العالم من حولهم، على نحو أبقاهم داخل إطار الصورة الذهنية للعالم القديم، بكل كمونها وسكونيتها ومحدوديتها وغموضها الميتافيزيقي. كما أنهم ظلوا بعيدين- ربما حتى الآن- عن تملك ناصية العلوم الطبيعية وبالذات منهاجها التجريبي، الذي ينظم ويصوغ طرائق التفكير في ظواهر الطبيعة والعالم داخل كل ثقافة إنسانية ويحدد: هل تسيطر عليها النظرة العلمية في رؤية الطبيعة والإنسان أم تغيب عنها لصالح نقيضتها الميتافيزيقية، أو السحرية / الأسطورية؟ الأمر الذي أعجزهم عن تحقيق قطيعة مع النموذج التقليدي / الصوري للمعرفة. ومن جماع العجز عن تحقيق القطيعة الجغرافية، ونظيرتها المعرفية، بقى الوعي العربي عاجزًا عن إنجاز قطيعة تاريخية مع كتلة العصر الوسيط وراسفا، من ثم، في إطار رؤية تقليدية للوجود ليبقى نمط إدراكه للعالم كما هو موروث تقريبًا من القرون الوسطى مهيمنًا حتى القرن التاسع عشر، سواء فيما يتعلق بموقع الدين في النشاط الفكري أو ما يتعلق بأشكال تنظيم المجتمع، وإدارة المجال العام.
في هذا السياق تمكن الفكر الأوروبي من فرض بعض تحيزاته على الفكر العربي، وبالذات على صعيدين أساسيين: أولهما يتعلق بتحقيب التاريخ الثقافي، حيث قام الفكر الأوروبي بتقسيم التاريخ إلي ثلاث حقب رئيسة انطلاقًا من رؤيته لمسار تطوره الذاتي: القديمة أو الكلاسيكية المتمثلة في العهدين (اليوناني، والروماني)، وقد اعتبرت بمثابة عصر تأسيس الفكر الغربي. والوسيطة التي سادتها المسيحية، وقد اعتبرت عصر ركود وجمود. ثم الحقبة الحديثة التي افتُتحت بعصر النهضة. ما يعني أن العصور الوسطى (المسيحية) لم تكن سوى مرحلة انتقالية طارئة بين عصر التأسيس الكلاسيكي وعصر الحداثة المتوهج، وهو تحقيب موضوعي في سياقه الخاص، ولكنه يصبح زائفًا تمامًا في سياق الفكر العربي، الذي فقد تاريخيته عندما أذعن لهذا التحقيب المتعسف، فعصر النهضة العربي جوهريًّا، وهو عهد انبثاق الإسلام وتوسع دولته وازدهار حضارته يمتد في القرون الأربع الأولى هجريًّا، بين السابع والحادي عشر ميلاديًّا، بات يذكر باعتباره العصر الوسيط، وعندما يذكر مصطلح الوسيط من دون تفصيل، فإنه يقود الذهن إلى زمن الجمود الأوروبي، وليس إلى زمن النهضة العربية. أما الثاني، فيتعلق بالتفسير الديني للتخلف العربي الإسلامي، والذي ركز عليه تيار المركزية الأوروبية وعلى رأسه مفكرون من طراز “أرنست رينان” منظِّر العرقية الدينية واللغوية، ووزير الخارجية الفرنسي “هانوتو” الذي ساجله الإمام محمد عبده، نافيًا ما ادعاه الرجل من وجود علاقة شرطية بين الإسلام والتخلف. اعترف الإمام بتخلف المسلمين، ولكنه سعى إلى تفسير ذلك بسوء فهم الإسلام وليس بالاعتقاد الإسلامي نفسه. وفي السياق ذاته ميز النهضوي الجزائري “عبد الحميد بن باديس” بين (الإسلام الذاتي، والإسلام الوراثي): الأول هو الأصل الجوهري، الذي تبنى مفاهيم كلية غيرت وعي العرب ومنحتهم العافية الروحية والإيجابية التاريخية. والثاني هو التقليد الوراثي الذي مورس بقانون القصور الذاتي، وتلقاه اللاحقون دون نظر بل بحكم الانتماء العاطفي للآباء والأجداد، فجاء مشوبًا بالبدع الاعتقادية والعملية. ورغم أنه منح المتمسكين به القدرة على الصمود في وجه تحولات الزمن وحفظ على الأمة شخصيتها ولغتها وشيئًا كثيرًا من أخلاقها، فإنه بطبيعة الأشياء لا يصلح لبناء مشروع للنهوض. وهكذا يتبدى كيف أن وعي الإمام عبده، والشيخ بن باديس كان محكومًا بالإشكالية التي فرضها الخطاب الأوروبي، هادفًا إلى مجرد نفي علاقة الارتباط الشرطي بين الإسلام والتخلف، دون محاولة التنظير للواقع العربي مباشرة، أو طرح إشكالاته الفكرية والاجتماعية كبرنامج على أجندة السلطات الحاكمة.
كان تردد الفكر العربي واضحًا حتى لدى رموزه الساطعة، فرائد هذا الفكر في مصر “رفاعة الطهطاوي” قرظ كثيرًا مشروع محمد على باشا للتحديث السلطوي المنفتح على الحضارة الأوروبية، والذي لم يكن يخشى سيطرة الغرب قدر انشغاله باللحاق به. وفي رؤية ثاقبة لمعطيات التطور الإنساني، يعلن ثقته في العقل الإنساني وقدرته على التحسين والتقبيح قائلًا، في موقف معتزلي واضح: “إن الله قد أكرم الإنسان وزينه بالعقل الذي يميز بين الحسن والقبيح، والضار والنافع، والخطأ والصواب، وجعل سبحانه وتعالى الإنسان المتصف بالقريحة الذكية والملكة القوية، موفقًا لتحصيل العلم واستفادته واستنباطه” (رفاعةالطهطاوي،الأعمالالكاملة، الجزءالثاني، ص400). وامتدادًا لهذا الموقف يمنح ثقته، دون تحفظ لـ (الأسباب)، التي توجب عنده وجود (المسببات). وهو يسمي هذه الأسباب: “النواميس الطبيعية التي وجدت قبل الشرائع والأنبياء، وهدت البشرية أزمانًا بواسطة الحكماء، وقامت على أسسها حضارات (قدماء مصر، والعراق، وفارس، واليونان)، ثم جاءت الأنبياء والرسل والشرائع بما لا يخرج عن هذه النواميس الطبيعية” (المرجعنفسه، ص479).
لكن هذا لم يكن إلا جانبًا واحدًا من جانبي الصورة، الآخر منها كان محافظًا ومترددًا تجاه حرية الإرادة الإنسانية، إذ تراجع الطهطاوي إلى موقف أشعري عندما تحدث عن الفعل الصادر من الإنسان، مؤكدًا على أنه ليس فاعلًا له: “إن الفعل لله حقيقة، ولغيره مجازًا”!.. وأن “قسمة الحظوظ قد تمت في سابق الأزل” وأنه “لا تبديل ولا تغيير في ذلك” (المرجعنفسه، الجزءالأول، ص324، 396). وكذلك أبدى تراجعًا عن شعوره بالثقة في العقل الإنساني، إذ يقول: “ليس لنا أن نعتمد على ما يحسنه العقل أو يقبحه إلا إذا ورد الشرع بتحسينه أو تقبيحه!” فالعدل مثلًا، قد حسَّنه الشرع والطبع، وإن كان تحسين النواميس الطبيعية لا يعتد به إلا إذا قرَّره الشرع”. وأنه “لا عبرة بالنفوس القاصرة الذين حكَّموا عقولهم، بما اكتسبوه من الخواطر التي ركنوا إليها، تحسينًا وتقبيحًا” (المرجعنفسه، الجزءالثاني، 477، 387). لا يكشف الطهطاوي هنا عن تناقض بسيط يمكن أن نؤاخذه شخصيًّا عليه، بل عن تناقض عميق يشي بالطابع الأساسي لفكر النهضة العربي كله، الذي سادته نزعة توفيقية غالبًا ما تكون ممكنة نظريًّا، ولكن يصعب ممارستها واقعيًّا.
دعوة للإصلاح الإسلامي دون عصر إصلاح عربي:
بلغ الفكر النهضوي العربي نقطة ذروة لدى الإمام محمد عبده في دعوته، التي قدمها نهاية القرن التاسع عشر، إلى إصلاح التدين الإسلامي بتجديد رسالة التوحيد وبعث المفاهيم الثورية الكامنة في النص القرآني حول (الألوهية، والنبوة، والإنسانية)، تلك التي جرى طمسها تحت ركام الاستبداد والقهر، ويكفي استدعاؤها لتوفير ممكنات أصيلة للحرية الإنسانية تدعم جهود المسلم في مواجهة السياقات المجتمعية والسياسية، التي أمعنت في قهره باسم التقاليد وسلطان التراث. ربما كانت دعوة الإمام إلى الإصلاح في السياق العربي، مطلع القرن العشرين، أكثر عمقًا من دعوة مارتن لوثر إلى الإصلاح الديني في السياق الأوروبي مطلع القرن السادس عشر. ورغم ذلك، أثمرت دعوة لوثر على يد من جاؤوا بعده، فتحولت الدعوة إلى حركة، إلى تجربة تاريخية، فأنتج حلم لوثر البسيط في قهر البابوية دولة قومية متحررة من كل أشكال الكهنوت الديني، تغذت من أفكار فلاسفة العقد الاجتماعي وتبنت علمانية سياسية، تنزع عن السلطة عن قدسية الحق الإلهي، وتؤسس لشرعيتها في مجرد تعاقد دنيوي بين بشر متكافئين، بدافع مصلحي هو الخروج من حالة الطبيعة الهمجية إلى أفق مجتمع متمدين، يلتصق أعضاؤه معًا بصمغ الإرادة الحرة، التي يحرسها القانون العادل بدلًا من صمغ القوة العارية التي يمارسها بشر همجيون. إنه الطريق الذي سار عليه (توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو) مع فارق يذكر في النزعة التحررية لدى كل منهم، حيث ظلت علمانية هوبز متصالحة مع الاستبداد السياسي. فيما كانت علمانية جون لوك أكثر ليبرالية، لعلها مثلت، ولا تزال، الأساس المتين لشتى أشكال النظم الديمقراطية التمثيلية. أما علمانية جان جاك روسو فراوحت بين (الشمولية، والديمقراطية)، بفعل مفهومه المراوغ عن الإرادة العامة وطرائق تجسيدها.
في المقابل، انتكست دعوة الإمام المسلم، بفعل الجمود المهيمن على السياق التاريخي العربي، فما إنْ تبلور الفكر النهضوي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ووصل إلى ذروته المنهجية في مطلع القرن العشرين، حتى قام في مواجهته تيار سلفي يُعلي من قيمة الهُوية، وينزع إلى الانغلاق بزعم الحفاظ على الأصالة، معاندًا تيار التحرر. لقد رحل الإمام مطلع القرن العشرين، وبرحيله انقسم فكره الإصلاحي إلى تيارين رئيسين: الاتجاه الأول: كان بمثابة استمرار طبيعي له، اقترب من مفهوم العلمانية السياسية وإن لم يصرح به لفظًا، عبر نفي مقولات الخلافة الدينية، وهو الطريق الذي ارتاده الشيخ على عبد الرازق في كتابه التأسيسي “الإسلام وأصول الحكم”، الذي دعى فيه إلى تأسيس السلطة على قاعدة الإرادة الاجتماعية، على أن ينزع منها ادعاءات القداسة، حيث وصل بجرأة استدلاله واستعراضه لمراحل صعود الخلافة وتدهورها، إلى تقرير أنها عقد يحصل بالمبايعة من أهل الحل والعقد لمن اختاروه إمامًا للأمة بعد التشاور بينهم، تعبيرًا عن الأمة، وعن مصلحتها، ما يعني أصلها البشري ومرجعيتها الدنيوية. وقد تبعه على الطريق نفسه بصراحة أكبر (أحمد لطفي السيد، وسعد زغلول، والعقاد).
وأما الاتجاه الثاني: فكان بمثابة انقلاب عليه، إذ أساء تأويل فكر الإمام، وأعاد الكرة دفاعًا عن الخلافة الدينية، على نحو أفضى إلى هزيمة مشروعه الإصلاحي، وأفضى إلى الإسلام السياسي ثم الجهادي، وذلك عبر حلقتين متتابعتين: في الأولى أعاد محمد رشيد رضا تأويل الإمام على نحو سلفيٍ قضى على جرعته العقلانية ومبدأه (التنويري) القائل بأولوية العقل على النص، وأمعن في الحديث عن الخلافة الدينية والجامعة الإسلامية. وفي الثانية قام حسن البنا- تلميذ رضا- بتحويل سلفيته العلمية إلى حركية، بإنشاء جماعة دينية تصورها تربوي، أو روَّج لكونها كذلك، وهي إما سياسية منذ المبتدأ أو أنها استحالت كذلك بحسب طبيعة الأشياء، كونها جماعة مغلقة تقوم على تميز نفسها في مواجهة الآخرين، ومن ثم على ثنائية (الذات – العالم)، حيث لا تتبلور هوية الجماعة إلا في مواجهة الآخرين من عموم المصريين/ المسلمين، بحسب المنطق الأرسطي، المحكوم بمبدأ عدم التناقض الذاتي، فما دمت أنا أنا، وما دمت أنت أنت، فلن يكون أنا هو أنت، أو تكون أنت هو أنا، فأنا أنا في مواجهتك، وأنت كذلك في مواجهتي. ومن ثم جرى تدشين حركي لإسلام سياسي (حزبي) يدَّعي مركزية الدولة في الشريعة، والذي سرعان ما بلغ ذروته مع (سيد قطب، وأبي الأعلى المودودي) في دعوتهما إلى “الحاكمية” التي أشعلت لهيب الظاهرة الجهادية المسلحة. ومن ثم أخذت الجغرافيا العربية التي قام بنحتها إسلام حضاري متمدن عبر قرون النهضة الأولى، تواجه موجة رياح عكسية، تهب من قلب إسلام سياسي/ ظلامي يرفض التسامح مع الأديان الأخرى، بل يتقاتل أربابه حول المذهب والطائفة.