ربما لم ينل مشتغل بالتاريخ في العصر الحديث من الشهرة والمكانة العالمية مثلما نال المؤرخ البريطاني” أرنولد توينبي” (1889 م – 1975 م)، وقد أصبح اسم “توينبي” مألوفًا للمثقف المصري والعربي- بوجهٍ خاص-؛ لموقفة المنصف من القضية الفلسطينية ورؤيته للوجود الصهيوني في فلسطين باعتباره اغتصابًا لأراضي الغير، وامتدادًا للإمبريالية والظلم ضد الشرق، غير أنّ الشهرة الدولية العريضة التي اكتسبها “توينبي” قد ارتبطت بعمله الضخم في دارسة التاريخ “Study of History”، والذي كتبه على مدى عشرين عامًا( 1934 م – 1954 م).
ولم تكن المكانة التي اكتسبها “توينبي” بعد إنجازه لهذا العمل نتيجة لمستواه الكمي فحسب، حيث صدر في (اثني عشر ) جزءًا، وإنّما لنطاق الدراسة العريض والمنهج الذي اتبعه مما جعلها أكثر المحاولات طموحًا ، وبشكل لم يجرؤ عليه مؤرخٌ قبله، فعلى عكس غيره من المؤرخين الذين اكتفى- حتى أفضلهم- بإلقاء نظرة جزئية علي التاريخ البشري، وحصروا أنفسهم في فروع تخصصهم. كان “توينبي” هو الذي قدم نظرة رحيبة وبانورامية للتاريخ، ومفهومًا شاملًا يغطي الوجود البشري منذ بداية الحضارات التي سجلها التاريخ، ومثل هذه النظرة الشاملة للتاريخ هي التي جعلته يتحدى تمركز المؤرخين الغربيين حول تراثهم واعتبار أنهم بحضارتهم الغربية يقفون موقفًا متميزًا يحتكرون فيه التاريخ وكأن التاريخ قد توقف تمامًا عند عالمهم الغربي، لذلك اعتبر أن مساهمة “توينبي” الأساسية في تقليد المعرفة هي رؤيته للتاريخ البشري من منظور أوسع، وتذكير أبناء حضارته بالحقيقة البسيطة أنّ (الآسيويين، والإفريقيين) بل وشعوبًا مثل (الهنود الحمر والإسكيمو) لهم تاريخ مستقل عن تاريخ الغرب.
ستركز في هذه الدراسة علي ثلاث قضايا رئيسة في فكر وفلسفة” أرنولد توينبي” حول الحضارات :
- القضية الأولى: هي رؤية “توينبي” الدينية باعتبار أنّه من الصعب فهم نظرية “توينبي” العالمية، بل وفلسفته كلها، دون أن نتعرف على مصدرها الرئيسي وهو الدين.
- القضية الثانية: تتصل بجوهر تأريخ “توينبي” للحضارات ومراحل نموها وتطورها، وانشغاله في هذا بواقع ومصير الحضارة الغربية المعاصرة.
- القضية الثالثة: فهي امتداد لانشغاله بالحضارة الغربية ونفوذها العالمي، وعلاقتها بالحضارات الشرقية، وفي هذا سوف يختار “توينبي” في بحثه بين علاقة الغرب بالعالم كلًا من (روسيا وتركيا)، وتجربة البلدان في التعامل مع النفوذ الغربي وحضارته المسيطرة.
أولًا: رؤية “توينبي” الدينية:
من الصعب فهم نظرة “توينبي” العالمية، وفلسفته كلها دون أن نتعرف علي مصدرها الرئيسي وهو(الدين) ورؤية “توينبي” الدينية، وترتكز هذه النظرة علي أنّه ما دام الله واحد، وهو ما جاءت وبشرت به الديانات العليا أنبياءها، لذلك يجب أن تكون البشرية واحدة. صاغ “توينبي” تأريخه عن العالم بإحساس ديني بالرسالة، فقد كان يأمل أنّ مثل هذا التأريخ سوف يساهم في عقلية عالمية اعتبرها شرطًا رئيسيًا؛ لحفاظ الإنسان علي نفسه، فالبشرية يجب أن تصبح عائلة واحدة أو سوف تدمر نفسها.
والواقع أنّ عقلية “توينبي” العالمية قد أثبتت إنسانيةً، وتسامحًا يشبهه، كما عبر (هانزكون، إنسانية وتسامح تولوستوى، وشقيتزر لسنج). ومثل رأي “توينبي” أنّ(اليهودية والمسيحية والإسلام) تنويعات علي لحنٍ واحدٍ وأنّها جميعًا متساوية في رسالتها الكبرى للبشرية ألا وهي رسالة الوحدة حول ما هو أعلى من الانقسامات العرقية.
وبالنسبة لـ”توينبي” كان الدين يمثل نداء يجعله يشعر أنّ كل جهد بشري خلّاق هو في النهاية جهد قاحل إن لم يدعم تقدم الإنسان الروحي والاجتماعي، فقد رأينا هذا الإحساس بالرسالة كان في جانب منه نتيجة لاعتقاده أنّ مصادفة مرضه قد أنقذته من الحرب العالمية الأولى الأمر الذي جعله يشعر بحاجةٍ عميقةٍ لمساعدة زملائه من البشر وأن يعتقد أنّه في عالم يناضل من أجل البقاء، فإنّ عليه التزامًا للمساهمة في فهم طبيعة الأزمة التي حلت بالغرب وبكل العالم، وأن يقدم لها العلاج.
بهذه النظرة الدينية اعتبر “توينبي” أنّه في دراستنا لتاريخ العالم ككل، فإنّه يجب علينا أن نجعل للتاريخ السياسي والاقتصادي مكانة ثانوية، وأن تعطي الأولوية للتاريخ الديني؛ وذلك لأن الدين بعد كل شيء هو العمل الجاد للجنس البشري، وبالنسبة لـ”توينبي” فإنّ رسالة المؤرخ هي نداء ذو طبيعةٍ خاصةٍ جدًا ، وأنّه نداء من الله للبحث عنه والعثور عليه.. فالتاريخ هو رؤيا لله وإن كانت رؤية جزئية وضعيفة، وهو يفصح عن نفسه في أفعال إلى أرواح تنشده بإخلاصٍ، واعتقد “توينبي” أنّ مهنته كمؤرخ، هي في النهاية سعي لرؤية الله وهو يعمل في التاريخ، كما اعتبر أنّ حقائق التاريخ هي مفاتيح الطبيعة لمعنى الكون الغامض مكاننا فيه، وأنّ الواقع الروحي خلف الظواهر هو الهدف النهائي لكل فضول.
كذلك لم يكن مفهوم “توينبي” عن الطبيعة البشرية منفصلًا عن نظرته الدينية، فقد اعتبر أنّه في الطبيعة البشرية يكمن عرق من “الشر الشيطاني”، والذي يكشف عن نفسه على المستوى الفردي في تركيز الإنسان على ذاته وعلى المستوى الاجتماعي في الحروب والخصومات والعداوات الطبقية التي أثبتت أنّها مهلكة للحضارات، وقد اعتقد “توينبي” أنّ الاعتقاد الليبرالي في الخير الجوهري للإنسان هو ضرب من البداهة، فمذابح القرن العشرين دليل كاف على قدرة الإنسان على الشر، غير أنّ “توينبي” اعتقد كذلك أنّ الطبيعة البشرية لديها طاقة كامنة للخير، وأنّه في كل روح بشرية ثمة نضال يجري بين هاتين القوتين الروحيتين المتعارضتين، ومثل هذا الانقسام الروحي يجعل من المجتمع البشري ساحة للحرب المستمرة بين الخير والشر.
ويعتقد “توينبي” أنّ الطبيعة البشرية فقدت توازنها، فقد أظهر الإنسان موهبةً كبيرةً في السيطرة على الطبيعة أكبر من سيطرته على مشاعره الخاصة والحياة في رفقةٍ مع زملائه من البشر، وحتي لا يستهلك الشر الإنسان فإنّ عليه أن ينشد تأييد وعون الديانات العليا” Higher Religions ” ويحددها بـ (اليهودية، المسيحية، الإسلام، البوذية والهندوسية)؛ ولأن كل إنسان لديه استعداد لأن يسلك ويتصرف وكأنّه مركز الكون وأن يستغل كل إنسان آخر في العالم، فقد حاولت الديانات مساعدته في التغلب على أنانيّته وذاتيّته الموروثة، ومساعدة الجماعة على التغلب على القبيلة المدمرة حين سيصبح أساس الخبرة والتجربة البشرية وهو(حب الكائن البشري)، فسوف يعامل الإنسان زميله الإنسان -إخوانه البشر- باحترامٍ كبيرٍ.
غير أنّ ما جذب “توينبي” إلى الدين لم يكن نتيجة للالتزام بنظام لاهوتي معين ، وإنّما الارتباط بالقيم النبوية “prohhetic values” واعتقاده أنّ الديانات تمكن الإنسان من أن يجد هدفًا في الحياة، ومن أن يتعامل مع الضغوط والقلق العاطفي، كما أنّها تُنمي علاقات أفضل بين البشر وتساعد علي الرفاهية الاجتماعية. إنّ الإيمان بالله دينيًا هو فقط الذي يستطيع أن ينقذ الإنسان من التكنولوجيا وتجريدها لإنسانيته، والقيم النبوية فقط هي التي تستطيع أن تحول بين البشرية وبين تدمير نفسها.
وفي يقين “توينبي” أنّ الإنسان قد يظهر دائمًا مشاعر دينية، ذلك لأنّه من خلال الدين حاول أن يجيب علي أسئلة جوهرية مثل الهدف من الوجود، ومعنى الموت ،وقد صنف “توينبي” الديانات عبر التاريخ إلي ثلاث فئات: (عبادة الطبيعة، عبادة الإنسان ،عبادة الواقع المطلق “Absolute Reality” وهو الله ) ، فقد عبر الإنسان عن مشاعره الدينية بعبادة الطبيعة: مثل (الحيوانات، المطر، القمر، الكواكب)، وكانت آلهة الطبيعة بالنسبة للإنسان البدائي تجسيدًا للوجود فيما وراء الطبيعة والقوى بالخضوع لرحمتها، وقد تراجعت عبادة الطبيعة عندما بدأ الإنسان يمارس السيطرة عليها، فالإنسان لا يعبد الأشياء التي تعلم أن يتحكم فيها، وفي الوقت الذي استمرت فيه عبادة الطبيعة بعد نشوء الحضارة إلاّ أنّها استبدلت بديانة أدنى وهي تقديس الإنسان ،أو الحاكم المتشبه بالله ،أو مؤسسة بشرية مثل الدولة المقدسة في اليونان (إله اليونانيين أثينا) ،وبذلك أطلقوا الجانب المظلم من الطبيعة البشرية بارتكاب المذابح والاستعباد من أجل جماعتهم التي ألّهوها، وهذا التحويل للجماعة البشرية إلى ما يشبه الله أدى إلى الحرب التي حطمت في النهاية الحضارة الهيلينية، أمّا الفترة من (القرن الثامن قبل الميلاد إلي القرن السابع الميلادي)، فقد كانت بالنسبة لـ”توينبي” هي عصر التنوير والتقدم الروحي وهي الفترة التي بدأت بالأنبياء اليهود وانتهت بـ”محمد”، ويدخل أيضًا ضمن هذه الفترة آخرين من الأنبياء اليهود ديانات العالم العظميات مثل (بوذا lao tae) و(كونفوشيوس)، (وزار شونزا Zarathustra) .
لذلك كان “توينبي” دائم الدعوة لأن يعود الإنسان إلى القيم التي بشر بها هؤلاء الأنبياء (وهم أعظم الرجال) الذين ألهمهم التاريخ، وأصر على أنّ الديانات العليا قدمت للإنسان العلاج من مرضه الروحي، وأوضحت له كيف يمكن أن يعلو علي الجشع والعدوانية ،وتحسين نوعية علاقاته الاجتماعية؟ كما نبه إلى أنّ الديانات العليا قد علمت البشرية أنّ الإنسان له إلهًا، وأنّ القوة البشرية محدودة وأنّ الحب هو أعظم مظاهر الخير، وأنّ الإنسان لا يحب أن يؤلمه كائنًا بشريًا أو مؤسسةً بشريةً.
وقد رأى “توينبي” أنّ الديانات العليا بمخاطبتها البشرية كلها وليست جزءًا منها فقط ،إنّما تُمكن الإنسان من التغلب على الحواجز بين الأمم والحضارات، فقد كانت منطلقات ثورية جديدة؛ لأنّها أعلنت رسالة العالمية، ووحدة البشرية، وهو الشرط الذي اعتبره “توينبي” ضروريًا لبقاء البشرية.
وعلى الرغم من تأكيد “توينبي” على حدود العلم وقصوره عن تفسير بعض حقائق الكون، وكذلك الطبيعة البشرية إلاّ أنّه انتقد الاتجاهات الدينية التي تقاوم الحقيقة العلمية، وادعاء السلطة على مجالات المعرفة هي من الاختصاص المشروع للعقل.
الواقع أنّ ما يعطي وحده لفكر “توينبي” هو روحانيته وعالميته ورؤيته لأن يرى المجتمع الإنساني موحدًا يحب الله، وقد لازم هذا الفكر اعتقاده الثابت بأنّ التقاليد الغربية الليبرالية العقلانية لا تستطيع وحدها أن تجمع بين الناس معًا في سلامٍ وزمالةٍ؛ ذلك لأنّها لا تستطيع أن تكبح بشكلٍ دائمٍ طبيعة الإنسان الشريرة. التي تعرب عن نفسها في الحروب بين الشعوب والصراعات بين الطبقات ، ولتكون فعالة فإنّ الليبرالية والعقلانية في رأي “توينبي” يجب أن تستمد الإلهام من القيم الدينية، وقد فهم “توينبي” أن ما يمثل أكبر مما تبشر به المؤسسات الدينية ورجال الدين، كما فهم الحقيقة الإلهية على أنّها قوة تاريخية تتداخل في نسيج وجودنا.
غير أنّ “توينبي” لم يكن مؤمنًا، بسيط التفكير، فرغم عدم ارتياحه لعلمانية الغرب المعاصر إلاّ أنّه يستطيع أن يخون أو يتجاهل ميراث الحرية الفكرية الذي يصنع تآلفًا بين العقل والدين والذي يلائم متطلبات القرن العشرين.
ثانيًا: “توينبي” ومأزق الحضارة العربية.
كان طبيعيًا بالنسبة “لأرنولد توينبي”- المؤرخ الذي ينتمي دينًا وحضارةً إلى الحضارة العربية- أن يتوقف طويلًا عند واقع ومصير الحضارة الغربية المعاصرة، وكذلك عن علاقتها بالعالم، وهو ما سوف توضحه في الجزء الثالث من هذه الدراسة.
وكيف تبدو له خاصةً في ضوء الخبرات التي عايشها منذ تجربة الحرب الأولى مرورًا بالحرب العالمية الثانية، وما تخللها من نشوء نظم، وأيديولوجيات كـ(الفاشية والنازية والشيوعية)، ثم التأثيرات العميقة والشاملة التي أحدثها تقدم العلم والتكنولوجيا؟
إنّ عناصر الصورة التي تخللت الأجزاء الأولى من دراسة التاريخ ما زالت كما هي إلاّ أنّها قد ازدادت حدة ، واحتوت على تحليل أكثر تفصيلًا للمشكلة الغربية، وخاصة ًفي ضوء رؤيته لتطوير التكنولوجيا، واعتبارها أكثر الملامح أهمية للحضارة الحديثة، وأصل مشكلتها المحددة.
ويُفَصّل “توينبي” رؤيته لأزمة الحضارة الغربية، وكيف تطورت بالقول؟ بأنّه مع بداية القرن العشرين كان الغربيون متأكدين أنّهم قد صنعوا طريقًا عقليًا منظمًا ومشبعًا للحياة، وأنّه سوف يستمر على هذه الحالة وإنّ آمنوا بوجهة نظر جيسون:” إنّ ما حدث لروما لا يمكن أن يحدث لأوروبا؛ لأنّ الغرب حقق تقدمًا كبيرًا في المعرفة والصناعة”، وقد جعلتهم هذه الثقة الزائدة في اختلافهم عن الآخرين يتأكدون أن الأمراض التي حطمت الحضارة الأولى لن تصيبهم، وأنّهم سوف يواصلون التقدم بشكلٍ مستمرٍ ، ويتذكر” توينبي” أنّه قبل الحرب العالمية الأولى كان هو ووالديه:
“يتوقعون أن الحياة في العالم كله ستكون رشيدة وأكثر إنسانية وديمقراطية ،وأنّه ببطء ولكن بثبات سوف تحقق الديمقراطية السياسية عدالة اجتماعية أعظم، كذلك كان توقعنا أنّ تَقدم العلم والتكنولوجيا سوف يجعل البشرية أغنى، وأن هذه الثروة المتزايدة سوف تنتشر من الأقلية إلى الأغلبية، وتوقعنا أن كل هذا سوف يحدث بشكلٍ سلمي، وفي الواقع تصورنا أنّ البشرية تتجه نحو جنة أرضية، وأنّ توجهنا نحو هذا الهدف تفرضه علينا الضرورة التاريخية”.
غير أنّ الحرب الأولى جاءت لكي تصدم الغربيين وإحساسهم بالراحة، والاطمئنان، وكشفت جرائم النازية في الحرب الثانية عن “إجرام يتفيّح تحت سطح الحياة في العالم الغربي” وأنّ الألمان لم يكونوا ليرتكبوا جرائمهم بدون هذه الحقيقة، وبغياب الإيمان بالتقدم المنتظم، تيقظنا علي حقيقة أنّ الإنسان الغربي أعماله لم تعد محصنةً ضد الخطر أكثر من إنسان الحضارات التي فنت.
وبشكلٍ متماسكٍ مع فلسفته في التاريخ رأى “توينبي” مشكلات الغرب المعاصر في ضوء ديني ،وقد أصبحت حضارة ما بعد المسيحية، والتي تحول فيها الولاء الذي كان للمسيحية إلى الأيديولوجيات الثلاث( الليبرالية والقومية والشيوعية)، وهي جميعها ديانات بديلة ومتنافسة مع قيم المسيحية، فقد استوعبت الليبرالية المفهوم المسيحي عن احترام الفرد وتبنت الشيوعية المثل المسيحية عن العدالة الاجتماعية، ولكن كلًا منهما انفصلت عن الجذور المسيحية لهذه المثل؛ فالصورة العلمانية للعدالة الاجتماعية ليست كافية في جوهرها، أما ما هو أكثر ضررًا بين الأيديولوجيات عند “توينبي” فهو القومية، والتي يعتبرها عودة إلي تمجيد المجتمع المحلي” local Community” كما كانت تمارس في المدن (اليونانية والرومانية)، ورغم أنّ “توينبي” كان يقدر التقاليد الليبرالية، وكان يفضل حماية حقوق الفرد، وحكم القانون والحكومة الدستورية، والتسامح والعدالة الاجتماعية، واحترام تقاليد العقل، إلاّ أنّه كان مقتنعًا بأنّ التقاليد الليبرالية لا تستطيع أن تكون بديلة عن الدين، ولا تستطيع أن تعيش دون أن تستعيد روابطها بروحه -ذلك أنّه حين انفصلت عن المسيحية انحطت الليبرالية إلى نوع من المنافسة والأنانية، لذلك لا تستطيع الليبرالية المكتفية بذاتها أن تحافظ على الحرية الفردية وتنافس بنجاح مع الأيديولوجيات الديكتاتورية إلاّ بعد أن تتشرب بالقيم الروحية.
وإذا كان “توينبي” قد رأى أنّ الروحي الذي نشأ عن تحول الغرب عن الدين قد ملأته الأيديولوجيات، وأن أكثرها خطورة كانت القومية، فإنّه قد رأى ثمة معبودًا آخر جذب الروح الغربية وهو التكنولوجيا.
فقد اعتبر “توينبي” أنّ سيطرة الإنسان الغربي علي الطبيعة المادية جعله يتصرف مرة أخري وكأنّه أعلى وجود روحي في الكون؛ ولأنّ الطبيعة البشرية ظلت آثمة كما كانت دائمًا، فقد أساء الإنسان استخدام قوته التكنولوجية وخلال القرون الثلاث الماضية خلقت التكنولوجيا بيئة مصطنعة محملة بالخطر على الروح البشرية. إنّ الإنسان قد تغلب الآن بشكلٍ حاسمٍ علي الطبيعة بالتكنولوجيا، ولكن كان المنتصر هو التكنولوجيا، وليس الإنسان نفسه، وقد استبدل الإنسان فقط سيدًا بآخر، وإن كان سيده الجديد أكثر غطرسة واستبدادًا من الآخر، ومازال الإنسان عبدًا لبيئتهم ولكنها الآن البيئة التي صنعها بنفسه ،وليست البيئة التي منحتها له الطبيعة، إنّ الفجوة المتزايدة بين ما يتصوره ذكاؤنا وبين ما نقدره فعليا على أنفسنا مع التغير والغليان الثوري السريع الناجم عن تفجر العلم والتكنولوجيا، وإنّما التغيير الحضاري الذي تتطلّبه هذه المسيرة القوية للتكنولوجيا إنّما يصيب البشرية بالدوار.
وهكذا أثارت السيرة المنتصرة للعلوم والتكنولوجيا انزعاج وقلق “توينبي” أكثر مما أثارت إعجابه؛ ذلك لأن النمو الأخلاقي والروحي هو ما كان يعتبره أكثر أهمية ، وأصبح ما يحتاجه الإنسان الغربي الذي يفاخر بالتكنولوجيا هو ما يذكره بأنّها ليست جوهر الإنسانية بل أنّها ليست ملمح الطبيعة البشرية الأكثر حسمًا وأهمية للبشرية ولبقائها ورفاهيتها، ويلاحظ “توينبي” استطرادًا من ذلك أنّه منذ عصور ما قبل التاريخ كان هناك فجوة أخلاقية، ولكن هذه الفجوة تنمو بشكلٍ أكثر اتساعًا بالتقدم التراكمي الذي تحققه التكنولوجيا في الوقت الذي يركد فيه الجانب الأخلاقي، فالإنسان لم يسلح نفسه روحيًا كي يتعامل ويعالج هذه القوة المادية الضخمة الأمر الذي تسبب في اتساع الفجوة على مدى الثلاثمائة عام الأخيرة، وبسبب التخلف الروحي تحول التقدم التكنولوجي إلى “مصائب” اجتماعية، واستخدمت أكثر الأساليب العلمية؛ لارتكاب أسوأ المذابح التي عرفها التاريخ.
لذلك كان “توينبي” يدعو الغرب دائمًا إلى أن يتذكر حدود العلم والتكنولوجيا أكثر من أن يبالغ في تقدير انجازاتها إلى أن يدرك أن العلم يقدم إجابات علي مشكلات الإنسان التي تجلب له القلق والخوف، كما أنّه لم يتحرر الإنسان من أنانيته أو يقلل من شعوره بعدم الأمان وعلى هذا فإنّ حل المشكلات التي تطرحها التكنولوجيا ليس في المزيد من التكنولوجيا ،بل اعتقد “توينبي” أنّ الإعلاء من شأن الجانب الروحي والأخلاقي هو الذي يحولنا بعيدًا عن تمجيد الثروة والقوة التي يبحث عنها الإنسان على حساب السعادة البشرية والوفاق الاجتماعي، كما أنّه سوف يؤدي إلى إعادة الإنسانية إلى التعليم والتأكيد على دراسة الإنسان كهدف لتحسين أنفسنا وعلاقاتنا بالآخرين.
غير أنّ تحفظات “توينبي” على العلم والتكنولوجيا وآثارهما على الإنسان المعاصر في الغرب لم يكن يعني أنّه يدعو إلى العودة إلى نوع وأسلوب الحياة قبل العصر الصناعي، وكان يدرك أنّه بدون التكنولوجيا الحديثة سيكون مستحيلًا إطعام سكان العالم المتفجر، ولكن ما كان يريده هو إبطاء التكنولوجيا وإعادة توجيه الغرب لاهتماماته ومواهبه نحو الحاجات البشرية، واعتقد أنّه إذا ما وجه الإنسان وعي روحي وبصائر جديدة في الطبيعة البشرية والمجتمع البشري ينبثق هذا الوعي من تحويل الطاقة العقلية بعيدًا عن التكنولوجيا ونحو الفنون الحرة، فإنّ الإنسان قد ينجح في إضفاء الإنسانية علي نفسه وبيئته.
وفي تحليلة للعلاقة بين التكنولوجيا والحضارة يتوصل “توينبي” إلى نتائج تتماسك مع فلسفته في التاريخ، فالتقدم والتكنولوجيا ليس مؤشرًا على التقدم في الحضارة ،فقد تكون الحضارة في حالة اضمحلال على الرغم من إنجازاتها التكنولوجية، وقد أصبحت التكنولوجيا بالنسبة للإنسان المعاصر موضوع عبادة وبدون إرشاد القيم الروحية لا يستطيع الإنسان أن يتعلم كيف ينظم ويستخدم التكنولوجيا من أجل غايات إنسانية؟ ويستشهد “توينبي” بأنّ الغرب الآن يدفع ثمن هذا التأليه للتكنولوجية، كما خلق حسا يستطيع أن يميت القلوب، يدمر الأجساد، ويحطم الكوكب الذي نعيش عليه، فالأسلحة النووية والتلوث وزيادة السكان وهي جميعها من إنتاج التكنولوجيا تهدد البشرية بالفناء، لذلك اعتقد “توينبي” أنّه بإعادة القيم النبوية” Prophetic values” تستطيع أن تحصل على التعاطف المطلوب للتعامل مع العصر الحضاري في إعادة توجيه طاقاتنا الفكرية من الآلات إلى الاحتياجات البشرية الحقيقة ، والحصول على المعرفة والحكمة للتعامل بشكلٍ فعالٍ مع هذه المشكلات بإبطاء الاندفاع نحو التكنولوجيا والاجتهاد، واشتغال أفضل أذكيائنا بالفنون الحرة والعلوم الإنسانية التي تقدم للإنسانية الأمل في البقاء.
وفي ضوء هذا التحليل الذي يتبعه “توينبي” لمأزق الحضارة الغربية وعناصر الضعف فيها، فهل يعني هذا أنّ الغرب قد دخل مرحلة الاضمحلال” Declime”؟ وهل بدأ يدخل في الذروة التي ألمت بحضارة سابقة ومنها الحضارة الهيلينية (مصدر الحضارة الغربية)، وانتهت بها إلى الانهيار والتفكك؟ هل ثمة أمل في أن تهرب الحضارة الغربية المعاصرة من هذا المصير، فإذا كان كذلك، فما الذي يجب أن يفعله أبناءها لتفادي هذا المصير؟
على الرغم من أنّ “توينبي” لم يشك في أن زمن المتاعب قد حل علي الغرب، وأنّه ربما تعدى مرحلة الذروة، وأنّ في الغرب من المظاهر والأعراض التي مرت بحضارات سابقة منهارة علي الرغم من هذا إلاّ أنّ “توينبي” لم ير هذه الأعراض على أنّها لابد أن يتبعها انهيار الغرب وتفككه.
ونبع هذا من اعتقاد” توينبي” أنّ الإنسان ليس تحت رحمة وقوة وقدر لا يرحم، وأنّ لديه القدرة على اختيارات ذكية وعلى استئصال مثل هذه الأورام الخبيثة التي حطمت حضارات سابقة، ورغم أنّ ست عشرة حضارة قد فنيت وتسع أخرى تبدو على اعتاب الموت، فإنّ “توينبي” لم يعتقد أنّ الحضارة مقضي عليها بصورة لا ترحم، فهي عنده ليست اعضاء حية محكوم عليها مسبقًا بالموت، ومن ثمّ ظن “توينبي” أنّ الغربيين مازال في استطاعتهم أن يعالجوا الأمراض التي حلت بهم وبمجتمعهم وأن يبعثوا حياة جديدة في حضارتهم وقال: “التاريخ يكرر نفسه، ذلك متروك لها إذا استطاعت أن تعطي التاريخ تحولًا غير مسبوق، وكبشر فقد منحنا حرية الاختيار، ولا نستطيع أن نلقي مسئوليتنا على أكتاف الله أو الطبيعة، فيجب أن نتحملها بأنفسنا وهو ما يتوقف علينا”.
ثالثًا: العالم والغرب( روسيا وتركيا) نموذجًا:
يعالج “توينبي” الغرب وحضارته ولكن من منظور أشمل ألا وهو علاقته ببقية العالم وشعوبه وأجناسه تنطلق من معالجة “توينبي” لهذه العلاقة من اعتقاده في حقيقتين:
الأولى: أنّه حتي في قمه قوته فإنّ الغرب لم يكن هو الممثل الوحيد علي مسرح التاريخ الحديث.
والحقيقة الثانية :أنّه في المواجهة بين العالم والغرب التي تجري منذ أربعة أو خمسة قرون فإنّ العالم وليس الغرب هو الجانب الذي يمتلك خبره ذات أهمية في هذه المواجهة، إنّه لم يكن الغرب الذي تعرض للضرب والإيذاء من العالم- العالم الذي ضرب أو أوذي من الغرب.
وينصح “توينبي” الغربي الذي يريد أن يعالج هذا الموضوع بأنّ عليه أن يحاول للحظة أن ينسلخ من جلده الوطني، وأن ينظر إلى المواجهة بين العالم والغرب من خلال عيون الأغلبية غير الغربية للبشرية ، وأيًّا كان اختلاف الشعوب غير الغربية في العالم عن بعضها البعض في العنصر واللغة والحضارة والدين، ولكن إذا ما سألهم أي سائل غربي عن رأيهم في الغرب فسوف يسمع منهم جميعًا إجابة واحدة سواء قالوا له أن الغرب هو المعتدى في العصور الحديثة وسوف يسمع منهم جميعًا إجابة واحدة سواء كانوا (روسًا أو مسلمين أو هندوسيين أو صينين أو يابانيين أو غيرهم)، سوف يقولون له “إنّ الغرب هو المعتدى في العصور الحديثة سوف يكون لكل منهم تجربته مع العدوان الغربي، سوف يذكر الروس أنّ بلادهم قد تعرضت للغزو من الجيوش الغربية في أعوام( 1610، 1709، 1812،1915، 1941) م، وسوف تذكر له شعوب أفريقيا وآسيا أن البعثات التبشيرية الغربية والتجار الجنود الذين جاؤوا من وراء البحار وتدفقوا على بلادهم منذ (القرن 15)، وسوف يذكره الأسيويون أيضًا أنّه خلال هذه الفترة احتل الغربيون نيب الأسد من أراضي العالم الخالية في (الأمريكتين وأستراليا ونيوزيلاندا) ،وسوف يذكر الأفارقة أنّهم قد استعبدوا ورحلوا عبر الأطلنطي من أجل خدمة المستعمرين الأوروبيين للأمريكتين، وكأدوات حية لإشباع جشع سادتهم الغربيين للثروة، وسوف يذكر خلفه السكان الأصليون لأمريكا الشمالية أنّ أسلافهم قد اجتثوا؛ لإتاحة مكان للمتطفلين الغربيين وعبيدهم الأفريقيين.
في سبيل توضيح الحقائق والوقائع التاريخية السابقة لعلاقة الغرب مع الشعوب والأجناس وممثلي الحضارات التاريخية في العالم بحث “توينبي” علاقة الغرب مع( روسيا، وحضارات الشرق الأقصى في الصين واليابان والهند).
وسوف نختار كنماذج عن علاقة الغرب بالعالم ما أوضحه “توينبي” عن علاقة( الغرب بروسيا، وعلاقته بعالم الإسلام).
ويبدأ “توينبي” بتجربة روسيا مع الغرب باعتبار أنّ روسيا هي الجزء من العالم الذي يضم أغلبية غير أوروبية، ورغم أن ّالروس أصبحوا مسيحيون، ومازال الكثير منهم مسيحيين، إلاّ أنّهم لم يكونوا أبدًا مسيحيين غربيين، فقد تحولت روسيا إلي المسيحية لا عن طريق روما مثلما تحولت انجلترا، ولكن من خلال القسطنطينية ورغم أصولهم المسيحية الواحدة، فإنّ المسيحيين الغربيين والشرقيين كانوا دائمًا غرباء عن بعضهم البعض بل ويحملون مشاعر متبادلة غير متعاطفة بل ومعادية كما أنّ استسلام الروس للنظم الأوتوقراطية المركزية والتي أصبحت شيئًا تقليديًا في حياة روسيا، كانت كما يراها الغربيون أحد الصعاب في علاقة روسيا مع الغرب.
وخلال القرون القليلة الماضية والتي كانت دائمًا تهديدًا من الغرب لروسيا من( القرن الثالث عشر حتي عام 1945 م)، فإنّ هذا التهديد قد أصبح أكثر خطورة بظهور الثورة الصناعية والتكنولوجية في الغرب، فحين استخدم الغرب الأسلحة النارية تبعته روسيا، وفي القرن 16 استخدمت هذه الأسلحة الجديدة لهزيمة التتار في (وادي فولجا) والشعوب الأكثر بدائية في (لأوزل وسيبريا)، إلا أنّه في عام 1610 م مكنّت الأسلحة الغربية البولنديين من احتلال “موسكو” والسيطرة عليها لمدة عامين، وفي نفس الوقت تقريبًا استطاع السويديون تهديد روسيا في منفذها على بحر البلطيق، وقد كان رد الروس على هذه الأعمال العدوانية من الغرب هو تبني تكنولوجيا الغرب كليةً، ولم يقتصر هذا على الأدوات المادية لهذه التكنولوجيا بل اشتمل أيضًا أكبر قدر من أسلوب الغرب في الحياة باعتبار أنّه ليس شيئًا منفصلًا عن التكنولوجيا الغربية، ويلاحظ “توينبي” أنّ هذه الثورة التكنولوجية والاجتماعية قد فرضت على الروس في( نهاية القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر) من أعلى بواسطة عبقرية رجل هو” بطرس الأكبر” وتقدم شخصية بطرس المفتاح؛ لفهم علاقات العالم مع الغرب ليس فقط في روسيا بل وفي كل مكان ، فبطرس كان يمثل نموذج المصلح الأوتوقراطي في إدخال الأساليب الغربية، وهو الذي خلال القرنين ونصف الماضيين، قد أنقذ العالم من الوقوع كليةً تحت السيطرة الغربية بإجبار العالم علي تدريب وتهيئة نفسه؛ لمقاومة العدوان الغربي بأسلحة غربية، وقد تبعت خطواته بوعي أو بغير وعي شخصيات مثل( السلطان، سليم الثالث، ومحمود الثاني، وكمال أتاتورك في تركيا ومحمد علي باشا في مصر، ورجال الدولة اليابانية الذين قادوا ثورة لتحديث اليابان في ستينات القرن الثامن عشر)، وقد وضع “بطرس الأكبر” روسيا في سباق تكنولوجي مع الغرب، وهو السباق الذي مازال قائمًا، وخلال هذا السباق، لم تكن روسيا تستطيع أن تركن إلى الراحة؛ لأنّ الغرب كان دائمًا يقدم تحديًا جديدًا، وقد وضع بطرس وخلفاؤه في( القرن الثامن عشر) روسيا قريبًا من مجاراة الغرب في هذا الوقت وبشكل مكنها من هزيمة السويد منذ القرن 19 وضعت روسيا من جديد في المؤخرة بحيث هزمت في الحرب العالمية الأولى من الغزاة الألمان -مثلما هزمت قبل ذلك بمائتي عام من البولنديين والسويديين-، وقد كانت هذه الهزيمة أحد الأسباب الرئيسية في أن تحل الحكومة الشيوعية الأتوقراطية محل القيصرية في روسيا التي هزمتها التكنولوجيا الغربية الصناعية والعسكرية، وشرع النظام الشيوعي من( 1928 م – 1941 م) في أن يحقق لروسيا مرة أخرى ما حققه لها “بطرس الأكبر” منذ 230 عامًا مضت، فقد عزمت تكنولوجيا الثورة الشيوعية في روسيا الغزاة الألمان في الحرب الثانية-مثلما هزمت ثورة “بطرس” تكنولوجيا الغزاة السويديين عام 1907 م والغزاة الفرنسين عام 1812 م- أمّا الثورة التكنولوجية الثالثة التي واجهها الروس، فهي تلك التي أطلقها حلفاؤهم الأمريكيين والغربيين بإلقائهم قنبلة ذرية علي اليابان ومنذ هذا اليوم يسير الروس في مسيرة قوية للّحاق بهذه الثورة التي هددتهم للمرة الثالثة بوضعهم في المؤخرة. أما نتيجة هذا الحدث الثالث والمنافسة المستمرة بين (روسيا والغرب)، فإنّ “توينبي” يراها حين قدم هذه الرؤية التاريخية لعلاقة (الغرب بروسيا) عام 1948 م أنّها تكمن في المستقبل، واتصالًا بهذا يعتبر المحللون أنّ انهيار النظام الشيوعي في روسيا أنّه انهزم أمام الغرب علي جبهة السباق العلمي والتكنولوجي، واتساع الفجوة بينه وبين ما حققه الغرب في الثورة الصناعية الثالثة في مجال الحاسبات والإلكترونات.
غير أن “توينبي” في استعراضه للتجارب الروسية في التحديث واللّحاق بالغرب وفي استعارتها للأساليب الغربية قارن بين محاولة روسيا في عهد القيصرية، وبين محاولتها في ظل النظام الشيوعي فيها، ففي هذه المحاولة الأخيرة كانت المرة الأولى التي تستعير فيها روسيا عقيدة أجنبية هي (الماركسية)، وهي نتائج للفكر الغربي بينما تبنت روسيا العقيدة المسيحية، فإنّها قد جاءتها لأمن الغرب، ولكن من بيزنطة حيث تكتسب المسيحية شكلًا غير غربي في الشكل والروح، وفي (القرن الخامس عشر) فشلت محاولات الغرب لفرض المسيحية الغربية على روسيا.
ويعتقد “توينبي” أنّ قصة روسيا في علاقتها التاريخية مع الغرب هي في عدة نقاط تكرار لقضية قديمة لعبت فيها الحضارة اليونانية والرومانية دور الحضارة الغربية الحديثة، ولعب فيها الإسلام دورًا أساسيًا.
وإذا كانت الشيوعية قد وصفت بأنّها هرطقة مسيحية فإنّ نفس هذا الوصف قد انطبق على الإسلام وقد كسب الإسلام شأنه شأن الشيوعية، وشق طريقه كبرنامج للإصلاح يعالج سوء الاستخدام في الممارسة المعاصرة للمسيحية، كما أظهر نجاح الإسلام في أيامه الأولى كيف يمكن أن يكون نداء الإصلاح قويًا؟ حين تكون العقيدة التي يهاجمها هذا النداء مترددًا في إصلاح طريقها وأساليبها، كما توضح النجاحات العسكرية والسياسية الضخمة في المراحل الأولى للإسلام لماذا كان الأتراك والقوة الإسلامية الأخرى مترددة في إتباع سياسة “بطرس الأكبر” في الصمود أمام الغرب؟ بتبني واستخدام الأسلحة والأدوات والمؤسسات والأفكار الغربية، فقد بدأت عملية “بطرس الأكبر” في الأخذ بالأساليب التكنولوجيا الغربية في روسيا بعد أقل من مئة عام رؤية روسيا لعاصمتها، وقد احتلها البولنديون عامي( 1610 م ـ 1612 م) ،ومن ناحية أخرى -مرت مئة عام وأكثر بعد كارثة هزيمة الأتراك علي مشارف فيينا عام 1983 م قبل أن يأخذ سلطان تركيا الخطوة الأولى بقوة أبناء وطنه لتبني أسلوب الحياة الغربي وبدون أي تحفظ غير أنّه في الفصل الأول من قصة تبني تركيا للأساليب الغربية، فإنّ على الأتراك الذين كانوا مقتنعين بسياسة تحديث تركيا لم يكونوا قلبيًا يحبون الحضارة الغربية التي كانوا يدخلونها مجبرين، وكانت نيتهم تبني أقل جرعة من هذه الحضارة وبشكل يمكن أن يبقي علي رجل أوروبا المريض حيًا مثل هذه الروح المتذمرة تسببت في جهاض دفعة بعد أخرى من الإصلاحات الغربية، وكان حكم التاريخ على مثل هذه المدرسة الغربية من أنصار التحديث التركي هو في كل مرة القليل جدًا والمتأخر جدًا، وقد كانت هذه المدرسة تتصور أنّ بإمكانها جعل تركيا تصمد أمام القوي الغربية لمجرد ارتداء الجنود الأتراك للزي العسكري الغربي واستخدامهم الأسلحة الغربية، وبمجرد تدريب الضباط الأتراك بالتدريب المهني الغربي، كل هذا في نفس الوقت الذي يبقون فيه على كل جوانب الحياة التركية وعلى أسسها الاسلامية التقليدية.
ويواصل “توينبي” تقييمه لتجربة تركيا في التعامل مع الغرب وحضارته فيعتبر أنّ سبب فشل السياسة القائمة على أقل جرعة من الحضارة الغربية، هو أنّ المصلحين الأتراك قد تعاموا عن الحقيقة التي أدركتها عبقرية مصلح آخر هو “بطرس الأكبر”، هذه الحقيقة فيما يعتقد “توينبي” هي أنّ أيّة حضارة أو أي أسلوب في الحياة هو كل لا يتجزأ وحيث يعتمد فيه كل جزء علي الأخر، فسر التفوق الغربي عن بقية العالم في فن الحرب من القرن السابع عشر فلطالما لا يكمن في مجرد الأسلحة الغربية والتدريب الغربي، كما لا يكمن في التكنولوجيا المدنية التي تزود المعدات العسكرية أنّ هذا السر لا يمكن فهمه دون الأخذ في الاعتبار كل مقومات الفكر والروح في المجتمع الغربي وفي واقع الأمر فإنّ فن الحرب الغربي كان دائمًا أحد وجوه الحياة الغربية، وعلى هذا فإنّ المجتمع الأجنبي الذي يحاول أن يحصل ويتملك هذا الفن دون أن يحيا حياة المجتمع الذي أنتجه مقضي عليه بالفشل في التمكن والسيطرة على هذا الفن.
وقد أظهرت التجارب والمحاولات الأولى للتحديث في تركيا، في تقدير “توينبي”، أنّه لم يكن أمام الأتراك إلا خياران: إمّا أن يدفعوا ثمن السياسة التي تعتمد على أقل جرعة من أساليب الحضارة الغربية ويتركوا أنفسهم في طريق الانحدار، أو أن ينقذوا أنفسهم من الانقراض بأن يتبنوا عملية التحديث بكل قلوبهم وعقولهم
وبعد أن وضع الأتراك أنفسهم علي حافة الدمار باتباع الاختيار الأول، فقد أنقذوا أنفسهم، وقبل أن يصبح الوقت متأخرًا جدًا ، بالانغماس في طريق التحديث الغربي وبغير حدود تحت قيادة “كمال أتاتورك”، وكان معني هذا الاختيار “العثماني” ،أنهم قد اعترفوا لأنفسهم بحقيقة أنّه في عملية التداخل والاتصال الحضاري، فإنّ جانبًا منه لابد أن يؤدي إلي جانب آخر، وأن تبني الأسلحة الغربية والتدريب الغربي لابد أن يتبعه ليس فقط تحرير المرأة المسلمة ،وإنّما استبدال اللغة العربية بالحروف اللاتينية ، وفصل الدين عن الدولة في كل مجالات الحياة، ويواصل “توينبي” تقييمه لتأثير أخذ “أتاتورك” بالحضارة الغربية في مجملها علي المجتمع التركي فيقول : ” أنّه رغم أن ثمن هذا الاختيار كان أن يخضع الأتراك لنظام فاشي، وإنّ كان نظام الحزب الواحد الذي طبقة أتاتورك لن يصل إلى التطرف الشمولي، إلاّ أنّه تطور بعد ذلك بشكلٍ مبشرٍ، ففي الانتخابات التركية العامة عام 1950 م تحولت تركيا من نظام الحزب الواحد إلى نظام الحزبين، وبالقبول العام وبلا عنف أو إراقة دماء، وقبل الحزب الذي سيطر على الحكم لفترة طويلة إرادة الناخبين حين أجرى انتخابات حرة بالاقتراع الحر، ثم تقبله لنتيجة التصويت المعارض له كإشارة له على أنّه لابد أن يعتزل السلطة وأن يدعو المعارضة لكي تحل محل حكومته، كما أظهرت المعارضة من ناحيتها نفس الروح الدستورية.
وفي تقييمه النهائي للتجربة الروسية والتركية في التعامل مع الحضارة الغربية، ينظر “توينبي” إلى رجال مثل “بطرس الأكبر” و” كمال أتاتورك” على أنّهم نمط من الرجال يمتلك الرؤية النادرة التي مكنتهم من أن يدركوا أنّ المجتمع الذي يتعرض ويخضع لضغوط حضارة متقدمة وعدوانية وأكثر قوة يجب أن يختار ما بين الانقراض، أو يملك نفس أسلوب هذه الحضارة الذي يمكنه من الصمود أمامها، ويعتبر “توينبي” أن هذه الرؤية وهذا الاختيار هو اتجاه إيجابي وبنّاء ودليل على أنّ هذا الضعف من القادة هم حقًا رجال دولة، وأنّ اختيارهم هذا كان انتصار على الميول الطبيعية والتي كانت يمكن أن تعكس استجابة المحارة التي تنغلق علي نفسها، أو السلحفاة التي تنسحب وتنكمش علي غطائها العظمي، أو النعامة التي تخبئ رأسها في الرمال. غير أنّ “توينبي” يعترف أنّ سياسة محاربة حضارة غربية وعدوانية بأسلحتها الخاصة سوف تثير شكوكًا عميقة لدي العقول المحافظة، والتي سوف تنهم رجالًا مثل” بطرس الأكبر”، ” أتاتورك” بأنّهم في سبيل الدفاع عن الحصن وتقوية دفاعاته، فإنّهم في الواقع يبيعونه بينما كان الرد الصحيح لدى هذه العقول المحافظة علي تطفل الحضارة الغربية، هو التمسك بما طالبنا به الله الذي سوف يمنحنا من قوته الإلهية ما ندافع به ضد أعدائنا الكفار غير المؤمنين.
الخلاصة:
وهكذا تؤكد دراستنا أنّ ما يميز “أرنولد توينبي” في دراسته للتاريخ وللحضارات عن غيره من المؤرخيين هو نظرته البانورامية للتاريخ، وأنّه في هذه الرؤية لم يركز، كما فعل غيره من المؤرخين الغربيين على حضارة واحدة اعتبروها هي مركز الحضارة البشرية، ولكنه من نظرته إلى مختلف الحضارات البشرية مثل( الكونفوشية والهندوسية والإسلام)، وأن هذه الحضارات شاركت في صنع الحضارة البشرية، بهذا التصور انتقد “توينبي” الحضارة الغربية، وأنّها مدفوعة بهذه النظرة المركزية للذات، قد مارست السيطرة على غيرها من الحضارات الشرقية وشعوبها -وهي السيطرة التي مثلت تحديًا لهذه الحضارات – استدعت الاستجابة لها ومقاومتها من خلال استخدام أدوات الغرب وخاصةً في بناء السلاح والتكنولوجيا كما حدث في( روسيا وعالم الإسلام)، هذه النظرة في نقد الحضارة الغربية هي التي جعلت “توينبي” يتعرض لسهام النقد من المؤرخين الغربين الذين اعتبروا أنّ “توينبي” تجري كراهية الغرب في دمائه، وكما أشرنا في المقدمة أنّ احتفاء العرب المسلمين” بأرنولد توينبي” لم يكن فقط لتقديره للحضارات الشرقية ومكانها في مجرى تاريخ البشرية، بل وكذلك لموقعة المنصف من القضية الفلسطينية، ورؤيته للوجود في فلسطين باعتباره اغتصابًا لأراض الغير، وامتدادًا للإمبرالية والظلم ضد الشرق، وفي هذا انتقد بلاده واعتبرها وراء ما تعرض له الفلسطينين من ظلمٍ وتشريد.
المراجع:
- Pieter Geyl, “Toynbee’s system of civilization”
- H. Mitchell “Herr Spengler and Mr. Toynbee”
- Hens Morgenthau “Toynbee and the Histoecal imagination”
- Winerrout Kemmeth, Arnold Toynbee, The Ecumenical Vision” Twayne Publicatisms>
- Toynbee, Philip. “companing Notes A dialogue Berwee Generation”
- Peper Chirstion, “An Historion Conscience The Correspondence of Aenoled Toynbee and ColumBia Cary Elwes “Boston: Beacon, 1986.
- Perry, Marvin Arnold Tiynbee and the Crisis of the West Lanhnan, 1982