2024العدد 198ملف ثقافي

ما تنجح فيه الرياضة وتعجز عنه السياسة

في العاصمة النرويجية (أوسلو)، أجريت في 2007 لجريدة الأهرام أول حوار عربي مع “جير لوندستاد” مدير أكاديمية نوبل للسلام، وقال لي ونحن في مكتبه بالأكاديمية وقبل بدء الحوار، أنه اعتاد منذ تولي إدارة أكاديمية نوبل في 1990 تلقي طلبات صحفية كثيرة جدًا للحوار معه عن جوائز نوبل للسلام والذين فازوا بها أو لم يفوزوا، لكنني كنت أول من طلب حوارًا معه عن السلام والرياضة ولهذا وافق على الفور احترامًا لغرابة الطلب ولجريدة الأهرام؛ ولأنه بالفعل لديه الكثير الذي يمكن أو لابد أن يُقال عن العلاقة بين السلام والرياضة في هذا العالم، وأبدى مدير أكاديمية نوبل للسلام في  أثناء الحوار انزعاجه أو غضبه الشديد من إعلاميين سياسيين ورياضيين كثيرين في العالم تعاملوا باستخفاف وسطحية مع قضية السياسة والرياضة، وأوضح جير لوندستاد أنه يقصد هؤلاء الذين قالوا أو كتبوا أن دبلوماسية البينج بونج هي التي صنعت السلام والوفاق الأمريكي الصيني، وقال لوندستاد أن “الرياضة لا تصنع سلامًا، لكنها فقط قد تفتح أبواب حوار أغلقته السياسة، وأن بعثة تنس الطاولة الأمريكية التي سافرت إلى بكين في أبريل 1971؛ لمواجهة الصين وأبطالها، كانت أول بعثة رسمية أمريكية تزور الصين منذ 1949، وأول لقاء بين أمريكيين وصينيين منذ بدأ العداء بين البلدين في أثناء الحرب الكورية 1950″، وبالتالي كانت الرياضة هي التي فتحت فقط باب الحوار السياسي من جديد بين البلدين، وأذكر أن لوندستاد ضحك عاليًا وهو يحكي لي عن صحفيين أمريكيين وأوروبيين وآسيويين وللأسف عرب أيضًا وكيف يقولون بمنتهى الثقة أن الرياضة أعادت العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، ولا يدري أي من هؤلاء أنه بمنهج أقرب للسذاجة اختصر خطوات كثيرة سبقت، ثم أعقبت زيارة الرياضيين الأمريكيين لبكين، واستأذنت مدير أكاديمية نوبل للسلام في الاختلاف معه مؤكدًا أن الرياضة بالفعل تستطيع صنع سلام تعجز عن تحقيقه السياسة، وقلت له أنني “لا أقصد مطلقًا حكاية أو دبلوماسية البينج بونج التي لا أراها مثلما يراها كثيرون جدًا هي الدليل الأقوى والأوضح على ما تنجح فيه الرياضة بعد عجز أو فشل السياسة”.  وقلت أيضًا أنني “قبل هذا الحوار بأشهر قليلة كنت حاضرًا قمة الرياضة العالمية فوق جبل ماجلينجين في سويسرا، وكانت الرياضة والسلام هي إحدى محاور هذه القمة، والتقيت في ماجلينجين بكثيرين من كولومبيا والدنمارك والولايات المتحدة وجنوب إفريقيا حكوا لي عن نجاحات رياضية حقيقية في بلادهم لم يتصور أي سياسي إمكانية تحقيقها”.

وكان هذا الاختلاف بالتحديد هو ما أحال الأمر من مجرد حوار عابر إلى لقاء طويل امتد لأكثر من أربع ساعات، وأصبح بداية صداقة سمحت لجير لوندستاد أن يفتح لي القاعة التي يتم فيها التداول ونقاشات اختيار الفائز كل سنة بجائزة نوبل للسلام، وحكى لي داخل هذه القاعة الكثير عن مداولات وخلافات وأزمات اختيار الفائزين بجائزة نوبل للسلام، وتكرَّم الرجل أيضًا بأن سمح لي بقراءة خطاب شخصي كان قد أرسله له “جوزيف بلاتر” الرئيس السابق للفيفا يطلب فيه فوزه بجائزة نوبل للسلام، ولم يتلقِ بلاتر أي رد من جير لوندستاد، الذي رأى بلاتر لا يستحق أبدًا هذه الجائزة أو حتى ترشيحه لها، وكل ذلك كان قبل اضطرار بلاتر للاستقالة من رئاسة الفيفا متهَمًا ثم مُدانًا بالرشوة والفساد والخروج على القانون، ولم اختلف مع رئيس أكاديمية نوبل مرة أخرى إلا حين قال: “إن كرة القدم أصلًا لا تستحق جائزة نوبل للسلام”، فقد وافقته على أن بلاتر لا يستحقها، واختلفت معه لأنه رأى أن كرة القدم كلها أقل من الفوز بها، فقد حكى لي “أدولف أوجي” أول مستشار رياضي للأمم المتحدة عما رآه في مدينة ميديين في كولومبيا، وكيف عجز السياسيون ورجال الأمن والبرلمان والقانون عن مواجهة أزمة المخدرات وعصاباتها في المدينة، ونجحت كرة القدم في إنقاذ مئات الأطفال من العصابات وعودتهم للتعليم من جديد، وفي مدينة أتلانتا ومدن أمريكية أخرى نجحت جيل روبينز باستخدام كرة القدم في إدماج مئة ألف طفل من أصول لاتينية في المجتمع بعد فشل سياسي وإعلامي في ذلك، وكيف نجح مشروع ماتاري في العاصمة الكينية (نيروبي) عن طريق كرة القدم في الذي لم تنجح فيه أي هيئة أو مؤسسة أخرى لمواجهة عشوائيات العاصمة وصغار وضحايا العشش والأكواخ هناك، وبطولة كأس العالم للمشردين التي كانت فكرة بدأت في كيب تاون في جنوب إفريقيا ثم غيرت عبر عشرين سنة حياة الصغار في كثير من بلدان العالم.

وبعيدًا عن جير لوندستاد الذي بقى مديرًا لأكاديمية نوبل للسلام حتى 2014، وتفرغ بعدها للبحث والكتابة ولعب كرة القدم في أوسلو حتى رحيله العام الماضي، فإن فكرة الرياضة والسلام أو الرياضة بديلًا عن الحرب هي أصلًا فكرة قديمة جدًا، ففي القرن الثامن قبل الميلاد وقبل أن تبدأ الدورات الأوليمبية في العصر القديم في 776 قبل الميلاد، تم ابتكار تعبير إيكيتشيريا أو الهدنة الأوليمبية، بما يعني إيقاف أي حرب أو صراع أو تهديد قبل افتتاح كل دورة أوليمبية بسبعة أيام، ويستمر ذلك سبعة أيام أيضًا عقب انتهاء الدورة الأوليمبية، والمفاجأة الحقيقية كانت التزام الجميع بذلك، وحين كان يبدأ اللعب كانت تختفي كل مشاعر الكراهية والعداء وأي مطامع وتهديدات كأن اللعب نجح أخيرًا فيما لم تنجح فيه أي جهود أخرى للسلام والوفاق، ولهذا كان غصن الزيتون رمزَ السلام هو أول ميدالية أوليمبية لكل فائز في دورات العصر القديم. وحين أعاد البارون الفرنسي “دي كوبرتان” الدورات الأوليمبية في العصر الحديث بالتحديد في أثينا 1896، حافظ على قاعدة أو قانون إيكيتشيريا الخاص بالهدنة الأوليمبية، فقد أدرك كوبرتان ورفاقه ما سبقهم إليه الإغريق القدماء حين اكتشفوا هذه القوة السحرية للرياضة التي تستطيع وحدها إيقاف أي حرب أو صراع، ورغم أن العالم الحديث لم يكن كما العالم القديم في التزامه بهذه الهدنة الأوليمبية إلا أن كثيرين لم يفقدوا الأمل وظلوا يراهنون على الرياضة لتنجح فيما فشلت فيه السياسة. وفي 1993، دعت الأمم المتحدة كل أعضائها للالتزام بهذه الهدنة الأوليمبية بنفس قواعد العصر القديم، أي وقف النزاعات والصراعات طيلة فترة الدورات الأوليمبية وسبعة أيام قبل افتتاحها وسبعة أيام أخرى بعد ختامها، ومنذ 1998 أصبح علم الأمم المتحدة يرتفع في كل دورة أوليمبية إلى جانب العلم الأوليمبي. وفي 2013، قررت الأمم المتحدة تخصيص اليوم السادس من أبريل كل عام يومًا عالميًّا للرياضة من أجل السلام، وهو اليوم الذي بدأت فيه أولى الدورات الأوليمبية في العصر الحديث في أثينا 1896. وفي 2015، دعت الأمم المتحدة من جديد كل بلدان العالم لاعتماد الرياضة ضمن خطط التنمية المستدامة 2030 باعتبارها من أهم عوامل تحقيق التنمية المستدامة. وفي 2023، كانت هناك جلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة خاصة بالرياضة من أجل التنمية والسلام وبناء عالم سلمي أفضل من خلال الرياضة والمثل الأعلى الأوليمبي.

ومنذ 1993 حتى 2024، ومع توالي الجلسات والاجتماعات والتوصيات والقرارات، كانت هناك جملة واحدة تتردد طول الوقت وتقال على ألسنة كثيرين جدًا تتلخص في أن الرياضة دائمًا تنجح فيما عجزت عنه السياسة وأنه بالرياضة يمكن للعالم تحقيق ما عجزت عنه السياسة والسلاح، وقبل أي حديث عما نجحت فيه الرياضة حين فشلت السياسة في بلدان كثيرة في هذا العالم لابد من التوقف أولًا أمام واقعة تاريخية قديمة لا يزال يجهلها كثيرون رغم أهمية معانيها ودلالاتها؛ ففي أبريل 1923 عقدت اللجنة الأوليمبية الدولية اجتماعها السنوي في العاصمة الإيطالية روما، وفي هذا الاجتماع فاجأ البارون “دي كوبرتان” رئيس اللجنة الأوليمبية الدولية الجميع بالتساؤل عن قارة إفريقيا، وقال كوبرتان: “إن الألعاب الأوليمبية انتقلت من أوروبا وبدأت تنتشر في أمريكا اللاتينية وآسيا، لكن ظلت إفريقيا قارة غائبة ومنسية”. وأكد كوبرتان أن إفريقيا تحتاج لدورة ألعاب تقام كل سنتين لمساعدة بلدان إفريقيا على الازدهار الرياضي والاستمتاع بالألعاب، وبعد جدل طويل تمت الموافقة على إقامة أول دورة ألعاب إفريقية في مدينة الجزائر 1925 على أن تقام الدورة الثانية في الإسكندرية 1927، ولم تتمكن الجزائر أو مصر من تنظيم واستضافة هاتين الدورتين؛ حاربت فرنسا بكل نفوذها وسطوتها إقامة دورة ألعاب للأفارقة في الجزائر، وكذلك رفضت بريطانيا إقامة نفس هذه الدورة في مصر؛ فقد أدرك الفرنسيون والإنجليز أن الرياضة يمكن أن تكون التهديد الحقيقي للوجود الفرنسي في الجزائر والبريطاني في مصر، وتوقعوا لو اجتمع الأفارقة في مكان واحد ووقت واحد فسيكون هناك حديث عن حقوق ضائعة وغائبة ومظالم يعاني منها الأفارقة في بلدانهم المستعمرة ومطالب بالحرية والاستقلال، وبالفعل تم صرف النظر عن إقامة دورة ألعاب إفريقية وقررت اللجنة الأوليمبية الدولية عدم إقامتها في الجزائر ومصر بناء على طلب وضغوط فرنسا وبريطانيا.

وبعيدًا عن حكاية دبلوماسية البينج بونج التي لا يزال يتحدث عنها الكثيرون كلما أرادوا الحديث عما تنجح فيه الرياضة وتعجز عنه السياسة_ شهد العالم حكايات كثيرة حقيقية وبالغة الدلالة عما تستطيع أن تقوم به الرياضة وتنجح فيه أيضًا: ففي 1982-على سبيل المثال- كانت الحرب في بيروت لا تزال قائمة، لبنانيون مسلمون ومسيحيون، فلسطينيون ينتمون لمنظمة التحرير، وجنود وضباط إسرائيليون، وفشلت كل محاولات السياسة وأهلها في وقف تطاير الرصاص في كل مكان طول الوقت، وتزامن ذلك مع بدء مونديال 1982 في إسبانيا، ويوم بعد يوم ومباراة بعد أخرى، انتبه الجميع إلى أن الحرب الدائرة تتوقف في أثناء كل مباراة، كل صفارة حكم لتبدأ مباراة جديدة في ذلك المونديال كانت تعني وضع السلاح جانبًا والبقاء أمام شاشة التليفزيون، وبات المراسلون الأجانب وقتها يكتبون عن هذه الظاهرة ويتساءلون عن دلالاتها، وأصبح ما جرى في بيروت ذلك الوقت حكاية عالمية يتناقلها كثيرون (سياسيون، ورياضيون، وأكاديميون، وباحثون، وخبراء)، وتضمنتها كتب كثيرة وروايات أيضًا وأصبحت موضوعًا لأكثر من فيلم سينمائي، وباتت في النهاية مرجعًا ودليلًا لكل من يريد الحديث عما تنجح فيه الرياضة بعد فشل السياسة. وبعد 25 عامًا بالضبط، عاش العراق ما سبق أن عاشه لبنان؛ ففي 2007 كان العراق يعيش واحدة من أصعب أوقاته، فتنة روج لها أعداء العراق واختلاف عقائد ومصالح ورصاص أصبح صوته أعلى من أي حوار، ووسط هذه الأجواء يشارك العراق في بطولة كأس آسيا لكرة القدم، وبدأ المنتخب العراقي يفوز مباراة بعد أخرى حتى حقق المفاجأة الكبرى في النهاية وفاز بكأس البطولة، وبهذه الكأس عاد العراق عراقًا واحدًا أقوى من أن تمزقه حروب وصراعات، وقدمت كرة القدم للعراقيين ما يلتفون حوله وينسون مؤقتًا كل خلافاتهم (العقائدية، والاجتماعية، والسياسية)، ولم يعد أحد في العراق ينتبه إلى لاعب عربي وآخر كردي أو لاعب سني  وآخر شيعي، فالكل أصبحوا عراقيين فقط، ونجحت كرة القدم في ذلك بقوة الحب والانتماء لتاريخ وأرض والفرحة الصادقة الحقيقية بانتصار الوطن، وأصبحت الكرة العراقية إحدى الحكايات الاستثنائية جدًا والجميلة جدًا في كتاب تاريخ هذه اللعبة في العالم كله، فلم تتعرض الكرة في بلدان أخرى كثيرة لما عاشته وعانت منه الكرة العراقية، دفعت ثمن حروب كثيرة جدًا وصراعات على الأرض لا أول لها أو آخر، وتم حرمان العراق من أن يلعب على أرضه في 1980 حتى 1988، ثم في 1990 حتى 1995، ثم في 2003 حتى 2009، ثم في 2011 حتى 2013، ثم في 2019 حتى 2022، ورغم ذلك بقى العراق يلعب ويفوز أيضًا، وبقى قادرًا على توحيد العراق والعراقيين.

ولا تنجح الرياضة فيما تفشل فيه السياسة فقط، إنما تنجح غالبًا فيما قد تفشل مختلف مجتمعات العالم في تحقيقه؛ فقد كان محمد علي كلاي -على سبيل المثال- يؤكد أنه “من الخطأ أن تكره إنسانًا لمجرد أنه مسلم وخطأ أيضًا أن تكره إنسانًا لمجرد أنه مسيحي أو يهودي”. وكانت هذه واحدة من أهم وأجمل عبارات قالها بطل الملاكمة الراحل “محمد علي كلاي” وصاحب لقب الرياضي الأعظم في القرن العشرين، ومع هذه العبارة حكايات ومواقف لا يزال كثيرون يعودون إليها لمعرفة سر ما جرى في الخامس من رمضان 1437 والعاشر من يونيو 2016، في هذا اليوم كانت جنازة محمد علي كلاي في مدينة لويزفيل بولاية كنتاكي الأمريكية، التي تم اعتبارها أحد أهم المشاهد الإنسانية في التاريخ الحديث، فلم تكن مجرد جنازة بالمعنى البسيط والواضح لكنها كانت لحظة تقاسم فيها الحزن من اختلفت دياناتهم وأفكارهم ورؤاهم وأحكامهم وثقافاتهم؛ ففي تلك الجنازة التي شهدها على الهواء مليار شخص، سار المسلمون السنة والشيعة والمسيحيون بمختلف طوائفهم وكنائسهم واليهود والبوذيون، ولم يشارك أي منهم بحكم واجب أو مجاملة أو فرجة لكنه كان الحزن الحقيقي في وداع إنسان أحبوه واحترموه رغم أي خلافات، فلم يكن كلاي يخذل أيَّا من يطلب منه العون والمساندة سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، وأدان بشدة تفجيرات نيويورك في سبتمبر 2011 قائلًا: “إن الإسلام لم يأمر بالقتل والدم وإثارة الخوف”، وأنه شخصيًا لا يريد أن يلقى الله وفي يده دماء أي شخص أيًا كان أو أذى وشرور وظلم، ولهذا كان من الطبيعي أن يأتي كل هؤلاء الكثيرين للمشاركة في مشهد الوداع الأخير، جاء المسلمون الصائمون من مختلف الولايات الأمريكية ومن خارج أمريكا أيضًا، وحتى المسلمين الذين لم يعتادوا الصيام صاموا هذا اليوم احترامًا لدعوة كلاي بضرورة صيام رمضان، وكان كلاي يرفض الإفطار حتى وهو يخوض منافساته الشرسة على لقب بطل العالم للملاكمة، ومع المسلمين جاء أصحاب كل الديانات الأخرى لوداع رجل رفض أن يتحول الدين لدعوة للكراهية والعنف، وجاء كثيرون تقدمهم الرئيس السابق “كلينتون”، ونجوم فن ومجتمع ورياضة، وأمام القبر وقف “فاليري جاريت” مستشار الرئيس أوباما يلقى كلمة كتبها أوباما قال فيها: “إن كلاي لم يكن مجرد مسلم أو رجل أسود، إنما كان عظيمًا في كل شيء”.

وحين تعرضت تركيا وسوريا لزلزال مدمر في العام الماضي، كانت تركيا وحدها هي مثار اهتمام حكومات الغرب وإعلامها السياسي، ووسط ذلك كله أعلن “توماس باخ” رئيس اللجنة الأوليمبية الدولية تضامن اللجنة واستعدادها الفوري لتقديم الدعم بكافة أشكاله لكل ضحايا الزلزال، والأهم كان إصرار توماس باخ على الحديث عن تركيا وسوريا أيضًا بنفس التضامن والتعاطف. وفي نفس الوقت، أعلن “جياني إينفانتينو” رئيس الفيفا- بالنيابة عن كل أسرة كرة القدم في العالم- التضامن مع كل ضحايا الزلزال في تركيا وسوريا، وتكرر هذا التضامن من أندية أوروبا مع تركيا وسوريا بنفس القدر من الاهتمام والمواساة، كأن الرياضة قررت دون قصد تعليم السياسيين والإعلاميين في بلدان الغرب ومناطق أخرى في العالم أنه أمام المآسي والكوارث فلا فرق بين إنسان وآخر، والإنسانية في مثل هذه الأوقات لا تعرف فوارق الهوية والجنسية واللغة والدين وأي مواقف أو أحكام مسبقة، وقتها يبقى الإنسان في أزمته ومحنته فقط إنسانًا يحتاج للمساندة والدعم دون حدود أو شروط وأي حسابات أخرى. وكان أول زلزال يرتبط بكرة القدم هو نفسه الزلزال الأكبر والأطول في التاريخ حتى الآن بقوة 9,5 ريختر لمدة عشر دقائق الذي شهدته شيلي في 22 مايو 1960، وبسبب هذا الزلزال قتل ما بين ثلاثة إلى ستة آلاف شخص مع أعداد هائلة من الجرحى والمصابين، وانهار 58 ألف بيت وأصبح ما يزيد عن مليوني شخص بلا مأوى، ومن بين الخسائر أيضًا كانت إستادات خمس مدن لم تعد صالحة للعب، ولم تعد شيلي تملك إلا ثلاثة إستادات فقط صالحة لاستضافة كأس العالم، ولم يكن هناك مال بعد كارثة الزلزال يكفي لإعادة بناء وإصلاح الإستادات التي تم تدميرها، بل ذهب “كارلوس ديتبورن” كرئيس للجنة المنظمة للمونديال لرئيس الجمهورية “خورخي أليساندري” يقترح عليه أن تعتذر شيلي للفيفا والعالم عن عدم استضافة مونديال 1962، وأن تعيد اللجنة المنظمة للحكومة المال الذي تم تخصيصه مسبقًا لاستضافة المونديال؛ نظرًا لما جرى في البلاد بعد الزلزال، ورفض رئيس الجمهورية هذا الاقتراح طالبًا من ديتبورن مواصلة الاستعداد، وأكد له أن المونديال أصبح الآن بالنسبة لشيلي وأهلها أكبر وأهم من مجرد بطولة كروية، وبمجرد أن أعلن ديتبورن تمسك بلاده باستضافة المونديال بعد عامين، عاشت كرة القدم واحدة من أجمل وأرق قصص الحب والتعاطف في تاريخها التي علمتها للعالم كله؛ تنازل الفيفا عن كثير من شروط ومطالب الاستضافة، وقدم مجانًا كل الاستعدادات الفنية والمال أيضًا، دول كثيرة قررت تقديم تبرعات مالية لاتحاد الكرة في شيلي، تضامن الجميع مع شيلي حتى الدول التي خاضت ضدها سباق استضافة هذا المونديال، قرر عالم كرة القدم أن هذا المونديال لم يعد يخص شيلي إنما هو مونديال العالم الذي احتاج لكرة القدم؛ ليؤكد أنه لا يزال يحتفظ بإنسانيته.

وفي سوريا وتيمور الشرقية، أعطت كرة القدم للعالم دروسًا في الأسلوب الأفضل للتعامل مع الأطفال وقت الحرب والصراعات ومشاعر الخوف والحزن؛ فقد كانت “أنجيلا كيرني” النيوزيلندية مديرة لمكتب اليونيسيف في سوريا، وعلمتها تجاربها الكثيرة أن اللعبة التي يستمتع بها العالم وأحيانًا يحيلها البعض دعوة للفتنة والتعصب والكراهية_ تصبح في أماكن وأوقات أخرى فرحة حقيقية لصغار ينسون بها ومعها مؤقتًا كل ما عاشوه من خوف وحزن وألم، وكان صغار كثيرون في سوريا يدفعون ثمن التوتر والاضطرابات وفقدوا بيوتًا وأهل وأمان وابتسامة، فقررت أنجيلا أن تمنح هؤلاء الصغار فرصة وحق اللعب، وبدأ الصغار يلعبون وينسون ويهربون مؤقتًا من واقعهم الحزين القاسي، وكانت تجربة رائعة سواء للصغار الذين استمتعوا باللعب أو لمنظمات كثيرة استفادت من اهتمام دولي بهذا المونديال، فجاءت تبرعات جديدة لهؤلاء الصغار وغيرهم؛ اقتناعًا بحقهم في حياة أفضل وأكثر إنسانية، وهكذا نجحت كرة القدم ومنحت الفرحة لمن كانوا يحتاجون إليها كلعبة للحب حتى إن أرادها البعض دعوة للحرب. وفي تيمور الشرقية بعد استقلالها في 2002 عن إندونيسيا، كانت الأوضاع كلها تدعو للحزن والخوف، فجاء “كيم شين هون” من كوريا الجنوبية ورأى بنفسه الأطفال وكيف يعيشون ولا يملكون أي شيء لدرجة أنهم طول الوقت حفاة لا تملك عائلاتهم مالًا يكفي لشراء حتى أحذية قديمة مستعملة، وقرر كيم أن يبدأ من الصفر مع أطفال لا يملكون أحذية في دولة لديها جروح وأزمات لم تسمح لها بعد بالوقوع في حب كرة القدم، وبالفعل بدأ كيم يجمع هؤلاء الصغار ويجلس معهم ويشتري لهم أحذية ويعلمهم قواعد كرة القدم، وبعد نجاحه المبدئي، فوجئ كيم بالكولونيل “تشوي” قائد قوات حفظ السلام في تيمور الشرقية يأخذه ليقابل الرئيس “جوسماو” أول رئيس لتيمور الشرقية بعد الاستقلال، وطلب الرئيس من كيم تشكيل أول منتخب كروي من هؤلاء الصغار يلعب باسم تيمور الشرقية، وتأسس المنتخب وبعد ثلاث سنوات كانت المفاجأة، فاز هؤلاء الصغار على منتخبات كبرى مثل: (كوريا الجنوبية، واليابان)، وتحققت نبوءة الكولونيل حين قال لكيم: “إن هؤلاء الصغار يحتاجون لمن يعلمهم كيف يحلمون، وأن كرة القدم ستمنحهم الفرحة التي يحتاجون إليها في حياتهم الصعبة والقاسية”. وكانت حكاية كروية استثنائية للغاية وجميلة أيضًا واستحقت أن تكون موضوعًا لفيلم سينمائي أنتجته كوريا الجنوبية واليابان في 2010 بعنوان حلم القدم الحافية، وبعد عرض الفيلم سارع عدد من رجال الأعمال في كوريا الجنوبية وقدموا أموالًا كثيرة لهؤلاء الصغار ولكرة القدم في بلد لم تعرف الفرحة لأول مرة إلا في ملاعب كرة القدم.

وأحيانًا تصبح الرياضة الوسيلة الأقوى لمقاومة التطرف والإرهاب، وحين عاش الصومال منذ 1991 أوقاتًا بالغة القسوة والاضطراب: حروب أهلية، وصراعات مسلحة، وسلاح إثيوبي، وآخر أمريكي، ومطامع إقليمية ودولية_ دفع ثمنها أهل الصومال خوفًا وعذابًا وموتًا واغترابًا، ولم تكن كرة القدم بعيدة عن كل ذلك، وقامت حركة الشباب الأهلية المتطرفة بتحريم لعب الكرة أو الفرجة عليها، وكان الموت هو العقاب الفوري لكل من يتم ضبطه متلبسًا باللعب أو حتى الفرجة عبر التليفزيون، وبعد أن بدأ الصوماليون المقاومة، ظلت حركة الشباب تقوم بغرس القنابل في أي تجمعات كروية، وسقط بسببها ضحايا كثيرون منهم رئيس اتحاد الكرة الصومالي الذي كان أحد ضحايا قنبلة انفجرت في 2012، وسقط 120 قتيلًا في تفجير آخر في 2022، وطيلة 30 سنة ظل إستاد مقديشيو رمزًا ومكانًا للصراع بين الحياة ممثلة في كرة القدم ومن يكرهون كرة القدم لأنهم يكرهون الحياة، وتحول هذا الإستاد معظم الوقت لساحة تعذيب وإعدام وسالت فيه دماء كثيرة حتى كاد الصوماليون أنفسهم ينسون أنه أصلًا ملعب لكرة القدم. وبعد انتصار الصوماليين على أعداء الحياة وبدأوا يبحثون من جديد عن حياة ووطن، كان من الضروري رمزيًّا إعادة بناء وترميم هذا الإستاد بالتحديد لتأكيد انتصارهم، ثم تقرر إقامة دورة أو بطولة استثنائية شاركت فيها فرق تمثل أربع مقاطعات صومالية (جوبالاند، وجالمودوج، وهيرشابيل، وبانادير)، وكان أجمل ما في هذه البطولة هو آلاف الرجال والنساء الذين أصروا على الذهاب لإستاد مقديشيو ليس للفرجة على كرة القدم ومبارياتها إنما لإعلان رفضهم لأي تطرف وخوف واستسلام، ذهبوا رغم تهديدات حركة الشباب بتفجير الإستاد وكادت تنجح في ذلك قبل بدء مباراة قبل النهائي لولا انفجار الحزام الناسف الذي كان يرتديه الإرهابي قرب مدخل الإستاد، ورغم ذلك لم يخف الناس وامتلأ بهم الإستاد تأكيدًا على أن كرة القدم عادت بالفعل إلى الصومال وعودتها تعني عودة الحياة للصومال، البلد الجميل الذي لا يزال يحلم ويستحق الحياة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى