بحلول الثامن من ديسمبر 2024، شهدت سوريا تغيرًا جذريًّا بإسقاط نظام حكم الرئيس السابق “بشار الأسد”؛ حيث نجحت قوات “هيئة تحرير الشام” المكونة بالأساس من “جبهة النصرة” سابقًا ومجموعات مسلحة أخرى، في السيطرة على العاصمة السورية والمحافظات الرئيسة ومن ثم تولي السلطة السياسية والحكم، فيما بات يعرف بمرحلة “سوريا الجديدة”.
ولما كانت السلطة الجديدة في سوريا حديثة العهد بالحكم وإدارة الدولة، كما كان لعهد بشار الأسد بصمات ثقيلة على الواقع السوري وعلى حضور وعلاقات سوريا مع محيطها العربي، فإن المعطيات الأولية لواقع “سوريا الجديدة” تؤكد وجود مجموعة مهام وواجبات على الدول العربية (فرادى وجماعيًّا) تجاه مساعدة الشعب السوري في الوصول إلى الاستقرار والأمن والتنمية.
وعلى التوازي مع الاستحقاقات السورية عربيًّا، توجد أيضًا استحقاقات عربية تجاه “سوريا الجديدة”، أيًّا كانت السلطة الحاكمة هناك. وفضلًا عن ضرورة الوفاء بتلك الاستحقاقات من جانب السلطة الجديدة، إذ تتركز خبرتها العملية بالأساس في المعارضة والعمل الميداني (الذي كانت تصفه بالجهاد) ضد نظام الحكم السابق_ فإن بعض جوانب تلك الحقوق العربية لدى دمشق، ليست مستحدثة أو وليدة المشهد السوري الجديد، وإنما برزت أهميتها عمليًّا ومخاطر غيابها، خلال مرحلة التخلي السوري عنها، في عهد النظام السوري السابق.
أولًا: واجبات وأدوار عربية.
استعادة الدولة المركزية:
عانت الدولة السورية في الأعوام الماضية، من بعد 2011 خصوصًا، من أزمات هيكلية حادة؛ حيث تعرضت مقومات الدولة الأساسية إلى إنهاك مستمر على وقع ضربات متتالية ومتنوعة لمكوناتها الجوهرية. وبعد أن عجزت السلطة السورية السابقة سواء بأجهزتها السياسية أو بقواتها المسلحة عن السيطرة على كامل الأراضي السورية لبضع سنوات، ثم سقوط هذه السلطة في الثامن من ديسمبر 2024، باتت استعادة وبسط سيادة الدولة السورية على أراضيها فرضًا عاجلًا وخطوة مبدئية نحو إعادة بناء سوريا واستعادة دولتها.
وهو متطلب مهم في لحظة تاريخية فارقة؛ حيث انحسر الدور الإيراني في سوريا وفي غيرها من دول الإقليم، كما تتطلع دول المنطقة وكثير من دول العالم إلى سوريا الجديدة وتوجهاتها، الأمر الذي سيجعل اتجاه السلطة الجديدة في سوريا إلى إحكام السيطرة وفرض السيادة وإحياء كيان الدولة المركزية، يحظى بدعم وربما مساعدة من الدول الحريصة على تقوية روابطها التعاونية مع سوريا الجديدة، شريطة التزام السلطة الجديدة بدولة مدنية إن لم يكن في جوهر وفلسفة نظام الحكم، فعلى الأقل في المظهر ومؤسسات الحكم وآليات العمل السياسي، كما هو حال دول كثيرة عربية وغير عربية.
ولا شك في أن ثمة واجبات عربية تجاه استعادة قدرات وإمكانات وسيادة الدولة المركزية السورية، وتشمل هذه الواجبات بشكل عملي، تقديم مالي وعيني إلى السلطة في سوريا، حتى تتمكن من إدارة الدولة وتلبية الاحتياجات المعيشية للمواطنين السوريين، كما يجب أن يمتد ذلك الدعم إلى النطاق المعلوماتي والاستخباراتي بصفة خاصة، خصوصًا في ظل وجود جيوب لا تزال غير خاضعة للسلطة المركزية السورية. وسيكون لهذا النوع من الدعم أهمية كبرى ومردود جوهري في توثيق علاقات دمشق حاضرًا ومستقبلًا مع الدول الداعمة، أيًّا كانت.
وعلى المستوى الإجرائي، يمكن للدول العربية تقديم مساعدات كبيرة وفعالة، للمضي قدمًا في المرحلة الانتقالية بسوريا، بواسطة خبراء ومتخصصين في المجالات السياسية كالمراحل والجوانب الدستورية والتشريعية، وكذلك في تنظيم الاستحقاقات التشاركية كالانتخابات والاستفتاءات.
الملازمة والدمج عربيًّا:
يشهد التاريخ القريب، أن التعاطي العربي مع حالات العزلة أو الانسلاخ التي تقوم بها أو تضطر إليها بعض الدول العربية، قد يدفع أحيانًا إلى مزيد من التباعد وتوسيع الفجوة بين الدولة ومحيطها العربي، وبصفة خاصة على المستوى المؤسسي والتنظيمي الذي تجسده جامعة الدول العربية ومنظماتها، إضافة إلى تأثر العلاقات الثنائية بوجهيها (الرسمي، الشعبي). ومن الأمثلة البارزة في هذا الصدد: الموقف العربي تجاه مصر وتعليق عضويتها في الجامعة العربية ونقل مقر الجامعة من القاهرة، على خلفية اتجاه مصر إلى السلام مع إسرائيل. ثم التعامل مع العراق بعد الاحتلال الأمريكي البريطاني والنقلة التي أحدثها الدستور المستحدث في ظل الاحتلال (أعدته لجنة شكلها الحاكم العسكري الأمريكي بول بريمر) في طبيعة وهيكل النظام السياسي العراقي. ثم أخيرًا تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية على خلفية الثورة الشعبية هناك عام 2011.
ورغم تفهم الاعتبارات والعوامل التي تقف وراء هذا التحرك العربي الإقصائي، إلا أن الثابت والمشترك بين هذه الحالات، أن تحييد أو عزل الدولة عن محيطها العربي، لا يصب في صالح شعب هذه الدولة أو تلك، ولا في الصالح العربي العام، أي في النهاية لا تتحقق الأهداف المرجوة عربيًّا من هكذا خطوة عقابية. والشاهد على ذلك، أن تصحيح ذلك الإجراء والمبادرة إلى تجسير تلك الفجوة تأتي كل مرة من الجانب العربي، بخطوات فردية من جانب كل دولة على حدة، ثم في الإطار الجماعي متمثلًا في جامعة الدول العربية.
ومن ثم، على الدول العربية (فرادى وجماعة) التعاطي مع التحول السوري، من منطلق الاحتواء والدمج وليس بوازع من الرفض المسبق أو التوجس المبدئي، خاصة أن الدولة السورية بحاجة إلى المساندة والدعم في مرحلة التعافي والتخلص من ارتباطات قوية تعود إلى عقود من التعاون الوثيق مع أطراف غير عربية، وتحديدًا إيران إقليميًّا وروسيا عالميًّا؛ إذ لا تزال روسيا تحاول الاحتفاظ ولو بحد أدنى من الحضور في سوريا، وتستكشف إمكانية التفاهم مع السلطة الجديدة في سوريا حول مستقبل الوجود العسكري الروسي.
أما إيران، فقد فقدت قدرًا كبيرًا من النفوذ الواسع الذي تمتعت به في ظل نظام بشار الأسد. ورغم مساعي طهران الحثيثة في الأعوام الأخيرة إلى تكريس هيمنتها على مفاصل الحياة المجتمعية في بعض المناطق السورية، إلا أن التغير الجذري الذي شهدته سوريا في الثامن من ديسمبر الماضي، جعل الحضور الإيراني في سوريا الجديدة غير مرغوب فيه، أيًّا كانت حدوده وطبيعته، وخصوصًا أن البيئة الداخلية في سوريا وتركيبتها الثقافية لم تكن مرحبةً تمامًا بالتحركات الإيرانية في نسيج المجتمعات المحلية السورية.
في المقابل، ثمة مؤشرات إلى أن تركيا قادمة بقوة إلى سوريا الجديدة، ما يفتح الباب أمام احتمالات حلول أنقرة محل طهران في الساحة السورية، وأيًّا ما كانت الأهداف والحسابات التركية من توثيق العلاقات وتوسيع دائرة النفوذ والتأثير داخل سوريا الجديدة، وبغض النظر عن المقارنة بين طهران وأنقرة وتباين مساحة التوافق أو الاختلاف عربيًّا مع كل منهما، المهم أن على الدول العربية عدم تكرار التخلي عن سوريا وملء ما يمكن توصيفه بفراغ حالي في منظومة العلاقات الخارجية السورية، تحت نظام جديد لا يزال موضع ترقب بل وتوجس إقليمي وعالمي، وهو ما يمنح الدول العربية فرصة كبيرة للتواجد وتوثيق العلاقة مع النظام الجديد بما يضمن من ناحية ربط دمشق بنطاقها الحيوي الطبيعي (المحيط العربي)، ويحُول في الوقت ذاته دون استقطاب ذلك النظام الجديد أو جذبه إلى تحالفات ربما تتعارض مع مقتضيات المصالح العربية بمفهومها الجماعي.
في المحصلة، يمثل المشهد السوري من زاوية العلاقات والروابط الخارجية، فرصة وتحديًا في آنٍ واحد للدول العربية، فرصة ملء الفراغ واستعادة الارتباط العضوي السوري بنطاقه الطبيعي العربي، وتحدي سد الثغرات السابقة واستباق أي تحالفات جديدة محتملة مع دوائر غير عربية.
مداخل واقترابات:
يمكن اعتبار الفتور أو الابتعاد السوري عن الإطار العربي مرحلة استثنائية من النمط الأصلي لعلاقات سوريا وتفاعلها مع محيطها العربي، وبالتالي يُفترض أن تكون استعادة ذلك النمط الأصلي يسيرة، في ظل وجود المقومات الأساسية والقواسم المشتركة التي تشكل الرابط العضوي لأي دولة عربية ومحيطها العربي. ومن ثم، فإن المداخل متاحة والاقترابات قابلة للتفعيل مع توافر الإرادة والقرار من الجانبين (العربي، السوري).
وأهم هذه المداخل والاقترابات، هو المدخل القاعدي أو الشعبي، الذي لا يقتصر بالضرورة على المفهوم غير الرسمي للاقتراب؛ حيث القنوات والأطر والمجالات غير السياسية بالأساس، ويتضمن هذا المسار رفع وتيرة العلاقات الاقتصادية وبصفة خاصة مع القطاع الخاص؛ حيث يمثل المسار الاقتصادي على وجه التحديد أهمية كبيرة في ضوء حاجة سوريا الماسة إلى استثمارات كبيرة لإعادة الإعمار وإقامة بنية تحتية حديثة وتوفير الخدمات الأساسية.
وتعد الصحة والتعليم ورفع القدرات والتنمية البشرية، أبرز المجالات التي يمكن للقطاع الخاص وللشركات ومؤسسات المجتمع المدني المساهمة من خلالها في إعادة بناء سوريا الجديدة.
وتجدر هنا ملاحظة أن تلك المجالات هي الأكثر فعالية وجدوى في تأسيس روابط شعبية واجتماعية قوية ومستدامة، خصوصًا مع تبني نهج شمولي ومتنوع لنطاقات وتطبيقات التعليم والتنمية البشرية؛ لتتضمن مختلف أوجه الارتقاء بالقدرات البشرية والمهارات اللازمة لبناء الكوادر البشرية في شتى مجالات العمل. وكما يمثل الاهتمام بمجال التعليم وتنمية القدرات في الداخل السوري أهمية بالغة وسيكون له تأثير إيجابي قوي على تقوية الوشائج والترابط السوري العربي على المستوى الشعبي، من المهم أيضًا اختصاص سوريا بعدد مناسب من المنح والبعثات التعليمية التي تقدمها بعض الدول العربية، خصوصًا تلك التي وجهت اهتمامها في الأعوام الأخيرة إلى التعليم الجامعي وأنشأت فروعًا محلية لعدد من الجامعات العالمية، فإشراك وتعزيز استفادة أعداد من الطلاب السوريين بتلك الطفرة التعليمية، سيكون له أثر كبير وممتد المفعول في العلاقات السورية العربية على المديين (المتوسط، البعيد).
وحيث تتداخل في الأنشطة الاقتصادية، مسارات ومستويات العمل الرسمية وغير الرسمية، ويشكل الاقتصاد منظومة متكاملة تؤثر مكوناتها وتتأثر ببعضها، يمكن للدول العربية لعب أدوار متنوعة ومتكاملة في هذا الخصوص؛ حيث يحتاج الاقتصاد السوري إلى استثمارات مباشرة وتمويلات كبيرة لعمليات إعادة الإعمار، وهو دور يمكن للدول الغنية وذات الوفرة المالية الاضطلاع به، بينما لدى دول عربية أخرى الكفاءات البشرية والخبرات اللازمة لإدارة وتنفيذ تلك العملية التي ستستلزم بالضرورة وقتًا وجهدًا وتكاليف عالية.
وبشكل محدد، يمكن للدول العربية القيام بإجراءات عملية في مجال تيسير التجارة والاستثمارات، عبر فتح الأسواق العربية أمام المنتجات السورية ومنحها ميزات تفضيلية ولو مؤقتة؛ لتسهيل حركة التجارة. وفي داخل سوريا، تستطيع بعض الدول العربية المساهمة في النهوض بقطاع الصناعات الصغيرة والتحويلية السوري، سواء باستثمارات مباشرة في هذه القطاعات، أو بمنح وقروض ميسرة لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة. كما يمكن تطوير السياسات المالية، وخصوصًا في القطاع المصرفي، بالخبرات العربية على مستويي إعادة الهيكلة ورسم السياسات المالية والنقدية والمصرفية.
ضمن ذلك الاقتراب الشعبي أيضًا، مجالات الثقافة والفن والرياضة، والتي تجسد المستوى الناعم في العلاقات بين الدول، والذي تحفل الدول العربية جميعًا فيه برصيد وافٍ وتاريخ ممتد من المشتركات والانسجام والتوافق على كافة المستويات، ولا يحتاج الأمر سوى إلى ترجمة هذه التوافقات وإحيائها بأنشطة وفعاليات تنفيذية، ومن أمثلة ذلك: إقامة لقاءات وتجمعات شبابية ثقافية مشتركة سورية – عربية، وإقامة مهرجانات فنية متنوعة في سوريا بمشاركة عربية واسعة، إضافة إلى تعزيز حضور واشتراك فنانين سوريين في الأنشطة الفنية العربية.
وحيث تشترك الشعوب العربية بطبيعتها في الاهتمام بالرياضة، وخصوصًا الألعاب الجماعية والجماهيرية، يجب تكثيف مشاركة سوريا في الفعاليات الرياضية العربية. إضافة إلى قيام الدول التي تملك بنية إنشائية وخبرات رياضية متقدمة، باستضافة معسكرات إعداد وتدريب ومعايشة للفرق الرياضية السورية في مختلف الألعاب.
مقابل المدخل القاعدي الشعبي، هناك المدخل الفوقي (السلطوي)، ومناطه العمل العربي مع السلطة الجديدة في سوريا على صياغة وتشكيل مؤسسات وأجهزة الدولة السورية وآليات عملها والأطر الحاكمة لها، بما يتضمنه ذلك من هياكل سياسية وإدارية والمؤسسات العامة في الدولة، والقوانين والتشريعات المنظمة لعمل تلك المؤسسات والعلاقات بين أجهزة الدولة والمجتمع بشكل عام.
وفي ظل التحول الجذري الذي طرأ على الواقع السوري بدءًا من 8 ديسمبر 2024، هناك ضرورة لمراجعة القواعد العامة المتبعة في إدارة الدولة وطبيعة نظام الحكم وغير ذلك من محددات العمل السياسي والإداري العام، وتزداد تلك الضرورة أهمية، في ظل حداثة عهد السلطة الجديدة في سوريا بالحكم المدني.
على سبيل المثال، لا بد من مراجعة وتحديث التشريعات المنظمة لإدارة الدولة والعلاقة بين السلطة المركزية في دمشق والمحليات، وترسيم حدود الصلاحيات والتوازن بين السلطات، سواء تم ذلك في إطار عام يميل جهة الفيدرالية ومنح المحافظات والمحليات صلاحيات واسعة، أو تقييد تلك الصلاحيات وربطها مركزيًّا. في كل الأحوال، يجب أن يترافق هذا التوجه، أيًّا كان مضمونه، مع عملية المصالحة الوطنية وتحقيق الوفاق الجمعي والتوازن الجهوي بين المحافظات والمكونات الاجتماعية للشعب السوري.
الدول العربية والمنظمات المتخصصة في جامعة الدول العربية (المنظمة العربية للتنمية الإدارية على سبيل المثال) لديها كثير من الخبرات ومستويات رفيعة من الكفاءات بإمكانها تولي تلك العمليات التأسيسية والتحديثية في المستويات الإدارية والتنفيذية بسوريا، بجميع المجالات والقطاعات.
ثمة مدخل ثالث لا يقل أهمية، يجمع بين المستويين (الفوقي، القاعدي) ألا وهو المتعلق بالمجالات العسكرية والأمنية، وعلى ما في ذلك المجال من جوانب حساسة وتتعلق بمصالح الدولة العليا، بما يفرض احتياطات ومحاذير كثيرة في التعاون بشأنها مع أي دولة أخرى_ إلا أن الأمر الواقع حاليًّا في سوريا يشير بوضوح إلى حاجة سوريا الماسة والعاجلة إلى الدعم والمساندة في مختلف أوجه ومكونات منظومتي الدفاع والأمن. في ضوء انهيار وتفكك القدرات العسكرية بما فيها من قوات وأسلحة ومنظومات قيادة وتوجيه وسيطرة، خاصة بعد استغلال إسرائيل الفراغ الذي خلفه هروب بشار الأسد وانهيار نظامه، وقيامها بتوجيه ضربات وعمليات استهداف للقدرات العسكرية السورية.
سادت سوريا في أواخر عهد بشار الأسد حالة احتقان واستقطاب، كان من مظاهرها أو بالأحرى تداعياتها، تسرب حالة تململ ودرجات من الشللية والطائفية بين عناصر الجيش وكذلك الأجهزة الأمنية. وفي ضوء استيلاء قوات “هيئة تحرير الشام” بتركيبتها وتوجهاتها المعروفة، تزداد أهمية إعادة الثقة والتماسك إلى القوات المسلحة السورية وقوات الأمن، خصوصًا على مستوى معايير الاختيار والتصعيد وتوزيع المناصب والتشكيلات العسكرية والأمنية. وبعبارة أكثر تحديدًا، التخلي عن الطائفية والزبائنية والفساد في تسيير الأمور داخل المنظومة العسكرية والأمنية برمتها، وعلى كافة المستويات العاملة والقيادية.
ولا شك أن تصفية الأجواء وتنقية بيئة العمل داخل المنظومات العسكرية والأمنية، تحتاج إلى الاستعانة بخبرات وكفاءات لا تتسم فقط بالحرفية والمهارة القيادية، لكن أيضًا تتميز بأن تكون بعيدة عن الاستقطاب ومن خارج دائرتي العسكريين التقليديين التابعين للنظام القديم بعقيدتهم العسكرية السابقة، وأيضًا خارج دائرة المجموعات المسلحة المعارضة التي ظلت لبضعة أعوام تقاتل ضد قوات النظام مدفوعة بمرجعية عقائدية مضادة.
والمدخل الملائم للاستعانة بطرف خارجي في هذا الإطار، هو إعادة الهيكلة وتحديث منظومات التدريب القتالي والعملياتي، وغير ذلك من جوانب مهمة لإعادة بناء القوات المسلحة. وهو دور مهم ومطلوب في هذه المرحلة الدقيقة من عملية إعادة بناء الدولة السورية، وتستطيع أكثر من دولة عربية القيام به بكفاءة عالية.
ويجب هنا الانتباه إلى أن التقاعس أو التأخير في المبادرة بخطوات مقترحة على السلطة السورية الجديدة في هذا الاتجاه، من شأنه إتاحة المجال أمام أطراف أخرى للقيام بهذا الدور وسد هذا الفراغ الكبير في قدرات وإمكانات سوريا الجديدة (العسكرية، الأمنية). وبعد أن كان نظام بشار الأسد يعتمد في هذا الخصوص على إيران وخبرائها العسكريين والأمنيين، فإن السلطة الجديدة في سوريا، بإمكانها الاستعانة بتركيا للاضطلاع بالدور ذاته والحلول محل إيران ولو بشكل مختلف. الأمر الذي يجعل من الضروري على الدول العربية المسارعة إلى التقدم بعروض واقتراحات تخطيطية وعملية؛ لتولي أو على الأقل المشاركة بجانب أساسي من هذه العملية المهمة والمفصلية في استعادة قوام ومقومات الدولة السورية.
ثانياً: مسؤوليات سوريا الجديدة.
مقابل الواجبات العربية تجاه سوريا، توجد مسؤوليات سورية يجب على السلطة الجديدة الوفاء بها، وهي ليست أحادية الهدف، بمعنى أنها ليست بالضرورة مسؤوليات نحو المحيط العربي وإنما هي مسؤوليات عامة ومتعددة الأهداف؛ إذ تشمل مسؤوليات مباشرة تجاه الشعب السوري بالأساس، مثل: بناء الدولة وإرساء الاستقرار وإعادة تنظيم القوات المسلحة واكتساب القدرات العسكرية اللازمة لمواجهة التحديات والتهديدات. وهي في الوقت ذاته مسؤوليات ومهام تصب في الإطار العربي المحيط بسوريا، ليس فقط من زاوية إفادة أو تدعيم الأمن العربي والعروبة سويا، لكن أيضًا من منظور التغذية المرتدة بين أمن واستقرار وقوة كل دولة عربية، وأمن واستقرار وقوة المنطقة العربية ككل.
التوافق الجمعي:
في بلد متعدد الطوائف مثل سوريا، كانت لحالة الانقسام الداخلي التي اجتاحت الدولة منذ عام 2011، تداعيات شديدة السلبية على العلاقات بين المكونات المجتمعية والقوى المحلية السورية، وقد ترسخ الانقسام الداخلي بسلسلة متوالية ومتشعبة من النزاعات المسلحة والمواجهات العسكرية، بين قوى متعددة ولاعبين محليين وخارجيين في الشأن السوري.
أما وقد دانت السيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي السورية، إلى سلطة جديدة قوامها الأساس مجموعات تابعة وموالية لهيئة تحرير الشام، فإن بسط السيطرة الميدانية على بقية الأراضي وبسط سيادة الدولة على كامل إقليمها، يحتاج إلى تحركات شاملة تتجاوز حدود القوة المسلحة؛ حيث الانقسامات والفجوات الحاصلة بين القوى والتكوينات الاجتماعية والسياسية السورية، بحاجة إلى تجسير الفجوات الفكرية والمبدئية فيما بين تلك القوى.
وكما هو حال أي دولة تسعى إلى التعافي من التفكك والفشل، يفترض أن تشهد الدولة السورية مرحلة انتقالية شاملة تتضمن مسارات متوازية تلتقي جميعًا في النهاية على هدف استعادة الدولة المركزية، بما يعنيه ذلك من متطلبات كثيرة، لعل أبرزها إعادة إحياء “التوافق الجمعي” بين مكونات المجتمع.
ونظرًا لما تركته الأعوام الخمسة عشر الماضية (2011 – 2025) من بصمات ثقيلة وإرث صراعي بين المكونات المجتمعية والوحدات المحلية، فضلًا عن محاولات تغيير التركيبة الديمغرافية لبعض المناطق السورية، فإن استعادة الوئام الاجتماعي والانسجام بين طوائف المجتمع يمثل استحقاقًا ضروريًّا وتحديًا جوهريًّا في الوقت ذاته.
“المصالحة الوطنية” هي العنوان الرئيس الذي يُجمِل كل مفردات ومتطلبات هذه المرحلة داخليًّا، وتحت هذا العنوان تندرج صفحات عدة، تشمل بصورة أساسية عملية “العدالة الانتقالية” لتصفية الخلافات ومساءلة المذنبين بحق المجتمع والدولة؛ وذلك تجنبًا لاستمرار حالة الغبن والاحتقان ضد المسؤولين والمنخرطين من النظام القديم عن مآسي ومعاناة غالبية المواطنين السوريين.
ومن متطلبات المصالحة، إجراء حوار وطني وجلسات “مصارحة” خصوصًا في المناطق ذات الإرث الخلافي والتصارعي بين القوى المجتمعية، وعلى السلطة السورية الجديدة الالتزام بتنظيم تلك الحوارات وضمان إجرائها بأمان وفي أجواء مشبعة بالحس الوطني.
إحياء الانتماء العربي:
لا شك في أن هوية كل شعب هي محدد لتوجهاته والبَوْصلة الأساسية لكيفية تعاطيه مع شعوب العالم الأخرى، وهو ما ينطبق أيضًا على نظم الحكم والحكومات التي تدير شؤون أي بلد. وهوية سوريا العربية ليست محل بحث ولا هي مدعاة لتساؤل أو بحاجة إلى تأكيد، ورغم تحول وتطور الملابسات والعوامل المؤثرة في السياسة السورية داخليًّا وخارجيًّا خلال العقود الماضية، إلا أن الهوية العربية لسوريا كانت دائمًا قائمة وحاضرة دون مساس أو انتقاص، بل إن خلال الفترة التي أعقبت اندلاع احتجاجات شعبية ضخمة ضد نظام حكم الرئيس السابق “بشار الأسد” والتي دعت جامعة الدول العربية إلى تعليق عضوية سوريا وتجميد مقعدها بالجامعة، لم تتخل الدولة السورية عن انتمائها العربي ولم تفكر دمشق في الانسلاخ عن الإطار العربي الجماعي، المتمثل مؤسسيًّا في الجامعة العربية.
في المرحلة الراهنة، وعلى وقع التغيرات الداخلية التي شهدتها سوريا وتولي الحكم حزمة فصائل عسكرية/ سياسية ذات طبيعة أيديولوجية وفكرية معروفة ومعلنة إذ طالما رفعت شعارات ومبادئ (إسلامية)، فإن إعادة تأكيد هوية سوريا العربية تمثل استحقاقًا سياسيًّا وحضاريًّا على نخبة الحكم الجديد في سوريا الوفاء به.
ولا ينبغي أن يتقاطع الولاء للعقيدة أو الأيديولوجية الدينية أو يتعارض مع مقتضيات الهوية العربية المميزة للشعوب العربية كافة، أيًّا كانت توجهاتها الفكرية أو قناعاتها العقائدية.
وقد بدا واضحًا حرص أركان السلطة الجديدة في سوريا، وفي مقدمهم الرئيس المؤقت “أحمد الشرع”، على تأكيد الطابع المدني، خصوصًا في الخطاب والمظهر الرمزي. ومن المهم أن ينعكس هذا الحرص في القرارات الفعلية لإدارة الدولة وإعادة بناء مؤسساتها.
ومن المؤشرات الإيجابية في هذا الخصوص، تداول تصريحات رسمية من المسؤولين السوريين، عن إعادة بناء الجيش السوري على أساس غير طائفي، وحصر السلاح في القوات المسلحة النظامية.
ولعل الخطاب الانفتاحي الخارجي الذي حرصت السلطة الجديدة في سوريا على تبنيه، وأكدته تصريحات رسمية متواترة، خصوصًا من جانب الرئيس السوري المؤقت “أحمد الشرع” _يعكس السعي إلى تنقية أجواء العلاقات السورية الخارجية بشكل عام. ومن ثم فإن الدائرة العربية وهي البيئة الإقليمية المباشرة المحيطة بدمشق، جديرة بترجمة هذا الخطاب الإيجابي إلى مواقف عملية وخطوات تجسد عروبة سوريا وتعيد تأكيدها.
سد الثغرات:
توجد مسؤولية أساسية على السلطة الجديدة في سوريا، تتمثل بشكل عام في تلافي أخطاء النظام السابق، ومن أبرزها -على وجه الخصوص- سد الأبواب والثغرات أمام الأطراف الخارجية لاختراق الداخل السوري، ورغم أن الأراضي السورية حاليًّا لا تزال غير خاضعة بالكامل للسلطة الجديدة، إلا أن المقصود تحديدًا بالاختراق الذي كان قائمًا ليس فقط السيادة الميدانية على الأرض وإنما بالأساس السيادة السياسية على القرار. وبشكل واضح، على السلطة السورية الجديدة التي كانت تتهم نظام بشار الأسد بالارتماء في أحضان إيران وروسيا، عدم ارتكاب الخطيئة ذاتها بموالاة تركيا أو غيرها من الدول.
إن في استقواء سوريا الجديدة بمحيطها العربي مدعاة ومصدرًا للحصانة أو المناعة ضد أي نفوذ خارجي غير عربي بصفة خاصة، ولعل في خذلان إيران لبشار الأسد توازيًا مع الانكسار السريع لمنظومتها الإقليمية الموالية في الأشهر الماضية، درسًا يُتعَظ في ضرورة الاختيار الجيد للحلفاء والأصدقاء “الاعتماديين”، وما أكثرهم في المنطقة العربية، شعوبًا ودولًا.
ختامًا، تستطيع الدول العربية (ويجب عليها) لعب دور محوري في إعادة استقرار سوريا وإعادة دمجها في الإطار العربي من خلال إجراءات محددة تشمل مختلف القطاعات. ولا شك أن الاضطلاع العربي بهذه المهام والأدوار يسهم مباشرة في تعزيز الاستقرار وضمان استتباب الأمن بسوريا، ما يعني بدوره تقليص فرص التطرف والحد من احتمالات وجود وانتشار المجموعات المسلحة بما يصحبها من مخاطر العنف السياسي.
على أن نقطة البداية في هذا الاتجاه، تبدأ من دمشق وليس من العواصم العربية أو جامعة الدول العربية، خاصة فيما يتعلق بلملمة الشتات السوري الحاصل على المستوى التنظيمي والميداني، فليس سرًا أن المجموعات المسلحة والتنظيمات المنتشرة في أنحاء الأراضي السورية، لا تزال العلاقة فيما بينها مشوبة بتباينات وفجوات، بعضها فكري / عقائدي، وبعضها الآخر نتاج روابط وعلاقات مع أطراف خارجية لكل منها مصالح وحسابات تنعكس على مواقف وسلوكيات تلك التنظيمات الموالية.
وبالتالي فإن الدفع عمليًّا نحو الاستقرار الداخلي والهدوء السياسي والميداني في سوريا، يتطلب إرادة سياسية مشتركة بين الدول العربية وسوريا.
وبالتوازي مع تلك الخطوات الأساسية والضرورية لاستعادة الدولة السورية، بنية وبنيانًا، ثمة خطوات أخرى في مجالات مجتمعية مهمة، تتضمن تفعيل مسارات التفاعل في المجالات الثقافية والفنية والرياضية، واستحداث فعاليات مشتركة سواء ثنائية أو على المستوى العربي الجماعي. ومن الضروري التعجيل بالعمل على هذه المسارات، لبث الدفء مجددًا في شرايين العلاقات غير الرسمية بين دمشق وبقية العواصم العربية، ليتشكل بموجبها ظهيرًا شعبيًّا حاضنًا للعلاقات الرسمية وداعمًا لها.
في المقابل، تتحمل السلطة الجديدة في سوريا جانبًا أساسيًّا من مسؤولية إعادة دمج وانخراط سوريا عربيًّا، بالتوازي مع مسؤولية بناء الدولة وإرساء الاستقرار واستعادة مقومات وقدرات الدولة المركزية.
حيث يجب أن تنظر تلك السلطة إلى الدائرة العربية كحاضنة طبيعية لسوريا الجديدة. ومن ثم فإن أولوية بناء الدولة السورية واستنهاضها اقتصاديًّا وعسكريًّا، يجب أن يكون مصحوبًا باستحضار إطار عربي داعم لسوريا، فالاستقواء السوري بالمحيط العربي لا يصب فقط في الصالح العربي الجماعي، وإنما هو بالأساس مصلحة سورية مباشرة وحيوية، طالما أثبتها التاريخ مع كل الدول العربية، وها هو الماضي القريب يؤكدها ويزيدها وضوحًا وأهمية، سوريًّا وعربيًّا.