شهدت الفترة الحالية على مستويات عديدة مناقشات بشأن جدوى منظمات الأمن الجماعي وقدرتها على الاضطلاع بأدوار تستجيب للتحديات الأمنية والتهديدات المتصاعدة المرتبطة بسياسات العديد من الدول، ويأتي ذلك في وقت يشهد فيه الشرق الأوسط أطروحات متعددة لإعادة تشكيل وصوغ أنماط التفاعلات الإقليمية عبر صيغ مبتكرة لتأسيس مبادرات لا تسعى إلى تشكيل منظمة أمنية إقليمية بقدر ما تستهدف تحقيق الأدوار المنوطة بهذه المنظمات، وربما تبدو أدوار بعض الدول العربية واضحة في هذا الإطار، فيما يتعلق بتسوية النزاعات العربية أو الأفريقية،([1]) حيث ارتبط ذلك بسياسات الدول العربية لمواجهة التهديدات الإيرانية والتركية، وذلك في ظل موجة تهديدات غير مسبوقة يجابهها الأمن القومي العربي.([2])
فقد أفرزت إحدى التحركات العربية خلال اجتماع وزراء خارجية مصر والسعودية والسودان وجيبوتي واليمن والصومال والأردن بالرياض في 22 ديسمبر 2018، الإعلان عن تأسيس كيان يضم الدول العربية والأفريقية المتشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن، للسعي لإيجاد صيغ تضبط التفاعلات الأمنية في البحر الأحمر، في إطار استراتيجية عامة تستهدف إيجاد ترتيبات تحفظ استقرار وأمن الشرق الأوسط (MENA)، من خلال رؤية استراتيجية تجمع الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، لأن هذه المنطقة تعتبر من الأهداف المفضلة لدى القوى الإقليمية والدولية التي تتحرك في المنطقة وفق أجندة عسكرية وأخرى اقتصادية.
ولا تعتبر هنا الحاجة الملحة للإعلان عن إنشاء هذه المنظومة الأمنية العربية ليس فقط من منطلق الأهمية الجيوسياسية والجيواستراتيجية للبحر الأحمر, وإنما تكاملاً مع طبيعة التحديات والتهديدات التي فرضتها بيئة الأزمات التي تعيشها المنطقة العربية والعديد من دولها, على نحو جعل من منطقة البحر الأحمر تمثل أحد المساحات الضاغطة على الأمن القومي العربي التي تدفع بالأزمات العربية نحو مزيد من التصعيد, عبر استدعاء الدور الخارجي الذي تمارسه العديد من الأطراف الإقليمية والدولية عبر قواعدها العسكرية المنتشرة على طول سواحل البحر الأحمر بشكل غابت معه المصلحة العربية, وساهم في فرض درجة من التعقيد على بيئة الصراع التي تشهدها الوحدات العربية.
إلا أنه بالنظر إلى حالة الفشل التي باءت بها جميع المبادرات التي تم اتخاذها في الماضي, إلى جانب عدم وضوح المسارات المستقبلية للمبادرة المطروحة حاليًا, تثور بعض التساؤلات حول متطلبات اللحظة الراهنة من حيث تحديد طبيعة وشكل المنظومة المقترحة والعناصر المكونة لها, وتحديد طبيعة التحديات التي تعرقل تطويرها إلى إطار مؤسسي ينظم حركة الدول الفاعلة داخل نطاق منطقة البحر الأحمر, هذا بالإضافة إلى توضيح فرص التعاون التي قد توفرها هذه الأطر المقترحة وتضمن لها الفاعلية والاستدامة المطلوبة، وهو ما تحاول هذه الدراسة الإجابة عليه عبر فك مساحات الاشتباك التي تفرضها مثل هذه الأطروحات.
أولاً: أهداف إنشاء التحالف العربي للبحر الأحمر وخليج عدن
تعود قضية أمن البحر الأحمر إلى أولويات أجندة عمل العديد من القوى الدولية والإقليمية، وفي المرحلة الراهنة تشهد المنطقة العديد من التحديات في المدخل الجنوبي، باستمرار الصراع في اليمن، أو بتغير شكل العلاقات بين دول القرن الإفريقي، خاصةً مع التوجه الجديد الذي تتبعه إثيوبيا، كذلك فإن المنطقة شمال البحر الأحمر ليست أقل ارتباكًا، فما زال الصراع في سوريا يشهد تطورات حادة وتغيرًا في خريطة التحالفات داخلها، وما تشهده القضية الفلسطينية –الإسرائيلية من تطورات، تؤكد جميعها أن هناك تحولات مهمة في المنطقة، وفي أبسط التقديرات فهناك استراتيجيات جديدة لإعادة ترتيب التوازنات وخريطة القوى في هذه المنطقة الإقليمية المهمة.
لذلك شكل اجتماع القاهرة في 12 ديسمبر 2017 بمشاركة عدد من الدول العربية والإفريقية المتشاطئة للبحر الأحمر, اللبنة الأولى نحو بلورة رؤية عربية لمنظومة أمن البحر الأحمر وخليج عدن، لتأخذ في الاعتبار المصالح العربية وتنطلق من اعتبارات الأمن القومي العربي، حيث جاءت المبادرة المصرية بالدعوة لتطوير منظومة جديدة لأمن البحر الأحمر تأسيسًا على أرضيات التعاون المشتركة التي قد توفرها أطر التعاون الاقتصادي فيما بين الدول المتشاطئة, على نحو يؤدي إلى إجراء حوار كاشف حيال الأوضاع السياسية في إقليم البحر الأحمر ومحيطه, وهو ما يسهم بدوره في بلورة صيغة للتنسيق المشترك الفاعل لمواجهة التحديات الأمنية في المنطقة على غرار ظاهرة الإرهاب, والهجرة غير الشرعية, والاتجار في البشر, وعمليات التهريب, والجريمة العابرة للحدود, وعمليات القرصنة.([3])
تبع ذلك اجتماع آخر لوزراء خارجية السعودية ومصر والسودان وجيبوتي واليمن والصومال والأردن، بالرياض في 22 ديسمبر 2018 الذي تم الإعلان من خلاله عن تشكيل تحالف يضم الدول العربية والأفريقية المتشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن يستهدف التنسيق والتعاون بينها، كما تتنوع دوافع تأسيسه ما بين كونه منصة دائمة للتشاور بين الدول الأعضاء من أجل إيجاد فهم مشترك للتحديات الأمنية التي تزعزع استقرار البحر الأحمر، ومحاولة علاج التوترات بين الدول المتاخمة له وهو ما تجلى خلال سبتمبر 2018 في استضافة مدينة جدة لاتفاق سلام إثيوبي – إرتيري، لكن التحالف يضع على رأس أولوياته تقويض النفوذ والتأثير الإيراني والتركي على أمن البحر الأحمر وحماية أمن المجرى الملاحي الدولي لاسيما مع سيطرة جماعة الحوثي الموالية لإيران على ميناء الحديدة وتعطيلها لحركة الملاحة وتصدير النفط بمضيق باب المندب.([4])
وفي الواقع يأتي هذا التحالف بين الدول العربية المتشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن، في ضوء مستجدات ثلاثة أساسية، أولاً: في الوقت الذي تزداد أهمية البحر الأحمر وخليج عدن والمناطق المتاخمة له، نجد أنه تحيط به دول غير قادرة على تأمين حدودها البحرية بشكل كاف لأسباب عديدة ما يجعلها عرضة لمخاطر القرصنة وعبور الجماعات الإرهابية، وثانيًا: التطورات التي يشهدها النطاق الجغرافي المحيط بالبحر الأحمر، حيث أضحى الصراع سمة أساسية لتلك التطورات، إذ أصبح القرن الإفريقي مسرحًا لوجود عشر قواعد عسكرية لأطراف إقليمية ودولية، وإذا نظرنا إلى ذلك الوجود من منظور حماية المصالح الحيوية للأطراف المعنية كنموذج يلتقي فيه الأمن الإقليمي مع نظيره العالمي، فإن ذلك لا ينفي التنافس والصراع في تلك المنطقة بما يجعل دولها عرضة للاستقطاب، وخاصة مع سعي أطراف دولية إلى تعزيز وجودها في دول القارة الإفريقية عامة ومنطقة القرن الإفريقي خاصة، وثالثًا: وجود سوابق تؤكد أن الملاحة في مضيق البحر الأحمر وباب المندب لم تعد آمنة ومن ذلك استهداف ناقلات النفط في مضيق باب المندب حيث استهدف الحوثيون ناقلات النفط السعودية في أبريل ويوليو2018، بما يؤكد أن أمن الطاقة والملاحة البحرية عمومًا في ذلك المضيق قد أصبحت في مرمى الخطر.([5])
وبالتالي فإن وجود آلية أمنية للدول العربية المتشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن، من شأنها التصدي لثلاثة تحديات في آن واحد وهي إدارة الصراع والتنافس في تلك المنطقة الحيوية من العالم سواء الإقليمي – الإقليمي أو الصراع بين القوى الكبرى ذاتها، في ظل وجود تداخل كبير بين دوائر الأمن في هذه المنطقة فأمن البحر الأحمر والقرن الإفريقي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري، كما ترتبط تلك المنطقة ارتباطًا وثيقًا بأمن الخليج العربي والأخير بدوره جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري، إذ إن وجود إطار إقليمي به تعهدات والتزامات متبادلة بين أطراف تلك المنظومة من شأنه الحد من التدخلات الخارجية في تلك المنطقة، وتحديد أولويات تلك الدول في الوقت الراهن على الصعيدين التنموي والأمني، والحد من تأثير الأزمات الإقليمية على أمن مضيق باب المندب والقرن الإفريقي عمومًا.([6])
كما يهدف الكيان الجديد إلى تعزيز التكامل الاقتصادي بين دوله من جانب، وحماية أهم طرق التجارة الدولية المارة عبر خليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر من جانب آخر، خاصة أن إيران لجأت خلال السنوات الأخيرة إلى استخدام المضائق البحرية كورقة ضغط في مفاوضاتها مع بعض الدول الغربية بخصوص برنامجها النووي، من خلال التهديد بإغلاق مضيق هرمز ودفع حلفائها الحوثيين للتهديد بإغلاق مضيق باب المندب، وذلك ردا على الضغوط الغربية عليها والتهديد بفرض حصار عليها من شأنه منعها من تصدير نفطها للخارج.([7])
كما يمكن القول بأن الكيان الجديد يكتسب أبعادًا عسكرية واستراتيجية، ذلك أنه لا بد أن يكون لهذه الدول حضور عسكري إشرافي على مضيق باب المندب وخليج عدن والبحر الأحمر، فالتهديدات المحدقة بمنطقة الخليج والبحر الأحمر والقرن الأفريقي تتطلب تعاونًا عسكريًا مشتركًا تستطيع دول الخليج البدء به بالاعتماد على قوات بحرية، وضمن هذا الإطار تطور السعودية الآن أساطيلها البحرية، ومصر تعززت ترسانتها البحرية، ويمكن تدشين أسطول مشترك لتعزيز أمن السواحل والممرات المائية، التي تكتسي أهمية كبيرة لدول الخليج، حيث اقتصادها وحركة تجارتها استيرادًا وتصديرًا تعتمد على النقل البحري، كما ينبغي أن تكون هناك قيادة بحرية عربية لديها أسطول بمهام واضحة، ضمن جهد مشترك يوفر خيارًا ناجعًا للتعامل مع التهديدات البحرية في المنطقة.
وفي سياق متصل كان سعي الجانب المصري بأهمية كبيرة في إنشاء قيادة الأسطول الجنوبي في البحر الأحمر، وهو اهتمام بدا واضحًا في المناورات العسكرية التي سبق أن أجرتها مصر مع الجيش الروسي هناك، وجاء قرار تدشين قيادة الأسطول الجنوبي بالقرب من مضيق باب المندب، بعد رفع العلم المصري على حاملة مروحيات “ميسترال”، كخطوة على الطريق بإدراك مصر خطورة التحديات التي يواجهها الأمن في البحر الأحمر، إذ إن تلك المنطقة تشكل البوابة الجنوبية لقناة السويس، ومن يتحكم بها يتحكم ولا شك بحركة الملاحة في قناة السويس، مما دفع مصر لتعزيز ترسانتها البحرية بفرقاطات متعددة المهام وبحاملتي ميسترال الفرنسية للطائرات المروحية، والتي ستُكرّس لحماية قناة السويس ومضيق باب المندب، للردع أو التموضع إزاء القوى الإقليمية الأخرى المتشاطئة في الممر المائي أو التي لها طموحات أو أهداف توسعية في آن معًا.([8])
ثانياً: بيئة التفاعلات الإقليمية والدولية المهددة لأمن البحر الأحمر
شهدت منطقة البحر الأحمر تحركات عدة أطراف دولية وإقليمية والأطراف من غير الدول التي تنشط في هذه المنطقة بهدف ترسيخ نفوذها هناك، والتي بدورها سعت تلك القوى الدولية والإقليمية إلى إيجاد موطئ قدم لها في البحر الأحمر، في إطار بيئة إقليمية معقدة تذخر بالعديد من التحركات والترتيبات الإقليمية والتنافس بين تلك القوى، وذلك من خلال إقامة عدد من القواعد العسكرية تكون بمثابة المنفذ لها للبحر الأحمر، ونقطة انطلاق حال أي تهديد في البحر الأحمر لمصالح تلك القوى في المنطقة، وهناك تزاحم إقليمي ودولي نحو إقامة قواعد عسكرية على ساحل البحر الأحمر، وتعتبر دولة جيبوتي أبرز الدول المطلة على البحر الأحمر التي تستضيف قواعد عسكرية على أراضيها،([9]) بما يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة، كما أنه بمثابة العمق الاستراتيجي لكل من مصر والسعودية، كونه يتاخم الكثير من المناطق الاستراتيجية التي تمثل امتدادًا للأمن القومي العربي، مثل منطقة حوض النيل ومنابع النيل، وكذلك الأمر بالنسبة لمنطقة القرن الأفريقي،([10])
ويمكن توضيح تلك التفاعلات الإقليمية والدولية المهددة والمؤثرة على أمن البحر الأحمر، من خلال النقاط التالية:
الصراع والتنافس الأمريكي –الصيني: تبرز مؤشراته في المنطقة كأحد أبرز التهديدات التي تواجه منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، حيث تنظر الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين كمصدر تهديد لمصالحها الاستراتيجية في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، خاصة مع إنشاء الصين لقاعدة عسكرية وبحرية لها في جيبوتي، ومشاركة قوات صينية تقدر بـــ 1000 جندي ضمن بعثة قوات الأمم المتحدة UNMISS في جنوب السودان، فضلاً عن توسع الاستثمارات الصينية في بعض الدول مثل السودان وإثيوبيا والصومال،([11]) وبالتالي هناك مخاوف من احتمالية نشوب صدام عسكري بين البلدين في المنطقة، في ظل تعارض المصالح في المنطقة، والقرب الجغرافي بين القاعدتين العسكريتين الأمريكية والصينية في جيبوتي.([12])
فعلى الرغم من شعار “أمريكا أولاً” الذي كرسته سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشعبوية، فقد أجبرته على إعادة النظر في استراتيجيتها في القارة وأعلنت في 13 ديسمبر 2018 عن استراتيجيتها الجديدة تجاه أفريقيا، والتي تقلص إلى حد كبير المساعدات المقدمة إلى القارة، وتضع شروطًا أكثر صرامة على الدعم المالي والعسكري، كطريقة لمواجهة النفوذ المتنامي للصين وروسيا في أفريقيا.([13])
الدور الروسي: تسعى روسيا ليكون لها نفوذ في منطقة البحر الأحمر والدول المطلة عليه والقرن الإفريقي وذلك لفرض النفوذ الروسي على الملاحة البحرية في البحر الأحمر وتقويض المصالح الأمريكية والغربية واحتواء دول القرن الإفريقي خاصة الصومال وإثيوبيا واليمن الجنوبي وإدخالها في حلف أو اتحاد، مما يتيح لها السيطرة على باب المندب، ولتحقيق ذلك سعت موسكو للتوسع في عقد اتفاقيات الدفاع المشترك والحصول على التسهيلات البحرية والجوية في بعض الدول بمنطقة البحر الأحمر، ولعل الاتفاق مع دولة السودان على إقامة قاعدة عسكرية روسية في بورتسودان يخدم المصالح الروسية في هذا الخصوص.([14])
وبالتالي، يأتي الانخراط الرُّوسِيّ ليسهم في اشتداد التنافس في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر، كونها منطقة مزدحمة بالقوى الدَّوليَّة والإقليميَّة، كما أنها موطن للقواعد العسكرية لقوى غربيَّة وآسيويَّة وأمريكيَّة، وبالتالي فإن التواجد الرُّوسِيّ يفتح جبهة جديدة من التنافس الدولي في المنطقة، ففي ظل مسارعة الجانب الرُّوسِيّ إلى الانخراط في قضايا المنطقة، وتعزيز علاقاتها بدولها، يُمَثِّل التوجه الرُّوسِيّ نحو المنطقة عبئًا إضافيًّا عليها في إطار تعدُّد الأطراف الدَّوليَّة والإقليميَّة، وتضارب المصالح والأجندات في القرن الإفريقي، بما يُعَقِّد بيئة التفاعلات في المنطقة، التي تنعكس على مصالح الجميع فيها.([15])
الحضور الأوروبي: يمكن القول إنّ الاتحاد الأوروبي قد تراجعت نطاقات نفوذه في أغلب دوله ذات الحضور الاستعماري القديم بمنطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي والبحر الأحمر، باستثناء فرنسا باعتبارها أبرز حليف أوروبي تقليدي بكلّ إفريقيا، وتعتبر القيادات الفرنسية وأيضًا الرأي العام أنّ إفريقيا امتداد لنفوذها الجيواستراتيجي،([16]) وتُعد فرنسا من الدول ذات النفوذ في البحر الأحمر وذلك بهدف تأمين وارداتها من النفط وإثبات وجودها في تأمين طرق المواصلات والممرات المهمة وضمان عدم انفراد واشنطن في التحكم في الأوضاع السياسية والعسكرية في المنطقة، ويتضح الدور الفرنسي بشكل كبير في جيبوتي حيث احتفظت فرنسا بقاعدة عسكرية وبحرية، وهي تمثل أكبر تواجد عسكري فرنسي خارج فرنسا.([17])
النفوذ الإسرائيلي: يُعد التواجد الإسرائيلي في البحر الأحمر أحد أبرز مهددات الأمن القومي العربي في المنطقة، وقد ركزت إسرائيل في نظرية أمنها القومي على البحر الأحمر، بوصفه يقع ضمن اتجاهها الاستراتيجي الجنوبي ليشمل الدول العربية المتشاطئة له ودول القرن الإفريقي المتحكمة في مدخله الجنوبي، بالإضافة إلى منطقة البحيرات العظمى ومنابع نهر النيل، ولذلك خططت إسرائيل منذ نشأتها للسيطرة على البحر الأحمر بجميع منافذه وإقامة ما يسمى بإسرائيل الكبرى، وفي إطار المنظور الإسرائيلي يُعد البحر الأحمر ممرًا مائيًا دوليًا ينبغي أن يظل مفتوحًا لسفن الدول جميعًا بما فيها إسرائيل.([18])
وتدرك إسرائيل خطورة تحول البحر الأحمر إلى بحيرة عربية يمكن حال قيام حرب مستقبلية غلق نقاطه الاستراتيجية في وجه الملاحة من وإلى إسرائيل، لذلك نجدها تتلقى من الولايات المتحدة الأمريكية المساندة تحت ذريعة التعاون والمصالح الاستراتيجية بينهما، وذلك في إطار الالتزامات الأمريكية بضمان الأمن لإسرائيل، وهو ما دفعها إلى المزيد من التحركات خصوصًا عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وتعزيز علاقاتها مع دول القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، بهدف تأمين الملاحة البحرية بينها وبين العالم الخارجي، فضلاً عن المشاركة في تأمين وحماية مضيق باب المندب، حيث تمتلك إسرائيل وجودًا قويًا في المنطقة من خلال شركات الأمن التي تنشط فيها، فضلاً عن إشرافها على قاعدة تجسس وقواعد للتدريب في جزيرة “دهلك” الإريترية، التي توفر فيها غواصات مزودة بالوقود.([19])
وتمثل التهديدات الإسرائيلية لمصر في البحر الأحمر في الوقت الحالي، في إنشاء خطوط للسكك الحديدية كمعبر بديل لقناة السويس بالتعاون مع الصين ضمن مبادرة الحزام والطريق، والذي يربط بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، بحيث تشكل مسارًا جديدًا للحركة التجارية بين أوروبا وآسيا، والذي يمر من ميناء ايلات إلى خليج العقبة المطلين على البحر الأحمر لميناء أشدود على البحر المتوسط، وتقدر تكلفة المشروع بنحو 4,9 مليارات دولار في عام 2014، وتم تفويض شركة مرفأ الصين الهندسية لبناء مرفأ كبير في أشدود للحاويات تقدر تكلفته بنحو 930 مليون دولار.([20])
وفي إطار التكالب الإسرائيلي على تعزيز نفوذها في منطقة البحر الأحمر، يظهر التخوف الإسرائيلي من النفوذ الإيراني، فإسرائيل ليست بمنأى عما يجري من أحداث بمنطقة البحر الأحمر، وهو ما عبر عنه محللون إسرائيليون الذين أكدوا أن الصراع الإقليمي والدولي في البحر الأحمر ليس بجديد وأن وجود تركيا في المنطقة لا يمثل تهديدًا حقيقيًا لإسرائيل بقدر المخاوف المتوقعة من تحركات إيرانية، أو نزاع مصري – تركي في ظل التعاون التركي مع السودان، وما تخشاه إسرائيل هو أن تنصُب إيران هناك منظومة لإطلاق صواريخ بعيدة المدى، خاصة وأن المسافة بين ميناء عصب وإسرائيل أقل من 2300 كيلومتر، وهو مدى الصواريخ التي تطورها إيران.([21])
التدخلات الإيرانية: تسعى إيران بقوة إلى البحث عن مواقع بطول ساحل البحر الأحمر من قناة السويس شمالاً إلى باب المندب جنوبًا، وذلك للولوج إلى منطقة القرن الأفريقي وإيجاد موطئ قدم لها على ساحل البحر الأحمر من خلال بوابة إريتريا، وفى مضيق باب المندب، تستخدم إيران ميليشيات الحوثي كوكيل لها في المنطقة بهدف فرض واقع جديد من أجل الدخول بقوة في معادلة الترتيبات الإقليمية في المنطقة مستقبلاً، فضلاً عن استخدامها كسلاح تستطيع من خلاله تعطيل تدفق حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر حال نشوب أية حروب في المنطقة تكون إيران طرفًا فيها، في إطار صراعها مع الغرب، وبعض دول الخليج العربي، وعلى رأسها السعودية والإمارات،([22]) ومن ثم تطمح إيران إلى أن تضيف لمكاسبها الاستراتيجية إمكانية التحكم في البحر الأحمر وباب المندب من خلال المنصة اليمنية، إلى جانب مضيق هرمز الذي تسيطر عليه، إضافة إلى تمركزها في بعض الجزر الإريترية والتعاون الأمني مع بعض دول القرن الأفريقي مثل إثيوبيا،([23]) كما شاركت إيران في عام 2010 في مناورة مع جيبوتي في تهديد حقيقيّ لحرّية الملاحة في باب المندب، وذلك قبل أن تقطع جيبوتي عَلاقاتها مع إيران في 2015.([24])
حلم الإمبراطورية التركية: سعت تركيا مؤخرًا إلى تعزيز حضورها في منطقة البحر الأحمر والمحيط الهندي وهو ما ظهر من خلال توقيعها اتفاقًا لتطوير وإدارة جزيرة سواكن السودانية في 24 ديسمبر 2017، فضلاً عن الاتفاق على تأسيس منطقة تجارة حرة في جيبوتي والتي تم تخصيص مساحة 5 ملايين متر مربع لها في ديسمبر 2016، كما أعلنت رسميًا في سبتمبر 2017، عن إنشاء قاعدة عسكرية وثلاث مدارس عسكرية بجانب منشآت أخرى بجنوب العاصمة الصومالية على ساحل المحيط الهندي.([25])
وبالتالي تحاول تركيا من خلال تعزيز وجودها بالقرب من المنافذ البحرية بمنطقة البحر الأحمر تحقيق جملة من الأهداف، من أبرزها تعزيز قدراتها الاستثمارية عبر منافسة بعض القوى الإقليمية التي تبدي اهتمامًا خاصًا بتطوير وبناء الموانئ المطلة على المحيط الهندي أو البحر الأحمر أو الاستثمار فيها، بما قد يحقق لها مكاسب تجارية واستثمارية متعددة، لذا عزز دخول تركيا على خط التنافس حول منطقة البحر الأحمر الاستراتيجية المخاوف من تغذية الصراعات الإقليمية الدائرة فيها، وتحولها إلى إحدى أكثر البؤر توترًا في العالم.
تصاعد الدور الإثيوبي: يبدو تنامي الدور الإثيوبي في المنطقة أحد مصادر التأثير في البحر الأحمر، حيث يتعارض الدور الإثيوبي مع المصالح العربية، فخطورة علاقات أديس أبابا الجيدة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية تتركز على الأمن القومي العربي، فهي تحرص على إبراز دورها كقوة إقليمية قادرة على خدمة المصالح الأمريكية – الغربية في القرن الإفريقي والشرق الأوسط، لا سيما المصالح الخاصة بمحور واشنطن – تل أبيب، مع العمل في الوقت ذاته على استثمار المنافسة بين أقطاب النظام الدولي في خدمة المصالح الوطنية الإثيوبية.([26])
إذًا، فقد سمح غياب أي منظمة أمنية عربية في البحر الأحمر لفترة طويلة خاصة من جانب الدول المشاطئة له، بتشكيل قاعدة لانطلاق قوى إقليمية ودولية لاستغلال البحر الأحمر خاصة عند مدخله الجنوبي، كجسر للتمدد في العمق العربي والأفريقي، ذلك في ظل تقاعس القوى التقليدية عن التقاطع مع تلك التطورات، وفرض حالة أمن جماعي في دائرة استراتيجية تمثل عمق أمنها القومي الإقليمي، والعزوف عن الانخراط النشط في قضايا الأمن الإقليمي بصفة عامة، والأمن البحري بصفة خاصة، وهو سلوك كاشف عن قصر النظر الاستراتيجي لدى تلك الأطراف حول أهمية حوض البحر الأحمر، والاكتفاء باعتباره مجرد مجرى ملاحي، مما أفضى إلى وجود أمني محدود وفردي، لا سيما في باب المندب، بهدف تأمين الملاحة في قناة السويس، وكشف الصراع في اليمن عن ضعف تلك الإجراءات وفشلها في ردع الحركة الحوثية لدى تهديدها الملاحة في البحر الأحمر.([27])
ثالثاً: بيئة النزاعات والصراعات المهددة لأمن البحر الأحمر
تأثر أمن البحر الأحمر بالصراعات والنزاعات التي تشهدها المناطق المتاخمة للبحر الأحمر، مثل الصراعات في القرن الأفريقي، كالصراع الإرتيري – الإثيوبي – قبل أن تبدأ تسويته مؤخرًا –والنزاع الإرتيري – الجيبوتي، والحرب اليمنية، مما يجعلها أحد عوالم عدم الاستقرار عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، والتي كانت دافعًا لاحتدام التنافس الدولي والإقليمي في المنطقة،([28]) كما يواجه البحر لأحمر أيضًا أشكالاً جديدة من التدويل، في ظل استمرارية بعض النزاعات والصراعات على ضفتيه، فهناك المبادرات ومشاريع التسوية الدولية للنزاعات كإرسال مبعوث دولي أو إقليمي لتسوية النزاع في دولة ما مثل اليمن وجنوب السودان، أو من خلال قوات تدخل بحرية مثل القوة البحرية الدولية لمكافحة القرصنة قبالة السواحل الصومالية، وقوات الاتحاد الأفريقي في الصومال (الأميصوم AMISOM)، وقوات الأمم المتحدة في جنوب السودان UNMESS، وكذلك القوات القطرية لحفظ السلام على الحدود بين جيبوتي وإريتريا قبل أن تنسحب على خلفية الأزمة الخليجية –القطرية الراهنة.([29])
ويمكن توضيح تلك الصراعات والنزاعات المؤثرة على أمن البحر الأحمر، على النحو التالي:
النزاعات والصراعات في البحر الأحمر: تدور في بعض مناطق الجوار الجغرافي للبحر الأحمر صراعات ونزاعات إقليمية مثل القرن الأفريقي واليمن، واستمرار تلك الصراعات من شأنها أن تلعب دورًا في استقطاب المزيد من المتكالبين على النفوذ وموطئ قدم في المنطقة، ومن ثم يظل الوضع في البحر الأحمر قابلاً للانفجار واندلاع الصراعات مجددًا مستقبلاً، ويمثل النزاع الجيبوتي – الإريتري وهو النزاع المستمر حول منطقة دوميرا، والذي لا يزال مؤشرًا سلبيًا حول إمكانية تحقيق السلام الإقليمي في المنطقة، بالرغم من انتهاء الخلاف الإثيوبي الإريتري، بما يعني استمرار التهديد الإقليمي في القرن الأفريقي، وتأثيره على منطقة البحر الأحمر كونهما وحدتين أساسيتين في النظام الإقليمي للبحر الأحمر.
كما عرفت الصومال انتشارًا واسعًا لظاهرة العنف المسلح، وامتدادًا لها في كل مناطقها بسبب انقسامات داخلية، ونتيجة لحربها مع إحدى دول الجوار (إثيوبيا) التي واصلت قواتها حربها وتدخلها العسكري على حدودها الشرقية (الصومال)، والأخيرة (إثيوبيا) عايشت بدورها مواجهات مسلحة وحربًا أهلية ضد (مسلمي الأورومو) في مناطقها الجنوبية، كما تعرف الحدود المشتركة بين إريتريا وجيبوتي نزاعات متقطعة، وحالة توتر شبه دائمة منذ عام 2008، ثم في يونيو 2017، وكانت تنشر إريتريا قوات ومعدات عسكرية على حدودها مع إثيوبيا منذ أن اندلعت الحرب والمواجهات المباشرة بينهما في مايو 1998، لتجدد حالة توتر ومناوشات استمرت قرنين على خطوط التماس.([30])
الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي: تُعد منطقة القرن الأفريقي منطقة جاذبة للجماعات والحركات الجهادية، وذلك في ضوء حالة الفراغ التي تعاني منها تلك المنطقة، والتي تُعد بيئة مناسبة لحركة الجماعات المتطرفة العابرة للحدود، حيث إن الدول الوطنية منهارة أو هشة، وحيث تنتشر تجارة السلاح بكثافة، كما إنها بيئة فقيرة وتفتقد إلى التنمية، وعليه فإنها تمد تلك الجماعات بالعناصر الجهادية، هذا فضلاً عن أن تلك المنطقة تمثل نقطة انطلاق مهمة في توجيه ضربات موجعة سواء لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الدول الغربية بشكل عام، أو العربية بشكل خاص.([31])
جماعة الحوثي: تأتي ضمن أبرز مهددات أمن البحر الأحمر، حيث تمثل العلاقات المتنامية بين إيران وجماعة الحوثي تهديدًا صريحًا لأمن البحر الأحمر، وتهديدًا للأمن الخليجي لاسيما السعودية والإمارات، كونها تسمح لإيران بالالتفاف حول منطقة الخليج، ومن ثم تهديد المصالح والأمن القومي الخليجي، ومن ثم فإن أي تواجد بحري أو جوي في اليمن من شأنه أن يمثل تهديدًا لحركة المرور عبر قناة السويس، كما أنه يهدد تدفقات النفط التي تمر يوميًا في مياه البحر الأحمر،([32]) حيث تعرضت السفن التجارية والعسكرية التابعة للسعودية والإماراتية لتهديدات وهجوم من قبل جماعة الحوثي منذ عام 2016 وحتى الآن،([33]) كان آخر تلك المحاولات عندما استهدف الحوثيون ناقلات النفط السعودية في إبريل ويوليو 2018، لذا قامت إيران بإرسالها لمدمرة وحاملة مروحيات ضمن “أسطول 54” إلى خليج عدن إثر تصاعد حدة النزاع في مدينة الحديدة وعلى مينائها.([34])
القرصنة البحرية: بالرغم من تقديرات حلف الناتو، التي أشارت إلى انخفاض الهجمات الناجحة للقرصنة قبالة سواحل البحر الأحمر في القرن الأفريقي خلال السنوات القليلة الماضية مقارنة بعام 2009، الذي شهد ذروة عمليات القرصنة بعدد 52 عملية اختطاف ناجحة، حيث لم يشهد عام 2015 أي حالة اختطاف في البحر الأحمر والقرن الأفريقي،([35]) إلا أن هناك مخاوف من تجدد عمليات القرصنة قبالة السواحل الصومالية، مما يهدد أمن واستقرار البحر الأحمر.
وبالتالي، تشكل تلك التهديدات والتي ترتبط بواقع المتغيرات الدولية والإقليمية في المنطقة، مصدر قلق بشأن الأمن والاستقرار الإقليمي، وتحديًا قويًا أمام أي تنسيق وتعاون إقليمي مستقبلي بشأن منطقة البحر الأحمر، إلا أنها في نفس الوقت تمثل دافعًا قويًا نحو ضرورة وجود إرادة إقليمية من جانب الدول المطلة على البحر، تستهدف ضمان أن يصبح الحزام الساحلي للبحر الأحمر حزامًا آمنًا، لضمان سلامة الطريق التجاري من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط، واستقلال تداعيات عملية السلام الأخيرة والمصالحة بين إثيوبيا وإريتريا في تحقيق السلام الإقليمي في منطقة القرن الأفريقي، لما سيكون له من انعكاسات على المشهد الاستراتيجي في البحر الأحمر وأمنه.([36])
رابعاً: آليات نجاح التحالف العربي لأمن البحر الأحمر وخليج عدن
هناك تهديد قوي وواضح لأمن البحر الأحمر من قبل الأطراف الإقليمية غير العربية والدولية، لذا ينبغي عند صياغة تصور استراتيجي عربي لحماية أمن البلدان العربية المطلة على البحر الأحمر وتأمين الملاحة فيه وتحقيق التعاون والاستثمار المشترك لثروات هذا الممر المائي وفق مشروع عربي متكامل, تتقاطع حوله الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية، يجب أن ينطلق هذا المشروع من الدائرة الوطنية لكل دولة ومن دائرة التعاون الثنائي، وكذلك من دائرة المشروع الوحدوي للدول المشاطئة ضمن أبعاده العربية والإقليمية، وذلك في المجالات العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والبيئية.
وبالتالي، فثمة عدد من الآليات لضمان نجاح التحالف العربي لأمن البحر الأحمر وخليج عدن، ويمكن إيجاز تلك الآليات في النقاط التالية:([37])
إنهاء الحروب الأهلية وضمان الاستقرار السياسي: ويعتبر هذا شرطًا ضروريًا لإمكانية الانضمام إلى تنظيم إقليمي أو ترتيبات أمنية فاعلة، ولقطع الطريق أمام احتمال تدخل القوى الإقليمية أو الدولية، ففي اليمن، على سبيل المثال، فإن الأوضاع تسير من سيئ إلى أسوأ بسبب التشاؤم الذي يسيطر على أجواء الحوار الوطني واجتياح الحوثيين للعاصمة صنعاء وسيطرتهم الفعلية على مقاليد الحكم، هذا الواقع العربي فرض نفسه على إقليم الخليج، وكذلك على المناطق الجنوبية الشرقية من الوطن العربي،
تصفية الخلافات العربية – العربية: وتُعد هذه خطوة ضرورية، لأنه لا يمكن الاتفاق على ترتيبات جماعية لأمن البحر الأحمر إذا كانت هناك خلافات حادة بين طرفين أو أكثر من أعضاء هذه الترتيبات، ويمكن أن يكون تعزيز التعاون الإقليمي بين أطراف التحالف المناوئ (إسرائيل، إريتريا، إثيوبيا) حافزًا للقضاء على الخلافات بين الدول العربية وبعضها، فقد استطاعت كل من إثيوبيا وإريتريا تناسي صراعاتهما المسلحة وإقامة علاقة تقترب من التحالف، بينما تختلف الدول العربية التي تشترك في قواسم عدة لأسباب لا تستحق التضحية بالأمن العربي من أجله.
تحييد بعض القوى الإقليمية: يمكن للأطراف العربية تحييد الأطراف الإقليمية وحصر تهديدها للأمن القومي العربي في أضيق نطاق ممكن في حالة وجود تنسيق عربي وموقف عربي موحد يقنع الآخرين بقدرة العرب مجتمعين على الرد بقوة على أي انتهاكات لحقوقهم وتهديد لأمنهم.
تعزيز العلاقات مع بعض القوى الكبرى: يمكن للأطراف العربية التوصل إلى اتفاق مع بعض القوى الكبرى في حالة تشابه مصالحها مع مصالح الأطراف العربية. مثل فرنسا ذات الحضور القوي في الصومال وجيبوتي، والصين التي تمتعت بنفوذ قوي لفترات في كل من إثيوبيا وإريتريا والصومال، ويمكن الاستفادة من التباين في مصالح هذه القوى ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية، على أن يكون تعزيز الأمن القومي العربي هو المحك في درجة التعاون أو التنسيق مع بعض هذه القوى.
خامساً: السيناريوهات المستقبلية للتحالف العربي لأمن البحر الأحمر وخليج عدن:
بالنسبة إلى الترتيبات الأمنية المستقبلية في البحر الأحمر وخليج عدن الذي يربط دولاً عربية وأفريقية، تشير التوقعات إلى أنها لن تكتمل دون الأخذ في الاعتبار ديناميات التعاون والصراع في القرن الأفريقي والقضية الفلسطينية، فإسرائيل تُعد إحدى الدول المشاطئة للبحر الأحمر، وبالتالي فأمام واقع زيادة الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر كمنطقة إقليمية بفعل عدة اعتبارات، أهمها: ارتباط مصالح الدول الكبرى في المرحلة الراهنة خاصة الولايات المتحدة، والتي تسعى لإعادة ترتيب المنطقة بما يتناسب مع مصالحها، والحد من تأثير القوى الكبرى الأخرى في المنطقة، هذا الاعتبار يدفع الولايات المتحدة بممارسة الضغوط على الدول العربية لعرقلة مشروعها لتأسيس الكيان المقترح، وعليه يمكن الإشارة إلى أن ترتيبات الأمن في المنطقة ستتأثر بعدة محدِّدات أساسية، هي:([38])
تعارض أهداف التحالفات الإقليمية: إذ يُتوقع نشوء تعارض بين أهداف ومصالح تحالفات متشابكة مع ترتيبات الأمن في منطقة البحر الأحمر، فمع انطلاق مبادرة لتشكيل تحالف الدول العربية لأمن البحر الأحمر وخليج عدن في أواخر عام 2018، يُتوقع أن تدفع الولايات المتحدة بتحالف استراتيجي آخر بينها وبين كلٍّ من دول الخليج الست ومصر والأردن، ومع استبعاد إسرائيل من التحالف العربي الأول، فإن ثمة توقعات بنشوء ضغوطات عليه، سواء من قبل تل أبيب أو واشنطن، مما يمثل عائقًا أمام تفعيل تحالف الدول العربية لأمن البحر الأحمر وخليج عدن في المستقبل، لكن في المقابل ليس متوقعًا تنفيذ التحالف الاستراتيجي الذي تسعى إليه الولايات المتحدة، لاعتراض الدول العربية عليه.
مدى استمرار توافقات القرن الأفريقي: إذ من المتوقع أن تواجه التحولات التي قادتها إثيوبيا – في ظل قيادة رئيس الوزراء آبي أحمد – لبناء توافقات مع جيرانها في القرن الأفريقي، ومحاولات لعرقلتها خاصة من قبل تركيا وقطر، وذلك لمواجهة المحور السعودي – المصري – الإماراتي في المنطقة، وإن كان ذلك التوقع يرتهن بعوامل أخرى قد تحدّ منه أو تبطئ إيقاع ذلك الصراع الإقليمي على استقطاب دول القرن الأفريقي، حال أخذت التسوية السياسية في اليمن مسارًا أكثر فعالية خلال عام 2019، أو استجابت الدوحة لمطالب دول المقاطعة العربية، على جانب آخر قد تحظى كل من إريتريا وجيبوتي بحضور أكبر في الترتيبات الأمنية في البحر الأحمر مقارنة بإثيوبيا.
ترتيبات أمن الخليج العربي: تحمل الشهور القادمة تحديات لأمن الخليج العربي بسبب ارتفاع حدة التهديدات التي ترتبط بأمن البحر الأحمر، ومع ذلك تبقى هنالك فرص خلال الفترة القادمة في ظل احتمال البدء بتنفيذ مشروع “نيوم” بين السعودية ومصر والأردن، مما قد يوفر مصالح استراتيجية واقتصادية لتلك الدول لدعم شراكاتها في البحر الأحمر، وتزداد تلك الفرص في دعم ترتيبات عربية في البحر الأحمر، إذا أخذت التسوية اليمنية مسارات أكثر تقدمًا، لا سيما وأن ذلك قد يعني قضية إعادة إعمار هذا البلد، كساحة يمكن أن تشهد توافقات عربية ودولية.
حدود الاستقرار في قطاع غزة: قد يُلقي استقرار قطاع غزة بتأثيراته على أي ترتيبات أمنية لمنطقة البحر الأحمر، لكن من المتوقع أن يكون إحلال الاستقرار في غزة صعب المنال خلال الفترة القادمة، خاصة في ظل خطة أمريكية للسلام تُعرف إعلاميًّا بصفقة القرن قد تَلقى رفضًا من الفلسطينيين.
خاتمة
إن وجود نظام أمني مستقر في منطقة البحر الأحمر، أو على الأقل وجود ترتيبات أمنية محددة، بات أمرًا ضروريًّا وليس ترفًا سياسيًّا، من خلال إنشاء كيان تنظيمي عربي للبحر الأحمر وخليج عدن، وفي أقل التقديرات التنسيق المشترك بين الدول العربية المعنية، بهدف دعم السيطرة الإقليمية العربية على البحر الأحمر، هذا التنسيق يكون في المجال المعلوماتي بالأساس، وعمل المناورات البحرية المشتركة فيما بينها أو بين قوى صديقة في البحر الأحمر لرفع مستوى الكفاءة والجهوزية للقوات لمواجهة التهديدات المحتملة، والحفاظ على توازن القوى بين الدول العربية والقوى الدولية والإقليمية المتنافسة على تحقيق مصالحها في البحر الأحمر.
ولعل التدريبات العسكرية التي أجرتها القوات المسلحة
المصرية مع عدد من الدول في المنطقة على رأسها الأردن تحت عنوان “مناورات
العقبة” ومع السعودية تحت مسمى “النجم الساطع”، ومع الإمارات
“زايد”، تأتي في إطار هذا التحرك الذي يهدف إلى تدشين كيان موحد من
الدول العربية،([39])
وكذلك التحركات البحرية المصرية المتواصلة في البحر الأحمر تحت غطاء العملية
العسكرية سيناء 2018.
([1]) للمزيد، انظر: د. رضا شحاتة، الدبلوماسية العربية وتفاعلاتها مع القرن الأفريقي، مجلة شئون عربية، العدد 176 (القاهرة: شتاء 2018)، ص 16 – 20. انظر أيضًا: أحمد أمل، دلالات المشاركة المصرية في اتفاق السلام المنشط في جنوب السودان، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 10 نوفمبر 2018.
([2]) محمد عبد القادر ، تحديات مبادرة الرياض لتأسيس منظمة للتعاون والأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، المجلة، العدد 1731 (لندن: 18 يناير 2019)، ص 10.
([3]) مهاب عادل حسن، نحو منظور عربي لأمن أحد أهم الممرات الملاحية، صحيفة الأهرام المسائي، 2 مايو 2018.
([4]) هبه المنسي، كيان “أرسقا” .. محفزات تشكيل تحالف البحر الأحمر، موقع الوطن العربي الإخباري، 17 ديسمبر, 2018.
([5]) د. أشرف محمد كشك، أمن مضيق باب المندب: نحو تأسيس منظومة أمنية لدول القرن الإفريقي، صحيفة أخبار الخليج، ١٩ نوفمبر ٢٠١٨.
([6]) تكتل دول البحر الأحمر: السعودية تقود التوازن الإقليمي، سلسلة قراءة خاصة، العدد 168 (الرياض: ديسمبر 2018)، ص 2 – 5.
([7]) نفس المرجع، ص 5 – 6.
([8]) مصطفى دردق، البحر الأحمر في المعادلات الإقليمية والدولية مسارات التحول والمتغيرات، موقع الجمعية العلمية للشئون الأفريقية، 3 يونيو 2018.
([9]) د. أميرة عبد الحليم، القواعد العسكرية في البحر الأحمر: تُغير موازين القوى، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 30 يناير 2018.
([10]) د. محمد مجاهد الزيات، الأمن في البحر الأحمر وانعكاساته على الأمن القومي العربي، مجلة آراء، العدد 127 (الرياض: يناير 2018)، ص 20.
([11]) سهام الدريسي، صراع النفوذ في شرق أفريقيا، مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، ص 12.
([12]) أحمد عسكر، نحو منظومة إقليمية لأمن البحر الأحمر، مجلة آفاق عربية، العدد 4 (القاهرة: أكتوبر 2018)، ص 122.
([13]) د. حمدي عبد الرحمن، معارك التكالب الثلاثي على أفريقيا: هل من سبيل، قراءات أفريقية، 27 ديسمبر 2018.
([14]) حكيم نجم الدين، التنافس على إفريقيا: النفوذ الصيني – الروسي – الأمريكي، قراءات إفريقية، 11 مارس
([15]) أحمد عسكر، التوجُّه الرُّوسِيّ نحو القرن الإفريقي.. الدوافع والتَّداعيات، قراءات أفريقية، 25 نوفمبر 2018.
([16]) ياسر قطيشات، التنافس الإقليمي والدولي في القارة السمراء: القرن الإفريقي نموذجًا، مجلة آراء حول الخليج، 24 يونيو 2014. https://goo.gl/HPkaJd
([17]) إجلال رأفت، تقاطع المصالح القومية للدول العربية المطلة على البحر الأحمر ودول القرن الإفريقي، في: مجموعة من الباحثين، العرب والقرن الإفريقي: جدلية الجوار والانتماء (بيروت – الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص 2017.
([18]) صادق الشيخ عيد، السياسة الخارجية الإسرائيلية تجاه إفريقيا – جنوب الصحراء، مجلة رؤية تركية، العدد 4 (القاهرة: شتاء 2015)، ص 104-105.
([19]) – Aboubkrine El Am, Arab Security at Stake.. The Conflict over Regional Influence in East Africa, Future for Advanced Research & Studies, 11 February 2018.
([20]) د. هبة جمال الدين محمد العزب، المبادرة مدخل للعلاقات العربية – الصينية وتحقيق المنافع يتوقف على التفاوض، مجلة آراء، العدد 133 (الرياض: يناير 2019)، ص 56.
([21]) عسكرة البحر الأحمر: مقدمة لحرب إقليمية جديدة، موقع الحرة، 28 ديسمبر 2017.
([22]) – Dore Gold, The Brewing Conflict along the Red Sea, Jerusalem Center For Public Affairs, 1 February 2018.
([23]) د. خطار أبو دياب، البحر الأحمر في معادلات الأمن العربي، العربية نت، 31 أكتوبر 2015.
([24]) مسفر بن صالح الغامدي، النفوذ الإيراني في حوض البحر الأحمر أهداف ومعوقات البقاء في إقليم حيوي، مجلة الدراسات الإيرانية، العدد 5 (الرياض: ديسمبر 2017)، ص 135.
([25]) د. حمدي عبد الرحمن، سباق القواعد العسكرية في القرن الإفريقي الفرص والمخاطر الأمنية بالنسبة لمصر، السياسة الدولية، العدد 211 (القاهرة: يناير 2018)، ص 123.
([26]) د. أيمن شبانة، الظهور الإثيوبي في جنوب الشرق الأوسط، السياسة الدولية، 20 سبتمبر 2011.
([27]) أحمد عليبة، ارتدادات الوجود العسكري التركي في البحر الأحمر، مجلة شئون تركية، العدد 10 (القاهرة: خريف 2018)، ص 81 – 82.
([28]) أحمد عسكر، نحو منظومة إقليمية لأمن البحر الأحمر، مرجع سابق، ص 112.
([29]) محمد أنيس سالم، الدول العربية أمام تحديات عولمة البحر الأحمر، مجلة شئون عربية، العدد 173 (القاهرة: ربيع 2018)، ص 16 – 26.
([30]) ماذا تعرف عن النزاع الحدودي بين جيبوتي وإريتريا؟، مركز الجزيرة للدراسات، 18 يونيو 2017.
([31]) صلاح خليل، بؤر الصراع والتوتر في القرن الأفريقي الكبير، مجلة رؤى مصرية، العدد 8 (القاهرة: سبتمبر 2015)، ص 18.
([32]) – Anthony H. Gordesman, America, Saudi Arabia, and the Strategic Importance of Yemen, Center For Strategic & International Studies, 26 March 2015.
([33]) – Jeremy Vaughan and Simon Henderson, Bab al-mandab Shipping Chokepoint Under Threat, Policy analysis, The Washington Institute, 1 march 2017.
([34]) إيران ترسل مدمرة وحاملة مروحيات إلى خليج عدن، صحيفة الأيام، 23 يونيو 2018.
([35]) د. يحيى بن مفرح الزهراني، عسكرة البحر الأحمر والتحديات المستقبلية: ثروات مائية تحتاج للحماية، مجلة آراء، العدد 127 (الرياض: يناير 2018)، ص 12.
([36]) – Alexander Rondos, The Horn of Africa – Its Strategic Importance for Europe, the Gulf States, and Beyond, Center For International Relations and Sustainable Development, Horizons, Winter 2016, Issue No. 6.
([37]) إسراء محمد كمال الزيني، أمن البحر الأحمر: مواجهة التهديدات باستراتيجية عربية لحماية الملاحة والاستثمار، مجلة آراء، العدد 127 (الرياض: يناير 2018)، ص 105 – 106.
([38]) أمن البحرين الأحمر والمتوسط : تحالفات متعارضة وتوازنات قوى جديدة، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 2 يناير 2019.
([39]) عماد عنان، هل يصبح “كيان البحر الأحمر” بديلاً لـ”الناتو العربي”؟، موقع نون بوست، 13 ديسمبر 2018.