2024العدد 198دراسات

مشروع إسرائيل للتهجير القسري للفلسطينيين:الأبعاد القانونية الإنسانية

إن الهجرة تُعني انتقال الإنسان بإرادته الحرة من موطنه وبيئته ومجتمعه إلى مجتمع ووطن جديد. وعندما يهاجر الإنسان تحت أي ظرف أو دافع ينشغل أولًا بالبحث عن سبيل تثبيت موقعه في الوطن الجديد ومواجهة مشكلات التأقلم مع الوسط الإنساني والاجتماعي المغاير، ويجد أحيانًا صعوبة في تحييد ميراثه (الثقافي، والاجتماعي، والديني)، أو مواءمته مع أوضاع وقيم وتقاليد المجتمع الجديد، ويتوقف الأمر في النهاية على قدرة المهاجر على التأقلم، ومدى ما توفره المجتمعات الجديدة المستقبلة من آليات تسهل اندماج المهاجرين وتنمية شعور الفهم المتبادل ومدى احترام حقوق الإنسان في التعامل مع المهاجر.

ودخول قاعدة حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية دائرة القانون الوضعي يعتبر من أبرز سمات هذا العصر، وأصبح هناك توجه دولي متزايد لحماية الحقوق والحريات الأساسية.

وقد كللت جهود لجنة حقوق الإنسان، التي أنشأها المجلس الاقتصادي والاجتماعي سنة 1946، بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر سنة 1948م، ويتضمن ثلاثين مادة تحتوي على جميع الحقوق التي يمكن الاعتراف بها للفرد باعتباره آدميًا، مثل: حق الحياة، والحق في الحرية وفي المساواة، وحق التقاضي، وحق التملك، وحق التعليم، والحق في الحصول على عمل، وحرية الفكر، وحرية التنقل، وحرية الإقامة، … وغيرها من الحقوق والحريات التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان، بغض النظر عن لغته أو جنسيته أو دينه أو أصله([1]).

وفي الواقع، أصبح العالم المعاصر مع هذه التطورات “عصر حقوق الإنسان بامتياز”، وأصبحت قضية حقوق الإنسان تحتل مكانة هامة في العلاقات الدولية.

وتجدر الإشارة إلى أن الحريات المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تسري على موضوعات الهجرة والمهاجرين، كما تسري عليهم أيضًا أحكام مواثيق حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة لاحقًا، كما يحظى المهاجرون باهتمام خاص في إعلان منظمة العمل الدولية الخاص بالمبادئ والحقوق الأساسية في العمل ومتابعته 1998، إضافة إلى نصوص أخرى تضمنتها الاتفاقيات الدولية والإقليمية ذات أهمية من حيث حماية المهاجرين من التمييز والاستغلال واعتبار التهجير القسري فعلًا مناقضًا ويُجرَّم في القوانين الدولية.

وفيما يتعلق بحدود سلطة الدولة المستقبلة للهجرة، فإنه إعمالًا لمبدأ السيادة الوطنية، تنظم مسألة الهجرة إليها ابتداء تحديد عدد المهاجرين بغرض الاحتفاظ بنسبة معينة للتوازن السكاني بين المواطنين والأجانب، والدولة تملك أصلًا حق منع المهاجرين إليها لأسباب تدخل في نطاق سلطتها التقديرية، ويُمارس هذا الحق في حالات الاتفاقيات والمواثيق المتعلقة بحقوق وواجبات المهاجرين التي أصبحت جزءًا من العرف ومن القانون الدولي، وقد تضمنت الاتفاقيات الرئيسة لحقوق الإنسان معاييرَ عالمية ينبغي احترامها ويفترض مراعاتها في إدارة الهجرة على المستوى الدولي، ومعالجة قضايا الهجرة تستوجب التعاون الدولي على أساس تحقيق النفع المتبادل لكل من: الدول المرسلة للمهاجرين، والدول المستقبلة لهم.

وقد يكون التهجير اضطراريًّا لتجنب خطر محدق، كـ (الفيضانات، أو ثورة البراكين، أو الزلازل)، ويضطر المهاجرون إلى البحث عن السكن البديل، أما النوع الثاني للتهجير القسري أو الإجباري كما يحدث في حالة الحروب والنزاعات الدولية، فيتم عبر الإبعاد والنقل القسري للسكان، أما النقل دون مبررات فلا يسمح بها القانون الدولي وهو أمر محرم، أيًّا كان المكان الذي سوف ينقلون إليه، فلا يوجد أي سبب أو دافع قانوني أو شرعي لإجازة مثل هذه التصرفات؛ نظرًا لما تتركه من انعكاسات جسيمة على المنقولين لإبعادهم عن ديارهم وفقدان ممتلكاتهم وأمنهم واستقرارهم. ويُقصد هنا بالإبعاد القسري: نقل مجموعة كبيرة من السكان بالقوة من منطقة إلى أخرى ضمن سياسة حكومية أو طبقًا لسلطة دولية أو سلطة احتلال، بحيث يتم ذلك على أساس إثني أو ديني ويشمل كلًّا من: النقل، والإخلاء، والترحيل القسري، وإجبار السكان على الابتعاد عن موطنهم وأملاكهم، ونقل الأشخاص المعنيين قسرًا من المنطقة التي يوجدون فيها بصفة مشروعة بالطرد أو بأي فعل قسري آخر دون مبررات يسمح بها القانون الدولي. وبذلك يخضع هذا الفعل للتجريم ويدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية حتى بالنسبة للدولة التي تستند إلى قوانين من صنعها أو تحت دواعي الأمن ما دام الفعل لا يسمح به القانون الدولي، فإلى أي حد التزمت إسرائيل في مشروعها لتهجير الفلسطينيين في غزة بالنصوص القانونية الدولية المتبعة في هذا الخصوص؟

مهمة تجميع المنفيين ومعدلات النمو السكاني الإسرائيلي ودلالاته:

ومهمة “تجميع المنفيين”، التي أوضحها مبكرًا “ليفي أشكول” في كتاب إسرائيل الرسمي، وأكدته التصريحات الرسمية المتوالية، تكشف بجلاء المخططات التوسعية على حساب دول المنطقة، ويرتكز أساسها على “تجميع يهود المنفى”، وهو أمر يفرض توسيع إقليمها حتى تتمكن من استيعاب الملايين من اليهود الذين ما زالوا في الدياسبورة (المنفى)، وتحقيق حلم “إسرائيل الكبرى”. وحسب قول “بن جوريون” فإن الوضع الراهن لا يكفي، لقد أنشأنا دولة ديناميكية مستندة إلى التوسع، وخلق الدولة الجديدة لا يمكن أن ينقص بأي حال من المجال التاريخي لأرض إسرائيل! ثم يكشف بصراحة عن النوايا التوسعية بقوله: “لا أستطيع أن أتصور كيف تضاعِف إسرائيل عدد سكانها خمس مرات وبدون حساب نمو السكان الطبيعي، وتظل في إطار حدودها الحالية”.

وحسب بن جوريون، فإن دولة إسرائيل هي دولة كل يهود العالم جميعًا لكي يصبحوا مواطنين بها، تطبيقًا لقانون العودة الذي يسمح لأي يهودي في العالم بالهجرة لإسرائيل واعتباره مواطنًا عائدًا من المنفى إلى وطنه. وقد خلقت إسرائيل لنفسها على هذا النحو كيانًا قوميًّا عابرًا للحدود والقوميات، لا يقتصر على اليهود الذين في داخلها، بل يمتد إلى يهود العالم ممن يحملون جنسيات للدول التي ينتمون إليها، وهو ما يثير مسألة الولاء المزدوج.

إن الغاية الحقيقية الكامنة وراء تحريض يهود العالم على هجر أوطانهم، هي تحقيق المزيد من التوسع الإقليمي، ولقد أثبتت الفترة الماضية أن مخططات التوسع والعدوان غالبًا ما تسبق دعوات الهجرة، وتكون الدعوة للهجرة اليهودية إليها الجانب العملي لدعم هذا التوسع وترسيخه، فالمخططات الإسرائيلية تقوم على مبدأ التوسع ودعوة يهود العالم لملء المناطق العربية التي تقوم إسرائيل باحتلالها. فبعد شهرين من العدوان على الدول العربية (يونيو 1967)، ناشد بن جوريون يهود العالم بالقدوم في موجات هجرة كبيرة إلى إسرائيل بقصد الاستيطان في الأماكن الخالية في المناطق التي احتلتها القوة الإسرائيلية بعد العدوان.

واستمرار دعوة إسرائيل لهجرة يهود العالم إلى فلسطين وراؤها هدف آخر، هو أن يتفوقوا عدديًّا على السكان الأصليين (الفلسطينيين).

إسرائيل والحرب على غزه والقوانين الدولية:

تمثل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة انتهاكًا صارخًا لأحكام ومبادئ القانون الدولي الإنساني؛ إذ عمدت إسرائيل إلى تهجير أهالي قطاع غزة إلى جنوب القطاع بادعاء أنها منطقة آمنة، ثم اتضح أنها لا تريد تهجير أهالي قطاع شمال غزة نحو الجنوب فحسب، وإنما تسعى إلى تهجيرهم إلى (مصر، والأردن)، ما يثير تساؤلات حول التكييف القانوني لذلك التوجه الإسرائيلي، يتطلب هذا الأمر التعرف على الإطار العام لجريمة التهجير القسري من منظور القانون الدولي، والتطرق إلى أمثلة لهذه الجريمة وكيفية التعامل معها، وبيان الحالة الفلسطينية في عموميتها، وخصوصية حالة غزة والرأي القانوني فيما يتسرب حول نية إسرائيل تهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء([2]).

يُقصد بالإبعاد القسري: نقل مجموعة كبيرة من السكان بالقوة من منطقة ضمن سياسة حكومية أو طبقًا لسلطة دولية، بحيث يتم ذلك على أساس إثني أو ديني ويشمل كلاً من: النقل، والإخلاء القسري، والترحيل القسري، وإجبار السكان على الابتعاد عن موطنهم وأملاكهم، وذلك ما تفعله إسرائيل، منذ عقود، بإبعاد الفلسطينيين عن موطنهم، فالعبرة بإرغام السكان قسرًا على نقلهم من مكان لآخر دون رضاهم.

ويُعد نقل السكان المدنيين من أماكنهم المعتادة إلى أماكن أخرى من دون مبررات يسمح بها القانون الدولي أمرًا محرمًا، أيًّا كان المكان الذي سوف يٌنقلون إليه، فلا يوجد أي سبب أو دافع قانوني أو شرعي لإجازة هذه التصرفات؛ نظرًا لما تتركه من انعكاسات جسيمة على المنقولين؛ بسبب إبعادهم عن ديارهم وفقدان ممتلكاتهم وفقدان أمنهم واستقرارهم.

في هذا الصدد، يُعد التهجير القسري ممارسة مرتبطة بالتطهير العرقي، تقوم به حكومة أو مجموعة أخرى؛ بسبب انتماءاتها (السياسية، أو الدينية، أو العرقية)؛ بهدف إخلاء إقليم معين وخلق منطقة بالمقابل متجانسة عرقيًّا، ويعد التهجير القسري الصفة المكملة لجريمة التطهير العرقي، وهو ما يحدث في ممارسات الحكومة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين المقيمين فيها([3]).

التهجير القسري وفق التوجه الإسرائيلي يعتبر جريمة دولية تمثل انتهاكًا واضحًا لقواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ويُعرَّف التهجير القسري بأنه “إبعاد المدنيين بموجب اتفاقية جنيف الرابعة عن أراضيهم المحتلة إلى أماكن أخرى بعيدة عن وطنهم”. ونصَّ نظام روما الأساسي على جرائم الإبعاد والنقل غير المشروع، وعدَّها من جرائم الإبعاد للفقرة (هـ) من المادة (6)، ومن الجرائم ضد الإنسانية وفقًا للمادة (7) حيث عرف النظام إبعاد السكان أو التهجير القسري للسكان بأنه: “نقل الأشخاص المعنيين قسرًا من المنطقة التي يوجدون فيها بصفة مشروعة بالطرد أو بأي فعل قسري آخر دون مبررات يسمح بها القانون الدولي”. وفقًا للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، فإن التهجير القسري جريمة حرب.

وفي هذا الصدد، تشكل جريمة تهجير السكان المدنيين قسرًا انتهاكًا واضحًا لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية وكرامته الإنسانية المكفولة بالحماية بموجب المواثيق والأعراف الدولية كافة، فقد حظر القانون الدولي التهجير القسري للمدنيين بشكل مطلق، سواء كان التهجير من داخل الدولة نفسها ما دام تم رُغم إرادة السكان المدنيين. بالتالي، تعد جريمة التهجير القسري من الجرائم التي ضد الإنسانية وجريمة حرب، وهي جريمة تستوجب العقاب، وقد جاءت في العديد من قوانين المحاكم الدولية الخاصة كالنظام الأساسي لكل من: المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة وروندا، وأخيرًا النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

وقد نص القانون الدولي الإنساني صراحة على حظر الترحيل والإبعاد القسري للأشخاص المدنيين؛ حيث تناولت المادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشأن حماية المدنيين وقت الحرب النص على أن: “يُحظر النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى محتلة أو غير محتلة أيًّا كانت دواعيه”.

وأشارت المادة (85) فقرة (4/أ) من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 إلى أن نقل السكان المدنيين يعد انتهاكًا وخرقًا لأحكام البروتوكول، ونصت المادة (17) في فقرتها الأولى من البروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977 على منع وحظر نقل السكان في أثناء النزاعات المسلحة الداخلية، ونصت الفقرة الثانية على منع إجبار السكان المدنيين على مغادرة ديارهم، وأن كل ذلك يمثل خرقًا جسيمًا لاتفاقيات جنيف لعام 1949، ولقواعد القانون الدولي الإنساني.

وقد نصت المادة (8) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية على جرائم الحرب، وأدرجت جريمة الإبعاد أو النقل القسري للسكان ضمن هذه الجرائم؛ حيث جاء بالمادة (8) فقرة (2/أ/7) من نظام روما الأساسي النص على الإبعاد أو النقل غير المشروع للأشخاص المحميين بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، وعُدّت هذه الأفعال انتهاكات جسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين في أثناء الحرب، فقد حظرت المادة (49) من الاتفاقية المذكورة النقل الجبري للسكان المدنيين، سواء كان ذلك بصورة فردية أو جماعية. وتضمنت المادة (8) فقرة (2/ب/8) من نظام روما الأساسي تجريم “قيام دولة الاحتلال (ولنتذكر أن إسرائيل دولة احتلال) على نحو مباشر أو غير مباشر بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها، أو إبعاد أو نقل كل سكان الأراضي المحتلة أو بعض منهم داخل هذه الأرض أو خارجها”. وهو ما تتبعه إسرائيل من عمليات تهجير قسري للسكان المدنيين في فلسطين منذ عام 1948 حتى الآن، ما أدى إلى لجوء آلاف الفلسطينيين إلى البلدان المجاورة كـ (مصر، والأردن، وسوريا، ولبنان، ودول الخليج العربي).

في سياق متصل، أشارت المادة (8) فقرة (2/هـ/8) من نظام روما الأساسي إلى “حالات تشريد السكان المدنيين وخروجهم قسرًا من أراضيهم وممتلكاتهم في أثناء النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي”، وأدرجت هذه الحالات ضمن جرائم الحرب، مالم يكن هناك دواعٍ أمنية أو مبررات عسكرية ملحة لارتكاب هذه الأفعال.

وتأسيسًا على  ذلك، أصبح الكثير من الفلسطينيين بدون وطن، فخلال حرب 1948، تم تهجير قسري لآلاف الفلسطينيين من أراضيهم وممتلكاتهم إلى الضفة الغربية وقطاع غزه والدول العربية المجاورة كـ (الأردن، وسوريا، ولبنان)، واستمرت سياسة التهجير بعد ذلك خلال حرب 67 التي نتج عنها تهجير 200 ألف من الفلسطينيين من القدس والضفة الغربية إلى الحدود مع الأردن سيرًا على الأقدام وإجبارهم على توقيع وثيقة تفيد بأن ترحيلهم كان بمحض إرادتهم، ما دفع مجلس الأمن إلى إصدار القرار رقم (242)، الصادر في 22 نوفمبر 1967، الذي يؤكد عدم جواز الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحرب.

ادعاء إسرائيل بأن استمرار حربها في غزة هدفه القضاء على حماس:

إن محاولة القضاء على حماس غطاء تستخدمه إسرائيل للقضاء على الفلسطينيين بإبادة أكبر عدد منهم بالمجازر التي ترتكبها في غزة بشكل يومي، فقد بلغ عدد الشهداء حتى يوم 10/5/2024، 35 ألف شهيد بالإضافة إلى 75 ألف جريح.

وتسبب القصف الإسرائيلي المستمر لجميع أنحاء قطاع غزة في نزوح جماعي لمجتمع في حالة تغيير مستمر؛ حيث تواصل قوات الاحتلال إجبارهم على مغادرة أماكن معيشتهم، فقط للانتقال إلى أماكن غير آمنة بالقدر نفسه، وكان هذا أكبر تهجير للشعب الفلسطيني منذ عام 1948.

أثرت هذه الحرب في أكثر من مليوني شخص، أي تقريبًا جميع سكان غزة، سيعاني الكثير منهم جسديًّا ونفسيًّا مدى الحياة، وتعاني الغالبية العظمى- خصوصًا الأطفال- الصدمات الشديدة؛ حيث تسبب القتال العنيف في ، وحول خان يونس (جنوب قطاع غزة) مثلًا في خسائر في الأرواح وأضرار في البنية التحتية المدنية، ويشمل ذلك أكبر ملجأ للأنروا في المنطقة الجنوبية، وهو مركز تدريب خان يونس، ما أجبر مئات الآلاف من الفلسطينيين على الفرار جنوبًا باتجاه رفح التي تشهد اكتظاظًا شديدًا، وتم الإبلاغ عن تحركات للسكان من رفح باتجاه مخيمي (دير البلح، والنصيرات) للاجئين في المنطقة الوسطى.

عقب تكثيف الغارات الجوية في رفح التي نزح إليها ما يصل إلى 1.7 مليون شخص (أي أكثر من 75%من السكان) في مختلف أنحاء قطاع غزة، وأجبرت العائلات على الانتقال بشكل متكرر بحثًا عن الأمان.

وتعود فكرة “الإبادة” إلى ما قبل إنشاء إسرائيل؛ ففي عام 1940 عقدت مجموعة من المفكرين الصهاينة اجتماعًا لمناقشة المشاكل التي ستواجه إقامة إسرائيل، وفي مقدمتها تفوق العرب الفلسطينيين مقارنة بمعدلات النمو السكاني اليهودي في فلسطين، مما يشكل خطرًا على مستقبل الدولة اليهودية تحت التكوين، والتقت آراء المجتمعين في هذا التاريخ المبكر أن حل ذلك هو الإبادة للسكان الأصليين (أي الفلسطينيين). وهذا ما حدث ويحدث الآن بالفعل في فلسطين، لذا قامت إسرائيل بالاستيلاء على الأساس المادي الذي يستند إليه المجتمع الفلسطيني ذاته، وأحلت المستوطنين اليهود محل الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم. وفي حالات حاول المستعمر الصهيوني فيها إبادة أعداد من الفلسطينيين، ونجح في ذلك إلى حد ما كما حدث في (دير ياسين، وكفر قاسم، … وغيرها)، فالهدف من مثل هذه المذابح ليس طرد الفلسطينيين، وإنما الإجهاز عليهم فقط عبر إيجاد حالة من الفزع والخوف لدى المدنيين ليقوموا بالنزوح من أراضيهم([4]).

إن ما يدور بقطاع غزة منذ أكثر من ثمان أشهر ومازال، يعتبر حرب إبادة جماعية وتواصل القوات الغازية تنفيذه بكل ما أوتيت من شراسة وحقد وكراهية، غير ما تقترفه من مجازر شنيعة وجرائم نكراء ضد المدنيين العُزَّل، وتقوم بشن الغارات الجوية المروعة والعمليات البرية الممنهجة وغير المبررة، وهي جريمة حرب يستمر المحتل في تعميقها، من خلال: ضرب ستار حديدي على المعابر، ومنع إدخال المساعدات الإنسانية الملحة والإمدادات الحيوية (من دواء، وغذاء، وماء، ووقود، وكهرباء) في سعي محموم إلى تجويع السكان والتنكيل بهم والقضاء على كل مقومات حياتهم والدفع بهم إلى التشريد والتهجير القسري رغم أن إسرائيل وقعت على وثيقة ضد الإبادة الجماعية.

وهذا يفسر، لماذا بقيت إسرائيل بلا حدود سياسية؟ وذلك لإفساح المجال أمام مشروعات التوسع الإقليمي مستقبلًا، على حساب طرد السكان الفلسطينيين العرب من ديارهم وأراضيهم، وهذا نوع من استعمار الاستيطان في إطار مفهوم “يهودية الدولة”.

وهكذا أصبحنا أمام شعب بأسره تحول إلى أرقام، إلى ركام من الأرقام اليومية المفزعة مليوني غزاوي نزحوا من بيوتهم، إلى مستشفيات ومدارس ومناطق أبعد في مدن ومحافظات قطاع غزة، نجوا بإلحاح من غريزة الحياة، وتحذيرات عدو قال: إنه “حريص على حياتهم”، لكنه كان ينتظرهم بهدايا الموت في الأماكن التي نصحهم بالنزوح إليها، وفي ضميره حلم التخلص منهم نهائيًّا بالموت أو بالهجرة القسرية؛ لينضموا إلى خمسة ملايين وسبعمئة ألف لاجئ فلسطيني خرجوا نهائيًّا من بيوتهم منذ عام النكبة الأولى 1948.

كما أن الاقتحامات والاستهدافات الإسرائيلية في مخيمات ومدن الضفة الغربية، حيث بلغ عدد المعتقلين في الضفة أكثر من سبعة آلاف، وهو رقم قياسي خلال نحو خمسة أشهر، مرشح للتزايد في ضوء استمرار الممارسات الإسرائيلية، أيضًا أسفرت العمليات الإسرائيلية في الضفة الغربية، بما فيه القدس، منذ بدء الحرب عن مقتل 399 فلسطينيًّا وإصابة نحو أربعة آلاف و500 آخرين.

الإبادة الجماعية كبرى الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في غزة:

تُعد جريمة الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة من كبرى الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل، وجوهر جريمة الإبادة هو إنكار حق بقاء مجموعات بشرية بعضها أو كلها، فضلًا عن منافاتها للأخلاق ومبادئ الأمم المتحدة. وفي جريمة الإبادة يقتل مرتكب الجريمة شخصًا أو أكثر أو يجبرهم على العيش في ظروف تؤدي حتمًا إلى هلاك مجموعة من السكان، تشمل هذه الظروف الحرمان من إمكانية الحصول على الأغذية والأدوية، وهو ما فعلته دولة الاحتلال في قطاع غزة بمنع وصول المساعدات الإنسانية. وقد أُدرجت الإبادة الجماعية كجريمةٍ دولية وكجريمة ضد الإنسانية في جميع المواثيق الدولية، وزاد الاحتلال من حرب الإبادة والانتقام من المدنيين للضغط على المقاومة وأهالي القطاع التي راح ضحيتها آلاف الشهداء، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية، والمساكن، والمؤسسات، والمساجد، والمستشفيات، والجامعات، والمدارس، حتى وصل التدمير إلى ما نسبته 70% من القطاع([5]).

وسكان إسرائيل يتزايدون – كما هو معروف – بالهجرة وليس بالتكاثر الطبيعي؛ ففي عام 1966 قدر عدد سكان إسرائيل وفقًا للإحصاءات الإسرائيلية بـ 265740 من بينهم 234487 يهوديًّا، ولد عدد منهم في فلسطين، والباقون جاؤوا عن طريق الهجرة، والنمو الطبيعي المنخفض نسبيًّا لسكانها من اليهود ينظر إليه بالقلق وعدم الارتياح.

يكتسب تقرير دائرة الإحصاءات المركزية الإسرائيلية هذه السنة قيمة استثنائية لما يمكن أن تحمله “الأرقام الرسمية” من معطيات سواء أكانت صحيحة أو متضاربة أو “تجميلية”، لا سيما أنه يأتي على مسافة سبعة أشهر من “طوفان الأقصى” بكل ما تركه من تداعيات: سياسية، وعسكرية، وأمنية، وديموغرافية، واقتصادية في البنية الإسرائيلية.

يأتي نشر التقرير لمناسبة الذكرى الـ 76 لنشوء الكيان العبري، أي أن عدد سكان هذا الكيان تضاعف 12 مرة منذ العام 1948 حتى يومنا هذا، ليقترب من 10 ملايين نسمة. واللافت للانتباه في هذا التقرير، أنه يتحدث عن زيادة عدد السكان بنسبة 189 ألفًا (بينهم 27 ألف مهاجر جديد) خلال العام 2023 متجاهلًا الوقائع التي تحدث عنها الإعلام العبري، وأبرزها هجرة مئات الآلاف من إسرائيل منذ 7 أكتوبر، ومع ذلك فمازال البعد الديموجرافي الفلسطيني المتصاعد يثير القلق لدى إسرائيل ([6]).

وينطبق أمر الإخلاء أو الرحيل القسري الذي أصدرته إسرائيل على نحو 1.1 مليون شخص الذين يضطرون للنوم في العراء في منطقة محاصرة بالفعل، وتتعرض للقصف الجوي في ظل غياب (الوقود، والكهرباء، والماء، والطعام)، كما ينطبق الأمر على منطقة تعرضت لأضرار جسيمة في الطرق والبنية التحتية خلال الأسبوع الماضي، الأمر الذي يجعل عملية الإخلاء مهمة شبه مستحيلة من الأساس وينطبق قرار الإخلاء كذلك على موظفي الأمم المتحدة، وأكثر من 200 ألف شخص يحتمون داخل منشآت تتبع الأمم المتحدة بينها مدارس ومراكز صحية وعيادات، وينطبق أيضًا على مئات الآلاف من الأطفال نحو نصف سكان غزة تحت 18 عامًا.

وقد ناشد الأمين العام للأمم المتحدة إسرائيل بإعادة النظر في هذا القرار ويستمر الأمين العام بالقول: “إنني أحاول أن أفكر في الظروف على الجانب الآخر لو كنت فلسطينيًّا أعيش في غزة، لقد تعرض المجتمع الذي أنتمي إليه على امتداد أجيال وربما جرى إجبار أجدادي على مغادرة قُراهم ومنازلهم، وإذا كنت محظوظًا، فقد نجا أطفالي بالفعل من حروب عدة دُمرت فيها الأحياء التي كانوا يعيشون بها وقتلت أصدقائهم”.

وتنظر إسرائيل إلى، وجود أي عنصر غير يهودي داخل هذه الدولة سيؤدي إلى إفشال المشروع الصهيوني من أساسه، وهذا يتطلب وفق المفهوم الصهيوني ضرورة إحلال اليهود محل العرب الفلسطينيين.

وكان معظم الصهاينة مدركين للطبيعة الاستعمارية الاستيطانية والاحتلالية للمشروع الصهيوني، ولعل شعار “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب” هو إفصاح عن هذا الاتجاه الإحلالي حتى يتسنى إقامة “وطن قومي يهودي”، وتوصلوا في وقت مبكر إلى نتيجة مَفادها، أنه ليس هناك مكان يتسع لكلا الشعبين (العربي، واليهودي) معًا في هذا البلد، وأنه من الضرروي حسب قول “جوزيف واينز” ممثل الوكالة اليهودية المسؤول عن الاستيطان في جريدة دفار (29 سبتمبر 1967): “إن نقل العرب من هنا، سيكون في مقدور الدولة الصهيونية استيعاب الملايين من إخواننا([7])” وهو المخطط الذي تسعى إسرائيل إلى تنفيذه منذ عدة سنوات “بالإبادة” على الأرجح.

رغم ذلك، والشعب الفلسطيني صامد صمود الأبطال في غزة قرابة ثمانية أشهر دُمر خلالها 145 مسجدًا وكنسية، و390 مدرسة وجامعة، و25 مستشفى تعرض للقصف،  ومعها121 سيارة إسعاف أحرقت بمن فيها، و326 طبيبًا ومسعفًا وممرضًا قُتلوا، و148 من منقذي الدفاع المدني انضموا للضحايا الذين كانوا يحاولون إخراجهم من تحت الأنقاض، و148 من منقذي الدفاع وآخرين من العاملين في وكالة غوث اللاجئين ماتوا مع الفلسطينيين، وقد وصل عدد الفلسطينيين الذين أبيدوا حتى15/5/2024، 35 ألف شهيد و75 ألف جريح. وقد أعاد المخرج البريطاني اليهودي “جليزر” الهولوكوست إلى الساحة الفنية بصفته حدثًا إنسانيًّا كبيرًا، وحرره من خاطفيه الذين أرادوا تحويله إلى إحدى أدوات السيطرة الصهيونية على فلسطين ووسيلة لتخجيل العالم ومنعه من نقد إسرائيل.

قال جليزر في كلمته وهو يتسلم “الأوسكار عن أفضل فيلم دولي” إنه لم يصنع فيلمًا عن الهولوكست، بل صنع فيلمًا مزدوج الأهداف:

الهدف الأول: هو استعادة الهولوكست من خاطفيه الصهاينة ووضعه في إطاره الإنساني كحدث يمس البشرية جمعاء. الهدف الثاني: وهو الأهم، يتمثل في جعلنا نفهم أننا نعيش اليوم في جوار الهولوكست، وأننا جميعًا نتحمل مسؤولية المذبحة الدائرة.

وقد ناشد الأمين العام للأمم المتحدة إسرائيل إعادة النظر في هذا القرار ويستمر الأمين العام بالقول: “إنني أحاول أن أفكر في الظروف على الجانب الآخر لو كنت فلسطينيًا أعيش في غزة، لقد تعرض المجتمع الذي أنتمي إليه على امتداد أجيال، وربما جري إجبار أجدادي على مغادرة قراهم ومنازلهم، وإذا كنت محظوظًا، فقد نجا أطفالي بالفعل من حروب عدة، دمرت الأحياء التي كانوا يعيشون بها وقتلت أصدقائهم”، “وإن كنت فلسطينيًّا ليس لدي مكان لأذهب إليه ولا يوجد حل سياسي في الأفق، أرى أن عملية السلام تتعرض للتجاهل من قبل المجتمع الدولي بشكل أساسي، مع ظهور المزيد من عمليات الإخلاء والاحتلال الذي يبدو لا نهاية له، من الطبيعي أن أشعر بإحساس هائل من الألم وانعدام الأمان ومن جديد بالغضب الأعمى([8])

وبعد (75) عامًا تتكرر مشاهد الترويع بصورة أفدح في غزة: تقتيل جماعي بكثافة نيران، وهدم بنايات فوق رؤوس أهلها، وأزالت أحياء بكاملها، استخدمت القنابل الفسفورية المحرمة دوليًّا، قطعت الكهرباء والمياه، وقصفت المستشفيات وسيارات الإسعاف؛ للوصول إلى الهدف نفسه… “التهجير القسري”.

وقد نزح عشرات الآلاف إلى الجنوب هربًا من الموت المحقق دون أن يكون لديهم أدنى استعداد لمغادرة القطاع المنكوب إلى سيناء والتوطن فيها بذريعة الأمن والحماية.([9])

وقد أجبر جيش الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين على إخلاء مناطق جديدة في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، وأفادت وكالة الأنباء والمعلومات الفسلطينية “وفا” بأن قوات الاحتلال أجبرت الفلسطينيين على إخلاء مناطق جديدة في مدينة رفح، مشيرة إلى أن الاحتلال طالب -عبر منشورات ألقاها من الطائرات- السكان النازحين بضرورة إخلاء: منطقة رفح، ومخيمات رفح، والشابورة، والأحياء (الإداري، الجنينة، وخربة العدس)، بحجة أنها مناطق قتال خطيرة.

من جانبها، أعلنت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونرو)، أن عدد النازحين من رفح ارتفع إلى 150 ألف فلسطيني، مع استمرار القصف الإسرائيلي المكثف على المدينة. وقالت “لويز ووتريدج” من قسم الإعلام في الوكالة عبر منصة إكس (تويتر سابقًا): “أينما نظرت في غرب رفح الآن وجدت العائلات تحزم أمتعتها في كل مكان، الشوارع أصبحت خالية بشكل ملحوظ”.

وأضافت ووتريدج: “تشير التقديرات إلى أن 150 ألفًا فروا حتى الآن من رفح”. مشيرة إلى صدور أوامر جديدة من الجيش الإسرائيلي بإخلاء مناطق جديدة في رفح بجنوب القطاع وجباليا في الشمال.

وفي السادس من مايو، أجبر الاحتلال الفلسطيني على إخلاء المناطق الشرقية من مدينة رفح، والنزوح إلى (خان يونس، والمواصي) رغم التدمير الواسع فيهما؛ بسبب القصف، وصعوبة نصب الخيام فيهما.

وتتركز الكثافة السكانية شرق رفح في أحياء السلام وجنينة وبلدة الشوكة وتضم هذه المناطق: مخيمات صغيرة للنازحين، ومراكز إيواء، إضافة إلى السكان الأصليين لها.

ولكن عظم التضحيات الفلسطينية وصمودهم على قهر الاحتلال طوال 75 عامًا، ورفضهم المطلق للتهجير القسري، وتمسكهم بأراضيهم رغم ما لحق بها من تدمير وحشي _يعكس تصميمًا قويًّا لتمسك أهل غزة بحقوقهم المشروعة وعودة بعضهم إلى ديارهم في شمال غزة رغم ما لحق بها من دمار والتصدي لأوامر جيش الاحتلال.

ومن أجل كل ما سبق، فقد وجب الحذر الشديد من التصرفات الإسرائيلية وأن تتحسب كل دولة عربية -خصوصًا تلك التي تقع في خط المواجهة وبالأخص مصر، لمواجهة أفعال جنونية إسرائيلية من حكومة تسيطر على الأمور فيها اليمين المتطرف أنه رغم المستندات الموقع عليها من طرف الحكومة الإسرائيلية لا يتطابق ما هو مكتوب لا يتطابق موقف إسرائيل في أن تستغل ذلك وتستمر في شن عملية إبادة جزئية على الفلسطينيين الموجودين في رفح. وهو ما دفع ونبه “يوفال ديسكن” الرئيس السابق للشاباك إلى وصف بنيامين نتياهو “بالرجل الذي أوصل إسرائيل إلى المستنقع العميق، وإلى أخطر أزمة أمنية في تاريخ الدولة، ومجموعة التهديدات الناجمة عن ذلك قد تكون وجودية، لذلك المطلوب معالجة فورية، هذه الأزمة ليست قدرًا، لقد قادنا نتنياهو من تقصير أمني وطنب إلى آخر، وصولًا إلى 7 أكتوبر، فعل ذلك بغطرسة لا متناهية، وانفصال متزايد عن الواقع، مع مستشارين فاشلين، وجنون عظمة لا نهاية له، وقبل كل شيء، زعامة شخصية تعتمد على الشرذمة والكذب”، وذكرت “هاأرتس” أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يستطيع الآن أن يضيف إلى سجل إخفاقاته اللامع إخفاق الأزمة الدبلوماسية مع أقرب حلفاء إسرائيل، وهي القوة العظمى الأمريكية التي تحمي إسرائيل في الخارج، وبذلك قصارى جهدها للوقوف بجانب إسرائيل منذ اندلاع الحرب. ووصفت نتنياهو بأنه “عميل الدمار الإسرائيلي” الذي “أصبح عبئًا على إسرائيل”.

وفي نهاية يناير الماضي، طلبت محكمة العدل الدولية في “لاهاي” من إسرائيل ستة تدابير مؤقته لحماية المدنيين الفلسطينيين في غزة، بعدما خلصت المحكمة إلى خطر وجود “حالة معقولة من الإبادة الجماعية” يقوم بها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة. ومن بين هذه التدابير: مطالبة إسرائيل باحترام التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، ومنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، واتخاذ تدابير فورية وفعالة لضمان توفير المساعدة الإنسانية للمدنيين في غزة. ومع ذلك، فإن التدهور الحاد والمتسارع للأوضاع الإنسانية في غزة دليل على أن الحكومة الإسرائيلية تجاهلت كليًّا قرار محكمة العدل الدولية، ولكن إسرائيل لم تقم بالتزاماتها في هذا الصدد. وإسرائيل لا تخشى أي شيء، في جعبتها حق الفيتو الأمريكي وحقها في رفض التحقيق فيما أشار إليه ذلك التقرير التاريخي من جرائم حرب، ولكنها تخشى تداعياته فيما يتعلق بإمكانيات اعتقالات القادة الإسرائيليين الذين ارتكبوا تلك الجرائم خلال رحلاتهم خارج إسرائيل.

ختام:

تحتاج الدول إلى ما هو أبعد من القوة من أجل البقاء، ولو لم يتوافر لإسرائيل قادة ومفكرون يتمتعون بالكياسة ونقاء الضمير؛ لاستنباط المغزى الحقيقي من الأحداث، ولنشر القيم الأساسية للأديان ومن ضمنها اليهودية، التي تتناقض معها تمامًا شهوة القادة الإسرائيليين لأنهار الدم.

وبعد افتضاح جوهرها الحقيقي كنظام عنصري لا تنظر إسرائيل لنفسها في المرآه لتتعرف على حقيقته، مشكلة إسرائيل الجذرية أنها اعتنقت فكرة المؤامرات والدسائس وتتوهم أن الآخرين هم من يدبرون ضدها المكائد لمحوها من الوجود فتكونت لديها نفسية الكراهية والخوف المرضي الدائم والحقد والأخذ بالثأر.

ولا شك أن السلوك الإسرائيلي هو سلوك ممنهج في عمليات القتل والتدمير لسكان غزة، يكشف نزعة متأصلة في الثقافة العسكرية الإسرائيلية التي تجد سندًا سياسيًّا وعسكريًّا داخل اليمين المتطرف الإسرائيلي، كما يتم تغطيتها بتأويلات وتفسيرات دينية،إلا أنها ووجهت برفض عربي شامل وبموقف مصري مُصرٍّ على ثوابته بالنسبة للقضية الفلسطينية.

وعلينا ألا نخطئ فيما نريده لأنفسنا ونريده للغير، نحن نريد من إسرائيل والإسرائيليين: التوقف عن إشاعة حملة الكراهية والحقد ممارسة الإبادة الجماعية، وأوهام التهجير القسري للفلسطينيين، وإزالة حماس من المشهد الفلسطيني، وأن يتم التعامل معها كدولة طبيعية ومجتمع طبيعي. ولن يتحقق ذلك إلا بعملية مراجعة إسرائيلية كاملة لسياسة الاستيطان والتدمير، وقتل الأبرياء، والتخلي عن أوهام إستراتيجية إسرائيل الكبرى في المنطقة. فهل تستطيع إسرائيل أن تصبح دولة شرق أوسطية، وتنتمي لمحيطها الجغرافي وتتعايش وتتكيف مع حقائقه؟ أم أنها ستظل أشبه بالقلاع الصليبية التي أقيمت في نفس المكان في العصور الغابرة ثم ما لبثت أن غالبتها حقائق المنطقة التي زرعت فيها!!


([1]) تقديم الدكتور بطرس غالي لكتاب “واجبات وحقوق الإنسان المصري المهاجر في دول الإتحاد الأوروبي عام 2010، المجلس المصري القومي لحقوق الإنسان، ص 5 – 11.

([2]) د. إبراهيم السيد رمضان، التهجير القسري الفلسطيني. رؤية قانونية، السياسة الدولية، العدد 235 يناير 2024، ص 162.

([3]) عن ظاهرة التهجير القسري انظر: أ. ابراهيم السيد رمضان، التهجير القسري الفلسطيني، رؤية قانونية، مجلة السياسة الدولية العدد 235 يناير 2024.

ب. د. محمد عربي، الجرائم الإنسانية بقطاع غزة والمسؤولية الدولية، مجلة السياسة الدولية، العدد رقم 239، لسنة 2024.

([4]) د. عبد الوهاب المسيري، الصهيونية والحضارة الغربية، دوني للنشر والتوزيع، يناير 2018 ص 25.

([5]) د. محمد حربي، مرجع سبقت الإشارة اليه.

([6]) يوسف نعيم، “ماذا تقول الديموجرافية عن مستقبل إسرائيل وإخوانها؟”، صحيفة الشروق، 1/5/2024.

([7]) انظر أيضًا كتاب د. عبد الوهاب المسيري، “الصهيونية والحضارة الغربية” دون للنشر والتوزيع 2018، لا سيما ص 25 وما بعدها.

([8]) أنطونيو غويتريش (الأمين للأمم المتحدة)، في مقال نشر بصحيفة الشرق الأوسط، بعنوان “لماذا على إسرائيل إعادة النظر في قرار إخلاء غزة؟” الشرق الأوسط، بتاريخ 16/10/2023.

([9]) عبد الله السناري، التهجير القسري ومنوال سيناء، الشروق، 16/10/2023

اظهر المزيد

د. مصطفى عبدالعزيز

دبلوماسي سابق وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى