بدأ التاريخ الحديث لمنطقة “الشرق الأوسط” وتحديدًا منطقة المشرق العربي مع اتفاقية “سايكس – بيكو” عام 1916، ومن ثم انهيار الدولة العثمانية في العام 1918، والتي كانت تسيطر على الولايات العربية في المشرق وشمال إفريقيا.
شهدت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى ظهور أكثر من “كيان” مثل: (العراق، وشرق الأردن) تحت الحماية الإنجليزية، و(سوريا، ولبنان الكبير) تحت الحماية الفرنسية، فيما تركت فلسطين معلقة برعاية الإنجليز؛ لتكون هدية الغرب الاستعماري لليهود بعدما وعدهم وزير خارجية بريطانيا اللورد “آرثر بلفور” بذلك عام 1917.
خلال الحرب العالمية الثانية وفي أثنائها نالت (سوريا، وشرق الأردن، ولبنان) استقلالها الكامل، فيما تولت بريطانيا تحضير الأسس لإنشاء دولة إسرائيل في العام 1948؛ لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ المنطقة كانت سمتها الأساسية الحروب والنزاعات وعدم الاستقرار.
قد يكون لبنان بعد الحرب العالمية الثانية، هو الدولة أو الكيان أو الساحة الأكثر تعرضًا للاضطرابات والحروب الداخلية والخارجية، وتتداخل في هذه الصورة “المهزوزة” عوامل كثيرة محلية وخارجية.
عندما فرضت بريطانيا وفرنسا انتدابهما على المنطقة، عملتا على وضع “الأسس المناسبة” لعدم تمكين هذه الكيانات الجديدة من أن تنعم باستقلال حقيقي، وزرعتا في داخلها من عوامل الانقسام الاجتماعي والعرقي والديني ما يكفي كي لا تنهض مجتمعات هذه الدول وفقًا لما ترغب به شعوبها.
من لبنان الكبير إلى الاستقلال:
لبنان أحد أبرز الأمثلة على “التركة الخبيثة” للاستعمار الفرنسي، ولا يمكن أن نفصل كل ما تعرض له لاحقًا من حروب أهلية وانقسامات داخلية واعتداءات خارجية من دون ربط ما جرى وحتى الآن بظروف نشوء كيان ” لبنان الكبير” عام 1920، وصولًا إلى الاستقلال في العام 1943.
في الأساس كان لبنان كيانًا يُسمى “متصرفية جبل لبنان” ضمن الدولة العثمانية يضم تقريبًا منطقة جبل لبنان الحالية فقط، امتدت من العام 1861 إلى العام 1918، وبعدما دخل الفرنسيون لبنان بعد الحرب العالمية الأولى واجهوا آراء متعددة من قبل المجموعات اللبنانية، المسيحيين وعمادهم الموارنة كانوا يريدون لبنان الصغير كما كان تقريبًا أيام المتصرفية، لكن الفرنسيين الذين كانوا يريدون كيانًا مسيحيًّا قادرًا على العيش اقترحوا ضم المناطق المحيطة بالمتصرفية وهي (شمال لبنان، والبقاع، والجنوب، ومدينة بيروت) إلى الكيان الجديد؛ حتى يُتاح لهذا الكيان أن يحظى بموارد للحياة يوفرها (نهر الليطاني، وسهول البقاع، والشمال، والجنوب)، فكيان المتصرفة كانت تنقصه الأراضي الزراعية ونصف سكانه ماتوا من الجوع بسبب الحرب العالمية الأولى.
لكن الاقتراح الفرنسي وجه بمعارضة مسيحية؛ فالمسيحيون في “لبنان صغير” سيشكلون أكثرية ساحقة ولا تعيش معهم سوى أقلية درزية، أما في “لبنان كبير” فإن غالبية سكان المناطق المقترحة للضم فهي من المسلمين (السنة، والشيعة، وبعض المسيحيين)، ومع أن “الغلبة” السكانية تبقى ليس فقط للمسيحيين بل للموارنة غير أنها غالبية محدودة يمكن أن تتغير وتنقلب مع السنين ويتحول المسيحيون وليس فقط الموارنة إلى أقلية.
ليس هذا فقط، فالمسلمون أيضًا في المناطق المقترحة للضم لم يكونوا يرغبون بالانضمام إلى لبنان الكبير، بل كان معظمهم يريدون أن يكونوا جزءًا من الدولة العربية التي أعلنها الملك فيصل الأول في دمشق، لكن في النهاية “وافق” الجميع طوعًا أو كرهًا على أن يظهر لبنان الكبير في الأول من أيلول/ سبتمبر 1920.
هذا كان الانقسام الأول في الكيان اللبناني، وكان اجتماع الطوائف مع بعضها بمثابة عملية تركيب أو لصق قطع بجانب بعضها البعض لا عملية إحساس أو شعور بدافع وطني أو قومي مشترك، كانوا مجموعات من الأقوام الدينية والمذهبية على بقعة جغرافية واحدة ليس إلا.
مع إعلان الاستقلال عام 1943، كان لبنان الكبير -وبهندسة فرنسية- ينهي 23 عامًا من تجارب صيغ الحكم الرئاسية والبرلمانية والاجتماعية والدستورية، والمفارقة أن فرنسا، رائدة العلمانية منذ العام 1905 في العالم، كانت تخيط للبنانيين أثوابًا من النزعات الدينية والطائفية، وتفرز نظامًا يعود في أحسن الأحوال إلى نظام القائمقاميتين في أربعينيات القرن التاسع عشر لجهة تقاسم الطوائف للإدارة العامة ومناصب الدولة. كانت صيغة لبنان الجديد عام 1943 طائفية بامتياز وغير مسبوقة في أي كيان نشأ بعد الحرب العالمية الأولى أو الحرب العالمية الثانية.
في العام 1932، جرى في لبنان أول إحصاء سكاني وأيضًا آخر إحصاء، ولبنان عاش منذ ذلك الوقت وحتى الآن من دون أي إحصاء سكاني رسمي، ومن هنا ندرك أن كل مشاريع الخطط الإنمائية كانت توضع من دون إحصاءات، أكثر من ضرورية على الأقل على الصعيد العلمي، لذلك كان مصير معظمها الفشل.
في إحصاء العام 1932 كانت نسبة المسيحيين 51 في المئة (400 ألف) ونسبة المسلمين 49 في المئة (383 ألفًا)، وكان الموارنة الطائفة الأكبر بنسبة 29 في المئة (226 ألفًا)، والسنة الطائفة الثانية بنسبة 22 في المئة (175 ألفًا)، والشيعة الطائفة الثالثة بنسبة 20 في المئة (154 ألفًا)، والأرثوذكس الطائفة الرابعة بنسبة 8 في المئة ( 76 ألفًا)، فالدروز بنسبة 7 في المئة (53 ألفًا)،… وهلم جرا.
ميثاق 1943:
وعلى هذا الأساس تقاسمت الطوائف الدولة: رئاسة الجمهورية للموارنة، ورئاسة الحكومة للسنة، ورئاسة البرلمان للشيعة، ونائبا رئيس الحكومة والبرلمان للأرثوذكس. وتقاسم المسلمون والمسيحيون مناصفة مقاعد الحكومة لكن عدد نواب المسيحيين في البرلمان كان أكبر من عدد النواب المسلمين (54 مقابل 45)، أما الوظائف العامة الأساسية فكان معظمها بيد المسيحيين، واستمر هذا الأمر حتى اتفاق الطائف في 30 أيلول/سبتمبر العام 1989.
لكن المسألة لم تقف عند التوزيع الطائفي وغلبة العنصر المسيحي في الإدارة والمواقع السياسية، فالصيغة التي انطلق منها النظام عام 1943 لم تكن فقط طائفية بالكامل، بل كانت ثنائية طائفية ضمن تعددية طائفية؛ بحيث إن ما يعرف بميثاق 1943 الذي حُكم لبنان بموجبه كان اتفاقًا شفهيًّا بين مكونين أساسيين في لبنان هما: الموارنة (رئيس الجمهورية بشارة الخوري)، والسنّة (رئيس الوزراء رياض الصلح)، وبالتالي تم تهميش الطوائف الأخرى وفي رأسها (الشيعة، والدروز، والأرثوذكس). أيضًا فإن الغلبة ضمن الثنائية المذكورة كانت بامتياز للموارنة، وأُعطي رئيس الجمهورية وفق الدستور صلاحيات جعلت منه “ملكًا غير متوج” لجهة حل البرلمان، وتكليف رئيس الحكومة، وتشكيل الحكومة، وتعيين الموظفين، وإبرام معاهدات الحرب والسلم وما إلى ذلك.
هذا المشهد العام في الداخل وتوزع ولاءات اللبنانيين الخارجية جعلت لبنان مع كل هزة ريشة في مهب الريح، ساد شعور حقيقي عند المسلمين أنهم مواطنون من الدرجة الثانية وأن مناطقهم محرومة من أنواع التنمية وأن لا كلمة لهم في قرارات الحكومة والنظام، وكان هذا من أهم أسباب اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، التي استمرت حتى العام 1989؛ حيث رفع المسلمون شعار “المشاركة” في الحكم.
وعلى الصعيد الخارجي، كان المسلمون يوالون على سبيل المثال جمال عبد الناصر، ومن ثم تنظيمات المقاومة الفلسطينية، التي تمركزت في جنوب لبنان بعد نكسة العام 1967، أما المسيحيون فكانوا يميلون إلى فرنسا والولايات المتحدة والغرب عمومًا.
وعندما نشبت الحرب الأهلية عام 1975 تداخلت فيها العوامل الداخلية والخارجية، فاستنجد المسلمون بالتنظيمات الفلسطينية، والمسيحيون بإسرائيل، وانتهت الأحداث إلى احتلال إسرائيل جنوب لبنان عام 1978 وصولًا إلى بيروت عام 1982 فيما خرجت منظمة التحرير من بيروت عام 1982؛ لتبدأ مرحلة جديدة ظهر في رأسها منظمة “حزب الله” كتعبير عن حركة المقاومة للاحتلال الإسرائيلي.
اتفاق الطائف:
انتهت الحرب الأهلية في العام 1989 باتفاق الطائف بين النواب المسيحيين والمسلمين، الذي انعقد في مدينة الطائف -السعودية، والذي منها أخذ اسمه، كان الاتفاق، المعمول به حتى الآن والذي تحول إلى نص دستوري، نهاية حقبة 1943 وبداية مرحلة جديدة بالكامل اسمها “حقبة الطائف”.
أنهى “الطائف” الغلبة المسيحية في كل شيء، وفي التقديرات الواقعية إن المسلمين باتوا يشكلون 70 في المئة من السكان فيما تراجع عدد المسيحيين من 51 إلى 30 في المئة. وفي هذا السياق، يتساوى عدد المسلمين السنة وعدد المسلمين الشيعة، لكن دستور الطائف، وعلى الرغم من هذا الخلل العددي الكبير لصالح المسلمين، جعل عدد نواب البرلمان مناصفة بين المسيحيين والمسلمين كما جعل وظائف الفئة الأولى في الدولة مناصفة بينهم، وما عدا ذلك بات مفتوحًا خارج القيد الطائفي.
لكن الجديد الآخر، وربما الأهم في الطائف، أنه أعاد توزيع الصلاحيات، ومع أن الطائف أبقى أعلى ثلاثة مواقع إدارية عسكرية ومالية وقضائية (قيادة الجيش، وحاكم المصرف المركزي، ورئيس مجلس القضاء الأعلى) بيد الموارنة، فإنه أفرغ بالكامل رئاسة الجمهورية المارونية من صلاحياتها ومنح صلاحيات كبيرة لرئاسة الحكومة وأخرى أيضًا كبيرة لرئاسة البرلمان، فيما جعل القرار السياسي والتنفيذي بيد “الحكومة مجتمعة” وهذا تعبير مهم جدًا أي لا أحد يستطيع التفرد بالقرار السياسي على الأقل من حيث المبدأ، لكن بالمحصلة فإن الطائف جعل المسيحيين خاسرين جدًا والمسلمين (السنة أولا والشيعة ثانيًا) رابحين جدًا.
لكن ما تغير أيضًا بعد الطائف أن الرعاية السورية والسعودية لتنفيذ الاتفاق ولكل الوضع السياسي في لبنان جعل الملف الاقتصادي بيد رئيس الحكومة السني “رفيق الحريري”، فيما حُصر ملف سلاح المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي بيد حزب الله تحديدًا، وعلى هذا الأساس كان النفوذ السعودي في لبنان يتعاظم وبموازاته كان النفوذ الإيراني بوصفه الراعي الأساسي لسلاح حزب الله أيضًا يتعاظم، وبات لبنان عمليًّا تحت نفوذ (سوريا، وإيران، والسعودية، ولبنان) بجناحيه السني والشيعي، فيما اشتكى المسيحيون من تهميش وضعهم ودورهم.
ما بعد اغتيال الحريري:
عندما اغتيل الحريري عام 2005، انسحب الجيش السوري من لبنان ومعه انكفأ النفوذ السوري لتخلو الساحة لجبهتين أساسيتين: جبهة 8 آذار/مارس المؤيدة لسوريا وإيران ويتزعمها حزب الله (ومعه حركة أمل بقيادة رئيس البرلمان نبيه بري)، وجبهة 14 آذار/مارس المؤيدة للسعودية والولايات المتحدة الأمريكية ويتزعمها قادة أساسيون من (السنة، والموارنة، والدروز) مثل: سعد الحريري، وسمير جعجع، ووليد جنبلاط. أما تسمية الجبهتين فجاءت من تواريخ قيامهما بتظاهرتين كبيرتين في العاصمة بيروت كلٌ على حدة في 8 و14 آذار /مارس 2005 بعد اغتيال الحريري.
باستثناء بعض المتغيرات (انسحاب جنبلاط والحريري من الجبهة)، فإن المعادلة الآن 2024، لا تزال تقريبًا على هذا النحو: جبهة المعارضين لحزب الله وترى في وجود السلاح بيد حزب الله أمرًا “مقوّضًا” للدولة وتهديدًا لفريق على آخر، وجبهة المؤيدين لسوريا وإيران بزعامة حزب الله وتنظر إلى معارضيها على أنهم مجموعة تخدم أجندات خارجية أمريكية- إسرائيلية من أجل إضعاف محور المقاومة وخصوصًا إيران، وتسليم كل لبنان مجددًا كما في العام 1982 للنفوذ الإسرائيلي.
يستند حزب الله في احتكار حمل السلاح بوجه إسرائيل إلى البيانات الوزارية جميعها منذ تشكيل أول حكومة في حقبة ما بعد الطائف و”ضرورة العمل على تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي”، ومنذ العام 2008 بدأت البيانات الوزارية تتضمن عبارة حق “الجيش والشعب والمقاومة” في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بكل أشكاله، ومنذ العام 2014 وحتى الآن “التأكيد على حق اللبنانيين في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي”. وهذا كان بمثابة منح سلاح المقاومة شرعية رسمية في مقاومة إسرائيل إضافة إلى دور الجيش اللبناني.
وبعد تحرير جنوب لبنان في العام 2000، استمر حزب الله في حمل السلاح باعتبار أن إسرائيل لا تزال تحتل جزءًا من أراضٍ لبنانية في مزارع شبعا وكفر شوبا على المثلث الحدودي مع إسرائيل وسوريا، وكانت إسرائيل احتلت هذه الأراضي عام 1967 باعتبارها أرضًا سورية، لكن لبنان وسوريا يقولان إنها أراضٍ لبنانية.
لكن أيضًا بعد تحرير الجنوب عام 2000، عمل لبنان وإسرائيل على تحديد الخط الحدودي بينهما وفقًا لاتفاقية العام 1923 بين إنجلترا التي كانت تسيطر على فلسطين، وبين فرنسا التي كانت تسيطر على لبنان، لكن خلافًا وقع على تحديد الحدود في أكثر من 13 نقطة حدودية فاكتفى بإطلاق اسم “الخط الأزرق”(سمي بالأزرق لأن الخط تم رسمه برعاية قوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان، والتي كانت ترتدي قبعات لونها أزرق) على الخط الحدودي، وهو ليس رسميًّا؛ لأن فض الخلافات على النقاط الـ 13 تلك لم يُحل، ويرى لبنان أن هناك أراض لبنانية لا تزال محتلة في هذه النقاط الـ 13، وبالتالي فإن سلاح المقاومة لا يزال حاجة شرعية إلى أن تنسحب إسرائيل أيضًا من هذه النقاط.
حرب تموز والقرار 1701:
في 12 تموز/يوليو من العام 2006، قام حزب الله باختطاف جنود إسرائيليين داخل الحدود الإسرائيلية في منطقة عيتا الشعب، وذلك لمبادلتهم بأسرى لبنانيين داخل سجون الاحتلال، وردت إسرائيل فورًا بحرب ضروس استمرت 34 يومًا، وعُرفت بـ “حرب تموز”، قامت خلالها بتدمير أجزاء واسعة من جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت؛ حيث وجود قيادات حزب الله إضافة إلى تدمير الكثير من المرافق اللبنانية من جسور ومحطات توليد كهرباء وغير ذلك.
وانتهت الحرب بصدور القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن الذي سيكون عنوان كل التحركات اللاحقة، ولا سيما في المرحلة الحالية بعد عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
يدعو القرار 1701 إلى بسط الجيش اللبناني وقوات الأمم المتحدة (الموجودة أصلًا مع الجيش) على امتداد المنطقة من جنوب نهر الليطاني إلى الحدود الدولية مع إسرائيل، كذلك يمنع ظهور أي تواجد مسلح لأي قوة أخرى غير الجيش والأمم المتحدة في تلك المنطقة، وفسّر القرار على أنه يفرض انسحاب مقاتلي حزب الله من منطقة جنوب الليطاني.
لكن الحزب لم ينفذ القرار بحرفيته، هو التزم بعدم الظهور المسلح العلني لكنه احتفظ بتواجده الكامل على الحدود وتبريراته هي: أن إسرائيل لم تنسحب من كامل الأراضي المحتلة لا في مزارع شبعا ولا في النقاط الـ 13، وبأن الطائرات والسفن الحربية الإسرائيلية تنتهك يوميًّا مجال السيادة اللبنانية في البر والبحر والجو، وبأنه ليس هناك من اتفاقيات أو ضمانات دولية لمنع إسرائيل من الاعتداء على لبنان أو استخدام أجوائه للاعتداء على سوريا. استمر الوضع على هذا النحو من العام 2006 إلى عملية طوفان الأقصى، وقد عرفت الحدود اللبنانية هدوءًا ملحوظًا على امتداد تلك السنوات.
“طوفان الأقصى” وما بعدها: إشغال ومساندة
مع عملية طوفان الأقصى ومن ثم العدوان الإسرائيلي الواسع على غزة تغير الوضع رأسًا على عقب؛ في اليوم التالي للعملية أعلن حزب الله على لسان قادته أنه سيساند المقاومة في غزة من خلال “إشغال” إسرائيل على الجبهة اللبنانية، ولكن ضمن “قواعد الاشتباك” المحدودة والمنضبطة التي كانت تسود الصراع بين إسرائيل وحزب الله من دون أن تتطور الأحداث إلى حرب شاملة.
انطلق حزب الله من موقفه التضامني مع غزة من عدة اعتبارات:
- وحدة الساحات والتضامن البديهي مع قضية الشعب الفلسطيني كونها قضية شعب محروم من أبسط حقوقه في الدولة المستقلة.
- إشغال الجبهة الشمالية لإسرائيل بما يضمن نشر الجيش الإسرائيلي لثلث قوته على الحدود مع لبنان، كما بشل المنطقة الشمالية في إسرائيل، بما يخفف من الضغوط على جبهة غزة.
- منع تفسير إسرائيل لهدوء الجبهة اللبنانية على أنه ضعف فتبادر فور الانتهاء من حرب غزة وربما قبل انتهائها إلى التفرغ للجبهة اللبنانية ومحاولة تصفية حزب الله بالكامل، وبالتالي اختار حزب الله الدخول في حرب استباقية تلحق أضرارًا بإسرائيل وتجعلها تفكر مليًا قبل أن تحاول فتح الحرب على لبنان، وفي حال قررت إسرائيل فتح الحرب فإن حزب الله سيذهب فيها حتى النهاية، أي إن المعارك ستبقى في حدود ما هو جارٍ، لكن إذا أرادت إسرائيل فتح حرب شاملة فإنها لن تكون في نزهة وقد تنقلب عليها.
وعلى هذا الأساس كانت الجبهة اللبنانية تشتعل منذ بداية الحرب على غزة وحتى كتابة هذه السطور.
وقد أسفر المشهد عن الخلاصات التالية:
- إشغال ثلث الجيش الإسرائيلي عن المشاركة في عمليات غزة.
- مغادرة أكثر من 200 ألف مواطن إسرائيلي قراهم على الحدود هربًا من قصف حزب الله.
- شل النشاط الصناعي والزراعي والتعليمي على امتداد الحدود داخل إسرائيل وبعمق لا يقل عن خمسة كيلومترات.
- إلحاق خسائر مادية وبشرية واقتصادية وسياحية غير مسبوقة بتلك المناطق.
شكل هذا عوامل ضغط كبيرة على الحكومة الإسرائيلية في أكثر من نقطة بدءًا من تخفيف عدوانها على غزة وصولًا إلى البحث في سبل وقف النار في لبنان بوساطة الدول الغربية.
لكن الأكثر أهمية أن حزب الله ربط وقف الحرب مع إسرائيل بإنهاء الأخيرة عدوانها على غزة، وفي هذا الإطار جاء انخراط حركة أنصار الله(الحوثيين) في المعركة وإطلاق صواريخ على إسرائيل واعتراض السفن المتوجهة إلى إسرائيل في البحر الأحمر، كذلك إطلاق هجمات صاروخية من العراق على إسرائيل وعلى قواعد أمريكية في المنطقة؛ ليعاظم الضغوط على إسرائيل لوقف الحرب على غزة.
تحديات واحتمالات:
واجه حزب الله في هذه المرحلة تحديين أساسيين:
الأول: هو ألا تلتزم إسرائيل بشروط حزب الله في ألا توقف هي الحرب مع لبنان حتى لو توقفت الحرب في غزة، وحينها سيكون حزب الله أمام معضلة توسع نطاق الحرب وتهديد إسرائيل بتدمير لبنان على غرار ما فعلت بغزة.
والثاني: هو معارضة فئات من اللبنانيين، كانت أساسًا جزءًا من قوى 14 آذار، لانخراط حزب الله في الحرب مع إسرائيل بسبب غزة، ولسان حالهم أنه ليس هناك قرار صدر عن الحكومة بمساندة جبهة غزة وأن حزب الله ليس هو من يقرر موعد الحرب ومكانها.
في التحدي الأول: يدرك حزب الله أن انخراطه في النزاع مع إسرائيل بسبب غزة قد يحمل مخاطر اتساع الاشتباكات إلى حرب شاملة قد تؤذي لبنان، لذلك فإن حزب الله كان حذرًا جدًا في طبيعة المعركة التي يخوضها، فهو يعلن مساندته لغزة بالدم (حتى الآن أكثر من 400 مقاتل سقطوا في المعارك مع إسرائيل في جبهة الجنوب) فضلًا عن تدمير أجزاء واسعة من القرى الحدودية بالقصف والغارات الإسرائيلية وهجرة سكانها وتضرر القطاعين (الصناعي، والزراعي)؛ لذا فإن حزب الله حريص على الالتزام بقواعد الاشتباك المحدودة، على الرغم أن إسرائيل قد وسّعت بعض الشيء هذه القواعد، وبالتالي عدم الانجرار إلى حرب مفتوحة.
أما في التحدي الثاني فيبدو حزب الله أكثر ارتياحًا وهو أن محاولات المعارضة الداخلية المناوئة لحزب الله كانت فاشلة ومحدودة، فعلى الرغم من أن الحكومة لم تتخذ قرارًا بتحريك الجبهة اللبنانية مساندة لغزة فإن رئيس الحكومة “نجيب ميقاتي” قد منح غطاءً شرعيًّا لعمليات حزب الله بالقول إنه “لا يمكن وقف الحرب في جنوب لبنان من دون وقف الحرب على غزة”. وكان في جانب من موقفه يعلن ضمنًا أن الطائفة السنية، تسجل موقفًا للتاريخ بأنها مساندة لغزة، في مرحلة عصيبة جدًا من تاريخها، من خلال عدم الاعتراض على عمليات حزب الله.
كذلك فإن موقف الطائفة الدرزية من خلال أبرز زعمائها “وليد جنبلاط” كان متفهمًا لما يجري في الجنوب؛ ليبقى الاعتراض الوحيد خاصًا بالطوائف المسيحية عبر كتلتيهما الكبريين: القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع، والتيار الوطني الحر بزعامة جبران باسيل.
في هذا الإطار كان الضغط الدولي على لبنان يتصاعد على امتداد الأحداث، ففتح الجبهة اللبنانية رغم كل مخاطره على لبنان، إنما يشكل عاملَ ضغط على إسرائيل عسكريًّا واقتصاديًّا يجعلها تفكر في الجبهة اللبنانية كعامل لوقف الحرب على غزة.
لذا يمكن القول إن الحرب على الجبهة اللبنانية لا تعمل لصالح إسرائيل، لذا نشط المبعوثون (الأمريكيون، والفرنسيون، والأمميون) للمجيء إلى لبنان والبحث في سبل وقف الحرب.
لم يكن المبعوثون الدوليون يسعون فقط لتخفيف الضغط عن إسرائيل بل أيضًا، وهنا مكمن مهم، من أجل تطبيق القرار 1701 بما يعني ضمنًا سحب البساط من تحت أقدام حزب الله وسحب عناصره إلى منطقة شمال نهر الليطاني، أي أن ما لا تستطيع إسرائيل إنجازه في هذه المرحلة القضاء على “خطر” تواجد حزب الله على الحدود، سيحاول المبعوثون تحقيقه بالمفاوضات من جهة وبالتهديد بحرب إسرائيلية شاملة على لبنان من جهة أخرى.
لم يعترض حزب الله على هذا المسعى لكنه واجه المبعوثين بأنه:
- لا كلام في القرار 1701 قبل انتهاء الحرب على غزة.
- انسحاب إسرائيل الكامل من مزارع شبعا والنقاط الـ 13.
- التزام إسرائيل الكامل بعدم انتهاك السيادة اللبنانية برًا وبحرًا وجوًا.
- ضمانات كاملة بعدم تهديد إسرائيل لبنان.
بطبيعة الحال هذه الشروط عسيرة التطبيق؛ لأن إسرائيل أساسًا لا تريد التهدئة؛ ولأن أطماعها في لبنان لم تنته، لكن أيضًا ما يزيد من تعقيد المرحلة بالنسبة للجبهة اللبنانية على إسرائيل هو ضرب إسرائيل في غارة جوية، القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نيسان/أبريل 2024، ومقتل العديد من كبار الجنرالات الإيرانيين خلالها، ومن ثم الرد الإيراني الواسع بالصواريخ والمسيرات في 14 نيسان/أبريل على إسرائيل. الضربة الإسرائيلية كانت خطأً إستراتيجيًّا واضحًا؛ لأنه أدخل للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي دولة غير عربية وكبيرة مثل إيران في مواجهة مباشرة مع إسرائيل مضاعفة بذلك دائرة الطوق العدائي لها ومن جانب قوى إقليمية كبيرة، وهذا يضفي على الجبهة اللبنانية مزيدًا من الاحتمالات بأن أي عدوان واسع على لبنان وعلى حزب الله قد لا يبقي إيران، بعد ضربة دمشق والرد عليها، في موقع المتفرج. وهذا بحد ذاته عامل ردع إضافي لإسرائيل لعدم التفكير في توجيه ضربة تدميرية شاملة للبنان؛ لأنها قد تتعرض بالمثل لضربات تدميرية شاملة مضادة من أكثر من مصدر.
وفي الخلاصة، إنه ما لم تتوقف الحرب في غزة وتستعيد حالتها الطبيعية وتلبي إسرائيل شروط المقاومة في غزة، فلن تعرف الجبهة اللبنانية هدوءًا، وهذا ليس سوى بداية البحث عن حلول جذرية وجدية للوضع على الحدود الجنوبية مع إسرائيل، ومن بعدها لكل حادث حديث.
لكن على ما يبدو فإن الأوضاع في المنطقة الشرق أوسطية تزداد تعقيدًا:
أولًا: مع بدء الحرب الأوكرانية والحرب المفتوحة بين روسيا وحلفائها من جهة وحلف شمال الأطلسي من جهة أخرى.
وثانيًا: مع أحداث غزة التي أضفت المزيد من التعقيدات على المشهد الفلسطيني، خصوصًا في ظل رفض إسرائيل حل الدولتين، كحد أدنى للحل، وفي ظل التداعيات الخطيرة التي ترتبت على إسرائيل من جراء عملية طوفان الأقصى، كما من تداعيات الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
وثالثًا: مع ما رافق كل ذلك من استقطاب دولي عميق ومنه المساندة العمياء للغرب لإسرائيل، والعنصرية الفجة التي ظهرت عليها “الحضارة والقيم” الغربية في النظرة إلى العرب والمسلمين وحتى الروس إضافة إلى المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية المباشرة.
في خضم كل ذلك ليس من السهل فصل الجبهة اللبنانية عن تطورات المنطقة، خصوصًا أن “لبنان الكبير”، بنظامه الطائفي الانقسامي المولد للمشكلات، والتابع للخارج، لم يخلق إلا ليلعب هذا الدور وفقًا لرغبات ومصالح القوى الكبرى والإقليمية المؤثرة.