لم يكن أي منا يعتقد أن شيئًا غير الموت أو السجن أو الهجرة يَحول دون أن يمد يده لمصافحة أصدقائه، مع التئام لقاءات المساء في المقاهي والأندية وصالات الرياضة والمطاعم ومحلات الحلاقة والزينة، فحتى أيام الثورات والانتفاضات التي أطلقت الخطر في ركاب الأمل، والتفلت مع التحرر، كان بوسع الناس أن يغامروا ويهبطوا إلى الشوارع، غاضبين أو متفرجين أو حتى للاحتجاج على الاحتجاج.
أما في أيام وباء كورونا فليس أمام كل شخص من سبيل سوى أن يدخل إلي ذاته، ويغلق الجسد على الروح الراغبة في أن تنبعث في الحياة بلا حواجز أو سدود، ثم يوصد باب بيته، فإن شعر بأن الفيروس يغزوه أو يراوده من قريب فقد يضطر إلى أن يقفل على نفسه باب غرفته، فيصبح بينه وبين زوجته وأبنائه حجابًا من وراء حجاب.
قبل حظر التجول، والحجر الصحي، الذي جاب العالم من شرقه إلى غربه، كان الناس يعتقدون أن العُزلةَ مرضٌ، وينظرون إلى الإنطوائي على أنه إما أناني يبخل على غيره حتى بكلمة طيبة، أو مغرور يملأه زيف الشعور بالاكتفاء، أو خائف من شيء ما يراه في عيون الذين يقابلونه، أو غير واثق في أن ساعده قادر على صد الضربات التي يتلقاها من غيره بين حين وآخر كانوا يستثنون _من هذا_الذين يلازمون الفراش اضطرارًا، والمنقطعين للعلم والذكر.
اليوم صارت العزلة فضيلة، فكل معتزل يمنع جسده من أن يكون جسرا يتنقل عليه الأذى ليبلغ غيره. كل منطوٍ أو متوحد مع نفسه هو شخص عظيم، لأنه وضع إرادته في اختبار قاس ويسعى إلى أن ينجح، فاعتزال الآخرين، وتطويع الأذن على السكون، واللسان على الصمت، لم يقدر عليه من قبل سوى كبار الزاهدين.
وليس كل فرد فقط عليه أن ينعزل راضيًا، وينسى مؤقتًا كل ما قيل تحت لافتة: “الإنسان حيوان اجتماعي”، بل إن قرى وأحياء وجدت أن عليها أن تلبى نداء العزل، متخلية عن هذا التلاصق الدائم في الشوارع الضيقة، والمساجد والكنائس، والتئام شمل العائلة في الأفراح والأتراح، وتجمعات الشباب في الملاعب البسيطة.
كل شيء انقلب رأسًا على عقب في أيام معدودات، تقطعت السُبل بين البلدان في عالم كان يوصف بأنه صار غرفة صغيرة، وكان الذين ظنوا أنهم قادرون عليه يطمحون إلى أن ينقلوا عناقه الحار في العالم الافتراضي مع ثورة اتصالات رهيبة إلى تلاق في الواقع مع طموح انتشار طائرات ركاب أسرع من الصواريخ، تأخذ الساعي للسفر إلى أقصى الأرض في الزمن الذي كان تقطعه منه مشاهدة مباراة لكرة القدم.
فجأة أقيمت الحواجز والأسوار حول الدول، وتباعدت المسافات، وصارت كل واحدة منها منشغلة بجسدها المتمدد على الأرض إعياء. لكن القلوب تواصلت؛ حين عرف كل إنسان عاقل على سطح الأرض أن المسافة بينه وبين من يجلس على مقعد يهتز بقارة أخرى أقرب إليه من طرف أنفه، أو موضع قدمه.
هناك من لم يستوعبوا هذا التباعد، أو ضاقت بهم بيوتهم، فخرجوا باحثين عن ألفة خطرة. إنهم من بين الذين يعتقدون أن العدو يجب أن نراه، أو نلمسه بأيدينا، أو نخمشه بأظافرنا فيسيل دمه، وقد نقتله _إن قدرنا عليه_ أو نفر من أمامه خائفين، ونسمع وقع خطواته وهو يطاردنا، حتى يؤمنوا بوجوده. ولأن كورونا لا يُرى بالعين المجردة، ولا يمكن لمسه أو خمشه؛ فإن كثيرًا من الناس يتصرفون على أنه خرافة، أو لا شيء على الإطلاق.
كيف لهؤلاء أن يزعموا هذا، وهم يرون كل الذي طرأ على الحياة، حتى لو كان مؤقتًا؟ ألم يمدوا أيديهم لزملاء العمل مصافحين، عن نسيان أو لامبالاة أو تهور، فردوهم بلطف مثل النساء اللائي يعتقدن أن مصافحة الرجال حرام. ألم يحاولوا عناق من قابلوا بعد فراق، فوجدوهم يتراجعون إلى الخلف معتذرين؟ ألم يمرّوا على المقاهي والمطاعم التي كانوا يرتادونها في وَلَهٍ؛ فوجدوا أبوابها موصدة، وأمامها خراب وغربة؟ ألم يجلسوا أمام التلفاز ويرون جداول الأرقام تجري إلى أعلى بلا مستقر لتلتهم الآلاف كل يوم؟ ألم يقرأوا عن تجارة بارت، وأشغال تعطلت، وساسة كبار وقفوا أمام شعوبهم مطأطئ الرؤوس بلا حيلة؟
إنها حقيقة رهيبة، لم تواجهها أجيال عاصرت الأهوال، وتدرك أن كل ما مضى لا يساوي شيئًا أمام حرب ضد الشيء الذي ليس شيئًا من ضآلة تجعله يكاد يكون عدما، لكنه قادر على أن تتوقف من أجله كل الأشياء في عالم كان يظن أهله أن جميع ما على الأرض رهن إشارتهم، ولا جدال في هذا.
فالذين يعلمون قالوا: إنه ليس كائنًا يكون، إنما أقل من أدنى الأدنى الذي لا يستطيع حاد البصر أن يتصوره، أما أن يراه فمستحيل، ولهذا يستهينون به طالما أنه بعيد عنهم، حتى يستيقظون على وحش كاسر ينهش جسدهم دون أن يظهر لهم.
تنشغل النفوس الآن بما سيأتي. سؤال عريض يشارك كل الناس الذين يدبون فوق كوكبنا المنكوب في رسم حروفه أو نحتها: هل سيولد مجتمع جديد أكثر سوية من رحم هذه الحرب الضروس ضد الوباء؟
المتعجلون يرفعون الوسطى والسبابة راسمين علامة النصر، مستبشرين خيرًا فيما سيأتي، لأنهم يُّعوِّلون على أن الذين تباعدوا مضطرين، ودخلوا سجونا اختيارية، قد جنوا عظة عظيمة، ألم يقال دوما: من أراد واعظا فالموت يكفيه. فها هو الموت يحصد الرؤوس، كما يُسقِط الخريف أوراق الشجر، وبذا فإن النفوس التي تهتز على وقع الجنائز المتتابعة، ستدرك أن الرحيل عن الغابة، التي نتجاور ونتحاور فيها ظانين أنها مجتمعات متطورة، بات ضرورة، وأن العيش في كنف مجتمع جديد صار قريبًا.
لكن الحقيقة تعطي ظهرها للجميع وتمضي في طريقها، الذي تعبَّد منذ أول الخليقة، قابضة على راية بعرض الأرض وطولها مكتوب فوقها “الطبع يغلب التطبع”، فهناك في أقصى أعماق النفوس، وفي قلب الذاكرة التي يرد إليها ويخرج منها كل يوم جديد، شيء مخزون لا يتزحزح بسهولة عن أنياب البشر التي ظلت مسنونة ومشرعة طيلة التاريخ، والوباء الكاسح لا يصيبها أبدًا، بل قد يتراقص عليها فرحا باصطياد ضحيته، قبل أن ينزلق إلى الحنجرة، ويبدأ المعركة الحاسمة في رحلة الغزو الرهيب.
إن توارت الطبائع، أو تمهلت في لعب دورها، تقول رحلة البشر الطويلة كلمتها. فالأرض لم تمض آخذة زينتها وزخرفها على الدوام، بل ضربتها العواصف والأعاصير والفيضانات والزلازل والبراكين وأوبئة تتابعت على مدار القرون، وحروب لم تتوقف، ضاقت واتسعت حسب الأهواء والمصالح، وثورات وانقلابات ونزاعات وكساد وركود، وكُلما حل شيء من هذا، خرج من يقولون: أبشروا بمجتمع آخر غير الذي نرسف في أغلاله. لكن ما إن كفّت الطبيعة عن أذاها، وأدخل المتحاربون سيوفهم في أغمادها، حتى نسي الناس كل شيء، وعادت المجتمعات تضبط إيقاعها على صراع الطبقات والجهات، ويحفر الخيِّرون فيها تحت جُدُر سميكة في سبيل منع الجميع من الذهاب سريعًا إلى الهاوية.
إن الحاجة تظل هي الأكثر تحكما، فإن صنع الوباء عوزا شديدا، خاصة لو طال أمده، فإن الندرة لن تترك شيئًا على حاله، وما تركته من سمات وبصمات في مجتمعات فقيرة ستمد يدها لتطوق مساتير الناس في بلاد اعتادت على أن ينام أهلها على حد الكفاية.
وباء واحد ومجتمعات ونفسيات متعددة:
ليست الحاجة وحدها هي التي تفرق بيننا في هذا الهول العظيم، فليس كل الناس سواء أمام الوباء، فهناك الخائفون جدا الذين يقفون على حافة الوسواس القهري، ينظرون إلى كل من حولهم في ارتياب، بمن فيهم أهل بيتهم، إن خرج أحدهم وعاد. وهناك الحذرون الذين باتوا يحسبون خطواتهم بدقة مدركين أنها تُقلّل من احتمالات إصابتهم أو تؤخرها، مراهنين على الزمن الذي يأخذ الوباء إلى الذروة ثم يدحرجه إلى الهاوية صريعا.
وهناك اللامبالون إما خوفا مما هو أشد، لاسيما إن كان ليس لديهم سوى الاختيار بين الموت جوعا والموت تحت وطأة الوباء، وإما جهلا أو تبلدا، وهناك القَدَريون، وبعضهم يعقلها ويتوكل، وأغلبهم ينساقون بلا هدى ولا روية، وهناك المغرورون الأنانيون الذين يعتقدون أن عافيتهم تنجيهم غير عابئين بأن يكونوا جسرا لنقل الوباء إلى ذويهم ممن ليس لديهم عافية مثلهم.
وهناك الواهمون الذين لا يزالون يعيشون في ظلال نظرية المؤامرة ويجزمون بأن الوباء مصنعا في معامل جهاز استخبارات ما، وكأن معرفة سبب تفشيه، سواء كان ابنا شرعيا للطبيعة أم وُلد سفاحا على يد علماء أشرار، كافية في حد ذاتها لتقي صاحبها من أخطاره المحدقة. لكن هناك من يمتلك جسارة ومنعة، فلا يتهور ولا يجبن، لأنه يدرك أن الخوف الشديد سيضعف قدرته على المقاومة إن دق العدو بابه، نهارا أو ليلا.
وتدخل التقاليد والظروف والسياقات الاجتماعية لتجعل الناس متباينين كذلك في التعامل مع الإعلان عن المرض، فهناك من تدفعهم ثقافتهم _التي اعتادت الانفتاح والشفافية_ إلى الإبلاغ عن أنفسهم أن أصابهم مكروه، وهناك من يتكتمون معتقدين أن حلول الوباء في أجسادهم يمثل عارا ما بعده عار، ولهذا يحبسون أنفسهم وأنفاسهم معولين على أن ينجحوا في معركتهم المعزولة ضد الغازي اللامرئي، وقد يحدث هذا فلا يحسبون من بين المصابين، وقد يتهالكون في منتصف المسافة فيضطرون أو من حولهم إلى الاعتراف، أو يفارقون الدنيا في صمت، دون تسجيلهم من ضحايا الوباء إلا في ذاكرة من معهم وحولهم.
ويتباين الناس أيضا في مستوى فهم ما يتلقونه من معلومات ملأت الفضاء الإلكتروني وساحت إلى الأسماع يتناقلها الناس حول الوباء، فهناك من تؤهله ثقافته وفهمه لتمحيص ما يصل إليه، فيبين النافع من الضار، غير خاضع لتهوين أو تهويل، وهناك من تتجاذبه المعلومات فتضربه يمنة ويسرة، لا تجعله يستقر على حال. وفي الوضع نفسه يختلف الناس في رغبتهم في التلقي أو التعرض للمعلومات المتدفقة بلا هوادة، فهناك من يدفعه قلق الدائم إلى الجلوس، في عزلته أو حجره، أمام التلفاز متنقلا من قناة إلى أخرى وهو يلهث، كي يعرف كل جديد عن غزوات الوباء في الشرق والغرب. وعلى النقيض هناك من يصر على الابتعاد مدركا أن مثل هذه المعرفة تثير الخوف بل الرعب، وتحول الحياة إلى جحيم مقيم.
وحتى التفكير في مرحلة ما بعد انجلاء الغمة يختلف فيها البشر من فريق إلى آخر، فهناك من يَعِدون بتنظيم حياتهم بحيث يعطون بالا للوقاية من الأمراض المعدية أيا كان نوعها أو قدرتها على الانتشار أو التحدي الذي تمثله للأجساد والنفوس. وهناك من يجرفهم الحنين إلى الزحام، يريدون الحارات والشوارع والساحات وأماكن الترفيه والعمل على حالها القديمة، يتكدس فيها الناس بلا تردد، كما كانوا قبل أن يجبرهم الوباء على الابتعاد والتجنب والتحسب.
الوباء واحد في انتشاره وضرباته وإصراره على التحدي وما يسببه من أعراض لمن يغزو حناجرهم متسللا إلى صدورهم. أتى إلى الأرض، أو خرج منها، هو واحد في تكوينه وأضراره ليجد أهلها مختلفين، فهذه عادتهم، وهي إن كانت عادة حميدة تصنع التنوع الخلاق في أيام الرخاء، فإنها تسرع من فتح باب الهلاك وسيعا في أيام الشدة.
أثر التباعد الإجباري:
ما أغرب هذا “الكورونا”! يفرض علينا التباعد والتقارب في آن. يفترق الجسد عن أخيه، ولا يرى الوجه وجها آخر طالما أَلِفه في الأيام التي راحت، قد يكون لحبيب أو صديق أو صاحب أو زميل، لكنه يقول للناس من كل دين وعرق ولغة ومكان:
“لا سبيل سوى التعاون، فبقاء بقعة واحدة على سطح الأرض تعاني، يعني أن كل الكوكب سيظل تحت احتلال هذا الشيء، التي يقولون عنه أنه ليس كائنا حيا إنما مجرد حمض نووي لا يتكاثر من تلقاء نفسه.”
كأن الفيروس يتكلم ونسمعه، أو أن هناك من يتحدث باسمه: طبيب أو مسؤول عن الصحة في كل بلد وقع تحت هجومه، أو إعلامي يصرخ في الناس وهو يتوهم أنه محصن من الغزو، أو واعظ دين يتصيد فرصة كي يقول:
“إنه غضب الله من عالم غارق في الفجور.”
فيجد من يرد عليه دون تردد:
“أمثالك الذين يملأون _الآن_ الدنيا حديثا عن نهاية العالم، ويعتقدون أنهم متحدثون باسم الله، لم يقرأوا شيئا عن تاريخ الأوبئة وكيف كان تجار الدين في كل مرة، يرددون هذا الكلام لكن الناس انتصروا بهدية الله لهم وهي العقل المؤمن.
ويستمر الجدل العقيم فيتسع التباعد، وينسى كثيرون جنازات تمر مقفرة لأنها تخلو من أحبة كُثر كانوا ينتظرون وداعهم، ويتغافلون عن هذا العجز الفاضح الذي يصيب الكل في مواجهة ما لا يرونه، وهو يمر في الاتجاه المضاد لمرور الجنائز راكبا بعض الأكف والأنوف والوجوه وما يعتلي رؤوسا حائرة لا يشغلها ليل نهار سوى التفكير فيه.
في الحجر الصحي يفتح كل منا نافذته، ليرى جيرانه في النوافذ المقابلة، ويسمع أصواتهم في الشرفات المجاورة، فيطئمن إلى أنه ليس وحده الذي يكابد أغلال العزلة في هذا العالم. يستأنس بالذين لم يفكر يوما في أن يسأل عنهم، وقد يمر بهم في الشوارع التي تتوسط بنايات متصافحة دون أن يلقي عليهم أي تحية، أو حتى يُعطيهم حقهم في الابتسام. يعرف الآن كم أن وجودهم يحيى وجوده، وأن بينه وبينهم أيام أُخَر لا بد أن تعاش، بطريقة أخرى غير التي جرت، وقت أن كان كل منهم لديهم شعور زائف بالاكتفاء.
حين ينظر أي منا من النافذة يرى جيرانه يدلفون إلى البناية، بعد خروج إضطراري لإحضار غذاء أو دواء، وهم يضعون الكمامات على أنوفهم، والقفازات الخفيفة على أيديهم، ويعرف أن بعضهم يفتح باب المصعد بكوعه، ويضغط أزرته بظهر السبابة، فيقول في نفسه:
“ليسوا أنانيين على أية حال، ففي حرصهم على أنفسهم حرص على جيرانهم.”
يرى كل منا البناية التي يقطنها، بل الحي، والمدينة والدولة، ولن تكون هناك مبالغة حين نقول إنه يرى العالم بأسره قاربا صغيرا يشرخ مجدافاه الضعيفان أمواجا عاتية بحثا عن شاطئ، وعلينا إن لم يكن بوسعنا المشاركة في التجديف المتلاحق فعلى الأقل أن نجلس ونتصرف في حذر وتحسب حتى لا نغرق جميعا.
في سنوات سابقة كانت أوبئة تضرب مناطق بعينها، فنكتفي بقراءة سريعة لأخبار عن أعداد المصابين والموتى، ومن له قلب سليم كان يبدي تعاطفا وشفقة أو يدعو إلى مساعدة وغوث، لكن أيا منا لم يعش مثلما عاشوا. كانت أيدينا في الماء وأيديهم في النار. اليوم امتدت ألسنة اللهب إلى كل مكان، وصار بوسعها أن تحرق أي أحد.
تعلمنا جميعا في عزلتنا الواجبة أن كثيرا من الأحقاد والصور المجروحة المشوهة التي نتناقلها عن بعضنا البعض، ونستمتع بها أو تدخل على نفوسنا مرحا زائفا، ما هي إلا جرائم آن لها أن تغرب من حياتنا إلى الأبد، إن كنا نتّعظ حقا مما يجري.
تغيير العادات:
ابتداء، فهذا ليس “الوباء” الأول في تاريخ الإنسانية الذي يجعل الناس مجبرين على تغيير الكثير مما يفعلونه بشكل آلي، والنظر إلى كثير منه باعتباره جزءا أصيلا من هويتهم، وطرق التعبير عن مشاعرهم ومواقفهم، مثل التزاور الأُسري، وارتياد أماكن التجمعات البشرية في الأسواق ودور السينما والأندية وبعض المصالح الحكومية التي تقدم خدمات يحتاج إليها أغلبية المواطنين، فضلا عن الأماكن التي لا غني عن الذهاب إليها لكل فرد مثل المدارس والجامعات وأماكن العمل، أيا كان نوعه.
فقد قرأنا، على سبيل المثال لا الحصر، في الآداب الأوروبية عما وقع للناس أيام تفشي الطاعون في نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، من ذعر واضطرار إلى تغيير نمط العيش. وكتب “ألبير كامو” عام 1947 روايته الشهيرة “الطاعون” التي حاز عنها جائزة نوبل، وهي تحكي عن عاملين في المجال الصحي بمدينة “وهران” الجزائرية يتكاتفان معها لمقاومة هذا المرض الخطير، ومن خلالهما نرى كيف أثّر الوباء على الطبقة الشعبية.
وأطلعنا “طه حسين” في سيرته البديعة “الأيام” عن الأثر الاجتماعي لمرضى الكوليرا الذي صار وباء مهلكا في مصر أوائل القرن العشرين. وكرر خيري شلبي في روايته “الوتد” الأمر نفسه، وكيف كانت بطلته الجدة فاطمة تعلبة حكيمة، حين سدت منافذ بيتها، وحبست أولادها وأحفادها فيه، حتى وضع الوباء أوزاره. وحدثنا “نجيب محفوظ” في ملحمة “الحرافيش” عن شيء من هذا، حيث تفشّي وباءٌ، أهلك الناس جميعا، وترك الأحياء خرابا، ولم ينجُ منه سوى بطله “عاشور الناجي” الذي ذهب بأهله إلى الخلاء، ثم عاد ليجد أمامه بيوت الأعيان بلا أصحاب فاختار أجملها واتخذه بيتا وصار سيد المكان وكبير الناس بعد أنه جاء سكان جدد لا يعرفون تاريخه. وكتب أمير تاج السر رواية عن وباء “الإيبولا”، الذي ضرب مناطق في جمهورية الكونغو كينشاسا، وامتد منها إلى جنوب السودان.
وأدى مرض “الإيدز” إلى تغير في أنماط العلاقات الجنسية، حيث زاد التحسب والحذر، ولم يعد الأمر على حاله القديمة، وأثّر هذا قطعا على هجرات السكان من أماكن انتشار الوباء إلى أخرى بغية السياحة أو العمل. وعلى التوازي انطلقت إمكانات الوقاية لتنتج أشياء جديدة في عالم الطب لم تكن معرفة فيما سبق، وقد يكون هذا قد ترك أثرا، ولو مؤقتا، على “تجارة الرقيق الأبيض”.
اليوم ينطق “كورونا” ليقول لبعض المجتمعات، وعلى رأسها العربية: إنها في حاجة إلى تغيير أساليب المصافحة، وبعض أنماط العيش، إذ لم يعد من المستساغ أن يقبل الرجال أمثالهم، والنساء أمثالهن، حين يلتقي الجميع، كما جرت العادة، كأن يلقي أحدهم أربع قبلات بالتتابع على خد صديقه أو زميله حين يقابله، مثل ما هو في مصر، أو ثلاث مع إطالة الأخيرة، مثل ما هو مُتبع في بلاد الشام، تعبيرا عن الاحتفاء. ولا يمكن بالقطع أن يستمر الخليجيون في مصافحة الأنوف، التي ورثوها عن القبائل العربية وهي ترمز إلى العزة، باعتبار الأنف مكانها وموطن كبرياء الفرد. وربما تكون المصافحة بالأيدي هي الأقل ضررا، لكنها ليست مأمونة، بعد أن أظهرت الفحوص أن الفيروس ينتقل عبر مسامي الجلد. وقد تكون طريقة السودانيين في المصافحة هي الأفضل، حيث يتبادل المتصافحان وضع اليد على الكتف، هذا في اليمنى وذلك في اليسرى، ومع هذا فإن الاقتراب مثل هذه المسافة لا يمنع التقاط العدوى.
وهناك تأثيرات اجتماعية أعمق من هذا بكثير، حيث سيضطر الناس في أماكن تفشي الوباء إلى التكالب على تخزين السلع، وسيظهر تجار الأزمات، الذين يشبهون أثرياء الحروب، وستخلو الأماكن العامة من مرتاديها، وسينخفض التزاور بين الأقارب والأصدقاء إلى أدنى حد، وقد يقتصر على التواصل عبر الشبكات الاجتماعية على الإنترنت، وستكون السلطات على محك اختبار من قبل الشعوب، حيث ستقاس كفاءتها في إدارة الأزمة، ومدى اهتمامها بالناس، وما إذا كانت تمارس تعتيما أم شفافية.