2024العدد 198ملف عربي

نكبة غزة: التطورات والتداعيات وسؤال اليوم التالي

تواصل إسرائيل حرب الإبادة التي تشنها ضد فلسطينيي غزة، منذ أكثر من سبعة أشهر، دون أن يعرف أحد أين أو متى أو كيف ستنتهي تلك الحرب، بعد ضحايا من الفلسطينيين يقدر عددهم بأكثر من 130 ألفًا، بين قتلى وجرحى وأسرى ومفقودين تحت ركام الأبنية المدمّرة، إضافة إلى تدمير 80 في المئة من بيوت وعمران غزة وبُناها التحتية، وما يقارب مليوني نازح فلسطيني يعانون ظروفًا مأسوية في الخيام أو في العراء، وعلى الطرقات، ويفتقد أغلبهم لقوت يومهم.

من جهة إسرائيل، فهي رغم كل ما تقدم، أي رغم طول الزمن، وخسائر الفلسطينيين الباهظة، وحرب الإبادة التي تشنها ضدهم بشكل غير مسبوق_ فإنها لم تستطع القضاء على القوة العسكرية لـ “حماس”، رغم كل ما تكبدته تلك من خسائر، كما لم تستطع تحرير أي من الأسرى أو الرهائن الإسرائيليين لديها، ما شكل إخفاقًا أمنيًّا واستخباراتيًّا وسياسيًّا لها.

خسارات إسرائيل:

تبعًا لكل ذلك فقد خسرت إسرائيل، رغم جبروتها العسكري، ورغم كل ما فعلته بفلسطينيي غزة، على الصعيد السياسي، سيما على صعيد صورتها كضحية في العالم_ بانكشاف حقيقتها كدولة استعمارية وعدوانية وعنصرية، تقوم بحرب إبادة غير عابئة بالرأي العام ولا بالمعايير الإنسانية.

وقد أكدت التظاهرات التي عمّت عواصمَ ومدن الدول الغربية، وضمنها الولايات المتحدة، والتي تصدرتها التحركات الطلابية في جامعات تلك الدول_ اتساع التضامن مع الفلسطينيين وتفهّم قضيتهم، وهو ما تُوج بإصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة توصية 10/5/2024، تحض مجلس الأمن الدولي على اعتبار فلسطين عضوًا في الأمم المتحدة، والتعامل معها على هذا الأساس، بأصوات 143 من 193 دولة، ومعارضة 9 دول بينها (الولايات المتحدة، وإسرائيل)، ودولتين أوروبيتين فقط (تشيكيا، وهنغاريا)، في حين امتنعت (بريطانيا، وألمانيا، وإيطاليا، وكندا) عن التصويت، ما يبين عزلة (الولايات المتحدة، وإسرائيل).

على ذلك، يمكن احتساب تفكك معسكر الدول الغربية الذي ساند هجوم إسرائيل في الأسابيع الأولى للحرب ضمن تلك الخسارات؛ ففي التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ديسمبر 2023، حول وقف إطلاق النار اصطفت: فرنسا، وكندا، وأستراليا، واليابان، ومعظم الدول الأوروبية مع وقف نهائي للحرب (153 من 193 دولة)، في حين امتنعت (بريطانيا، وألمانيا، وإيطاليا) عن التصويت. وفي شهر مارس 2024، في التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي حول الوضع في غزة، تفردت الولايات المتحدة وحدها بالامتناع عن التصويت.

ولعل من أهم خسائر تلك الحرب أيضًا، بروز الصوت اليهودي المعارض لاحتكار إسرائيل تمثيل اليهود في العالم، أو تمثيل ضحايا المحرقة، ورفض الربط بين اللاسامية ومعاداة سياسات إسرائيل، بل إن ثمة يهود باتوا يشبّهون غزة بمعسكر “أوشفيتز”، الذي بنته القوات النازية (في بولندا) إبان الحرب العالمية الثانية، ويشبّهون المقاومة فيها مع تحفظهم على هجوم “حماس”، بانتفاضة “غيتو وارسو”، التي انتفض فيها اليهود على القوات النازية، وشرعوا بمقاومتها.

وفي المحصلة، فقد تبدت خسارة إسرائيل بأنها بدل أن تكون- كما أراد مؤسسوها- الدولة التي تشكل ملاذًا آمنًا لليهود، إذا بها أكثر دولة تتهدد فيها حياة اليهود؛ بسبب سياساتها الاستعمارية والعنصرية والعدوانية، بل إن تلك الدولة أصبحت بمثابة عبء سياسي وأخلاقي وأمني واقتصادي على يهود العالم، وعلى الدول التي يعيشون فيها.

أما على الصعيد الدولي، فإن التطور الأبرز تمثل بالتجاذب الحاصل بين إدارة الرئيس جو بايدن وحكومة نتنياهو، لدى محاولة الإدارة الأمريكية التدخل لفرض رؤيتها لكيفية التعاطي مع منطقة رفح، وبما يخص اليوم التالي لما بعد الحرب، ورفض نتنياهو وحكومته ذلك التدخل، ولعل أكثر ما استدعى الانتباه في هذا الأمر هو تهديد الإدارة الأمريكية بوقف تزويد إسرائيل ببعض الأسلحة والذخائر؛ لحملها على التفاوض في شأن اليوم التالي، وفي شأن تجنيب المدنيين أي استهداف، بدعوى السعي لإنهاء وجود حماس في مدينة رفح.

فعلى رغم أن الفوارق في شأن الحرب غير جوهرية بين الطرفين، مع الدعم الكبير العسكري والمالي والسياسي الذي قدمته ولا زالت الإدارة الأمريكية لإسرائيل_ إلا أن الجفاء الشخصي بين بايدن ونتنياهو، والخلاف الذي سبق الحرب في شأن رفض إدارة بايدن محاولة حكومة نتنياهو إحداث تغيير في النظام السياسي الإسرائيلي، من خلال الهيمنة على السلطة القضائية، ما يعني تغيير طبيعة إسرائيل من كونها دولة علمانية وليبرالية وديمقراطية (نسبة لمواطنيها اليهود)، إلى كونها دولة دينية ويهودية، أدى إلى مفاقمة الفجوة بين الطرفين، إلى حد أن رئيس الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي- وهو يهودي- أعرب عن ضرورة إحداث تغيير سياسي في إسرائيل، وأن نتنياهو أضر بها كثيرًا.

مع كل ذلك، ورغم انشغالها بحرب غزة، وحراجة وضعها على الصعيد الدولي، فإن إسرائيل زادت من وتيرة ضرباتها في (سوريا، ولبنان) أكثر بكثير وبمدى أعمق من قبل، كأنها طبّقت مبدأ “وحدة الساحات” من جهتها، في حين أن تحالف قوى “المقاومة والممانعة” بزعامة إيران، اتخذ خط التهدئة، وعدم توسيع رقعة الصراع، مع نأي إيران بنفسها عما يجري في غزة، باعتباره شأنًا يهم المقاومة فيها، بخلاف الادعاءات السابقة عن تسوية تل أبيب بالأرض، وعن إزالة إسرائيل في بضع أيام.

 ويأتي قيام إسرائيل بتدمير القنصلية الإيرانية في دمشق، وقتل عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني فيها، في السياقات ذاتها؛ إذ إن الرد الإيراني على تلك العملية أتى باهتًا ومحسوبًا بدقة، ومثله جاء الرد الإسرائيلي، بمعنى أن الطرفين يحرصان على عدم الدخول في مواجهة مباشرة وكبيرة، وهو ما ينطبق على النظام الإيراني، الذي باغتته إسرائيل بهجمات مختلفة عدة مرات في إيران ذاتها، كما في مناطق انتشار الحرس الثوري الإيراني وميلشياته، في لبنان وسوريا.

خيارات حماس:

في نظرة واقعية، فنحن إزاء حركة وطنية فلسطينية شنت، أو اُستدرجت إلى حرب بالضربة القاضية، تختلف عن المقاومة بشروطها وإمكانياتها وتداعياتها، نجمت عنها نكبة جديدة للشعب الفلسطيني، وهذا لا علاقة له بطبيعة “حماس” (السلطة في غزة)؛ إذ ينطبق عليها ما ينطبق على “فتح” أو الجبهات “اليسارية” لجهة تقييم الخيار السياسي أو الكفاحي، ومدى صحته ومواءمته للظروف (فلسطينيًّا، وعربيًّا، ودوليًّا)، وإمكان تثمير التضحيات في إنجازات سياسية.

وعليه، فإن “حماس”، التي نجحت في معركة على المستوى التكتيكي، لم تكن موفقة من ناحية إستراتيجية في خيارها بتلك الهجمة؛ لعدم تقديرها قوة إسرائيل، وعدم إدراكها الضمان الدولي لأمنها وتفوقها؛ ولانفصامها عن الواقع العربي غير المواتي البتة؛ ولأنها لم تهيئ شعبها في غزة لهكذا معركة طويلة ومهولة.

بِناءً على ما تقدم يمكن مناقشة مستقبل حركة “حماس”، وضمنه تخيل سيناريوهات للخيارات السياسية الماثلة أمامها- بعد كل ما جرى- وفقًا للأسس والمعطيات الواقعية، بعيدًا عن العواطف والرغبات والعصبيات الفصائلية أو الأيدلوجية، وذلك وفقًا للآتي:

  • الانسحاب المشرف، على مثال ما حصل في التجربة التاريخية للحركة الوطنية الفلسطينية من الأردن 1970، إلى لبنان 1982، ومع التحول من حركة تحرر إلى سلطة بتوقيع اتفاق أوسلو 1993، سيما أن ثمة تسريبات تفيد بحديث عن خروج قياديي حماس في غزة إلى الخارج، وهو أمر لا يبدو أن الحركة ستوافق عليه إلا وفق ترتيبات معينة (فلسطينية، وعربية، ودولية) على الأرجح، وهذا يفيد بأن “حماس” ستبقى كحالة سياسية وفكرية بوصفها جزءًا من نسيج الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية، أي إنها لن تختفي.
  • استيعاب “حماس” في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية، أي في منظمة التحرير، وفي السلطة، مع قبولها بحل الدولة الفلسطينية، وهذا وضع يلائم تلك الحركة ويلائم الفلسطينيين- سيما في غزة- لكنه قد يلقى بعض الاعتراضات العربية والدولية، كما إنه من المشكوك فيه- تبعًا لذلك- أن توافق القيادة الفلسطينية على هكذا وضع إلا بشروط تحجيم “حماس”، ربما في ضمها إلى جسم منظمة التحرير، وبمعزل عن أي دور سلطوي، أو في حكومة السلطة، في حال ضَمن قبولًا عربيًّا ودوليًّا بذلك.
  • إدارة عربية ودولية، وهو خيار بات مطروحًا، سيما مع إصرار إسرائيل على وجود مرحلة انتقالية، قد تفضي فيما بعد، أو لا تفضي لتسليم غزة إلى السلطة الفلسطينية، وهذا الخيار يجري تداوله؛ باعتباره سيتم تحت رعاية دولية تؤمن الحماية والرعاية للفلسطينيين وتقديم المساعدات لهم، وإعادة إعمار غزة.
  • نقل نموذج “حزب الله” إلى فلسطين، باستنساخ حماس لتلك التجربة، على اعتبار أن ذلك يجنبها تبعات أو شبهات السلطة، ويمكنها من التحرر من مسؤوليتها إزاء ما يترتب على ذلك، ويتيح لها بالتوازي تعزيز مكانتها كحركة مقاومة، وعلى ما يفترض أنه يعزز من مكانتها عند الشعب الفلسطيني، وفي الضغط على القيادة الفلسطينية، وفرض قيود على خياراتها السياسية (كما في لبنان). المشكلة إن هذا الخيار، الذي كان متاحًا سابقًا- ربما- بات صعبًا إن لم يكن مستحيلًا، بعد حرب أو نكبة غزة، بالنسبة لكل الأطراف المعنيين، أيضًا على الصعيد الشعبي فإن ذلك قد لا يجد قبولًا من القطاع الأوسع من فلسطينيي غزة، سيما الذين يريدون التركيز في تدبر أحوالهم، بعد أن فقدوا كل شيء.
  • استمرار القتال حتى النفس الأخير، وفقًا لشعار أنه “جهاد فإما نصر أو استشهاد”، وهذا خيار بطولي، لكنه مأسوي أيضًا؛ إذ لدى إسرائيل موارد ذاتية أكبر بما لا يقاس بالنسبة لـ “حماس”، مع فائض دعم من أقوى الدول في العالم.

طبعًا، ثمة بدائل إسرائيلية مختلفة، منها عودة الاحتلال والاستيطان إلى غزة، أو فرض إدارة مدنية إسرائيلية أو من جهة مقربة لها عليه، والإبقاء على غزة منفصلة عن الضفة، وتهجير جزء كبير من سكانها إلى الخارج.

على ذلك فإن كل الخيارات أمام “حماس” صعبة ومكلفة ومأسوية لها وللفلسطينيين، ما يفترض البحث عن خيارات تمكن من تفويت الأهداف الإسرائيلية المذكورة، سيما إن “حماس” لم تعد في وضع مناسب يمكنها من فرض أي شروط، بل ويخشى أن كل تلك السيناريوهات، أو الخيارات لا تجنّب الفلسطينيين تداعيات النكبة الجديدة، وإنما قد تخفف من وطأتها مستقبلًا؛ إذ للأسف لا يوجد اسم آخر لما أحاق بفلسطينيي غزة خاصة، والفلسطينيين عمومًا.

ما بعد حرب غزة:

مما تقدم يتضح أن الحركة الوطنية الفلسطينية- في ظل النكبة الحاصلة- باتت إزاء مفترق تاريخي في غاية الأهمية لقضيتها وشعبها، علمًا إن إسرائيل لا تبدو قادرة على تجاوز وجود هذا الشعب، وشطبه من الخريطة السياسية؛ إذ على العكس مما توخته فإن حربها- ومن حيث لا ترغب حكومة نتنياهو- أعادت فكرة الدولة الفلسطينية، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني إلى رأس جدول الأعمال، وفقًا للرؤية الغربية طبعًا، وبخاصة فهي أعادتها كمفتاح ليس لإيجاد مخارج للصراع الفلسطيني الإسرائيلي فقط وإنما لتطبيع وجود إسرائيل في المنطقة أيضًا.

 أيضًا، قد يمكن المجازفة بالقول إن ما حاولته “حماس” عزّز أو عوّم مكانة السلطة الفلسطينية التي باتت، وفقًا للشروط العربية والدولية، كالوجهة الأنسب لإعادة ترتيب الوضع الفلسطيني بعد النكبة الجديدة؛ تصديقًا للمثل “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”.

على ذلك، فإن “حماس” تقف اليوم في مأزق بين وعدها بزلزلة الأرض تحت أقدام إسرائيل، في معركة أرادتها نهائية أو تقارب نهاية إسرائيل، وبين الواقع المتشكل على الأرض على شكل نكبة للفلسطينيين، وهو المأزق الذي عبرت عنه تصريحات “خليل الحية” القيادي في حماس25/4/2024، التي أكد فيها بأن حركته “مستعدة لهدنة مع إسرائيل مدتها 5 سنوات أو أكثر مع إسرائيل، ومستعدة لإلقاء السلاح والتحول إلى حزب سياسي، إذا تم إنشاء دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، وإن حماس تريد الانضمام إلى منظمة التحرير”.

المشكلة إن “حماس” تطالب بالعودة إلى واقع ما قبل السابع من أكتوبر، بوقف الحرب نهائيًّا، وانسحاب إسرائيل من غزة، وعودة المهجرين، وإدخال المساعدات وإعادة الإعمار، بيد إن المعطيات السائدة لا تسمح بشروط لـ “حماس”، سيما إن كل الأطراف الإقليمية والدولية اجتمعت على تطويعها أو إخراجها عسكريًّا من المشهد، فإذا كانت تلك الحركة لم تستطع في الحروب السابقة فرض شروطها على إسرائيل، رغم كل الإعلانات عن فرضها شروط وقواعد اشتباك، فكيف سنتخيّل قدرتها على مثل ذلك في ضوء الوضع الراهن في غزة؟ والأهم من ذلك إن الواقع المتشكل في غزة بات لا يمت بصلة لما قبل السابع من أكتوبر، مع خراب البنى التحتية ودمار عمران غزة، وفقدان مليوني غزيِّ الموارد والممتلكات وأماكن العمل.

في الغضون، فإن القيادة الفلسطينية- وهي قيادة المنظمة والسلطة و”فتح”، التي بدت كطرف سلبي، غير معني مباشرة لا بالقتال ولا بالمفاوضة- باتت تتحين الفرص لأخذ الحصة التي ستعطى لها بحسب سيناريوهات اليوم التالي، من دون أن تفعل شيئًا يذكر؛ إذ ما يهمها هو تأكيد جهوزيتها، سيما مع تشكيلها حكومة تكنوقراط، ربما لـ “أوسلو” جديد، في تكرار على شكل مأساة لسيرة أوسلو الأول 1993، الذي أعقب الانتفاضة الشعبية الأولى.

كل المعطيات تشي بأن وضع غزة، وحتى الوضع الفلسطيني بمجملة، فيما بعد الحرب لن يكون كما قبلها، وهذا ينطبق على حركة حماس وعلى الحركة الوطنية الفلسطينية بمجملها، كما يشمل ذلك علاقات إسرائيل الدولية، ومكانتها في المنطقة، وباختصار نحن إزاء مستقبل لا يمكن تصوره أو التكهن بطبيعته، بانتظار انتهاء تلك الحرب المدمرة.

اظهر المزيد

ماجد كيالي

بــاحــث فلسطيــني - سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى