العدد 198ملف ثقافي

نوستاليجا العودة للزمن الجميل

يمكن العثور على ثلاثة أسباب تجعل الحنين إلى الماضي (النوستالجيا) أمرًا يلمس القلب بسهولة، ويرتاح معظمنا إذا ما قادتهم تفصيلة ما إلى الوقوع فيه:

  1. جزء كبير من جمال النوستالجيا يكمن في استحالة عودة الماضي، يقول المثل الشعبي الدارج “بعد ما راح المقبرة بقى حتة سكرة”، جاذبية ما تكمن في استحالة أن يتكرر، استحالة تمنح الموضوع كله سحرًا تصعب مقاومته بالضبط مثل حكايات الجدات.
  2. أيام المراهقة والطفولة تسكن القلوب في المكانة نفسها التي يحتلها الحب الأول، أول دفقة مشاعر سرت في المخ والعروق ولونت العالم بالمشاعر نفسها، تستقر معظم تفاصيل هذه الأيام، المراهق الذي يختبر لأول مرة حلاوة مشاعر الصداقة الحقيقية والأشخاص الأكبر بتأثيرهم الساحر، السفر والأفراح ولمة العائلة ومفاجآت الأيام، النجاح والفشل، المرة الأولى في كل شعور هو حب أول بكل ما يمثله للوجدان.
  3. المقارنات تجعل الأيام القديمة أقرب إلى طوق نجاة يحاول الواحد أن ينجو به من كمية التغييرات التي لم يحسب لها حسابًا، والتطور المربك الذي يطول كل شيء كل دقيقة، هذا الارتباك يقود الواحد إلى أكثر المناطق التي اختبرها في حياته أمنًا واستقرارًا، هناك يلتقط أنفاسه، يتحسس الأمان مجددًا، يتجدد الأمل، قبل أن يعود إلى استعراض كرات النار، الذي يخوضه يوميًّا في الزمن الجديد.

 من السهل الوقوع في أسر فتنة لعبة المقارنات وإدمانها، تقدم اللعبة دفقة شعورية محسِّنة للمزاج وملطفة لأجواء الحوار الجماعي، تقودك اللعبة بسهولة إلى مشاعر المراهق القديم، بكارة تجعل لكل شيء طعمًا مميزًا ومختلفًا يشبه مشاعر الحب الأول، يمكنك أن تختار التفصيلة التي تحلو لك وتعقد المقارنة.

الجيران مثلًا، يمكن تسمية الشعور الذي يغطي على علاقة معظم الجيران ببعضها حاليًا بـ (العزلة الدافئة)، يرتاح كل بيت لفكرة أن (يكون في حاله)، وأن يكون التعامل مع الجيران أنيقًا هادئًا بلا مبالغات عاطفية، ويفضل اللجوء إليه في الحالات القصوى، مثل أن يفرض عليك الظرف مشاركة جارك في رحلة الأسانسير من الدور الخامس حتى الدور الأرضي، هذا في حالة أن العلاقات مستقرة لا يشوبها توتر له علاقة بأماكن صف السيارات أو تنقيط جهاز التكييف أو الضوضاء المنبعثة في أوقات غير مناسبة. ذكرت أحدى الدراسات قبل عدة أعوام أن ما يقرب من نصف محاضر الشرطة و البلاغات في قسم شرطة مدينة نصر تتعلق بمشاكل الجيران و شكاواهم ضد بعضهم البعض، قارن هذا الوضع بشكل و مشاعر الجيرة في الثمانينيات أو ما يسبقها، الفترة التي كانت كل عمارة فيها بمثابة بيت عائلة كبير مكون من عدة شقق، كانت ممتلكات كل شقة أقرب للملكية العامة، سيارة واحدة تخدم الجميع، أو جهاز فيديو، أو حتى عدة تليفون أرضي في شقة، ما يمكن أن تعتبرها أكثر من شقة تليفونها الخاص الذي تستقبل عليه المكالمات المهمة، بخلاف أن الأب في أي شقة هو أب لجميع أطفال العمارة له كافة الصلاحيات المتاحة للأب البيولوجي، الوضع نفسه بالنسبة للأمهات، السلالم و مدخل العمارة ملاعب مفتوحة يقتسمها كل أطفال المبنى، تدور أطباق الطعام الشهية التي تميز كل شقة بين بقية الشقق، و يندر أن تحتفل أي شقة بأية مناسبة بمعزل عن بقية الجيران، يعالج الواحد نفسه بأن يستسلم لذكرى هذه الأيام، يحتفل بأنه عاش مثل هذه المشاعر، يتدفق الونس القديم في العروق فيسهل جريان الدم فيها، نشوة صافية مجانية.

قد يختار الواحد أن يخوض التجربة من باب مقارنة حجم الأعباء المفروضة على مسيرة الواحد وقتها بما يخوضه الآن، يكفي أن الواحد في فترة ما قبل ثورة المعلومات كان متحررًا من ضغط المعرفة، يواجه أي شخص اليوم بضغط غير طبيعي يشحن عقلة ومشاعره بمسؤولية أنك عرفت، لن تخرج من زيارة عابرة للسوشيال ميديا دون أي إرهاق، تلقي نصائح: طبية، واجتماعية، واقتصادية، وتربوية، وعاطفية، أخبار تتجدد كل ثانية، جرائم وصراعات وحروب، وقرارات اقتصادية، وقوانين جديدة، ومهلة للسداد، أو لتوفيق الأوضاع، أو للحصول على شيء ما، تطاردك نشرات الأخبار، والتحليلات، والتوقعات، والتحذيرات طول الوقت. في المقابل، كانت فترة الثمانينات وما قبلها تقدم لك ما يهمك عبر ثلاث نشرات أخبار يومية، وثلاث صحف، إيقاع يسمح لك أن تتابع ما يجري على مهل دون توتر، أن تتعرف على ما يجري بهدوء ودون تشتيت، يتم تقديم المعرفة للمتابع بإيقاع يسمح له بالاستمتاع بها وانتظارها واستقبالها دون توتر يجعلها ضاغطة على الأعصاب والذاكرة، وتضمن لك الحد الأدنى من سلامة الفهم وحسن القراءة.

للمقارنة مجالات كثيرة لا حصر لها، النقلة على مستوى المشاهدة والفُرجة (مقارنة نوادي الفيديو ومكتبة الفيديو النتفليكس، مشوار السينما، نقلة مواصفات النجم وفتاة الأحلام و مصادر الإلهام، قواعد الفرجة المنزلية)، العلاقات الاجتماعية (العلاقة بالأب والأم، التواصل مع بقية العائلة، التوجيهات والتحذيرات، أسلوب المكافأة والعقاب)، الحياة العاطفية (الحب والجرأة في التعبير عن المشاعر، المحاذير والقيود، الخطوبة والزواج والأفراح، ومواصفات الجوازة اللقطة)، الصحافة (مكانتها والمصداقية وقيمة أن يظهر اسمك بها، صفحات الحوادث و بريد الجمعة وكتاب المقالات، وأسس المهنة)، النقلة في التعليم قوانينه وآدابه ومصروفاته والتزاماته وأدواته، النقلة في الكرة ومتابعة الماتشات وما يحدث قبلها وبعدها، وما كان متاحًا من فكرة الإعلام الرياضي وقتها والمعلقين ومشوار الإستاد، النقلة في التسوق والحصول على مختلف المنتجات وضعف المعروض في السوق إلى انفتاح المولات، النقلة في الشائعات نوعها وأشهرها وتعامل الجيل معها ومع مصداقيتها إلى المستوى الحالي من الشائعات وقوة تأثيرها.

يمكن عقد المقارنة بسهوله فيما يتعلق بوسائل الاتصال والتواصل المتاحة حاليًّا، كنت قد التقيت قبل فترة بأحد أقاربي، رجل يكبرني بثلاثة أجيال أو أقل، وعلى هامش الحوار قال لي: “أن جيلنا يمتلك فرص حياة أفضل بما لديه من: براح المعرفة، وثورة الاتصالات، والانفتاح على الناس والعالم”، ثم صمت لثانية قبل أن يقول آسفا: “جيلنا إحنا كان عالمه ضيق”.

قرأت قبل عدة سنوات مقالًا أجنبيًّا يتحدث عن الإنسانية في ظل هذا التطور، لا أتذكر منه سوى جملة واحدة لكنها تلخص كل ما قيل “أصبحت الإنسانية قادرة على الوصول إلى المريخ، لكنها أصبحت عاجزة عن عبور الشارع لزيارة جار والاطمئنان عليه”.

وددت أن أقول لقريبي: خذ كل هذه الأجهزة التي تحسدنا عليها، فقد تحولت إلى سجن، خذها وأعطني يومًا واحدًا بدون موبايلات، وناس من لحم و دم يتحدث الواحد إليهم على راحته دون خوف على الباقة، وأقارب تجتمع بالأمر كل أسبوع في بيت واحد من العائلة و يكون مجال العتاب على الغياب بينهم “مش لسه كنا سهرانين عندك من أسبوع؟”، وليس كما هو جارِ الآن “مش لسه عامل لك لايك على فيس بوك من يومين؟”، خذ الأجهزة وأعطني ناس تهنئ بعضها في المناسبات و “الوش في الوش” و ليس عبر رسائل سابقة التجهيز مخزنة في ذاكرة المحمول يتم إرسالها بالجملة كتأدية واجب، أعطني ناس تأخذ بيد بعضها البعض بأياديها وليس بالضغط على الكيبورد، ناس تصنع ذكرياتها بالحركة وليس بـ”التاج”، وخروجات ينظر الناس خلالها إلى وجوه بعضهم البعض وليس إلى الشاشات، أعطني خروجات أصلًا .

وددت أن أقول لقريبي: أن مواليد ما بعد ثورة الاتصالات والمعرفة لن يعانوا كما يعاني جيلنا الذي ذاق شيئًا من الحياة في هذا العالم الضيق الذي تتحدث عنه، وعرف بالوقت قيمة الفارق، قيمة المدرس الذي لو صادف ولمحه الواحد في الشارع يخاف احترامًا له  ويبحث عن طريق آخر حتى لا يسأله ” رايح فين و بتعمل إيه في الشارع”، كان للأساتذة هذا الحق، قيمة القوانين التي تجعل كل شيء يدور في نظام وتحت السيطرة، لقد اُختبر جيلنا أن هناك قانون لكل شيء، حتى زجاجة الكوكاكولا كان هناك قواعد زمانية و مكانية للحصول عليها كمكافأة، يفتقد فكرة أن الناس كانت تفكر كثيرًا قبل أن “تفتح بقها”، وتمسك كل واحد بأن “يحترم سنَّه”، وتفاني الجميع في احترام حقوق الغير.

 وددت أن أسأل محدثي ألم تلاحظ ما فعلته ثورة الاتصالات التي تحسدنا عليها؟، صرنا لا نفعل شيئًا سوى الكلام، “يرغي” الواحد طول النهار والحقيقة أنه لم يفتح فمه بكلمة واحدة، هناك من صار مشغولًا بهذا الرغي بحثًا عن تهليل وتصفيق المتابعين مما قاده إلى بارانويا مبكرة، وهناك من نزل ملاعب الرغي بالبارنويا الجاهزة.  لم تعد العائلة تهتم بـ “اللمة” في البيت الكبير قدر اهتمامها بـ “اللمة” في جروب الـ “واتس آب”، لم يعد الزعل سببه أن “ما سألش عليا وأنا عيان”، ولكنه أصبح سببه أنه “عمل لي بلوك”. أصبحنا بعد العودة إلى المنازل نتحول إلى قرود في قفص التليفزيون “تنط” وتقفز من محطة لأخرى وتصفق كالقرود كلما ألقى لها المذيع بحبات الفول السوداني الساخنة. اليوم نخزن لحظاتنا الحلوة على بروفايل يمكن سرقته في ثانية بقطعة من عمرنا محفوظة به، واختفى المكان المقدس الذي كنا نخبئ فيه ألبومات الصور بكل مقاساتها. تعلم البعض بسبب ثورة الاتصالات: الوقاحة، والندية الزائفة، والتباهي بالجهل والإصرار عليه، وجنون الشهرة السهلة، واستسهال الخوض في الأعراض دون مراجعة من أحد. وتذكر قبل هذه الثورة لو فكرت أن تخوض في عرض أحد كنت ستجد من يقف لك ويقطع عليك الجملة قبل أن تكملها، هذا لو افترضنا أنه كان هناك من يمتلك هذه الجرأة أصلًا. أصبحنا نتلصص على حياة الآخرين دون أن يؤرقنا شيء، المضحك أن حياة الآخرين أصلًا أصبحت مجرد بروفايل يمكن التلصص عليه، الأزرار التي نضغط عليها طول اليوم تقرب المسافات لكنها تُزيد فجوة التفاهم، انتهى زمان غلق باب الخصام بأن ما قيل كان “زلة لسان”، وتعلمنا أن نمسك على بعضنا البعض “سكرين شوت”، كان تليفون البيت الذي لا يرد يدعو للقلق وأهمية زيارة صاحبه للاطمئنان عليه، لكن عدم الرد على الموبايل يفتح باب الإهانات وسوء النية، جلسة الأسرة من كبيرها إلى صغيرها يدور الحوار فيها مبتورًا؛ لأن كل واحد مشغول في عالمه الافتراضي يرد على آخرين ويلقي الإفيهات ويتلقاها عبر هاتفه المحمول، انتهى زمن قرصة الأذن التي تعلم الأم من خلالها ابنها أن “بص لي وأنا بكلمك”.

وددت أن أقول له: يمكنك أن تحسدنا على ثورة الاتصالات؛ لأنها تخدم الباحثين عن العلم وعن فرص العمل ومحاولات تطوير الذات، عن مساعدة طارئة، عن علاج، عن دعم في شكوى أو كارثة لا يهتم المسؤولون بها، عن كشف فساد، عن أفكار جديدة لحياة حقيقية، عن منصة يقدم الواحد من خلالها نفسه وأحلامه، عن طريقة يمكن الوصول بها لآخرين ضاعوا منه في زحام الحياة، عن فرصة لعمل الخير، يمكنك أن تحسدنا على أدوات تُيسّر أية خطوة إلى الأمام، لكن ما العمل والأغلبية يفضلون أن تكون خطواتهم في دائرة هشة مغلقة؟

يمكن عقد المقارنات فيما يتعلق بالنجاح ومفاهيمه وطريقة قياسه، سيكون من السهل تمييز فكرة انتهاء الزمن الذي كان فيه التصفيق لشخص ما هو معيار النجاح، التصفيق بمختلف أشكاله من: الإشادة عبر المقالات والتحقيقات الصحفية، أو عبر اللقاءات التليفزيونية التي تحتفي بالضيف ومنجزه، تغيرت الحسبة ولم يعد النجاح هو هذا المخلوق الراقي الذي يهابه الجميع ويتعاملون معه بإجلال وتقديس، دخلت إلى الملاعب طريقة حساب أخرى جديدة للنجاح.

و الطريقة الشائعة حاليًّا، التي يمكن اعتبارها شكل النجاح الجديد يمكن تلخيصها في كلمة واحدة “الضوضاء”، أن تنجح تعني حاليًّا – بنسبة كبيرة- أن تثير ضوضاء ما، ضوضاء تجعلك حديث المجتمعات كلها، تتحول قصتك أو شخصك إلى تلك المادة الكيمائية الغريبة التي تشعل مواقع التواصل الاجتماعي، يتناقل الجميع ما قدمه شخص ما و يخبرون به بعضهم البعض بلهفة و تحريض على المتابعة إذا فاتك الأمر، تتورط حضرتك في هذه الضوضاء وتدعمها بنية سليمة، غالبًا تسجل اعتراضك أو سخريتك أو امتعاضك أو تأففك، لكن الطريق إلى نجاح هذه الضوضاء مفروشًا بنوايا حضرتك الشريفة العفيفة؛ لأنك تساعد في منح المنتج أو الشخص مساحة أكبر.

جمهور يندفع مثل حضرتك تمامًا بنوايا سليمة، فتكبر الضوضاء، مبارك لقد تحقق النجاح، هناك في نقطة بعيدة من يسعون لأكل العيش بنوايا سليمة في البداية، فتبدأ البرامج التليفزيونية في تغطية هذه الضوضاء، يتحول بطلها لنجم، ثم تبدأ النوايا الرديئة (تشوف شغلها)، يقف بعيدًا ذئب يفتش عن فريسة سهلة، ولا أسهل من جمهور طيب سليم النية، فيبدأ بترجمة الضوضاء إلى بيزنس، فلنستغل الضجة في إعلانات تليفزيونية راقصة خفيفة بطلها شخص أصبحت الناس تعرفه جيدًا، لكنه لازال قليل التكلفة، فيمكن ضرب عصفورين بحجر وركوب الضوضاء بميزانية تحت السيطرة. هناك وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت تثمن الضوضاء وتمنحها سعرًا عاليًا، فكلما زادت المشاهدات زاد المقابل ولعلعت الدولارات في الحسابات البنكية، يمكنك الآن أن تنشئ محطة تليفزيونية على فيس بوك أو يوتيوب أو تيك توك وتستثمر في الضوضاء التي منحها الجمهور الطيب شرعية الكسب، أنت الآن أمام شخص ناجح، كسب الشهرة والأموال؛ لأنه قدم ما تراه حضرتك منفرًا ومسيئًا وقلة قيمة وتفاهة ولا يخلو من قلة أدب، فقمت حضرتك بالاشتباك معه، فانتشر. الآن النجاح انتشار ضوضاء، ضجة، مواقع تواصل مشتعلة.

 يمكن التعامل مع النوستالجيا حتى في حدود الطعام، يعتبر كل شخص أن أشهى طعام تذوقه طوال حياته هو الطعام الذي كانت تطهيه والدته، وهي وجهة نظر أو يقين لا يخلو من صحة نظرية، أو على وجه الدقة صحة عاطفية، ومقولة zawe ashton الشهيرة ” بالنسبة لي الطعام كله نوستالجيا” تفسير الكثير.

 صحيح أن أكل الأم الأجمل كما يعتقد كل واحد، لكن حلاوة أكل الأم لا علاقة لها بجودة الطهي؛ هو الأحلى في الوجدان؛ لأنه الطعام الذي تفتحت عليه الحواس، الحب الأول. ستظل طوال عمرك واقعًا في غرام أول شخص أطعمك صينية البطاطس، وستظل تفتش عن هذا الطعم الذي سكنك ما حييت، معتقدًا ألَّا أحد في العالم يقدر عليه سوى أمك، وهذا محض خيال.

الجزء الأكبر في حلاوة طعام الأم هو ما يحيط به عند اكتشافه، أنت تأكل مع طبيخ الأم أشياء كثيرة: الزمان، والمكان، والرائحة، والأصوات، والأشخاص، ودرجة الإضاءة. تأكل طعام الأم مختلطًا بمشاعر يتم تخزينها في روحك ولا شيء قادرًا على استعادتها سوى الطعم الأول، هذا المذاق يتحول إلى مفتاح السعادة ولا علاقة لذلك بدرجة جودته. سيقابلك طعام لا تتجاوز حدود الاستمتاع به معدتك، لكن مذاق طعام الأم يحرك مناطق مهجورة في روحك، سيدهشك كم هي مزدحمة بالتفاصيل الحلوة.

قد يعتبر البعض أن اللجوء إلى النوستالجيا وإدمان العودة إلى الماضي وتفاصيله هو نوع من الهروب، ويتفنن البعض في وصف النوستالجيا بأنها أحدث أنواع المخدرات، ويبالغ البقية في وصف من يلجأ إليها بالشخص الذي لم يكتمل نضجه العاطفي، وهي وجهة نظر تليق بأشخاص كانت طفولتهم ومراهقتهم خاوية، أشخاص لم تسمح لهم ظروفهم الشخصية والأسرية بأن يتمهلوا ليتذوقوا حلاوة تفاصيل هذه الأيام، نوع من الأشخاص عندما يقابله الواحد يشعر تجاهه بمزيج من الخوف والشفقة؛ لأنك تقف في مواجهة شخص بلا ذكريات.

أما الكلام عن كون النوستالجيا مخدرًا، فهو كلام قد يبدو ظاهره صحيحًا، لكنها نظرة سطحية، النوستالجيا في عمقها منبه، يجدد الذاكرة وينشطها ويقوي تدفق الدم في عروقها، وهي فرصة لاستطعام كل جمال مررت به من قبل، تأمل كيف كنت محظوظًا في معظم ما صادفت من أشخاص ومتعة واكتشافات وحتى لحظات الملل، تعرفك على نفسك تساعدك على اكتشاف حقيقتك واستعادة ما تسرقه منك الضغوطات وطبيعة الحياة حاليًّا، تذكرك بالنقطة التي أنت قادم منها بيتك وأسرتك وما تربيت عليه وما تؤمن به وما أوصاك به الكبار وما تعلمته واختبرته بنفسك، كل ما شكل شخصيتك ومعرفتك ووجهة نظرك في الحياة محفوظ في دواليب النوستالجيا، ويمكنك العودة إليه و الاعتماد عليه في كل شيء من تصحيح مسارك حتى القرارات المصيرية.

 قد تبدو النوستالجيا لعبة صبيانية في نظر البعض، هم مسؤولون عن هذه النظرة، لكنها لا تعبر عن حقيقة وصفة لا تحول بينك وبين واقعك الذي تعيشه، لكنها تعينك على فهمه وتقبله ومواصلة التقدم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى