2025العدد 201ملف عربي

هدنة مؤقتة لتغيير غزة وتغيير الشرق الأوسط

بعد 15 شهرًا على حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل ضد فلسطينيي قطاع غزة، مستغلة عملية “طوفان الأقصى” (7/10/2023) كفرصة سانحة لها، تعمدت فيها تدمير معظم مدن ومخيمات القطاع، وتخريب عيش أكثر من مليوني فلسطيني فيها_ تم التوافق على هدنة جديدة، هي الثانية من نوعها (الأولى في نوفمبر 2023) بين إسرائيل و”حماس”، بضمانة أمريكية ومصرية وقطرية.

خطوط ضبابية لهدنة مؤقتة.

في الواقع فإن هذه الهدنة المؤقتة والهشَّة، أتت بعد طول ممانعة من قبل حكومة نتنياهو لأي صفقة لوقف إطلاق النار، مع اللامبالاة لكل الضغوط الداخلية والخارجية، والإصرار على المضي بإفناء قطاع غزة في حرب مهولة غير مسبوقة، وكان الواضح أن الهدف الأساسي من تلك الهدنة مجرد تحرير الأسرى أو الرهائن الإسرائيليين لدى “حماس” مقابل إفراجها عن مئات من الأسرى الفلسطينيين من سجونها، ومجرد وعد بإجراء مباحثات لإيجاد حل مناسب لوقف الحرب نهائيًّا، وتحديد مستقبل قطاع غزة مع انسحاب القوات الإسرائيلية منه، وإعادة الإعمار وفتح المعابر وتوفير مرور الأشخاص والبضائع.

على ذلك، فإن مشكلة هذا الاتفاق الأساسية تكمن في جوانب ثلاث رئيسة، أهمها:

أولًا: إنه اتفاق مؤقت لوقف إطلاق النار، وليس لوقف الحرب نهائيًّا؛ إذ ليس فيه ما يلزم إسرائيل بذلك، بخاصة إنها باتت تستند إلى موقف أمريكي من إدارة ترامب، يشرعن استمرارها بالحرب، بل وأكثر من ذلك، أي سلب قطاع غزة من الفلسطينيين وتشريدهم منه.

ثانيًا: لا يوجد في النص ما يتضمن انسحاب إسرائيل من كامل قطاع غزة؛ إذ الحديث يتركز بانسحابها من المناطق كثيفة السكان، في وضع تُصر فيه على وجود مناطق عازلة- بدعوى متطلبات أمنية- على طول الحدود مع القطاع من الشرق والشمال، بعمق 1 أو 2 كيلومتر.

ثالثًا: ثمة إصرار إسرائيل على شطب حركة “حماس” من المشهد السياسي الفلسطيني، ولا سيما في قطاع غزة، وعدم قبول وجودها كسلطة فيه، ورهن كل شيء- بما في ذلك وقف الحرب نهائيًّا، وإعادة الإعمار، وإدخال المساعدات- بهذا الشرط.

إضافة إلى كل ما تقدم فإن مشكلة الفلسطينيين أن قطاع غزة بات بمثابة منطقة غير صالحة للعيش، وأن 80 بالمئة من فلسطينيي غزة بدون بيت وبدون مصدر رزق، أي أن مليونين منهم باتوا بحاجة إلى مساعدات خارجية مستدامة، وهذه كلها تحت رحمة إسرائيل، ووفقًا لرضاها وشروطها.

في الغضون يجدر لفت الانتباه إلى مسألتين: الأولى، أن “حماس” في هذا الاتفاق اضطرت إلى التراجع عن عديد من مواقفها السابقة، وضمنها تبييض السجون، في واقع قامت فيه إسرائيل باعتقال أضعاف الفلسطينيين الذين كانوا في معتقلاتها قبل عملية “الطوفان”، وإنها في ذلك الاتفاق بدت في تناقض مع ما كانت تطرحه من تحد لإسرائيل باستمرار المقاومة وزلزلة الأرض من تحتها، وذلك بطلبها عقد هدنة وقبولها بوقف مؤقت لإطلاق النار، في حين ظل نتنياهو يناور برفض عقد أية صفقة طوال عام كامل، استغله بتدمير حياة مليوني فلسطيني في غزة، وتقويض مكانة وقوة “حماس” في غزة. أيضًا، وفيما تطالب “حماس” بعودة الأوضاع في غزة إلى ما قبل 7 أكتوبر 2023، بما في ذلك عودة الفلسطينيين إلى مناطقهم التي أخرجوا منها بقوة النيران، فإن غزة تلك لم تعد موجودة- أصلًا- على الأرض، لا كبشر ولا كحجر ولا كشجر. أما الثانية، فتفيد بتقدير الصمود البطولي الذي أبدته “حماس” -طوال 15 شهرًا- في مواجهة الجبروت العسكري الإسرائيلي، الذي يتفوق بالعدد والعديد، والقوة التدميرية، والتفوق التكنولوجي، وأيضًا لقدرتها على بناء تلك الأنفاق، ومنع الجيش الإسرائيلي من تحرير مئة إسرائيلي استطاعت إخفائهم طوال تلك الفترة.

مع ذلك، فإن ذلك الصمود وتلك القدرة، اللافتين للانتباه، لا يغطيان الكارثة المهولة التي حلت بفلسطينيي غزة، وهي بمثابة نكبة ثانية؛ إذ أخذتهم وورطتهم “حماس” بحرب جيش لجيش وصاروخ لصاروخ، اعتبرتها إسرائيل بمثابة فرصة لها للبطش بالفلسطينيين.

ومعلوم إن الأصل في المقاومة أنها تجنِّب شعبها الاستنزاف، ولا تحمّله أكثر مما يحتمل، ولا تضعه مكشوفًا أو فريسة أمام جبروت قوة غاشمة، وهذا كله حصل في واقع وجدت فيه إسرائيل فرصتها لقلب حياة الفلسطينيين في غزة رأسًا على عقب، وتدمير القطاع وحملهم على مغادرته قسرًا أو طوعًا، علمًا بأن المقاومة تقوى بشعبها وتضعف بضعفه وليس العكس، باعتبار أن الشعب هو أساس المقاومة وليس هذا الفصيل أو ذاك.

واقع فلسطينيي غزة في ظل الهدنة.

وبعيدًا عن الرغبات الذاتية والعواطف والمظاهر الاحتفائية، التي شهدنا زخمها في وسائل الإعلام، فإن قبول إسرائيل بوقف النار والانسحاب من مناطق من غزة، ومنها محور نتساريم مثلًا، لا تعتبر إنجازًا بحد ذاتها للمقاومة، فهكذا وضع كان موجودًا قبل “الطوفان”، مع فارق مهم وهو أن أهل غزة كانوا موجودين، ويمارسون حياتهم، رغم صعوبات الحصار، في حين غزة، التي كانت اختفت في بنيتها وعمرانها ومجتمعها واقتصادها.

وفي الحقيقة، فإن إسرائيل وافقت على الهدنة بكل ما تضمنته وبشروطها هي، ولكن بعد أن فعلت ما فعلته بتدمير 80 بالمئة من عمران غزة وبناها التحتية، وبعد أن قتلت عشرات أُلوف من الفلسطينيين، وضمنهم أُلوفًا مازالوا تحت الأنقاض، إضافة لعطب عشرات ألوف الغزيين، أو إصابتهم بالعجز، ومع واقع أن حصار إسرائيل لغزة زاد أو تعزز ولم ينقص، يفاقم كل ذلك حال الإفقار التي بات يعاني منها مجتمع الفلسطينيين في غزة، في المدى المنظور.

على أية حال، فإن مشهد الفلسطينيين (العائدين) في قطاع غزة، في ظل الهدنة الحالية يستحق التفكير العميق، ويبعث على الأسى والألم ويثير كثيرًا من الأسئلة، وليس إلى احتفالات أو أضواء أو مظاهر إعلامية؛ إذ إن هذا النوع من السلوك يشي بنوع من انعدام المسؤولية، وضعف التحسّس بآلام البشر، واللامبالاة إزاء حياتهم وأشكال معاشهم، والأخطر من ذلك أنه يشي بانعدام الوعي لدى الفصائل المعنية بضرورة مراجعة ما حصل، واستنباط الدروس المناسبة منه.

في هذا الإطار، فإن مشهد عودة مئات الألوف إلى المناطق التي نزحوا منها، لا يحجب واقع أنهم يعودون إلى مناطق لم تعد فيها حياة -أصلًا- بعد تدمير بيوتهم وعمرانهم، وضياع ممتلكاتهم وأماكن عملهم، وأيضًا فهو لا يغطي على حقيقة أن هؤلاء سيعيشون إلى سنوات- ربما- على المساعدات الخارجية المرتبطة باشتراطات أمريكية، وبسماح إسرائيل بإدخال هذه المساعدات، في نوعيتها وكميتها.

الحقيقة أن إسرائيل حولت فلسطينيي غزة (المليونين) إلى أسرى لديها، سيان كانت السلطة لـ”حماس” في القطاع، أو لـ”فتح”، فهذا الأمر بات في ذمة اليوم التالي، علمًا أن أيًّا من الفصيلين لا يتصرف بالمستوى اللازم من المسؤولية إزاء الواقع المعقد والبائس والمؤلم الذي بات يعيش فيه فلسطينيو غزة.

والمشكلة أن هذين الطرفين يهيمنان على المجال العام السياسي والمجتمعي الفلسطيني، كل في مجاله الإقليمي، دون تمكين الشعب من المشاركة في نقاش القرارات وصوغ الخيارات الوطنية. أيضًا، فإن هذين الطرفين لا يعملان بطريقة التكامل في إطار الوحدة مع الاختلاف-حتى في مواجهة التحديات الإسرائيلية- بقدر ما يعملان كسلطتين، بطريقة تنابذية وضدية، ما يبدد الطاقات الفلسطينية ويريح إسرائيل، ونقاشات اليوم التالي للحرب في غزة تؤكد ذلك.

لذا، فربما الأجدى والأكثر مسؤولية لحماس خصوصًا وللفلسطينيين عمومًا، النظر بموضوعية لكل ما جرى، وعدم حجب الواقع مهما كان؛ إذ لا يوجد انتصار- مع الأسف- في كل هذا الدمار أو في هذه النكبة، والحديث عن نصر يتناقض مع الحديث عن حرب إبادة جماعية شنَّتها إسرائيل بوحشية مفرطة على غزة، كما يتنافى ذلك- أصلًا- مع الطلب على وقف إطلاق النار، إضافة إلى أنه يتضمن إنكار الواقع والمكابرة، ما يعني عدم الاستفادة من هذه التجربة المريرة والمكلفة مستقبلًا.

اختبار الهدنة.

الآن، وعلى عتبة انتهاء الفترة الزمنية للمرحلة الأولى من اتفاق الهدنة، والوقوف على عتبة الدخول في المرحلة الثانية، قام بنيامين نتنياهو بطرح شروط جديدة، أهمها: الإفراج عن كل الأسرى أو الرهائن الإسرائيليين، ومطالبة “حماس” بالخروج من المشهد السياسي، إضافة إلى خروج قيادييها من قطاع غزة قبل الولوج إلى تلك المرحلة، أي قبل إقرار التهدئة النهائية التي تمهد للمرحلة الثالثة، أي مرحلة الاستقرار والإعمار.

المشكلة أن لا أحد يمكن له أن يرغم نتنياهو على المضي باتفاق كان قد وقع عليه، وهذا ما حصل في الاتفاق الأساس، أي اتفاق أوسلو 1993، الذي تم التوقيع عليه في البيت الأبيض الأمريكي، والذي نص على مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات، لكنها لم تنته بعد رغم مرور ثلاثين سنة.

في المقابل، فإن إسرائيل المعروف عنها أنها تتنصل من أي اتفاق، وأن كل اتفاق معها يحتاج إلى اتفاقات أخرى_ طرحت مخرجًا اعتبرته بمثابة حل “وسط” يقضي بتمديد المرحلة الأولى، أي تمديد وقف إطلاق النار المؤقت، بثمن إطلاق باقي الرهائن الإسرائيليين، وهو ما تريده إسرائيل من وراء هذه الهدنة، والمشكلة إنه بدل الضغط عليها، يجري الضغط على الفلسطينيين، وطرح مخارج تتيح لإسرائيل التملص وتجاوز الاستحقاقات المطلوبة منها.

يقول المحلل الإسرائيلي بن كسبيت: “بافتراض أن نتنياهو لن يستجيب ولن يوافق على وقف الحرب أو وقف نار دائم في الانتقال إلى المرحلة الثانية، تحاول محافل مختلفة، بما فيها محافل الأمن أيضًا، تربيع الدائرة: بدلًا من الانتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية يحاولون خلق نوع من المرحلة الوسطى لا يكون فيها إعلان عن نهاية الحرب، لكن تتواصل الدفعات، بهدف أن يُعاد إلى البلاد أكبرُ عدد ممكن من المخطوفين الأحياء.”(“معاريف”11/2/2025)

على ذلك، فإن كل شيء بات مرهونًا بانتهاء المرحلة الأولى من الاتفاق، أو باستعادة إسرائيل كل الرهائن (أحياء أو كجثث) فبعد ذلك ستأتي المرحلة التالية، سواء كانت الثانية أو الثالثة، والتي يفترض فيها تثبيت وقف الحرب، وبدء تنفيذ خطة إعادة إعمار قطاع غزة، المقدرة لمدة تتراوح بين 3 إلى 5 سنوات، في حين أن إعادة الإعمار تتطلب عقدًا وربما أكثر، علمًا بأن كل ذلك سيظل خاضعًا لمدى قبول إسرائيل والإدارة الأمريكية وتاليًا الدول الغربية المعنية بترتيبات اليوم التالي، وهو أمر ليس بيد “حماس”، بل إنه بات خارج أيدي الفلسطينيين، في الظروف العربية والإقليمية والدولية الراهنة.

والفكرة الأساسية هنا لا تتعلق فقط بتملص إسرائيل من أي اتفاق، وإنما بجوهر سياسات نتنياهو، والتي تتمثل بإخضاع الفلسطينيين والهيمنة عليهم، وشطبهم من المعادلات السياسية، فهو أكثر رجل وضع في مركز اهتماماته تقويض اتفاق أوسلو، ووأد فكرة إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، منذ جاء لرئاسة الحكومة أول مرة (1996 – 1999) عقب اغتيال إسحق رابين. إضافة إلى ذلك، فإن نتنياهو يرى أنه معنيٌّ باستمرار حربه في غزة إلى حين التخفف من الفلسطينيين المليونين فيها، بدعوى عدم السماح بـ “طوفان أقصى” آخر، وبدعوى التخلص نهائيًّا من حركة “حماس”.

خُطَّة ترامب تغيير غزة والشرق الأوسط.

إضافة إلى ما تقدم، فقد تلقى نتنياهو تشجيعًا للتملص من الاتفاق، بل واستكمال حربه في غزة ضد الفلسطينيين، من الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الذي التقاه في البيت الأبيض في واشنطن (فبراير/2025)، معتبرًا هذا اللقاء بأنه “الأكثر ودية والأكثر أهمية بين رئيس وزراء إسرائيلي ورئيس أمريكي في التاريخ.” (11/2/2025)

وكان الرئيس الأمريكي تجاوز كل أسلافه، كما تجاوز القانون الدولي بطرحه مشروعًا مفاجئًا وغريبًا قوامه ليس فقط تهجير فلسطينيي غزة وتوطينهم في أماكن أخرى، وإنما استيلاء الولايات المتحدة على غزة، وتحويلها إلى “ريفيرا” في الشرق الأوسط، كأن المسألة تتعلق بخلاف في شركة، أو كأن القصة هي مجرد خلاف عقاري. إضافة إلى ذلك، فقد هدد رئيس أهم وأقوى دولة في العالم حركة “حماس” بالجحيم إذا لم تفرج عن الرهائن الإسرائيليين دفعة واحدة في حدود بضعة أيام.

وبِناءً على هذا التشجيع باتت لغة نتنياهو وأركان حكومته حربية تمامًا؛ إذ هدد باستئناف “معارك عنيفة في قطاع غزة حتى إلحاق هزيمة نهائية بحماس إذا لم تفرج عن رهائننا بحلول السبت 15/2/2025”. أيضًا، في كلمة له عقب عودته من واشطن 11/2/2025، أكد بأن “إسرائيل تتفق مع الولايات المتحدة بشأن كثير من قضايا الشرق الأوسط… وإنه يعمل مع الولايات المتحدة على رؤية جديدة بشأن قطاع غزة بلا حركة حماس، ولا السلطة الفلسطينية…الرئيس الأمريكي يدعم خطتنا لتحقيق أهداف الحرب في قطاع غزة بما في ذلك تدمير حماس وعودة جميع الرهائن”، وأنه “عرض تصورًا واضحًا بشأن اليوم التالي في قطاع غزة”، في إشارة إلى خطة ترامب بسيطرة الولايات المتحدة على غزة، والانخراط في جهود ضخمة لإعادة الإعمار، بعد إعادة توطين الفلسطينيين في أماكن أخرى. وخاطب نتنياهو، أعضاء الكنيست، قائلًا: “لطالما تحدثتم عن اليوم التالي، والآن لديكم رؤية واضحة، ترامب قدم فكرة ثورية لما بعد حماس، حتى لا تعود غزة دولةَ إرهاب… لقد عُدت من الولايات المتحدة برؤية مختلفة من دون حماس، ودون السلطة الفلسطينية”.

وكان الرئيس الأمريكي في لقاء له مع الصحافيين في البيت الأبيض 11/2/2025، اقترح أن تلغي إسرائيل اتفاق وقف إطلاق النار الساري في قطاع غزة منذ 19 يناير (كانون الثاني) “إذا لم تفرج حماس عن جميع الرهائن بحلول ظهر السبت المقبل -بضعة أيام-… ولأن تُفتح أبواب الجحيم”، مشددًا على وجوب أن تطلق “حماس” سراح جميع الرهائن الإسرائيليين ” دفعة واحدة وليس على دفعات”.

وكان نتنياهو قال بعد عودته إلى إسرائيل، آتيًا من واشنطن، إن المعركة في غزة لم تنتهِ بعد، وإنه اتفق مع ترامب على استكمال تحقيق جميع أهداف الحرب، وهي: القضاء على “حماس”، وإعادة جميع المخطوفين، وضمان ألا تشكل غزة مرةً أخرى تهديدًا على إسرائيل، وإرجاع النازحين إلى بيوتهم في شمال البلاد وجنوبها، ومنع حصول إيران على السلاح النووي. وفي تصريحات أخرى، أيَّد نتنياهو خطة ترامب لتهجير سكان غزة، وعدَّها اقتراحًا ثوريًّا ونهائيًّا، واقترح أيضًا إقامة دولة للفلسطينيين في دول عربية ومناطق أخرى، متبجحًا بأن إسرائيل تغير الشرق الأوسط مع الولايات المتحدة.

استحقاقات فلسطينية.

بناء على ما تقدم، وعدا ما يحصل في غزة، فما زال الفلسطينيون يقفون في مواجهة مخاطر واستحقاقات وتحديات أساسية، من النهر إلى البحر، بخاصة مع مجيء إدارة ترامب، التي تطرح ترانسفيرًا جديدًا للفلسطينيين، للأردن أو لمصر أو لأية دولة أخرى، ومع محاولة حكومة نتنياهو إخضاع الضفة لهيمنتها جملة وتفصيلًا، وعبر تعزيز الاستيطان وتسليح المستوطنين، مع الإبقاء على مجرد وجود شكلي للسلطة الفلسطينية فيها.

وفيما يتعلق بما بعد الهدنة، وبتداعيات الحرب على قطاع غزة مثلًا، فإن الفلسطينيين يقفون في مواجهة استحقاقات أو تحديات عدة لعل أهمها:

أولًا: مواجهة تبعات الكارثة الإنسانية التي حلت بفلسطينيي القطاع، وقوامها تدبير إمكانات العيش لعدد كبير من عائلات الشهداء والجرحى والمعوقين والمشردين والمعدومين، الذين دمرت ممتلكاتهم وموارد رزقهم.

ثانيًا: بذل كل الجهود الممكنة واللازمة لعدم إعطاء حكومة نتنياهو حجة لاستئناف حرب الإبادة في قطاع غزة بأي شكل، وسحب الذرائع اللازمة لذلك، بعيدًا عن المكابرة وحال الإنكار، وبمعزل عن المشاعر المزيفة بالاحتفاء الساذج “بانتصارات” ثمنها بقاء فصيل، أو بعض من فصيل، مع إبادة الشعب الفلسطيني أو إفقاره وإذلاله أو تهجيره.

ثالثًا: ضرورة إدراك “حماس” أنه من الطبيعي أنها لا تستطيع هزيمة إسرائيل، ولا أحد يحملها مسؤولية ذلك، وأن إسرائيل هذه ولو أنها لم تستطع تحرير مئة أسير إسرائيلي لدى المقاومة، فإنها أسرت مليونين من الفلسطينيين، وجعلتهم رهائن لها، عدا عن تعزيز هيمنتها على فلسطينيي الضفة، وتاليًا على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، وهذا هو هدف إسرائيل المركزي، بعيدًا عن ادعاء أن إسرائيل لم تحقق أهدافها، أو أنها نجحت تكتيكيًّا، في حين نجحت المقاومة إستراتيجيًّا، فهذه أكثر العبارات مغالطة، بدليل ما حصل في غزة وفي لبنان، وما تبع من انتهاء أو أُفول نفوذ إيران في لبنان وسوريا وربما في العراق لاحقًا.

رابعًا: بذل الجهود لرفع الحصار من كل الجوانب عن قطاع غزة، وصولًا إلى تكريس ممر آمن بين الضفة وغزة لتأكيد الوحدة الإقليمية بين طرفي الكيان الفلسطيني؛ لأن ذلك هو الشرط الشارط لاستعادة الاستقرار والاطمئنان لفلسطينيي غزة، لإطلاق ورشة إعادة الإعمار، وتأمين الفرص الاقتصادية التي من شأنها تمكين فلسطينيي غزة من البناء ومن تأمين قوت يومهم. بيد أن الشرط لذلك يتأسس على العاملين الأولين، أي إدراك الكارثة الإنسانية المهولة في غزة، وواقع موازين القوى، والمعطيات الدولية والإقليمية المواتية لإسرائيل، والقيام بما يفترض القيام به للتكيف مع الواقع، بعيدًا عن عقلية السلطة أو عقلية المغامرة والمكابرة.

باختصار، فإن المبادرة في المجالات الأربع المذكورة في يد “حماس” أكثر من غيرها، فهي المطروح عليها اليوم المفاضلة بين وضعها كسلطة في غزة وبين أحوال الفلسطينيين فيها، الذين عانوا الأهوال في الخيار الذي أخذته “حماس” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، في عملية “طوفان الأقصى”، وهو خيار كان يمكن لـ “حماس” تجنبه لو كان لديها إستراتيجية خروج بعد تلك العملية، التي وجدت فيها إسرائيل فرصتها السانحة لشن حرب إبادة ضد فلسطينيي غزة، كما كان بإمكانها تجنب هذا الخيار لو أنها منذ البداية حددت مكانة قطاع غزة في إطار العملية الوطنية الفلسطينية، كمنطقة محررة وكنموذج للدولة الفلسطينية المقبلة، بطرح نموذج سياسي واقتصادي واجتماعي أفضل من مثيلتها في الضفة.

على ذلك، من حق الفلسطينيين العاديين، الذين لا يحملون السلاح ولا ينتمون للفصائل، مساءلة قياداتهم وكياناتهم عن الخيارات المعتمدة في السياسة وإدارة المجتمع، في المفاوضة والمقاومة، في الشكل والمضمون، في الكلفة والمردود، وأيضًا عن الانفصام بين الممكن والطموح، والواقع والمتخيل، وبين التضحيات والإنجازات، سيما أنهم من يدفع الأثمان الباهظة على مر التجارب الوطنية الفلسطينية، من الأردن إلى لبنان وصولًا إلى الضفة وغزة.

باختصار، لا يمكن للفلسطينيين تعزيز صمودهم وتحقيق الاستقرار في أوضاعهم، وتاليًا استثمار تضحياتهم وبطولاتهم دون إحداث تغييرات في عقلياتهم السياسية، وتعريفهم لأهدافهم السياسية، ولوسائل كفاحهم، ودون إعادة بناء كياناتهم الوطنية على أسس جديدة، وضمنها منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وفق رؤى سياسية تتأسس على وحدة الشعب والأرض والقضية، وإستراتيجية كفاحية تتأسس على الواقع والإمكانات، وبالتأكيد لا يمكن لهم ذلك من دون توفر الظروف الدولية والعربية المناسبة لهم لتثمير معاناتهم ونضالاتهم. وهذه هي المشكلة اليوم، وهي ذاتها طوال مسيرة كفاحية عمرها ستة عقود.

اظهر المزيد

ماجد كيالي

بــاحــث فلسطيــني - سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى