يتصل استشراف الاتجاهات التي ستتخذها السياسة الخارجية التركية في المرحلة المقبلة بالعديد من العوامل التي تؤثر على مسار هذه الاتجاهات سواء بالتصالح مع دول الجوار القريب والبعيد في ما يُعرف بـسياسة “صفر مشكلات”، أم بالدخول في خلافات أو صدامات مع هذه الدول أو بعضها في ما عرف في تركيا في السنوات الأخيرة بـ “العزلة الثمينة”.
بداية لا بد من الإشارة إلى أن تركيا عرفت مرحلتين مختلفتين في سياساتها الخارجية منذ تأسيسها عام 1923 وإلى عشية مرحلة حزب العدالة والتنمية:
الأولى: في عهد أتاتورك من 1923 وإلى نهاية الحرب العالمية الثانية، واتسمت بالانكباب على ترتيب البيت الداخلي تحت شعار سلام في الوطن سلام في العالم. وباستثناء قضية لواء الأسكندرون، امتازت هذه المرحلة بحيادية إيجابية وعلاقات جيدة مع كل القوى الكبرى من الاتحاد السوفيتي إلى (فرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، وألمانيا)، وترجمت في أوضح تعبير لها في حياد تركيا في الحرب العالمية الثانية.
المرحلة الثانية: بدأت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وامتازت بانكسار العلاقة مع الاتحاد السوفيتي؛ بسبب مطالب الأخير -في عهد ستالين- بأراضٍ تركية وبتغيير صيغة اتفاق المضائق لعام 1936، وكان ذلك مدعاة لنزوع تركي نحو الغرب بتوقيع الاتفاق العسكري مع واشنطن عام 1947، ومن ثم الاعتراف بإسرائيل عام 1949، ومن ثم الانضمام عام 1952 إلى حلف شمال الأطلسي، الذي كان تأسس عام 1949. واستمرت هذه المرحلة على امتداد الحرب الباردة ومن ثم العقد الذي تلاها، والسمة الأساسية لهذه المرحلة هي الانتماء الأطلسي لتركيا لكن ضمن معيار الخاصية العلمانية للنظام، أي أن تكون من دولة لدولة أو ما يمكن وصفه بـ ” الأطلسية العلمانية”.
أما المرحلة الثالثة: وتتصل ببحثنا هذا، فقد امتازت بداية بسياسة ما سمي “صفر مشكلات” والانفتاح الكامل على الخصوم والأصدقاء معًا، وهو ما وضع تركيا في موقع جديد أثار طرح تساؤلات أكثر مما قدم من إجابات، وكان بطل هذه السياسة “أحمد داوود أوغلو”، عندما كان مستشارًا لرئيس الحكومة ووزير الخارجية بعد العام 2002، وتبناها قادة حزب العدالة والتنمية وعلى رأسهم زعيمه ورئيس الحكومة “رجب طيب أردوغان”، وقد وفرت هذه السياسة مصالحات تركية واسعة مع معظم دول الجوار والمنطقة، وكانت من أهم عوامل الازدهار الاقتصادي في تركيا في سنوات ما بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة واتساع الدور الوسيط لتركيا في مختلف المشكلات الإقليمية، ولا سيما في الصراع العربي – الإسرائيلي، وحتى في الخلافات السياسية داخل القطر الواحد.
ولكن من مجمل التطورات اللاحقة، ولا سيما مع بدء ما سمي بـ “الربيع العربي” عام 2011 وحتى العام 2019 تقريبًا، أظهرت السياسة الخارجية التركية تغييرًا أساسيًّا في منطلقاتها ومحدداتها ترك أثره على الأحداث في منطقة الشرق الأوسط والمحيطين (الإقليمي، والدولي) لتركيا، وأخرجها من سياسة صفر مشكلات لتتحول إلى “متدخل” مباشر وأحيانًا عنيف في الشؤون الداخلية للدول وفي الخلافات بينها.
فبعدما كانت سياسة تركيا الخارجية (الأطلسية) محكومة بسقف علماني ساهم في ضبطها، كانت نخب حزب العدالة والتنمية تتخلى عن سياسة صفر مشكلات وتتقدم تدريجيًّا في اتجاه صوغ سياسة خارجية تولي أولوية للنوازع الإيديولوجية الدينية معطوفة على نزعة قومية لم تختفِ منذ تأسيس الجمهورية، وانتقلت تركيا من سياسة خارجية قومية – علمانية/أطلسية، إلى سياسة خارجية قومية- دينية/أطلسية، وهو ما أُطلق عليه “العثمانية الجديدة” تارة وسياسة “الميثاق الملّي” تارة أخرى.
لقد أتاح النظام الانتخابي لتركيا عام 2002 وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة منفردًا بنسبة 34 في المئة فقط من الأصوات، وقد سهّل ذلك اتباع الحزب سياسات محافظة ودينية راعت مشاعر فئات واسعة من السكان من خارج قاعدته الحزبية أيضًا، وقد أظهرت الدراسات ومن ثم الوقائع أن نسبة لا تقل عن 40 في المئة من الأتراك يصنفون أنفسهم متدينين، و(20 إلى 25) في المئة قوميين، فيما تقارب نسبة العلمانيين من (25 إلى 30) في المئة لتبقى نسبة عشرة في المئة تقريبًا يحملون نزعة قومية كردية صافية. ومما تقدم فإن رجب طيب أردوغان كان يربح انتخابات الرئاسة منذ أن أقرت من قبل الشعب مباشرة على النسبة ذاتها وهي 52 في المئة أعوام (2014، 2018، 2023)، وهي تطابق أصوات المتدينين-السنّة تحديدًا- وجزء كبير من القوميين رغم انقسامهم إلى مؤيد لأردوغان وموالٍ له.
إن اعتماد حزب العدالة والتنمية على خطاب قومي – ديني وفر له خلال كل هذه السنوات تأييد هذه الفئة من السكان، وكان لزامًا على أردوغان ليضمن فوزه في الانتخابات أن يراعي-في المقابل- توجهات هذه الفئة التي دعمته في اتباع سياسات خارجية عثمانية تجمع بين النزعتين (القومية، والدينية)، وهذا كان في أسباب استمرار المشكلتين (الكردية، والعلوية) دون حل، وبالتالي كنا أمام جدلية تحفيز الداخل لسياسة خارجية “عثمانية”، واتباع السلطة سياسة خارجية عثمانية استجابة لنوازع الداخل.
وفي ظل الالتزام الكامل بالسقف الأطلسي، كانت أنقرة تصوغ سياسة خارجية قائمة على قاعدة بسط الهيمنة العثمانية على الدول المجاورة- ولا سيما العربية منها- سواء باستبدال الأنظمة القائمة بأخرى موالية لها كما حدث في (مصر، وتونس، والمغرب)، أو من خلال العمل على محاولة إسقاط أنظمة أخرى والضغط عليها عسكريًّا كما حدث في (سوريا، والعراق)، أو من خلال التدخل العسكري المباشر كما حدث في ليبيا.
وكان ذلك دائمًا تحت شعار أن ما يحصل في (سوريا، والعراق) مثلًا هو “شأن داخلي تركي”، وغالبًا بل دائمًا ما كان يرفع المسؤولون في حزب العدالة والتنمية شعار استعادة حدود “الميثاق الملي”، الذي أقره البرلمان العثماني في 28 كانون الثاني/يناير 1920، ويلحظ أن حدود تركيا الجديدة-حينها- تشمل كل الشمال السوري والعراقي، والعديد من المناطق في القوقاز وبحر إيجة من تلك التي بقيت لاحقًا خارج حدود الجمهورية التركية. وكان أردوغان يقول “إن الذي لا يعرف ماهية الميثاق الملّي لا يمكن أن يفهم ما نقوم به الآن في العراق أو سوريا”(18 تشرين الأول/أكتوبر 2016)، وهذا بالتأكيد من أسباب انسداد المصالحة اليوم بين (تركيا، وسوريا) تحديدًا.
إن اتباع سياسة خارجية عثمانية و”ميثاق ملّية” أفضى إلى خروج تركيا من سياستها العلمانية، ولو تحت سقف الأطلسي وسياسة من دولة إلى دولة، ودخولها في مرحلة جديدة عثمانية أساسها التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والصدام والحروب والاحتلال والتوترات من (سوريا، والعراق) إلى (مصر، وليبيا، واليونان، وقبرص، والقوقاز).
إن اكتساب المشروع التركي الخاصية العثمانية والتوسع في شمال سوريا والعراق والمنطقة أفضى إلى هواجس أمريكية من تنامي الدور التركي واحتمال خروجه عن السيطرة، فيما كانت واشنطن تخطط لدور شرق أوسطي يكون للأكراد فيه دور مركزي، وهو ما أدى إلى شرخ في العلاقات التركية مع الولايات المتحدة.
وبلغت ذروة الخلاف التركي – الأمريكي مع محاولة الانقلاب العسكري في 15 تموز/ يوليو 2016، واتهام أنقرة واشنطن (وعواصم أخرى خليجية تحديدًا) بأنها تقف وراء الانقلاب، وتوسعت مروحة الخلافات التركية وانكسار سياسة صفر مشكلات مع معظم الدول التي حاولت تركيا أن تنشئ فيها أنظمة موالية لها وركيزتها جماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم الإطاحة بهذه الجماعة فيها مثل: (مصر، وتونس)، كذلك كان الخلاف الشديد بين تركيا والدول التي ترى في الإخوان المسلمين جماعة “إرهابية” تهدد النظام والاستقرار فيها مثل: (السعودية، والإمارات، ودول خليجية أخرى).
أما الخلاف التركي مع إسرائيل فكان متصلًا أولًا بحادثة سفينة مرمرة عام 2010، ومقتل تسعة أتراك على متنها، وثانيًا بكونها جزءًا من الخلاف التركي العام مع الولايات المتحدة وسياسات أنقرة الداعمة لحركة “حماس”، وتقديم الحماية لها على الأراضي التركية.
وقد أفضت الخلافات والصراعات التركية مع كل هذه الدول إلى ظهور تركيا بلدًا منعزلًا عن معظم دول المنطقة ربما خلا دولة قطر والقليل غيرها، وكانت ذروة العزلة التركية في تشكيل ما سمي بـ “منتدى غاز شرق المتوسط” في مطلع العام 2019، والذي شمل خصوم تركيا الأساسيين مثل: (إسرائيل، ومصر، وفرنسا، وإيطاليا، واليونان، وقبرص اليونانية)، فيما استبعدت تركيا من عضويته، وكان الهدف من المنتدى التعاون فيما بينها لإنتاج وتوزيع الغاز الطبيعي ومن ذلك تصدير الغاز الطبيعي عبر أنبوب بحري يبدأ من أمام سواحل إسرائيل ويمتد إلى إيطاليا بكلفة عالية تقارب الثمانية مليار دولار.
التحول أو الخشية التركية من المسار الذي كانت تمضي فيه بدأ يتحول إلى خوف حقيقي من أن يؤدي إلى الإطاحة بسلطة رجب طيب أردوغان في انتخابات الرئاسة في العام 2023، ذلك أن المعارضة في تركيا نجحت في إلحاق الهزيمة للمرة الأولى بسلطة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية عام 2019، ولا سيما في المدن الكبرى وعلى رأسها (إسطنبول، وأنقرة)، وكان أردوغان يقول إن من يحكم إسطنبول يحكم تركيا.
ومن ثم توالت استطلاعات الرأي التي كانت تظهر تقدمًا للمعارضة في الانتخابات النيابية والرئاسية، وهذا قرع جرس الإنذار للرئيس التركي الذي كان يدرك مدى تأثير الوضع الاقتصادي على شعبيته؛ حيث عرفت المؤشرات الاقتصادية بدءًا من العام 2020 أرقامًا سلبية مع انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار وارتفاع الأسعار وزيادة التضخم والعجز من الميزان التجاري.
“الخطر” المحتمل على وضع أردوغان في الانتخابات الرئاسية أولًا، واتساع الضغط على الوضع الاقتصادي العام ثانيًا، كان في أساس بداية حملة جديدة لترميم الوضع قدر الإمكان حتى الانتخابات الرئاسية في أيار/مايو 2023.
حملت هذه “الاستدارة” شعار العودة إلى سياسة “صفر مشكلات”، وإذا كانت مرحلة “صفر مشكلات” الأولى بين (2002 – 2011)، جاءت على خلفية تجربة جديدة في الحكم لحزب جديد، فإن المرحلة الثانية من “صفر مشكلات” تأتي على خلفية مثقلة بالمشكلات والتوترات والحروب والصراعات بين تركيا والآخرين، بعد العام 2011، وقبلها مع إسرائيل بعد العام 2009 مع واقعتي (دافوس، وسفينة مرمرة).
مع ذلك فإن جزءًا من التصفير الجديد للمشكلات لم يأتِ على خلفية أيديولوجية بل واقعية تتصل بالمصالح العملية التركية مع بعض الدول في حال تحققها، وقد ترجمت هذه المصالح في أكثر من حالة:-
الأولى: موافقة تركيا على طي ملف مقتل الصحافي السعودي “جمال الخاشقجي” في إسطنبول؛ حيث شكل هذا الملف أرقًا كبيرًا للسعودية بحيث كانت موافقة تركيا على تسليم الملف القضائي للخاشقجي “إنجازًا” للرياض أراحها من تداعياته الإضافية.
والثانية: موافقة تركيا على طي صفحة الاتهامات التركية للإمارات بأنها تقف مع أمريكا وراء محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في العام 2016، وكل ذلك مقابل دعم مالي سعودي وإماراتي لتركيا سواء على شكل استثمارات أو مال طازج بما يوقف الاقتصاد التركي على قدميه، ويحسّن من القدرة الشرائية للمواطن، ويخفف من الغضب الشعبي على أردوغان ليذهب هذا إلى الانتخابات الرئاسية أكثر ارتياحًا.
أما في الحالة الثالثة (المتعلقة بإسرائيل): فإن تصفير المشكلات معها يصب في الاتجاه الاقتصادي نفسه بحيث يتدفق رأس المال اليهودي إلى تركيا، كما أن تصحيح العلاقات مع إسرائيل هو جزء من توسل التقارب مع الولايات المتحدة من أجل تخفيف ضغوطها على الاقتصادي التركي من أجل هدف واحد يخدم أجندة أردوغان الرئاسية ومن بعدها لكل حادث حديث.
وبالفعل نجح المال الخليجي وفقًا للمعطيات في “تجميد” سعر صرف الليرة التركية عند حدود 19 ليرة مقابل الدولار على امتداد أشهر، ونجح أردوغان في استدراك خسائره ويفوز- ولو بفارق ضئيل- بالانتخابات الرئاسية بـ 52 في المئة مقابل 48 في المئة لمنافسه مرشح المعارضة “كمال كيليتشدار أوغلو”، وقد أعقب انتصاره بالرئاسة “جولة شكر” في دول الخليج وخصوصًا (الإمارات، والسعودية).
أما بالنسبة لإسرائيل، فإن العلاقات كانت تمضي بصورة أكثر من جيدة، ولا سيما بعد تبادل السفراء وزيارة الرئيس الاسرائيلي “إسحق هرتزوغ” إلى أنقرة، وتماهي أردوغان مع الموقف الإسرائيلي بوصف بعض عمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية ضد الاحتلال الإسرائيلي بـ “الإرهابية والشنيعة”، وقد التقى أردوغان للمرة الأولى رئيس وزراء إسرائيل “بنيامين نتنياهو” في 20 أيلول/سبتمبر 2023، واتفقا على تبادل الزيارات والتنسيق في قطاع النفط والغاز الطبيعي.
وعلى الرغم من الوحشية الإسرائيلية غير المسبوقة في العدوان على غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، فإن تركيا اتخذت موقفًا غير معتاد وعلى مسافة واحدة من إسرائيل و”حماس” ودعت الجميع إلى “الاعتدال” ودانت “الطرفين” في قتل المدنيين، ودعت إلى تجنب أي تصعيد يفاقم من المشكلة. واستمر الموقف التركي الحيادي على مدى 19 يوم إلى أن خرج أردوغان ووصف “حماس” بأنها منظمة تحرر وليست إرهابية، وقد اتهمته المعارضة التركية بازدواجية المواقف وخذلان الشعب الفلسطيني، والمفارقة أن أردوغان اكتفى لاحقًا، ولا سيما خلال “مهرجان فلسطين الكبير” في إسطنبول يوم 28 تشرين الأول / أكتوبر 2023 والمواقف التي تلت المهرجان_ بالإدانات النظرية ولم يقدم على اتخاذ أي خطوة عملية تعكس انزعاجه من الوحشية الإسرائيلية، وهذا قد يكون “مؤشرًا كبيرًا” على أن تركيا تحاول الحفاظ على المسار الجديد لـ “صفر مشكلات” بما يغلّب المصالح التركية، ويبقي الأمل باستمرار “التصحيح” في المسار التركي مع الولايات المتحدة بعد قمة فيلنيوس في 12 تموز/يوليو 2023، والتي أظهرت فيها تركيا مواقف عملية منسجمة مع واشنطن لجهة قبول عضوية السويد في الحلف ودعم عضوية أوكرانيا فيه، وهو ما شكل استفزازًا واضحًا لروسيا التي سارعت إلى تعليق العمل باتفاقية الحبوب الأوكرانية في 17 تموز/ يوليو 2023، وهي التي كانت تعتبر إنجازًا ديبلوماسيًّا تركيا، كذلك فإن الخلاف حول سوريا لم يحرز أي تقارب في وجهات النظر رغم الجهود المضنية التي بذلتها روسيا وإيران، وهو ما عرّض أيضًا العلاقات التركية – الروسية لانتكاسة.
مقابل المصالح الشخصية والاقتصادية التركية التي دفعت لتصحيح العلاقات مع (السعودية، والإمارات، وإسرائيل، ونسبيًّا الولايات المتحدة)، فإن تركيا لا تشعر أنها بحاجة إلى المزيد من التطبيع مع مصر- ولا سيما بعد فوز أردوغان بالرئاسة؛ لذلك نجد أن تركيا لم تتجاوب مع مطالب مصر بشأن حركة الإخوان المسلمين في تركيا ولم تنفتح جديًّا معها على إمكانية التعاون في شرق المتوسط أو لإيجاد حل للمشكلة في ليبيا، وهذا كان من أسباب إلغاء زيارة كان مقررًا للرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي” القيام بها إلى تركيا في منتصف تموز/يوليو 2023. وحتى الآن يبدو أن تركيا ليست على عجلة من أمرها وتكتفي بتخفيف التوتر مع مصر، وإيجاد أُطر للتواصل على مستوى وزاري أو ما شابه ولن تعرف العلاقات تحولًا نوعيًّا إلا في حال اجتماع الرئيسين (أردوغان، والسيسي) بما يفترض أن تكون القمة تتويجًا لحل المشكلات الأساسية على الأقل بين البلدين.
وتقدم العلاقات مع سوريا والعراق نموذجًا لتمنع أنقرة من العودة إلى سياسة صفر مشكلات معهما، فهنا تظهر عمليًّا وبصورة هي الأقرب، السياسة المرتبطة بالعثمانية الجديدة والميثاق ملّية. وكانت زيارة وزير الخارجية “حاقان فيدان” إلى العراق في 23 آب/ أغسطس 2023 نموذجًا على ارتباط سياسة تصفير المشكلات بابتزاز أنقرة للعراق بشأن قضايا العمل الكردي المسلح والمياه والنفط، وهو الأمر الذي رفضته بغداد، والذي يبقي الذرائع للتدخل العسكري التركي في العراق، ولا سيما في شماله قائمة. أما في سوريا فقد كان واضحًا للغاية موقف وزير الدفاع التركي “ياشار غولر” بشأن رفض الانسحاب من سوريا إلا بعد تحقيق المصالحة الوطنية وانتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة جديدة، وهي شروط تعجيزية وتدخل فاضح في الشأن الداخلي السوري ما يقدم ذرائع جديدة لتركيا لتغيير البنى (الديموغرافية، والاقتصادية، والثقافية، والعسكرية) في المناطق التي تحتلها في شمال سوريا ضمن سياسة استعادة حدود الميثاق الملّي مباشرة أو بالوكالة.
أما العلاقة مع (اليونان، وقبرص اليونانية) فهي من النوع التي لن تجد حلًّا نهائيًّا لها إلا بتغييرات ضخمة، كذلك التي يعرفها العالم مع الحروب العالمية الكبرى.
ومما تقدم يمكن أن نوجز سياسة حزب العدالة والتنمية الخارجية في المرحلة الأخيرة كما يلي:
- إن الانتماء الأطلسي لتركيا سقف لا يمكن لأي سلطة سياسية علمانية أو إسلامية أن تتجاوزه مهما بلغت الخلافات والتباينات والمصالح الداخلية، والعلاقات التحالفية بين (أنقرة، وتل أبيب) هي جزء لا يتجزأ من الهوية الأطلسية لتركيا، وقد برز ذلك جليًّا في الموقف التركي المحايد في أثناء عملية “طوفان الأقصى” بين إسرائيل وفصائل المقاومة في غزة، والذي لم تتأثر حياديته؛ باعتبار أردوغان “حماس” حركة تحرر، وهو أمر يغيظ إسرائيل، ما دامت الخطوات التركية ضد إسرائيل اقتصرت على الإدانة ولم ترتقِ إلى أي فعل عملي معاد لإسرائيل.
- إن ما يطلق عليه تسمية “استدارات” تركية صوب المشرق، هو مجرد تكتيكات ظرفية في إطار مقاومة بعض السياسات الغربية، حتى إذا انتفت هذه التباينات لم يعد لهذه الاستدارات معنى من دون التخلي -إذا أمكن- عما يمكن أن توفره من مكاسب لتركيا.
- إن الحيثية العثمانية لحزب العدالة والتنمية وما يسمى “حدود الميثاق الملّي” محدد مهم لسياسة العدالة والتنمية الخارجية، وهو في أساس السلوك التركي الاحتلالي في سوريا خصوصًا، وفي (العراق، وليبيا، … وغيرها)، والتوترات مع (اليونان، وفي القوقاز، … وغيرها)، وهو يشكل عامل افتراق لا تصالح، بين أنقرة ومعظم العواصم المجاورة، ولا يمكن لسياسة تصفير المشكلات أن تشهد مرحلة جديدة إيجابية ما دامت السلطة التي تحمل هذا المشروع العقائدي موجودة في السلطة.
- إن غلبة النزعة القومية – الدينية لدى السكان توفر لحزب العدالة والتنمية حافزًا للمضي في سياسته العثمانية الخارجية، والتخلي عن هذه السياسات يحتاج أيضًا إلى تغيير المعادلات الفكرية والاجتماعية الداخلية، وبعبارة أوضح تغيير السلطة القائمة حاليًّا.
- إن وجود تركيا في منطقة متفجرة مثل الشرق الأوسط، وفي محيط إقليمي ودولي بالغ التعقيد، ولا سيما بعد الحرب الأوكرانية وحرب القوقاز ومن ثم عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حرب إبادة غربية – إسرائيلية ضد غزة والفلسطينيين_ يلقي بظلاله على مسألة “ثبات” المواقف التركية تحت وطأة الظروف المتحولة التي ستشكّل اختبارًا حقيقيًّا لمدى إمكانية استمرار تلك “الثوابت” من تحولها- خصوصًا في ظل سلطة لا تزال تحاول التوفيق بين صدام النوازع الإيديولوجية (الحزبية، والشخصية)، والمصالح الواقعية التي تفرضها تحالفاتها واصطفافاتها الدولية.