2024العدد 200ملف عربي

هل تعكس التحركات الإسرائيلية والتواطؤ الأمريكي اتجاهًا لإعادة هندسة المنطقة

في بداية الحرب الإسرائيلية على غزة صرَّح رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” إنه سيعيد تشكيل الشرق الأوسط بصيغة جديدة، دون توضيح ماهية الصيغة التي يقصدها، مبقيًا احتمالات هذا التشكل مفتوحة على أنماط وأشكال عديدة من التشكّل، والمؤكد أنها مرتبطة بشكل كبير بقدرة آلة إسرائيل العسكرية وحجم التأييد الدولي، أو بعبارة أدق، حجم الصمت الدولي، وخاصة الأمريكي، لعمليات الجراحة العميقة التي يخطط نتنياهو إجراءها على الجسد الشرق أوسطي. فضلًا عن طبيعة المقاومة الإقليمية لمخططاته، ولا سيما وأن الصياغة الجديدة سيكون لها تداعيات على أمن المنطقة بالكامل والتأثير على مصالح الفاعلين الإقليميين وأوضاعهم الجيوسياسية ومكانتهم الإستراتيجية، بالإضافة إلى إحداث تغيير خطير في منظومة التفاعلات الدولية بالنظر لموقع المنطقة في خريطة مصالح لاعبين دوليين كثر؛ إما بسبب قربها الجغرافي من روسيا والاتحاد الأوروبي، ومن ثم دخولها في إطار المجال الأمني لهذه الأطراف، أو بسبب وقوعها ضمن مصفوفة مصالحها الحيوية مثل الحال مع الصين.

سياق التشكيل.

نعمل بمنهجية لتغيير الواقع الإستراتيجي في الشرق الأوسط كله، بهذه الجملة لخّص “بنيامين نتنياهو” رئيس حكومة إسرائيل ما يصبو إليه: تغيير شامل وواسع بأفق إستراتيجي جديد لشرق أوسط جديد.

لطالما ارتبطت مشاريع التغيير، أو إعادة الهندسة في المنطقة بوقائع ومتغيرات داخلية وخارجية، دفعت فاعلين محليين وخارجيين إلى استثمار هذا الوضع لإجراء تحولات إستراتيجية لصالحهم، وتفيد الخبرة التاريخية بوجود عاملين، أدى توافرهما إلى ازدهار مشاريع التغيير في المنطقة:

العامل الأول: الفراغ، يغري الفراغ، الذي يعني هنا عدم وجود قوى داخلية أو خارجية تملك شرعية السيطرة على الحيز الجغرافي نتيجة اضطرابات داخلية أو تدخلات خارجية أنهكت الفاعل أو الفواعل التي كان لها سلطة السيطرة واحتكار القوة وإدارة الشؤون العامة، ومن ثم بروز ظاهرة الانفلات والفوضى نتيجة ضعف السلطة المركزية ومن يمثلها، وهذه الحال تبدو منطبقة على العديد من الدول في المنطقة، جراء الاضطرابات والفوضى الضاربة فيها، وظهور فواعل من غير الدولة يملكون القدرة على معارضة سياسات الدولة وتوجهاتها.

وتعتبر هذه الظروف بيئة مناسبة لازدهار التدخل الخارجي، من خلال دعم وتقوية طرف أو أطراف أخرى تتقاطع مصالحهم مع مصالح الجهات المتدخلة، وغالبًا ما يتحول الوضع إلى ساحة لاستعراض القوى المتدخلة وصراعاتها بالوكالة، وفي هذه الحالة أيضًا يتخلى الفاعل الوطني عن دوره لصالح أطراف خارجية داعمة له ويصبح الفراغ واقعًا مترسخًا، وقد يؤدي ذلك إما إلى توصل اللاعبين الخارجيين إلى تسوية معينة لإعادة صياغة الوضع من جديد، أو ذهاب الطرف الذي يملك القوة الأكبر إلى إجراء فك وتركيب هذه الجغرافية وصناعة واقع جديد.

العامل الثاني: حصول متغيرات دولية، تكنولوجية أو جيوسياسية، وبروز صراع دولي محتدم، تستعمل فيه أطراف اللعبة جميع الأدوات للفوز في هذا الصراع، ومن ضمن ذلك: السيطرة على المناطق الرخوة التي تتمتع بمزايا جيوسياسية هامة، ولطالما وقعت البلاد العربية على رأس قائمة اهتمامات الفاعلين الدوليين منذ قرون عديدة بالنظر لموقعها الجغرافي المهم، وما تم اكتشافه في القرن العشرين من ثروات نفطية وغازية هائلة وما باتت تملكه من أسواق وثروات ضخمة.

وفي هذه المرحلة، ثمة متغير مهم بدأ بالبروز منذ أكثر من عقدين، يتمثل بقضية “سلاسل التوريد” وخاصة بين آسيا الصاعدة بقوة على مسرح الحدث العالمي وأوروبا؛ حيث الأسواق الضخمة والقدرات الشرائية الكبيرة، ومن سوء حظ المنطقة أن كل الطرق، البرية والبحرية في الاتجاهين تمر عبر البلاد العربية، ما يجعلها عرضة لإعادة الهندسة لضمان أمن المشاريع الضخمة التي ستتولى ليس فقط نقل تريليونات من المنتجات والبضائع، بل وإعادة توزيع القوى في النظام الدولي الحالي والمستقبلي.

هل يعني ذلك أن مشروع نتنياهو في تغيير الشرق الأوسط يتساوق مع توجه عالمي يسير في هذا الاتجاه؟ ربما يأتي متناسبًا مع طرف أو أكثر من أطراف اللعبة الدولية، لكن في ظل حالة الصراع التي تسبغ تفاعلات النظام الدولي في المرحلة الراهنة، فإن الاتفاق على نمط أو شكل معين من الهندسة الإقليمية يبدو غير دقيقًا، على الأقل رؤية بقية الأطراف لشكل التغيير ومخرجاته، ولا سيما في ظل وجود تشابك كبير بين مختلف الفاعلين الدوليين مع مختلف الفواعل في المنطقة، وبالتالي فإن تفرد طرف أو جهة في إعادة تركيب المنطقة سيتعارض مع مصالح الفاعلين الآخرين ما يدفعهم إلى مقاومة المشروع بوسائل وأدوات محلية وتاليًا تحويل المنطقة إلى ساحة صراع كبرى ما يعني المزيد من الخراب والانقسام.

تغيير الشرق الأوسط.

تغيير الشرق الأوسط ليس فكرة جديدة بالنسبة لشعوب هذه المنطقة، وربما تعود تطبيقاتها الأولى إلى الاتفاقيات (السرية، والمعلنة) التي عقدتها الدول الاستعمارية الأوروبية في بداية القرن الماضي “سايكس بيكو 1916″، و”وعد بلفور 1917” و”معاهدة سيفر 1920 “، و”معاهدة لوزان 1923″، جميع هذه الاتفاقيات أعادت صياغة المنطقة بناءً على قاعدتي الفراغ والمتغيرات الدولية، فقد شهدت تلك المرحلة انهيار الدولة العثمانية التي حكمت المنطقة على مدار أربع قرون ووصلت إلى حالة من الضعف لدرجة أن مركز الأناضول أصبح محتَلًّا من قبل القوى الأوروبية، وقد أدى ذلك إلى تغيير المعادلة العالمية وولادة نظام دولي جديد، عبرت عنه عصبة الأمم المتحدة، التي ارتأت أن الشرق الأوسط بعد هذه التغيرات بات يعيش لحظة فراغ وانتدبت لإدارتها كل من (فرنسا، وبريطانيا).

على هذا الأساس، فقد جاء التغيير في سياق خطة إستراتيجية كان الهدف منها إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية للشرق الأوسط بما يخدم مصالح وأهداف الدول القائمة على المشروع، وقد ظلت آثار هذا التغيير قائمة في السياسة  والإدارة والاقتصاد والأنظمة الاجتماعية للكيانات التي شملها التغيير، وبقيت الحدود السياسية التي تم رسمها في تلك الفترة قائمة حتى اليوم، وترسخ الاستعمار الصهيوني لفلسطين وبات قادته يتوعدون الشرق الأوسط بإعادة صياغته من جديد، ما يعبر عن عدم رضاهم عن الصيغة القديمة وعدم مناسبتها لأوضاعهم الحالية.

حاول قادة إسرائيل استخدام الأدوات الناعمة لتغيير الشرق الأوسط، تجلى هذا الأمر في أفكار رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق “شيمون بيريز” التي طرحها في كتاب” الشرق الأوسط الجديد” حيث دعا فيه لفكرة شرق أوسط جديد قائم على التنمية والرفاهية كما يزعم، وتُبنى فيه العلاقات بين الدول بناءً تعاقديًّا قائمًا على المصالح المادية فحسب، وبهذا يمكن تحييد الهوية الدينية والثقافية من تعامل الدول العربية مع إسرائيل،  لكن لم يكن من الصعب قراءة ما بين سطور كتاب شيمون بيريز، والتي تهدف إلى استمرار هيمنة إسرائيل على المنطقة ولكن بأدوات جديدة تتمثل بالاقتصاد والتكنولوجيا كمداخل للسيطرة على الاقتصاد والمجتمع العربي، وبالتالي إعادة صياغة الوعي العربي بحيث يصبح متقبِّلًا لفكرة الهيمنة الإسرائيلية طالما هي قائمة على تشابك المصالح وتبادل المنافع، ولا سيما أن بيريز صوَّر “بخبث” أن إسرائيل ستكون قاطرة الدول العربية إلى التقدم والرفاه.

على ذات المنوال، نسج الرئيس الأمريكي “جورج بوش” الابن مشروعًا لتغيير الشرق الأوسط؛ حيث قدم في عام 2004 لمجموعة الثمانية مبادرة مشروع الشرق الأوسط الكبير، مقدمًا لمشروعه رؤيته للمخاطر التي تطرق أبواب الشرق الأوسط وتدفعه للانفجار بسبب التدهور الاقتصادي والاستبداد السياسي وما يستتبع ذلك من تداعيات خطيرة على الغرب ومصالحه في المنطقة، وبحسب المبادرة، فإن الديمقراطية والحكم الصالح يشكلان الإطار الذي تتحقق فيه التنمية، لكن المبادرة كانت تخفي في طياتها أهداف أمريكا في تلك المرحلة والمتمثلة بـ: إعادة تشكيل المنطقة لتقبل النموذج الليبرالي عبر الديمقراطية الغربية، وتهيئة المنطقة للعولمة وهيمنة شركات الغرب للسيطرة على اقتصاد المنطقة.

وفي السياق ذاته، أعادت وزيرة خارجية بوش “كونداليزا رايس” وعلى وقع الحرب في لبنان عام 2006، طرح فكرة مشروع الشرق الأوسط، عبر ما يُسمى بـ ” الفوضى الخلاقة” بمعنى ترك العنف والقتال يعيد رسم واقع المنطقة وتفاعلاتها، وكأن من يقف وراء هذه النظرية يريد القول أنّ جميع مشاريع هندسة المنطقة بالأدوات الناعمة قد فشلت ولم يبقَ سوى مخرج وحيد يتمثل بإغراق المنطقة بالفوضى ثم انتظار ما ستؤول إليه النتائج.

بيد أن خط التصورات العنيفة لتغيير المنطقة سيتم التعبير عنه بصورة فجة وصريحة في تقرير نشرته “مجلة القوات المسلحة” الأمريكية، كتبه “رالف بيترز” كولونيل سابق ومختص بالشؤون الإستراتيجية، تحت عنوان” حدود الدم” ركّز فيه على ضرورة تغيير التركيبة الجغرافية والسياسية التقليدية لإقليم الشرق الأوسط، التي أسسها البريطانيون والفرنسيون قبل أكثر من قرن، وحتمية إعادة ترتيب بلاده وتقسيمها، بما يتضمن إنشاء دول جديدة، واقتطاع أجزاء من بعض الدول الحالية وضمها إلى دول أخرى، مع تفتيت جميع دول الإقليم إلى دويلات قائمة على أسس (إثنية، ودينية، وطائفية) زاعمًا أن هذا من مقتضيات: إعادة حقوق الأقليات بمختلف أشكالها، ومحاربة الإرهاب، وإحلال السلام والأمن في ربوع المنطقة.

الدور الأمريكي.

ساهمت الولايات المتحدة الأمريكية- إلى حد كبير- في تصميم شكل الشرق بصورته الراهنة، ولا يمكن إنكار دورها الإيجابي في ذلك، فقد تميّز الموقف الأمريكي عن القوى الأوروبية الاستعمارية، في بداية القرن الماضي، من خلال ما سمي النقاط الأربع عشرة للرئيس “وودور ويلسون” التي دعت إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو موقف متناقض في ذلك الحين مع طموحات الدول الاستعمارية الأوروبية: فرنسا وبريطانيا، وبدرجة أقل إيطاليا، التي كانت تسعى إلى السيطرة على المنطقة العربية بعد انهيار الدولة العثمانية. وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية لعبت الولايات المتحدة الأمريكية، القوة الصاعدة على مسرح الحدث الدولي، دورًا مهمًّا في إنهاء مرحلة الحكم الاستعماري البريطاني والفرنسي في المنطقة عبر إصرار الرئيس “دوايت إيزنهاور” على انسحاب القوات (البريطانية، والفرنسية، والإسرائيلية) من قناة السويس.

غير أن هذا الدور الإيجابي سينقلب إلى دور سلبي ومتراجع في حقبة تالية، متأثرًا بدرجة كبيرة بمناخ الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي وتقديرها للضرورات الجيوسياسية على وقع تنافسها الحاد مع موسكو للسيطرة على مناطق النفوذ في العالم، وقد نتج عن هذا التنافس إعادة تشكيل الشرق الأوسط عبر إنشاء تكتلات متنافسة، وأصبحت المنطقة منقسمة سياسيًّا بين حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاء الاتحاد السوفيتي، وفي هذا السياق تم إسقاط حكومات وأنظمة عبر التآمر والانقلابات، والمثلان الواضحان هنا: إيران؛ حيث تم إسقاط حكومة محمد مصدق في عام 1953، وفي سوريا؛ حيث جرى دعم العديد من الانقلابات التي بدأها حسني الزعيم عام 1949.

في بداية القرن الحالي، نجحت الولايات المتحدة في خلق نظام إقليمي جديد، لكن ليس النظام الذي كانت تخطط واشنطن لقيامه، فقد أدت حروبها ضد أفغانستان والعراق إلى بروز نظام إقليمي تسيطر عليه إيران بدرجة كبيرة، وبرزت بقوة ظاهرة الفاعلين غير الرسميين عبر الميليشيات والجيوش الوكيلة التي انتشرت في الإقليم، وبدا أن زمام الأمور قد أُفلت من يد أمريكا، وشهدت هذه المرحلة عودة روسيا والصين كلاعبين محوريين في الشرق الأوسط.

قبل ذلك، كانت أمريكا قد شجعت دخول التيارات الإسلامية على أن تكون لاعبًا قويًّا في المنطقة، وبدا ذلك منذ تعاونها معهم في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي، وتفضيل حكم رجال الدين في إيران على التيارات السياسية، وفي فترة الربيع العربي بدا أن واشنطن شجعت وصول الإسلاميين للسلطة في بعض الدول العربية بذريعة أن الرأي العام العربي ينسجم مع هذا الأمر.

في الوقت الراهن، بدا أن إدارة بايدن لم تعترض على مشروع نتنياهو التحويلي، بل دعمته بشكل مطلق (عسكريًّا، وسياسيًّا) رغم ادعائها تفضيل السلام والمفاوضات السياسية على الحرب، والواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية تنظر للمخطط الإسرائيلي على أنه يتساوق مع إستراتيجيتها في استعادة سيطرة بدت ضعيفة بعض الشيء نتيجة تمرد الحلفاء على سياساتها ودخول الصين بقوة على تفاعلات المنطقة. وفق ذلك، تصبح إستراتيجية نتنياهو رافدًا مهمًّا لتكريس سيطرتها على المنطقة ودفع الخصوم والمتمردين إلى اللجوء إلى واشنطن لحفظ الأمن والاستقرار في المنطقة من جنون المتطرفين الإسرائيليين، مقابل تخفيض شروطهم والقبول بما تريده واشنطن.

تستفيد الولايات المتحدة الأمريكية من حقيقة افتقاد المنطقة لإطار سياسي وأمني تديره القوى الأساسية ويستطيع، دون الحاجة لأطراف خارجية، منع حصول الصراعات البينية في الإقليم وتكريس العلاقات التبادلية المصلحية، كما هو موجود في الكثير من الأنظمة الإقليمية في العالم كالاتحاد الأوروبي والأسيان، حيث يتوفر هيكل إقليمي مستقر.

الوسائل والأدوات والرهانات.

من بين كل النماذج التي تمت الإشارة إليها لإعادة صياغة وتصميم الشرق الأوسط، يبدو أن نتنياهو منسجمًا مع  نموذج “حدود الدم”، وبدل الحديث عن دمقرطة المنطقة يتحدث نتنياهو عن أخيار وأشرار وأبناء الظلام وأبناء النور، مستخدمًا مرة الإسقاطات الدينية ومرات الحديث بصراحة عن الطبيعة الدينية للصراع، ما يعني أن نتنياهو ليس معنيًّا بمنح دول المنطقة أي محفز حتى لمجرد التفكير بمشروعه التحويلي، بل هو يجبرها على الوقوف في الصف المقابل، وقد يكون ذلك منسجمًا مع واقع إسرائيل وحقيقتها؛ فإسرائيل في النهاية ليست نموذجًا جاذبًا ولا قطبًا دوليًّا تتبنى أفكارًا من وزن إحداث تحولات كبيرة على المستوى الإقليمي عبر قوتها الناعمة، بالأصل هي لا تملك غير القوّة الخشنة التي ترتكز على أحدث نسخ من الطائرات الأمريكية القاذفة وقنابل ضخمة لتدمير المدن وقتل البيئة الحاضنة لخصومها بدون رحمة ولا مراعاة للقوانين الدولية والقيم الإنسانية.

بناءً على ذلك، فإن فكرة تغيير الشرق الأوسط لدى نتنياهو تقوم على أساس هذه المقاسات، فنتنياهو يحلم ويطمح بتغيير تصبح فيه إسرائيل قادرة على فرض معادلات على المنطقة والإطاحة بالتوازنات التقليدية والقواعد المعمول بها، وذلك بلا شك لن تستطيع طائراته وقنابله وحدها تحقيقه، رغم ما تتركه من آثار دامية، بل سيلجأ إلى الألعاب الاستخباراتية التي تمنحه هوامش أوسع لإدارة ألعاب قذرة تهدم بناء الشرق الأوسط الحالي وتعيد تصميمه طبقًا للصورة الإسرائيلية المتخيلة، وتتركز هذه الألعاب حول ما يلي:

  • إشعال الفتن الداخلية والحروب الأهلية، بناء على قاعدة دعِ الخصوم يقتلون بعضهم بعضًا، ومن المخرجات التطبيقية لهذه القاعدة، زرع الشك وإثارة القلق بين المكونات الأهلية في دول المنطقة، وتحميل مسؤولية الدمار والإفقار لطرف معين نتيجة خياراته التي لم تحظَ بإجماع كامل من بقية المكونات، ومن ثم استمرار التنكيل بالمجتمع كله حيث يصبح خياره الوحيد للخروج من هذه الدوامة الدخول في حروب أهلية بينية.

وفق هذا المخطط، تصبح إسرائيل منقذًا يتم التعويل عليها للتخلص من الطرف الذي يقف وراء كل هذه الأزمات، والذي تحركه أهداف وغايات لا وطنية، وتعميه العواطف عن قراءة موازين القوى بمنطق، ويسعى من وراء سلوكه ذلك بسط السيطرة على بقية المكونات بالقوة بشرعية قتاله إسرائيل. والمشكلة أن إسرائيل لا تنسج سردية من الخيال، فهناك فئات مرتبطة بالخارج تزج شعوبها في حروب تخدم مصالح الجهات الداعمة لها.

  • تحطيم هياكل الدول، عبر دعم بعض الجماعات (القومية، والطائفية، وحتى الجهوية) لتأسيس كيانات منفصلة وتقرير مصيرها واختيار نموذج عيشها وشكل مستقبلاتها، بدلًا من البقاء في أطر كيانات تفرض عليها خيارات لا تحقق مصالحها ولا تساهم في تنميتها، وتراهن إسرائيل في ذلك على ضعف دور العامل الوطني والتنوع الكبير في تركيبة دول المنطقة، وهيمنة قوميات وطوائف على أخرى، وعدم الاحتكام إلى عقود اجتماعية ناظمة لإدارة شؤون المجتمعات، وفي هذا المجال ثمة أمثلة لا يمكن إحصاؤها عن مظلوميات وانتهاكات وتجاوزات في قلب هذا المشرق البائس تستطيع إسرائيل من خلالها العبور بيسر وسهولة لتحطيم الهياكل القائمة وبناء مداميك جديدة لمنطقة تناسب مصالحها الأمنية وإلى الأبد.
  • تصوير إسرائيل بأنها جزء حيوي من نسيج المنطقة وتتقاطع مع تطلعات شعوبها ودولها في السعي للاستقرار والتنمية وهزيمة الشر، بل إنها نصير المظلومين والمسحوقين، وهي ليست خصمًا لأحد، لا طائفة ولا قومية، وكل ما تقوم به هو جزّ الأعشاب المضرة بأمن ورفاه ومستقبل شعوب المنطقة.

الهدف من وراء ذلك، قتل روح التمرد و الرفض لسياسات إسرائيل في المنطقة، وتكبيد دولها ومجتمعاتها أثمانًا باهظة تجعلها تبحث جديًّا عن خيارات أخرى للخروج من  هذا المأزق، وتعرف إسرائيل حجم هشاشة الدول والمجتمعات التي تتشكّل منها المنطقة المحيطة بها، وطبيعة الانقسامات الهائلة والاختلافات الجذرية أحيانًا؛ لذا تجد أن الاستثمار في تخريب قوام المنطقة قد يكون أكثر جدوى من شن الحروب المتواترة والدخول في مخاطر، مهما كانت درجاتها ومستوياتها، والحل الأمثل أن تصرف المجتمعات المحيطة بها طاقاتها ومواردها في حروب بينية تلهيها عن إسرائيل.

العوائق والتحديات في مواجهة المشروع الإسرائيلي.

استطاعت إسرائيل إحراز تقدم عسكري على خصومها، ولا سيما في لبنان وفلسطين، وأحدثت دمارًا هائلًا مقصودًا بذاته داخل بيئات هذه الأطراف، بهدف تجفيف خزان الدعم البشري لهذه المنظمات والفصائل وجعل البيئات الحاضنة تنشغل لسنوات طويلة بتضميد جراحها، لكن هل ذلك كاف لجعل إسرائيل قادرة على إنشاء نظام إقليمي تكون طرفًا محوريًّا فيه؟ وهل تعتقد الولايات المتحدة الأمريكية أنها بذلك تستطيع استعادة فعاليتها وتأثيرها المفقودين في منطقة بات لدى الفاعلين فيها تصورات مختلفة عن أوضاعهم الإستراتيجية ومكانتهم في السياسة الدولية؟

لقد ثبت في أثناء المفاوضات العربية مع إسرائيل، في سياق تطبيع العلاقات بين الجانبين، أن الطلبات والاشتراطات العربية، في حال المثابرة عليها، أكثر تأثيرًا من الحروب التي تخاض في مواجهة إسرائيل؛ إذ من المعلوم أن توازنات القوى تميل لمصلحة إسرائيل بدرجة كبيرة، كما أن الحروب هي ملعب إسرائيل المفضل في ظل الفوارق التكنولوجية الهائلة مع خصومها وحجم الدعم الذي تتلقاه من الغرب، ومن الولايات المتحدة، أقوى قوة في العالم المعاصر، ما يجعل الحرب معها خيارًا غير منطقيًّا، لكن ذلك لا يتيح لها فرض معادلاتها على المنطقة، ولا يعني سلب أدوات الدفاع لدولها والخضوع لإسرائيل ومنطقها.

لن تستطيع إسرائيل تحقيق أي اندماج أو تأثير في المنطقة ما لم تحقق الشروط المطلوبة منها عربيًّا والمتمثل بحل الدولتين وإعادة الجولان السوري. في هذا السياق، يمكن النظر للمبادرة العربية للسلام التي طرحتها القمة العربية في بيروت 2002 كفرصة حقيقية ضيعتها إسرائيل وأمريكا لإعادة تشكيل المنطقة بالفعل، ومنذ ذلك الوقت خاضت إسرائيل وأمريكا حروب مكلفة ومدمرة ومرت المنطقة العربية بمخاضات عسيرة، كان يمكن القفز عليها، لو أن إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية استجابتا لمبادرة السلام العربية، ورغم كل ما حصل خلال العقدين الفائتين لا يزال هناك إصرار على نفس الشروط لقبول إسرائيل عربيًّا، حل الدولتين والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة.

ونتيجة لذلك، لا يمكن أن ينشأ نظام إقليمي جديد أو شرق أوسط جديد ما لم تتعاون الدول العربية في تشكيله وقيامه، مثلما لا يمكن فرض هذا النظام رغمًا عن إرادة الدول العربية، بالأصل هذا النمط من المتغيرات تفرضه حروب إقليمية كبرى تعطي للمنتصر صلاحية تشكيل هيكلية إقليمية يكرس من خلالها انتصاره، أو تنتج عن توافق إقليمي تقوده الدول الفاعلة والكبرى بالإقليم، وهو ما لا تتوفر أي ملامح عن إمكانية تحقّقه ضمن الشروط الراهنة.

يضاف لذلك، حقيقة تراجع التأثير الأمريكي بشكل ملموس في المنطقة، ما يضعف أي إمكانية للضغط على الدول العربية للسير بهذا الاتجاه أو ذلك، في ظل اتباع الدول العربية سياسات تحوُّطية عبر تنويع علاقاتها الدولية وانفتاحها على فاعلين دوليين كبار يشكلون بدائل منافسة للعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما الصين وروسيا.

لن تستطيع آلة إسرائيل العسكرية ولا الدعم الأمريكي اللامحدود وضع إسرائيل في موقع من يفرض المعادلات ويعيد تشكيل المنطقة، والتي رغم كل ما حصل ما تزال تملك العديد من أوراق القوة التي تؤهل دولها لأن تجابه المشاريع الخارجية التي تسعى إلى فرض سيطرة على قراراتها وتقرير مصيرها.

في الختام:

تستدعي الحقيقة الاعتراف بوجود مشروعين تغييريين يعملان في المنطقة خلال العقدين الأخيرين: المشروع الإيراني، والمشروع الإسرائيلي المدعوم أمريكيًّا، وقد أحدث هذان المشروعان بالفعل إشكاليات كبيرة، تجلت في إضعاف مجتمعات المنطقة فضلًا عن إخلال الميزان الديمغرافي عبر سياسات مقصودة الهدف منها تفكيك المجتمعات وإعادة صياغتها بما يتناسب مع مشاريعهم الجيوسياسية.

وقد أدت هذه السياسات إلى إيجاد حالة من السيولة نتيجة تمزيق النسيج الاجتماعي وتغيير خرائط الدول، عبر سيطرة قوى وميليشيات خارجية على أجزاء من منطقة المشرق العربي، وهذا قد يؤدي بالفعل إلى نشوء شكل جديد للإقليم، يمكن تسميته بـ “نظام إقليمي جديد” ولكن ليس بالضرورة مفيدًا أو مجديًا للقوى التي تقف خلف صناعته، العكس من ذلك هو الأقرب للصواب؛ إذ من المحتمل ظهور فاعلين جدد يصعب السيطرة عليهم وضبطهم، مع سيطرة الفوضى ودخول المنطقة في صراعات بينية وصراعات مع الأطراف التي وقفت خلف هذا التشكّل، وبالتالي تأثيرهم على الاستقرار والمصالح الإقليمية والدولية مثل: حالة الحوثيين في اليمن الذين باتوا يؤثرون بدرجة كبيرة على سلاسل التوريد العالمية من خلال عرقلتهم للتجارة في البحر الأحمر.

المشكلة أن المشاريع التغييرية المذكورة، هي في الغالب نتاج أيديولوجيات دينية متطرفة، سواء عند الإسرائيليين أو الإيرانيين، وهذا النمط من الأيديولوجيات لا يهتم بحسابات المصالح ولا عقلنة المنافسة، بل ينقاد إلى أساطير خلاصية لا تتفق مع منطق الاعتماد المتبادل والتبادلية، ولا مع سياسات حسن الجوار وسواها من القيم الحداثية في إدارة العلاقات الدولية؛ لذا يبقى الأمل معقود بدرجة كبيرة على موقف الدول العربية الفاعلة في مواجهة الهجوم التغييري الذي تتعرض له المنطقة عبر التوافق على أجندة مواجهة دبلوماسية وسياسية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حفلة الجنون التي يجري ممارستها على الجسد العربي شعوبًا ودُولًا.

اظهر المزيد

غازي دحمان

كــاتب ســـوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى