2024العدد 200ملف عربي

هل يولِّد النصر العسكري الإسرائيلي فشلًا سياسيًّا في تغيير الأوضاع ولجم المقاومة في المنطقة؟

مقدمة

هذا الموضوع يتناول إشكالية عميقة في الديناميات بين ما يعتبره البعض “انتصارات عسكرية” إسرائيلية من جهة، كما وآثارها السياسية على المدى الطويل، خاصة فيما يتعلق بتغيير الأوضاع السياسية أو تقليص تأثير المقاومة في المنطقة من جهة أخرى. وبالتالي، فيمكن معالجة هذا السؤال انطلاقًا من تحليل معنى الانتصار العسكري مقابل فشل العملية السياسية، فغالبًا ما تتمكن إسرائيل من تحقيق تفوق عسكري بفضل التكنولوجيا المتقدمة، ويُضاف إليه الدعم الغربي غير المشروط، لا سيما من الولايات المتحدة الأمريكية، كما التفوق الاستخباراتي، والصمت الحكومي العربي المريب. هذا التفوق يؤدي إلى التمكن من تحجيم القدرات المادية للمقاومة مؤقتًا، ومنها: تدمير البُنى التحتية، اغتيال القادة، فرض الحصار والتجويع.   

 رغم هذه الانتصارات العسكرية، التي تعتمد أساسًا على القتل الجماعي والتدمير الشامل، غالبًا ما تعجز إسرائيل عن تحقيق أهدافها السياسية طويلة المدى.

 المقاومة، سواء في فلسطين (حماس، الجهاد الإسلامي) أو لبنان (حزب الله)، تُظهر قدرة على إعادة بناء قوتها والتكيُّف مع الظروف الجديدة، كما أن استمرار الاحتلال أو الحصار يولد تعاطفًا أكبر مع المقاومة، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي، أو حتى الدولي، مما يُحبط الجهود الإسرائيلية لعزلها، مؤديًا إلى عزل إسرائيل دوليًّا وتأجيج الكراهية ضد سياساتها.

إعادة إنتاج المقاومة.

إن القمع العسكري الإسرائيلي الوحشي، غالبًا ما يُفاقم مشاعر الغضب والإحباط لدى الشعوب الضحية، مما يُسهم في تجنيد أجيال جديدة من المقاومين الذين سينحون أكثر فأكثر إلى الراديكالية المبررة، كما أن استمرار الاحتلال مع كل موبقاته (البشرية، والمادية)، وانعدام وجود حل سياسي عادل، كما وفقدان الأفق السلمي المتوخَّى، يعزز من شرعية المقاومة في نظر المجتمع الضحية كما المجتمعات المحيطة به مبدئيًا والمعنية مباشرة بقضيته، إضافة إلى أنصار الحقوق الإنسانية والسلم الدولي في مختلف أصقاع الكرة الأرضية. وبالتالي، فالمقاومة الفلسطينية أصبحت رمزًا للنضال في المنطقة، مما يجعل من الصعب على إسرائيل تغيير معادلات الدعم الشعبي والسياسي.

وانطلاقًا مما سبق، فلقد سجَّلت الحرب الأخيرة على غزَّة ولبنان ارتفاعًا ملحوظًا في مستوى التضامن الدولي شعبيًّا وحتى على مستوى النُّخب، كما صرَّحت بعض الدول، وخصوصًا في جنوب الكرة الأرضية، دعمها الكامل لحقوق المقاومة في التصدي لآلة الحرب الإسرائيلية، كما استغلَّت بعض القوى الإقليمية مشجب دعم المقاومة في سبيل تنفيذ خططها التوسعية باتجاه المنطقة، كما تسعى الحكومة الإيرانية مثلًا إلى ذلك. من جهته، فإن الرأي العام العالمي، خاصة في المجتمعات المدنية الغربية، بات أكثر تعاطفًا مع القضية الفلسطينية، مما يُعقِّد محاولات إسرائيل لعزل المقاومة سياسيًّا على الرغم من مجموعات الضغط ووسائل الإعلام والأموال المبذولة في هذا الاتجاه، هذا التحول يُعد تحديًا كبيرًا لإسرائيل التي لطالما اعتمدت على الدعم الغربي لعزل المقاومة الفلسطينية سياسيًّا، وتشويه صورتها على الساحة الدولية. ولقد أظهرت الحرب القائمة تصاعدًا في الوعي الحقوقي في المجتمعات الغربية عمومًا ولدى الفئة الشابة منها خصوصًا. ومع انتشار الإعلام البديل ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت المجتمعات الغربية أكثر اطلاعًا على واقع الاحتلال الإسرائيلي والانتهاكات اليومية التي يتعرض لها الفلسطينيون، مثل: الاستيطان، القصف العشوائي، والحصار. مقاطع الفيديو والصور التي توثق هذه الجرائم تُحدث تأثيرًا عاطفيًّا قويًّا، خاصة بين الشباب.

بالانتماء غير العضوي لقضايا إنسانية متماثلة.

ومن الملفت بروز ظاهرة مجتمعية مؤثِّرة تتمثَّل بالانتماء غير العضوي لقضايا إنسانية متماثلة؛ حيث يجد الكثيرون أنهم معنيون بنضال الشعب الفلسطيني عاكسين أحوالهم على قضيته إلى درجة الانتماء لها، هذا كلُّه أدى إلى تقاطع نضالات الشعوب المضطهدة، ومنها: القضية الفلسطينية، هذه الحركات ترى في فلسطين قضية إنسانية مرتبطة بمناهضة الاستعمار والتمييز العنصري. وبالتالي، تظهر تحركات تضامنية دولية فاعلة، كما نجحت حركة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وكذلك حملة مقاطعة الشركات متعددة الجنسيات التي تؤيد بصورة أو بأخرى آلة الحرب الإسرائيلية؛ فحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) حققت تأثيرًا ملموسًا في المجتمعات الغربية؛ حيث سلطت الضوء على ممارسات إسرائيل التي تُشبه نظام الفصل العنصري. إن دعم المؤسسات الأكاديمية والنقابات العمالية لهذه الحركة يعكس اتساع قاعدة المؤيدين للقضية الفلسطينية، إن حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، هي حركة عالمية أطلقها المجتمع المدني الفلسطيني عام 2005، بهدف ممارسة ضغط دولي على إسرائيل لإنهاء الاحتلال والاستيطان، وإيقاف نظام التمييز العنصري ضد الفلسطينيين. تعتمد الحركة على أدوات سلمية وقانونية، مستلهمة نضالات الشعوب السابقة ضد أنظمة القمع، خاصة تجربة مناهضة الأبارتايد في جنوب إفريقيا، وهي تسعى لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسة: 

  1. إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة عام 1967، بما يشمل تفكيك المستوطنات والجدار العازل. 
  2. الاعتراف بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، وفقًا لقرارات الأمم المتحدة. 
  3. ضمان المساواة الكاملة للفلسطينيين في أراضي 1948، وإلغاء جميع أشكال التمييز العنصري ضدهم.

  وتركز الحركة على تشجيع الأفراد والمؤسسات على الامتناع عن التعامل مع الشركات الإسرائيلية أو الدولية التي تستفيد من الاحتلال، وتشجيع الجامعات والفنانين على مقاطعة المؤسسات الإسرائيلية، كما على الضغط على صناديق التقاعد والشركات الكبرى لسحب استثماراتها من الاقتصاد الإسرائيلي أو الشركات التي تدعم الاحتلال، كما مطالبة الحكومات بفرض عقوبات (سياسية، اقتصادية، وعسكرية) على إسرائيل، كما هو الحال مع الدول التي تنتهك حقوق الإنسان، ولقد تمكنت الحركة من تحقيق مكاسب ملموسة. مع ذلك، تواجه حركة BDS هجمات مضادة من قبل إسرائيل وحلفائها الذين يسعون إلى تجريمها وتشويه صورتها، باعتبارها “معادية للسامية”. ومع ذلك، استطاعت الحركة كسب دعم متزايد من منظمات حقوق الإنسان والمجتمعات المدنية العالمية التي تؤكد أن المقاطعة أداة مشروعة للنضال من أجل الحرية والعدالة، إنها تُعد نموذجًا للنضال السلمي الذي يربط الفلسطينيين بحركة تضامن دولية واسعة، وبالرغم من التحديات، تستمر في تحقيق تأثير متزايد، مؤكدة أن الضغط الشعبي والدولي يمكن أن يكون أداة فعَّالة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.

إن مبادرات التضامن المدني الدولية التي تمثَّلت في تنظيم مظاهرات حاشدة في مدن غربية كبرى مثل: لندن، باريس، برلين، ونيويورك خلال الاعتداءات الدموية الإسرائيلية الأخيرة، تُظهر مدى تعاظم تعاطف المجتمعات الغربية مع الفلسطينيين، إن رفع الأعلام الفلسطينية، كما الرموز الالتفافية الأخرى، في شوارع العواصم الغربية يُمثل دعمًا رمزيًّا، ولكنه قوي للتضامن الشعبي.

استمرار الدعم الرسمي لإسرائيل وتراجع الدعم الشعبي لها.

على الرغم من استمرار الدعم السياسي الرسمي لإسرائيل من قبل أغلب الحكومات الغربية، فإن الدعم الشعبي في تراجع مستمر؛ الأجيال الشابة، خصوصًا في الولايات المتحدة وأوروبا، أصبحت أكثر انتقادًا للسياسات الإسرائيلية بسبب وعيها المتزايد بقضايا العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. وعلى الرغم من الجهود الإسرائيلية لتصوير المقاومة الفلسطينية على أنها إرهاب ضد المدنيين، فإن الرواية الفلسطينية باتت تُسمع بشكل أوسع. الخطاب الإسرائيلي الذي يركز على “الأمن” ومكافحة الإرهاب لا يصمد أمام الصور المروعة لضحايا القصف الإسرائيلي من المدنيين، خاصة النساء والأطفال. وينعكس التعاطف الدولي الشعبي عبر إضعاف العزلة السياسية للمقاومة ويُصعِّب على إسرائيل تحقيق هدفها في عزل المقاومة الفلسطينية سياسيًّا وإنسانيًّا. على العكس، المقاومة تحظى الآن بشرعية أكبر في نظر شعوب العالم، مما يعزز صمودها أمام مختلف أنواع الضغوط؛ فالحكومات الغربية تواجه ضغوطًا متزايدة من مواطنيها لتغيير مواقفها المنحازة لإسرائيل، خاصة في ظل الانتقادات المتزايدة لتوريد السلاح الذي يُستخدم ضد المدنيين الفلسطينيين. هذه الضغوط تأتي في سياق نمو الوعي الشعبي العالمي حول معاناة الشعب الفلسطيني، وتصاعد الحركات الحقوقية التي تربط العدالة الاجتماعية بحقوق الفلسطينيين.

لقد ساهمت منصات التواصل الاجتماعي كما الإعلام الإلكتروني، في تسليط الضوء على ممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين، بما في ذلك: القصف العشوائي، تهجير السكان، وحصار غزة، واقتحامات الضفة الغربية. الصور ومقاطع الفيديو المنتشرة عن استهداف المدنيين، خاصة الأطفال، أثرت بشكل كبير في الرأي العام الغربي، لا سيما بين الشباب. وبالتالي، تتعرض الحكومات الغربية، مثل: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لانتقادات متزايدة بسبب توريدها الأسلحة لإسرائيل، خاصة تلك التي تُستخدم في العمليات العسكرية ضد غزة، نشطاء ومنظمات حقوقية يشيرون إلى أن هذه الأسلحة تُساهم في انتهاكات حقوق الإنسان، مما يجعل هذه الحكومات متواطئة بشكل غير مباشر. وفي بعض الدول الغربية، مثل: بريطانيا، وكندا، ظهرت دعوات داخل البرلمانات لفرض قيود على صادرات الأسلحة لإسرائيل، كما رفعت منظمات حقوقية دعاوى قضائية تطالب بوقف توريد الأسلحة، مستندة إلى القوانين الدولية التي تحظر استخدام الأسلحة ضد المدنيين.

تشير استطلاعات الرأي الحديثة في العديد من الدول الغربية إلى تحول لافت في مواقف الشعوب تجاه القضية الفلسطينية؛ حيث يتزايد التعاطف مع الفلسطينيين بشكل ملحوظ، خاصة بين أفراد الأجيال الشابة، هذا التحول يعكس تأثير الوعي المتنامي بالانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، ويدفع نحو تغيير تدريجي في الخطاب السياسي لبعض المسؤولين في تلك الدول.  تزايد اهتمام الأجيال الشابة بقضايا العدالة الاجتماعية والحقوق المدنية ساهم في تعزيز التضامن مع الفلسطينيين، الحركات الشبابية التي تدعم قضايا مثل: مكافحة العنصرية، والمساواة، ترى في النضال الفلسطيني امتدادًا طبيعيًا لنضالها ضد الظلم والاستعمار. إن النقاش حول القضية الفلسطينية لم يعد مقتصرًا على الدوائر الرسمية أو الإعلام التقليدي، بل أصبح جزءًا من الحراك الشعبي والنقاش العام، مما يُضيق الخناق على السياسيين الذين يتبنون مواقف تقليدية مؤيدة لإسرائيل. مع تزايد التعاطف الشعبي مع الفلسطينيين، يمكن أن تتعرض السياسات الغربية التقليدية المنحازة لإسرائيل لضغوط متزايدة، خاصة إذا استمر هذا التحول في التأثير على مسارات الانتخابات والحراك السياسي الداخلي. وبالتالي، فبعض السياسيين الغربيين بدأوا يُغيرون خطابهم تجاه إسرائيل نتيجة الضغوط الشعبية؛ أصبحت عبارات مثل “حقوق الفلسطينيين” و”إنهاء الاحتلال” أكثر شيوعًا في الخطاب السياسي لبعض الأحزاب التقدمية، وحتى التقليدية. وفي الولايات المتحدة وأوروبا، أصبح هناك نقاش أوسع ونقدي بشدة حول الدعم غير المشروط لإسرائيل، وسط دعوات لربطه باحترام حقوق الإنسان، ولقد تطور الخطاب في الغرب ليصبح أكثر تحررًا من الروايات التقليدية التي كانت تدعم إسرائيل بشكل غير نقدي، التركيز الآن ينصب أكثر على القيم الإنسانية المشتركة مثل: الحرية والعدالة والمساواة. ولكن على الرغم من هذا التحول، تواجه القضية الفلسطينية مقاومة من جماعات الضغط الموالية لإسرائيل، التي تسعى للحفاظ على الوضع الراهن من خلال ممارسة ضغوط على الحكومات ووسائل الإعلام؛ فهذا التحول في الرأي العام يُعدُّ تطورًا إيجابيًّا لصالح القضية الفلسطينية، لكنه يتطلب استمرار العمل على رفع مستوى الوعي، وتعزيز الجهود التضامنية، واستثمار التغيير في الخطاب الشعبي لدفع المسؤولين لاتخاذ خطوات ملموسة لدعم الحقوق الفلسطينية على المستوى الدولي.  قد تحقق العمليات العسكرية تهدئة مؤقتة، لكنها لا تُحدث تغييرًا جذريًّا في الديناميات السياسية أو في جذور الصراع؛ فالفشل في معالجة القضايا الأساسية كـ (الاحتلال، اللاجئين، الحصار) يعني أن المقاومة ستظل مستمرة، وربما أقوى.

تغييرات في البيئة السياسية الإقليمية.

إضافة إلى ما سبق، برزت عدة تحولات في طبيعة الصراع من حيث ظهور نماذج جديدة للمقاومة مثل: الحرب السيبرانية، الحملات الإعلامية الناجحة، وتصاعد التأييد الدولي، كما أن التغيرات في البيئة السياسية الإقليمية قد تفرض في المستقبل معادلات جديدة لا تخدم بالضرورة إسرائيل، بل على العكس؛ حيث شهدت البيئة السياسية الإقليمية في الشرق الأوسط تغيرات جوهرية خلال السنوات العشرة الأخيرة، ما قد يؤدي إلى فرض معادلات جيوسياسية جديدة تُضعف من الهيمنة الإسرائيلية وتحد من قدرتها على تحقيق أهدافها الإستراتيجية دون أي اعتبار للمجتمعات كافة، هذه التغيرات التي تشمل تصاعد تأثير المقاومة الفلسطينية، كما التحولات في تحالفات بعض الدول الإقليمية، والدور المتزايد للقوى الدولية في المنطقة_ تخلق ديناميكيات جديدة قد لا تصب في مصلحة إسرائيل بشكل شبه قطعي.  

 المقاومة لم تعد مجرد ظاهرة محلية مقتصرة على الفلسطينيين وحدهم، بل أصبحت رمزًا للنضال ضد الظلم في المنطقة كلها، وبشكل أوسع، في العالم كله. الدعم الشعبي (العربي، والإسلامي) وصولًا إلى الغربي، لهذه الحركات يجعل من الصعب على إسرائيل عزلها سياسيًّا أو تقويض شرعيتها، مهما حاولت وسعت، ومهما دعمتها حكومات غربية وأنظمة عربية. وعلى الرغم من صمتها الطويل والشريك، فبعض الدول العربية بدأت تعيد النظر في سياساته التطبيعية دون شروط تجاه إسرائيل نتيجة تصاعد حدة آلة القتل الإسرائيلية ضد الفلسطينيين واللبنانيين. كما إن تزايد حدة الرفض الشعبي العربي ضد التطبيع مع العدو الإسرائيلي، والدعوات لتبني مواقف أكثر دعمًا للقضية الفلسطينية، أصبح يضغط بشدة على الحكومات لتعديل مواقفها. ومن جانب آخر، فعلى الرغم من حدة الانقسامات السياسية في إسرائيل، وانعكاس ذلك على تزايد الحراك الشعبي المعارض للسياسات الحكومية، إلا أنه من الصعب الاعتماد عليها ولو جزئيًّا؛ وذلك بسبب التضامن والانسجام المجتمعي حول القيادة السياسية والعسكرية مهما تطرفت وأجرمت، كما برز مؤخرًا في موقف كل الأحزاب بعد إصدار محكمة الجنايات الدولية أمرًا بتوقيف رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو” بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ومع ذلك، فإن الأزمات الداخلية تشغل صناع القرار عن مواجهة تحديات المنطقة بفعالية، فمع تنامي الدعم الشعبي العالمي للقضية الفلسطينية، وزيادة الانتقادات لانتهاكات حقوق الإنسان، تجد إسرائيل نفسها في موقف أكثر عزلة، ما يحد من قدرتها على فرض سياساتها في الإقليم.

الانتصارات العسكرية الإسرائيلية والمكاسب السياسية.

يمكن القول إن الانتصارات العسكرية الإسرائيلية، إن حصلت على حساب حيوات المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، لا تُترجم غالبًا إلى مكاسب سياسية طويلة الأمد يمكن لدولة الاحتلال أن تستغلها في مستقبل قاتم. على العكس، قد تُسهم هذه “الانتصارات” في تعزيز شرعية المقاومة وإعادة تشكيلها، مما يجعلها أكثر صلابة وتصميم على دحر الاحتلال واسترجاع الحقوق. الفشل المستدام في معالجة جذور الصراع (الاحتلال، وغياب العدالة) هو العامل الرئيس الذي يُبقي الأوضاع متوترة، ويمنع إسرائيل من تحقيق أهدافها السياسية.

إن القمع الإسرائيلي الدموي، المصاحب بشعور الإفلات الدائم من المحاسبة ومن العقاب، يولد حتمًا مشاعر الغضب والإحباط لدى جميع الفلسطينيين كما مناصريهم، وهم كُثر، هذا الإحساس يجعل المقاومة تُعتبر (قانونيًّا، إنسانيًّا، وأخلاقيًّا)، وسيلة شرعية للدفاع عن النفس واسترداد الحقوق السليبة. فمع استمرار الاحتلال والاستيطان والحصار، تُطرح المقاومة كخيار وحيد لا مناص منه أمام الشعب الفلسطيني لمواجهة الظلم؛ حيث تظهر المقاومة قدرة هائلة على التكيف مع الظروف الجديدة، سواء من خلال تطوير أساليبها القتالية، مثل: الصواريخ محلية الصنع والطائرات المسيرة، أو من خلال تبني إستراتيجيات غير تقليدية إعلاميًّا وسياسيًّا، وهذا يجعل بالتالي من الصعب على إسرائيل القضاء على هذه المقاومة بشكل جذري.

لقد أصبحت المقاومة الفلسطينية واللبنانية رمزًا للنضال في العالم (العربي، والإسلامي) مما أكسبها دعمًا شعبيًّا واسعًا. وفي المقابل، أدى القمع الإسرائيلي إلى تآكل شرعية إسرائيل في نظر المجتمعات المدنية العالمية، وحيث يُعد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية العامل الأساسي الذي يغذي الصراع في المنطقة وفي الأقاليم المحيطة، فطالما استمرت إسرائيل في تجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، مثل: حق تقرير المصير وحق العودة، سيظل هناك دعم شعبي وسياسي للمقاومة عربيًّا وإسلاميًّا ودوليًّا. إن تجاهل ما يُطلق عليه بـ “المجتمع الدولي” لحل عادل وشامل للصراع العربي – الإسرائيلي، يعزز من حالة الإحباط لدى الفلسطينيين ويدفعهم نحو أشد أنماط المقاومة. وفي هذا السياق، فإن العمليات العسكرية الإسرائيلية لا تُحدث أي تغيير جوهري في الواقع السياسي، بل تساهم في تصعيد التوترات.

خاتمة

إن إسرائيل تواجه مأزقًا استراتيجيًّا يتمثل في قدرتها على تحقيق انتصارات عسكرية حاسمة، لكنها في الوقت نفسه تعجز عن ترجمتها إلى إنجازات سياسية مستقرة، فطالما استمرت جذور الصراع المتمثلة في: الاحتلال، الاستيطان، عدم الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وغياب العدالة، فإن المقاومة ستظل تتجدد وتتكيف مع المتغيرات مهما كانت التحديات. إن العمليات العسكرية لا يمكنها فرض سلام مستدام، السلام الحقيقي يتطلب معالجة جذور الصراع، وهو ما تتجنبه إسرائيل عبر استمرار سياساتها التوسعية والاستيطانية والتدميرية مقتنعة أنها لن تُحاسب يومًا.

اظهر المزيد

د. سلام الكواكبي

باحــث سوري في العلوم السياسية - فرنسا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى