لم تتفق أنظمة الشعوب العربية وبروتوكولاتها على مفهوم محدد للأمن القومي العربي، كما أنه لا يوجد تعريف واحد لدى العرب الذين يرسمون ملامح الأمن القومي كل حسب مفهومه ، وتصوراته ، ومصالحه ، وتحالفاته ورؤيته لخريطة الصراع في المنطقة العربية المليئة بالصراعات والاختلافات المتباينة .
ورغم أن مصطلح ” الأمن القومي العربي ” يعد أكثر المصطلحات شيوعا واستخداما في العالم العربي ، سواء من جانب الباحثين ، أو من جانب صناع القرار العربي ، إلا أنه لا يزال أقرب ما يكون إلى الشعار أو المفهوم النظري ، ونادرا ما يترجم إلى سياسات أو برامج عمل تطبق على أرض الواقع .
لذا فالأمن القومي العربي لا يزال أملا منشودا يفترض السعي إليه وإيجاده ، فهو ما زال غائبـــا ، على الرغم من بعض الاتفاقيات التي تمت في فلك التنظير ولم تتعداه إلى خطوات تطبيقية فاعلة .
وكتاب الأمن القومي العربي واقعه وآفاقه في ظل التحولات الاقتصادية العالمية المعاصرة مكون من خمسة فصول ، الفصل الأول والثاني يشير الكاتب فيهما أن المنطقة العربية في الآونة الأخيرة شهدت ما لم تشهده عقود طويلة ، حيث بدأ العالم العربي في الآونة الأخيرة يشهد بدايات تفكك بنية النظم السلطوية بفعل انتفاضات شعبية بدأت في تونس ومصر ثم ليبيا ثم بعض الدول العربية الأخرى .
لذا فما زال الحديث عن أمن قومي عربي نسعى إليه ونناضل من أجله أصبح شائكا نظرا للوضع الخاص الذي يعيشه العالم العربي ، وهو يشخص في التجزئة والحدود السياسية ، والتراجع السياسي، والاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي ، ثم التبعية ، والمديونية العربية للعالم الخارجي .
أما عن أسباب عدم تفعيل القدرات الأمنية العربية الجماعية في الوطن العربي فتتمثل في ثلاثة أسباب وهي :-
- التدخلات الإقليمية الخارجية ، وهذا النوع من التدخلات يحمل خصوصية خطيرة تميزه عن التدخلات الخارجية الدولية ، فالتدخلات الإقليمية تكمن آثارها الخطيرة في كونها تحمل دوما نزعة الأطماع التوسعية الجغرافية ، وبسط النفوذ على حساب السيادة الوطنية للدول العربية ، وتستخدم النزعات المذهبية والطائفية والاختلافات العرقية وسيلة لدعم سياساتها الداخلية ، وبذر بذور الفتن في الدول العربية.
- اعتماد الأمن القومي لعدد من دول العالم العربي ( جزئيا وكليا ) على عنصر الدعم الخارجي والضمانات الأمنية والدفاعية الخارجية ، والفشل المستمر في التمكن من تطوير قدرات الدفاع الذاتي .
- التركيز على ( الإرهاب ) بكونه المصدر الأساسي للتهديد أو المخاطر هو تقدير يفتقد للمنطق لا سيما إذا لم يتم التركيز على أسبابه أو دوافع من يقف خلفه أو يدعمه .
تلك الأسباب الثلاثة هي الأساس أما فروعها فتتمثل أيضا في التهديدات التي يواجهها العالم العربي من التهديد الإسرائيلي الاحتلالي في فلسطين ، والحضور الأمني الأمريكي في الخليج العربي ، وهنالك أيضا تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش ) ، ناهيك عن التهديد النووي الإيراني فهو بالدرجة الأولى تهديد أمني خطير لدول مجلس التعاون الخليجي ، بالإضافة إلى الرعب النووي بين الهند وباكستان اللتين تمثلان الجوار المباشر لدول المجلس ومن جهة الجنوب الشرقي ، وأيضا الفتنة الطائفية في عدد من الدول العربية التي توجد بها ثنائيات عرقية وطائفية ، والحروب الوشيكة بسبب التنازع على المياه كما في دول حوض النيل ، ناهينا عن الخلافات على الحدود في بعض الدول العربية .
فليس غريبا أن تتعاظم المخاوف لدى الدول والشعوب العربية في هذا العصر بعد أن عانت من المشكلات التي سببها فقدان الشعور بالأمن والأمان في كثير من بقاع العالم .
والأمن العربي كما يقول الكاتب هو كافة السياسات والإجراءات التي تتخذها وتقوم بها كل دولة عربية في حدودها وطاقتها وحاجتها وإمكاناتها لتحقيق الأمن الوطني لذاتها، على أن تكون تلك السياسات والإجراءات في إطار الأمن الشامل للأمة العربية أما عن ركائز الأمن القومي العربي فقد قسمه الكاتب إلى أربع ركائز :-
الأولى : الركيزة الجغرافية: تتعلق بالموارد المائية وما تمتلكه من ثروات معدنية ومصادر الطاقة وغيرها ومدى توافر الموارد المائية والمعدنية في تحقيق الأمن الغذائي فالثروة النفطية في المنطقة العربية على سبيل المثال كانت وستظل في صلب الاستراتيجية الأطلسية ومصالحها الحيوية ، ومن ثم ستظل واقعة تحت ضغط التهديد في محاولة لاحتواء هذه الثروة .
الثانية: الركيزة الجيوبوليتيكية وهي تتعلق بموقع الدولة ومدى تأثيرها على الدول المجاورة ومنافذها البرية والبحرية ، وتأثير ذلك على التجارة والنقل ، وكذلك أهمية موقع الدولة بالنسبة للدول ذات المصالح الحيوية في المنطقة .
الثالثة: هي الجيوستراتيجية حيث تتعلق بتفاعل مكونات الموقع ، من أجل تركيز القدرات الدفاعية اللازمة لمواجهة التهديدات الخارجية ، وتتفاعل بعوامل ثلاثة هي : مساحة الدولة وحجم السكان وموارد الدولة فيها من أجل تحقيق قدرتها على مواجهة التهديدات المختلفة .
الرابعة: هي الركيزة التاريخية حيث يقصد بها تاريخ الدولة وقوتها ، والأحداث التي مرت بها في فتراتها التاريخية والحضارية التي تؤثر في تكوين طبائع شعبها ، وتنظيم نمط الحياة فيها ، وتشكل جزءا أساسيا في قيمها الجوهرية وقدرتها ونهضتها ومدى تأثيرها الإقليمي والدولي .
ثم يتحدث الكاتب بعد ذلك عن مستويات الأمن القومي العربي ويقسمها أيضا إلى ثلاثين مستوى منها الأمن العسكري العربي وجاهزية المؤسسة العسكرية في الدول العربية على التصدي لأي اعتداء خارجي ، و الأمن الاقتصادي العربي والغذائي والفكري والمعنوي والوقائي العربي والمعلوماتي والاستخباراتي والصحي والبيئي والتكنولوجي والثقافي والاجتماعي والطاقة والعرقي والجيني والحدود والإعلام والإلكتروني وأخيرا الأمن السياسي والتربوي والمائي والصناعي العربي .
على حسب قول الكاتب لن يتحقق الأمن القومي العربي بالاعتماد على الأمن العسكري أو الوطني أو الاقتصادي فقط وإنما باجتماع كل أنواع الأمن السابقة في حزمة واحدة ليتحقق وقتها الأمن القومي العربي بمعناه الشامل .
أما الفصل الثالث والرابع فيتحدث فيهما الكاتب في البداية عن مصادر تهديد الأمن القومي العربي ومظاهر اختراقه .
فالتحديات التي تواجه الأمن القومي العربي تشكل المصادر الرئيسية لتهديده هي بالضرورة تحديات ومصادر خارجية ، أي من خارج العالم العربي ككل ، وهناك تحديات ومصادر داخلية ، أي من داخل العالم العربي ككل ، فمثلا بالنسبة للتحديات الخارجية فقد واجه الأمن القومي العربي تحديات على الصعيد العالمي أو على الصعيد الإقليمي ، فعلى الصعيد العالمي شكل الاستعمار التقليدي أحد أهم التحديات التي واجهت العالم العربي ونجحت بعض هذه القوى في غرس إسرائيل وسطه لتصبح شوكة دائمة تحول دون توحده ورغم انحسار الاستعمار التقليدي وانتهاء دوره تقريبا إلا أن العالم العربي بحكم موقعه المتميز وموارده الطبيعية الوفيرة ، مستهدفا من جانب القوى الدولية المتنافسة للسيطرة على النظام العالمي ، كالولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والصين وغيرها ولن يكون بوسع أي من هذه القوى أن تهيمن منفردة على العالم إلا من خلال السيطرة على العالم العربي .
هذا فوجود الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي له أهداف توسعية وعدوانية مهددة لأقطار الوطن العربي لا تتوقف مخططاتها عند حدود إسرائيل الحالية لا تتجاوزها لتشمل رقعة أوسع من ذلك بكثير ، ويمكن الإضافة إلى التهديدات العسكرية الإسرائيلية المباشرة ، تلك المشاريع التي تقوم إسرائيل بتنفيذها من أجل تضييق الخناق على الأقطار العربية المحاذية لها مباشرة مثل سورية ولبنان والأردن ومصر .
وبالنسبة للتحديات الداخلية ، فجميع الدول العربية متراجعة اقتصاديا وعلميا وفكريا بالمعايير العالمية فاقتصادياتها ريعية ، تعتمد على تصدير المواد الأولية ، وهو ما يعرض مستقبلها لمخاطر جمة ، وليس لديها مؤسسات علمية أو بحثية أو تعليمية أو فكرية أو ثقافية متطورة ، وهناك أيضا العديد من المعوقات الاقتصادية للتكامل بين البلاد العربية ، والتي تتمثل في تباين الناتج المحلى الإجمالي ، ومعدل النمو العربي ، وضعف البنية التركيبية الأساسية لبعض الدول العربية إلى جانب بعض المشاكل المتعلقة بالاستثمار كتعدد القوانين واللوائح والقرارات الخاصة بالعمليات الاستثمارية ، وعدم استقرار أسعار الصرف للعملات المحلية بين البلاد العربية وأيضا أهم المشكلات التي تعاني منها بعض الدول العربية مثل الركود الاقتصادي والكساد في بعضها والنسبة العالية للبطالة والنمو السكاني الذي يقوم على النمو الحقيقي ، هذا بالإضافة إلى عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي ، الذي أنهك قوى بعض الدول العربية الغنية.
وعلى هذا يمكن القول إن هناك مصدرين رئيسين يهددان الأمن القومي العربي شائعا ، وكل منهما يتحدى الآخر المصدر الأول التهديد الإسرائيلي للأمن القومي العربي والثاني ضعف الأنظمة الدفاعية العربية .
ثم يتناول الكاتب بعد ذلك موضوع تحديات الأمن القومي العربي ، أول هذه التحديات التي يتحدث عنها هي الانقسامات العربية ، التي باتت تهدد الأمن القومي العربي برمته ، ولعل أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وما تبعها من تفاعلات وكذلك استمرار الغطرسة الإسرائيلية والأحداث الدامية في فلسطين ما تدفع الوطن العربي إلى مزيد من التفكير في تحليل الواقع العربي ، ومن ثم النظر بعمق للأمن القومي العربي ، وتخطئ أي دولة تظن أن بإمكانها تحقيق أمنها الوطني بمعزل عن الأمن القومي العربي الشامل ، ودروس الماضي خير شاهد على ذلك .
وهناك تحد آخر يتمثل في الديون العربية الخارجية حيث أظهر تقرير صادر عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات أن حجم الديون الخارجية لـ 20 دولة عربية سجل قفزة كبيرة عام 2016 ليرتفع من 426.4مليار دولار عام 2000 إلى نحو 923.4 مليار دولار عام 2016.
وذكر التقرير أن هذه القفزة بأرقام الديون سببها نزوع العديد من الدول إلى الاقتراض وإصدار سندات دين سيادية لتمويل العجز في موازناتها .
وهناك أيضا مشكلة البطالة حيث إنها من أشد المخاطر التي تهدد استقرار وتماسك المجتمعات العربية بشكل خاص ، وأيضا هناك التطرف والإرهاب حيث تعاني معظم الدول العربية من اضطرابات سياسية وفكرية واجتماعية ودينية تسبب التطرف والعنف الأمر الذي أدخل الكثير من الأنظمة العربية في حالة من الفوضى والحروب والصراعات الأهلية .
وهناك تحد هام جدا وهو الأمن المائي العربي ، حيث يمثل الأمن المائي مدخلا مهما للأمن القومي العربي مما يتطلب وضع استراتيجية متكاملة لضمان أمن الأمة العربية حيث إن أكبر المخاطر التي تواجه المياه العربية ما يسعى إليه الكيان الصهيوني من سيطرة عليها بمختلف الوسائل .
كما تمثل قضية الصراع على المياه في منطقة الشرق الأوسط بعدا مهما ومرتكزا أساسيا في الصراع العربي الإسرائيلي ، إذ سارعت إسرائيل للعمل بكل قوة للسيطرة على مصادر المياه العربية التي ترى فيها الملاذ الوحيد لتنفيذ طموحاتها في الدول العربية .
وعلى كل فإن قضية الأمن تعد من القضايا المحورية التي تستأثر باهتمام المفكرين والمخططين ورجال السياسة والاجتماع في كافة المجتمعات قديمها وحديثها، بغض النظر عن أيديولوجيتها، فالأمن من الأمور الأساسية في هذا الوجود ، وهو ركيزة أساسية، وقاعدة عظمى تستند عليها حياة البشرية، والحاصل مما سبق بأن التشرذم العربي والصراعات المتتالية بين بعض الدول العربية وبعضها بات يهدد الأمن القومي العربي برمته بالإضافة إلى استمرار الغطرسة الإسرائيلية والأحداث الدامية المتكررة في فلسطين وسورية ومعظم الدول العربية .
أما الفصل الخامس من الكتاب فعنوانه تحقيق الأمن القومي العربي وآلياته وشروطه فعن خطوات تحقيق الأمن القومي العربي يحدثنا الكاتب أن تلك الخطوات تتكون من :-
أولا: صناعة الإنسان العربي بوصفه الركن المؤتمن على الأمن القومي العربي ، فالأمن القومي العربي بمفاصله المتعددة والمتنوعة لا يتحقق بقرار سياسي، ولا عبر بناء الجيوش، أو تكديس الأسلحة فقط ، بل العنصر الفاعل هنا هو الإنسان العربي، هو أهم سلاح وأداة لتحقيق الأمن القومي العربي، لأنه هو الذي يشكل لبنة بناء المجتمعات والدول .
ثانيا: تحرير المواطن العربي من الجهل والأمية والغيبوبة الفكرية، فيواجه التعليم ظرفا دقيقا في الدول العربية، فبعد أكثر من بضعة أعوام من اندلاع الربيع العربي، تقع المراهنة على الشباب ، لتحقيق أهداف التعليم للجميع .
ثالثا: انتشال المواطن العربي والأمة العربية من براثن العوز والحاجة فيعد الفقر من الظواهر الاجتماعية الخطيرة ذات الأبعاد المتعددة، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بالتنمية، ومما لاشك فيه أن تقليل الفقر أو الحد منه هدف لا تختلف حوله المجتمعات والدول ، وكذلك المنظمات الدولية الفاعلة في مجال التنمية، ومن هذا المنطلق فإن العلاقة وثيقة بين الفقر والسياسات العامة في كافة النواحي والمجالات، اقتصادية وصحية وتعليمية وبيئية .
رابعا: البحث عن مصادر مياه غير تقليدية للمواطن العربي، فالوطن العربي فقير في المصادر المائية وهناك أقطار عربية تعاني يوميا من عدم توفر المياه، وسيأتي زمن تعاني فيه الأقطار العربية من نقص المياه الصالحة للشرب والصالحة للزراعة، فيجب التركيز والحرص على توفير مصادر مياه جديدة، وتطوير الطاقة اللازمة لتحلية مياه البحر بأقل التكاليف الممكنة.
خامسا: إعادة تصنيف قائمة الأصدقاء والأعداء للعرب، وهي مسؤولية ضخمة أمام أصحاب القرار في الساحة العربية أن يضعوا معايير تحديد أصدقاء العرب وأعدائهم، وهذه مهمة ليست سهلة بسبب اختلاف أهداف الأنظمة العربية، السياسية والثقافية والاجتماعية .
سادسا: وضع رؤية استراتيجية شاملة للتكامل بين الأقطار العربية، فإحياء جهود التكامل الاقتصادي بين البلاد العربية مخرجا ملائما ، ويمكن للتكامل الاقتصادي بين الدول العربية أن يكون وسيلة للتغلب على الأجزاء الناجمة عن الصغر في الحجم، وآثار الحدود من خلال تجميع واندماج وتكوين الشبكات البنيوية .
ومن خلال كل ذلك يمكن طرح رؤية استراتيجية للتكامل بين الأقطار العربية تتكون من تعاون سياسي يدعم إقامة الحكم الديمقراطي الصالح في الدول العربية ، وأيضا تعميق التكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية، وزيادة دور الاستثمارات البينية لتدعيم التكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية .
والحاصل مما سبق أن الأمن القومي العربي لن يتحقق بين يوم وليلة ، وإنما لابد أولا من صناعة المواطن العربي بوصفه الركن المؤتمن على الأمن القومي العربي وتحريره من الجهل والأمية والفقر والحاجة، ولابد من العمل على تحقيق الوحدة الوطنية لكل قطر عربي، وإزالة الانقسامات العربية، ووضع رؤية استراتيجية للتكامل بين الأقطار العربية.
عمـــــــاد الدين حلمـــــــي
الأمانة العامة لجامعة الدول العربية