اختار أكثر من نصف الناخبين الأتراك تغيير نظامهم السياسي مرتين: الأولى في الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 16 نيسان/إبريل 2017 والثانية في ترجمة ذلك إلى واقع عبر انتخابات نيابية ورئاسية مزدوجة ومبكرة جرت يوم الأحد في 24 حزيران/ يونيو 2018.
لذا لم تكن هذه الانتخابات عادية بل شكلت محطة بين مرحلتين تاريخيتين، كتب الكثير عن المرحلة الأولى التي امتدت من العام 1923 وحتى اليوم، فيما لا يمكن الجزم بما ستكون عليه ملامح المرحلة المقبلة إلا بعد مرور سنوات طويلة من الممارسة للنظام السياسي الجديد.
أولاً: الانتخابات النيابية
نصت التعديلات الدستورية التي أصبحت اليوم أمرًا واقعًا على إعطاء صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية بحيث تم تفريغ البرلمان من عدد كبير من مهامه ودوره المركزي الوازن ليتحول إلى علبة للمشاريع العادية والقليل من المشاريع الحاسمة والمهمة.
ومع ذلك يبقى البرلمان مرآة لاتجاهات المجتمع السياسية والاجتماعية والأيديولوجية ويبقى ضرورة تجذب الانتباه حتى في ظل تراجع دوره المركزي.
جرت الانتخابات البرلمانية في ظل تحشيد كبير للأحزاب للفوز بأكبر نسبة من الأصوات والمقاعد النيابية كما لو أن النظام لا يزال برلمانيًا.
لذلك نجد أن الانتخابات شهدت للمرة الأولى في عهد سلطة حزب العدالة والتنمية منذ العام 2002 تحالفات انتخابية علنية. وهذا يعكس مدى الشعور بالخوف من النتائج وضرورة جمع كل الأوراق في ساحة اللعب الانتخابية.
من جهة كان التحالف بين حزبي العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية تحت اسم “تحالف الجمهور”. ومن جهة ثانية كان “تحالف الأمة” بين ثلاثة أحزاب معارضة هي الشعب الجمهوري والسعادة والجيّد. فيما بقي حزب آخر وازن هو حزب الشعوب الديمقراطي الكردي خارج أي تحالف. وكانت هناك أحزاب صغيرة جدًا ترشحت منفردة ولا قيمة لدورها.
فاز تحالف الجمهور بـ 54 في المائة من الأصوات وفاز تحالف الأمة بـ 34 في المائة وفاز الحزب الكردي بـ 11.6 في المائة.
مكّنت هذه النتائج تحالف الجمهور من حصد الغالبية المطلقة في البرلمان بـ 343 نائبًا من مجموع أعضاء البرلمان البالغ 600 نائب فيما حصد تحالف الأمة على 190 نائبًا وحزب الشعوب الديمقراطي 67 نائبًا.
لكن هذه الأرقام تخفي الكثير من التفاصيل التي تحمل دلالات متعددة.
- رغم أن الانتخابات جرت في ظروف غير متكافئة وغير عادلة ووسط اتهام أردوغان للمعارضة بالإرهاب ودعمه وتسخير كل مقدرات الدولة المادية والإعلامية لصالحه، فقد تراجعت أصوات حزب العدالة والتنمية سبع نقاط من 49.5 في المائة عام 2015 إلى 42.5 في انتخابات 24 حزيران/يونيو 2018. وقد يرد البعض ذلك إلى تذمر في القواعد الشعبية من التراجع الاقتصادي وغلاء المعيشة وتدهور سعر الليرة بل تصويت بعض قواعد الحزب لحزب الحركة القومية كي تزداد صورته كحليف ليس ضعيفًا. مع ذلك فإن إلقاء الضوء على خريطة المقاعد يظهر أكثر الضربة التي لحقت بحزب العدالة والتنمية.
إذ للمرة الأولى منذ العام 2002 يفقد حزب العدالة والتنمية امتلاكه الغالبية المطلقة في البرلمان والبالغة 301 نائب. إذ نال الحزب 293 مقعدًا فقط أي بأقل ثمانية نواب عن الغالبية المطلقة. وهذا له أهميته في عدم القدرة على تمرير مشاريع القوانين العادية وغير العادية. ولذلك فهو بحاجة ماسة إلى شريكه في التحالف حزب الحركة القومية لكي يحصل غالبية 301 نائب. وقد حقق حزب الحركة القومية نتائج باهرة قياسًا إلى الانقسامات التي شهدها وإلى استطلاعات الرأي التي لم تكن تعطيه أكثر من 6 إلى 7 في المائة. إذ حصل الحزب في ظل الانقسام على 11.1 في المائة وهو نال 10.8 في المائة في انتخابات 2015 عندما كان موحدًا. لذا فهو إنجاز يحسب له. وكونه متحالفًا في انتخابات 24 حزيران/يونيو مع حزب العدالة والتنمية فإن الأخير سيلجأ إلى حزب الحركة القومية لإقرار القوانين في البرلمان. وبذلك أصبح حزب الحركة القومية حزبًا – مفتاحًا في البرلمان كما لحزب العدالة والتنمية كذلك لأحزاب المعارضة في حال كان للحركة القومية رأي مغاير لحزب العدالة والتنمية في بعض القضايا. لذا يعتبر حزب الحركة القومية بزعامة دولت باهتشلي من أكبر الرابحين في الانتخابات النيابية. وهو سيوظف ذلك حتمًا كما في البرلمان كذلك في السياسات العامة فضلاً عن التعيينات في مؤسسات الدولة.
إلى ذلك فإن أية مشاريع قوانين تحتاج إلى غالبية الثلثين (400 نائب) أو 3 من 5 أي (360 نائبًا) مثل إحالة مشاريع إلى استفتاء شعبي، لن يكون بمقدور تحالف الجمهور (343 نائبًا) أن يمررها بمفرده لذا ستكون الحاجة ضرورية للتنسيق مع أحزاب المعارضة. أي أن حزب العدالة والتنمية افتقد القدرة على المبادرة بمفرده في البرلمان الجديد كما افتقد تحالف الجمهور القدرة على الحسم في القرارات الاستراتيجية من دون التفاهم مع المعارضة. وهذا مشهد لم يعتد عليه حزب العدالة والتنمية حتى الآن.
2- من أسباب العجز هذا لتحالف الجمهور هو تمكن حزب الشعوب الديمقراطي الكردي من تجاوز عتبة العشرة في المائة اللازمة لدخول البرلمان ونيله 11.6 في المائة مع 67 نائبًا. وكان أردوغان يأمل عدم نيل الحزب الكردي عشرة في المائة لأن حزب العدالة والتنمية في هذه الحالة سيرث، تبعًا للنظام الانتخابي، غالبية النواب الأكراد ويقبض على الغالبية المطلقة وربما أكثر وهو الأمر الذي لم يحصل. بل إن أردوغان اتبع سياسة الاعتقال والسجن لنواب الحزب الكردي ورئيسه صلاح الدين ديميرطاش وعزل مسؤوليه من رئاسة البلديات وحتى أن مرشح الحزب الكردي للرئاسة ديميرطاش خاض الانتخابات من داخل السجن. لذلك فإن الحزب الكردي شكل عقبة كابحة أمام ترسيخ طغيان حزب أردوغان على البرلمان.
وبهذه النتيجة فإن الأكراد قد كرّسوا للمرة الثالثة على التوالي وجود حزب سياسي لهم في البرلمان وبنسبة تتخطى العشرة في المائة بموازاة الكفاح العسكري المتمثل بحزب العمال الكردستاني.
ثانيًا: الانتخابات الرئاسية
للمرة الثانية يتم انتخاب رئيس الجمهورية من قبل الشعب مباشرة. المرة الأولى كانت في العام 2014. وفي الحالتين كان الفائز رجب طيب أردوغان وبنسبة متقاربة جدًا بلغت في الحالتين حوالي 52.5 في المائة. وبالتالي سيكون أردوغان رئيسًا لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد عام 2024 لخمس أخرى مع إمكانية لتجديد لولاية ثالثة في حال طلب البرلمان، بغالبيته، منه ذلك. فوز أردوغان من الجولة الأولى أنقذه من تفادي حسابات معقدة وضاغطة في ما لو لم يفز من الدورة الأولى وذهبت الانتخابات إلى دورة ثانية.
لكن الأهم من تحقيق الفوز من الدورة الأولى أو الثانية هو أن الرئيس الجديد سيكون رئيسًا وفقًا للصلاحيات الجديدة التي أعطاه إياها الدستور الجديد الذي أقرت تعديلاته في 16 نيسان 2017 في استفتاء شعبي ودخل حيز التنفيذ تلقائيًا فور أداء أردوغان القسم رئيسًا للجمهورية في 9 تموز/يوليو الماضي.
وهي تعديلات تمنح رئيس الجمهورية صلاحيات مطلقة لا توجد في أي نظام رئاسي آخر في العالم. وخارج الدخول في تفاصيل كثيرة سيكون الرئيس الآمر الناهي لكل السلطات ومنها السلطة القضائية التي سيعين معظم أفراد مجالسها وهيئاتها وهذا يتعارض مع أبسط قواعد الديمقراطية في الفصل بين السلطات. ولن تكون الحكومة التي سيشكلها ويرأسها، مع إلغاء منصب رئيس الحكومة، بحاجة لثقة البرلمان وسيكون له الحق بإصدار مراسيم اشتراعية في حالات كثيرة رغم وجود برلمان.
نال أردوغان 52.5 في المائة وهي نسبة تعادل النسبة التي نالها حزب العدالة والتنمية في انتخابات الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2015 (وهي 49.5 في المائة مضافًا إليها ثلاثة في المائة يفترض أن تكون أصواتًا لحزب الحركة القومية). ذلك أن تراجع أصوات حزب العدالة والتنمية في انتخابات 24 حزيران/يونيو سبع نقاط، لا يعكس واقع أن بعض ناخبي حزب العدالة والتنمية قد لا يصوتون للحزب في الانتخابات النيابية لكن الأمر عندما يتعلق بأردوغان يختلف كلية والجميع يصبون أصواتهم له.
وهذا واضح من النتائج العامة لكل الانتخابات النيابية والبلدية والرئاسية والاستفتاءات التي جرت في ظل سلطة أردوغان منذ العام 2002. وتفسير ذلك أن النواة الصلبة الإسلامية لحزب العدالة والتنمية تقارب الـ 40-42 في المائة وهي كتلة لا يتغير اتجاه تصويتها وهو شخص رجب طيب أردوغان. وهي نواة إسلامية تعطي أردوغان مهما كانت الظروف لأنها لا تريد أن ترى في رأس السلطة عودة جديدة للعلمانية والممارسات السلبية التي كان يمارسها العلمانيون ضد المتدينين. أما ما يزيد عن الـ 42 في المائة هذه فهي كتلة متحركة في تأييدها أو معارضتها لحزب العدالة والتنمية أو أردوغان تبعًا لظروف آنية مثل الوضع الاقتصادي أو السجالات المختلفة.
ونظرًا لأن أحد جوانب الصراع في تركيا هو الصراع بين العلمانيين والإسلاميين فإن أردوغان بخطابه الإسلامي جذب منذ وصوله إلى السلطة جانبًا مهمًا من الناخبين الأكراد المتدينين والذين يضعون الولاء الديني قبل الولاء القومي ويعارضون توجهات حزب العمال الكردستاني. لذلك فإن نسبة متحركة (تبعًا لبعض المعطيات) لا تقل عن عشرين في المائة وقد تصل إلى 35-40 في المائة من الأكراد تعطي صوتها لحزب العدالة والتنمية ولرجب طيب أردوغان. وفي الانتخابات الرئاسية الأخيرة نال أردوغان ما بين 20 وثلاثين في المائة من أصوات الأكراد. وهذا حصل في الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 16 نيسان/إبريل 2017 وكانت كافية، بل ربما تكون السبب الأساسي، لينجح الاستفتاء التاريخي بغالبية نقطة ونصف النقطة كانت كافية أيضًا، لو لم تكن، ليفشل الاستفتاء.
أظهرت الانتخابات الرئاسية، في المقابل، بروز شخصية جديدة في حزب الشعب الجمهوري ومرشحه للرئاسة النائب محرم إينجه الذي حصل على نسبة عالية من الأصوات بلغت 31 في المائة تقريبًا تتخطى حجم حزب الشعب الجمهوري (22.7 في المائة). وهذا قد يترك تداعيات لجهة الدفع بإينجه ليكون الزعيم المقبل لحزب الشعب الجمهوري وتعزيز حضوره الشعبي بدلاً من رئيسه الحالي كمال كيليتشدار أوغلو.
تداعيات
في مقاربة لمجمل العملية الانتخابية النيابية والرئاسية التي جرت في 24 حزيران/ يونيو وتداعياتها نسجل ما يلي:
التداعيات الداخلية:
1- تعزز حضور القوميين المتشددين في المشهد السياسي سواء عبر حزب الحركة القومية أو “الحزب الجيّد” المعارض بزعامة ميرال آقشينير (عشرة في المائة). وإذا أضفنا أن حزب العدالة والتنمية هو بدوره جزء من التيار القومي التركي لأمكن القول إن النزعة القومية المتشددة هي التي تهيمن على التوجهات السياسية التركية وهي لذلك ستواصل تشكيل عقبة أمام حل النزاعات العرقية مثل المشكلة الكردية خصوصًا في ظل حاجة أردوغان لحزب الحركة القومية. مع إشارة مهمة وهي أن الحركة الإسلامية في تركيا المتمثلة بأحزاب نجم الدين أربكان ومن بعده رجب طيب أردوغان كانت تاريخيًا منذ السبعينيات وحتى اليوم الحليف الطبيعي في معظم الانتخابات والمحطات المفصلية للتيارات القومية المتشددة ؟!.
ففي السبعينيات كان حزب السلامة الوطني برئاسة نجم الدين أربكان شريكًا في حكومتين برئاسة سليمان ديميريل شارك فيهما تيار حزب الحركة القومية بزعامة ألب أرسلان توركيش. وفي العام 1991 تحالف حزب الرفاه بزعامة أربكان مع حزب الحركة القومية وكان اسمه حزب العمل القومي بزعامة توركيش في الانتخابات النيابية لكي يتجاوزا معًا عتبة العشرة في المائة ونجحا في ذلك عندما نالا معًا حوالي 17 في المائة. وفي العام 2007 أعلنت المحكمة الدستورية أن نصاب كل جلسات البرلمان لانتخاب رئيس جديد للجمهورية يجب أن يكون الثلثين. ولما لم يكن حزب العدالة والتنمية يملك غالبية الثلثين في البرلمان خرق حزب الحركة القومية معارضته لحزب العدالة والتنمية وقرر حضور الجلسة وإكمال نصاب الثلثين مما أتاح انتخاب عبد الله غول رئيسًا للجمهورية. وفي 16 نيسان/إبريل 2017 كان تأييد حزب الحركة القومية للتعديلات الدستورية والانتقال لنظام رئاسي دورًا حساسًا في نيل التعديلات 51.5 في المائة. كذلك فإن أردوغان صعّد أثناء الانتخابات خطابه العرقي بوصفه حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بأنه حزب إرهابي ومن يصوّت له فهو يصوّت للخونة رغم أنه ممثل في البرلمان. فإذا كان أردوغان يطلق على حزب سياسي له شرعيته القانونية ونال في الانتخابات الأخيرة 67 نائبًا هذه الأوصاف فمع من سيدخل أردوغان في مفاوضات لحل عادل للمشكلة الكردية ؟
هذه الوقائع تؤشر إلى أن السياسات الداخلية لرجب طيب أردوغان تجاه المسألة الكردية لن تشهد تغييرات جذرية. فهو من دون حزب الحركة القومية كان يتبع سياسات قومية متشددة وعنفية وتدميرية ضد الأكراد أحزابًا ومجتمعًا فكيف الآن وقد بات بحاجة لحزب الحركة القومية في البرلمان حتى للمشاريع العادية وكانوا جزءًا من فوزه في انتخابات الرئاسة؟ لذلك حتى لو رغب أردوغان بتغيير سياسته تجاه الأكراد فإنه سيواجه معارضة حزب الحركة القومية وينصاع له.
2- المشكلة الثانية المستعصية على الحل هي طريقة مقاربة المسألة العلوية التي لا يقل عدد أتباعها عن 15 مليونًا. وليس واضحًا عما إذا كان أردوغان سيغير سياساته السابقة المنكرة للهوية العلوية كما المنكرة للهوية الكردية حيث يشكل الأكراد ثلث العلويين. ونظرًا لتقدم التيار الديني والقومي المتشدد الذي يمثله حزب العدالة والتنمية ومعه الآن حزب الحركة القومية فإن أي انفتاح على الهوية العلوية سيواجه باعتراض قسم كبير من المتدينين السنّة. ومن المستبعد أن يغامر أردوغان بخسارة جزء من الفئات المتدينة المتشددة كانت من عوامل نجاحه على امتداد سنوات حكمه، تمامًا كما لم يغامر بمقاربة جديدة للمسألة الكردية حتى لا يخسر أصواتًا قومية متشددة مهمة لاستمرار بقائه في السلطة.
3- إن النظام الرئاسي بما يشمل من صلاحيات مطلقة بيد شخص واحد سيعزز نظام حكم الفرد الواحد ليكون أردوغان نسخة مقلوبة من نسخة مصطفى كمال أتاتورك. وفي ظل هذا النظام سيضعف دور البرلمان. وهذا لا يثير ارتياح مكونات المجتمع التركي الأخرى المعارضة لأردوغان على صعيد الإثنيات العرقية أو الأقليات الدينية والمذهبية. وهذا يدفع هذه المجموعات التي يقل عددها مجتمعة عن خمسين في المائة من عدد السكان للشعور بأنها مهمشة ولا مكان لها في القرار السياسي لا من قريب ولا من بعيد. في حين كان النظام البرلماني يتيح لهذه الفئات المشاركة في القرار نسبيًا عبر الدور المركزي سابقًا للبرلمان في التشريع والرقابة. لذلك فإن انتخاب أردوغان رئيسًا للجمهورية في ظل الصلاحيات الجديدة لن يكون عامل استقرار سياسي أو اقتصادي في ظل سعي هذه المجموعات الوازنة لإعادة النظر في طريقة تحركها لمواجهة طغيان النظام الرئاسي الجديد.
4- يبقى تعزيز الديمقراطية والحريات معضلة دائمة يواجهها رجب طيب أردوغان وهو مسار مغلق في ظل الهيمنة المطلقة لأردوغان على وسائل الإعلام وضيق الصدر بالانتقادات التي توجه إليه. وقد استفاد أردوغان كثيرًا من قانون حال الطوارئ الذي أقره البرلمان بعد انقلاب 15 تموز/يوليو 2016 بكمّ أفواه كل معارضيه من الإعلاميين والمثقفين في السجون وهذا كان مدار انتقاد كل تقارير مؤسسات أوروبية رسمية على مدى السنتين الأخيرتين.
5- ولعل المشكلة الاقتصادية ستبقى همًّا يؤرق أردوغان خصوصًا في ظل الضغوط الكبيرة على سعر صرف الليرة التركية وارتفاع نسبة التضخم إلى 12 في المائة وازدياد طوابير العاطلين عن العمل إلى ما يقارب عمليًا العشرين في المائة. ومع أن أردوغان يعتبر أن الناخب صوّت للاستقرار السياسي والاقتصادي لكن هذا لا يعكس عمق المشكلات الاقتصادية التي تواجهها تركيا ويمكن أن تنفجر بقوة في المستقبل.
التداعيات على السياسات الخارجية:
1- استمرار أردوغان رئيسًا لتركيا لخمس سنوات وبصلاحيات مطلقة يفرض على القوى الخارجية التعامل معه كأمر واقع. ولا يختلف الموقف من هذه المقاربة بين الدول التي ينسق معها اليوم أردوغان وبين الدول التي تمر علاقاته معها بتوترات.
لا شك أن روسيا وإيران تنظران بارتياح إلى فوز أردوغان. فهما في تنسيق عالي المستوى معه في سوريا وفي قضايا إقليمية. ولقد وضعت روسيا كل ثقلها منذ سنتين لكي يكون أردوغان شريكًا لها في الملفات الإقليمية والاقتصادية. وأعطته في سوريا وفي العلاقات الثنائية الكثير، وهو أعطاها الكثير. لذا فاستمرار أردوغان في السلطة وهذه المرة حاكمًا أوحد يثير ارتياح موسكو كما إيران خصوصًا في ظل تهيؤ الولايات المتحدة لفرض عقوبات جديدة على إيران التي كانت تجد ولا تزال في الموقف التركي متنفسًا لها في اللحظات الصعبة. مع ذلك فإن فوز أردوغان وبقاءه خمس سنوات كاملة وفي ظل نظام رئاسي جديد سوف يشجع أردوغان على رفع سقف تطلعاته وبالتالي متطلباته من روسيا وإيران كما في سوريا والعراق كذلك في المنطقة ككل وفي ملفات أخرى معنية بها كل من روسيا وإيران.
2- أما في المقلب الآخر أي المعسكر الغربي، فإن فوز أردوغان وكونه أمرًا واقعًا لمدة خمس سنوات لا يريح كثيرًا الولايات المتحدة ولا الدول الأوروبية. فواشنطن تختلف مع أردوغان في الملف الكردي في سوريا وفي العراق وهي وقفت ضده وحاولت خلعه في انقلاب 15 تموز/يوليو 2016 وهي تعارض تقاربه مع روسيا ولاسيما شراء منظومة صواريخ أس- 500 وتعاونه مع إيران وخطابه المعادي للغرب. وربما تعرف العلاقات معها توترات إضافية في حال فرضت إدارة دونالد ترامب عقوبات على إيران ولم تلتزم تركيا بها.
مع ذلك فإن واشنطن قد تعيد النظر في علاقاتها السيئة مع أردوغان كونه أمرًا واقعًا لمدة خمس سنوات. وربما بدأت مؤشرات ذلك حتى عشية الانتخابات النيابية والرئاسية عبر اتفاق منبج لإدارة مشتركة مع تركيا لمنطقة منبج وتعيين سفير أمريكي جديد في تركيا هو دافيد ساترفيلد السفير الذي له خبرة عالية في شؤون الشرق الأوسط. وربما نكون بالتالي أمام مقاربات أمريكية جديدة في العلاقة مع تركيا لإعادتها بالكامل من جديد إلى حظيرة المعسكر الغربي والأطلسي. ورفع الصوت الأمريكي أحيانًا ضد أنقرة ليس سوى استخدام أوراق ضغط لإعادة تركيا إلى الغرب. فتركيا تبقى في نظر واشنطن حاجة استراتيجية للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم لا يمكن الاستغناء عنها بمعزل عمن يكون حاكمًا في تركيا علمانيًا كان أو عسكريًا أو إسلاميًا. وكذلك فإن حاجة تركيا للغرب أكثر من استراتيجية في عدد كبير من القضايا ذات الطابع الاستراتيجي أو الظرفي. وقد تمر هذه العلاقات في فترات توتر وخلاف ولكنها لا تغير من المسار الثابت والعريض لها والقائم على التحالف منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. وفي حال حصل ذلك يمكن توقع تحولات في المشهد السوري وفي قضايا إقليمية ودولية أخرى.
3- ينسحب هذا الأمر على دول أوروبية كانت شريكة في الانقلاب العسكري على أردوغان لكنها ستكون اليوم من حيث المبدأ أكثر واقعية وتتعاطى مع شخص سيستمر خمس سنوات في السلطة. ومن المفيد التذكير أن أوروبا لم تكن منزعجة من سياسة أردوغان تجاه اللاجئين السوريين وهو الوحيد القادر على منع تدفق اللاجئين إلى أوروبا ولو مقابل مليارات اليوروات. ويمكن من هذه الزاوية توقع استمرار التفاهمات التركية-الأوروبية في ما خص قضية اللاجئين. أما بالنسبة لمسار العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي فلا يتوقع حصول خرق أساسي في ظل المواقف الأوروبية الفكرية المبدئية المعارضة لانضمام تركيا بمعزل عن أي أسباب سياسية أو اقتصادية.
4- وسوف تمثل العلاقات التركية مع كل من السعودية ومصر والإمارات تحديًا جديدًا أمام أردوغان. وما لم تظهر إشارات تركية في اتجاه تخلي أردوغان أو تعديله لسياساته السابقة فمن غير المتوقع حدوث تحسن في العلاقات مع كل هذه الأطراف. ولا يبدو أن أردوغان في وارد التخلي عن تحالفاته الإخوانية ومع قطر بالتحديد يحفزه على ذلك خلفيات إيديولوجية ومصالح مالية.
5- وفي سياق القضايا الإقليمية فإن أردوغان سيستمر في مواقفه “المبدئية” المؤيدة للفلسطينيين والمنتقدة لسياسات إسرائيل لأن لها مردودًا داخليًا وإقليميًا إيجابيًا عليه. ولكن في المواقف العملية فإن هذه المواقف لن تترجم في أية خطوة أو مبادرة عملية عقابية على إسرائيل. فالعلاقات الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية مع إسرائيل مستمرة وتشهد تحسنًا كبيرًا، كما أن الاستمرار في هذه العلاقة هو جزء من علاقات تركيا الاستراتيجية مع الغرب وحلف شمال الأطلسي والتي لا تستقيم في ظل وجود خلاف تركي-إسرائيلي. لذلك كانت تركيا تطوي صفحة الخلاف مع إسرائيل حول سفينة مرمرة وتوافق على إعادة التطبيع الكامل في نهاية حزيران/يونيو 2016 مقابل ثمن بخس هو عشرين مليون دولار كتعويض للضحايا الأتراك ومن دون تلبية مطلب تركيا الأساسي رفع الحصار على غزة. والحاجة التركية لعلاقات مع إسرائيل يفسّر عدم اتخاذ أردوغان، رغم خطابه العالي جدًا ضد إسرائيل والغرب، أي خطوة عملية مهمة على الأرض ضد إسرائيل وضد أمريكا ردًا على اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل في ربيع العام الحالي (2018).