طرحت الاندفاعة التركية العسكرية في سوريا مع عملية “نبع السلام” في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2019 واتفاقية التعاون العسكري مع ليبيا في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 وإرسال قوات تركية إلى هناك، أسئلة كثيرة عن طبيعة ومدى المشروع التركي في الهيمنة من جديد على المنطقة العربية في مشرقها وفي شمال أفريقيا كما في شرق المتوسط بعدما تلقى هذا المشروع ضربات متعددة في أكثر من بلد وقضية منذ العام 2011.
كان واضحا أن ما يسمى بـ “الربيع العربي”، كان فرصة تاريخية أمام سلطة حزب العدالة والتنمية التي عملت في سنوات ما بعد وصولها إلى الحكم عام 2002 على انتهاج سياسة الدخول المرن والناعم إلى المنطقة العربية وفق مبدأ “صفر مشكلات”. وحققت بها مكاسب مهمة في رأسها تغيير جزئي في صورة تركيا الحليفة لإسرائيل والباحثة عن إعادة توثيق علاقاتها مع المنطقة التي خرجت منها بعد الحرب العالمية الأولى.
لكن الأحداث التي عصفت بالمنطقة العربية من مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن وتونس والمغرب والأردن ومن ثم السودان حرّكت في العقل السياسي التركي بقيادة رجب طيب أردوغان المشروع الذي لم يكن يخفيه سابقا لكنه بقي في إطار التصريحات النظرية وهو التأسيس لركائز نفوذ وحضور حيث أمكنت الظروف.
وقد رأينا ذلك في أكثر من بلد ولا سيما في مصر وتونس حيث تمكنت القوى المتماهية إيديولوجيا مع حزب العدالة والتنمية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، من الوصول إلى السلطة بطريقة أو بأخرى وبدعم قوي وعلني من حزب العدالة والتنمية التركي. فيما فشلت في ذلك في سوريا تحديدا فاستعاضت عن ذلك باستراتيجية إغراق البلاد في حرب أهلية من خلال الدعم المباشر للمعارضة وبجميع الوسائل الممكنة ديبلوماسيا وعسكريا وتوجيها علّ ذلك يفضي إلى انهيار النظام وإسقاط الدولة ورأسها بشار الأسد.
مع ذلك فإن النجاح التركي في مصر وتونس لم يطل كثيرا بعدما أمعنت سلطة الرئيس محمد مرسي في محاولة التفرد بالحكم وإقصاء كل المعارضين وإقامة نظام استبدادي على غرار القائم في تركيا وهو الأمر الذي ووجه بـ “ثورة ثلاثين يونيو” 2013 والإطاحة بمرسي وتولي الرئيس عبد الفتاح السياسي الرئاسة. كذلك فقد أطيح في تونس بحركة النهضة ولم تعد المسيطرة على الحكم هناك وأعيد الاعتبار للحياة الديموقراطية بنسبة عالية.
ومع التدخل الروسي المباشر في سوريا في نهاية أيلول/سبتمبر 2015 كانت تركيا تواجه تحديات كبيرة من جانب قوة عسكرية عالمية تهدف إلى الوقوف في وجه التمدد التركي في سوريا. ولم يكن الرد التركي على هذا التحدي ديبلوماسيا بل عملت على إسقاط طائرة عسكرية روسية كانت تحلق على الحدود السورية – التركية قريبا من محافظة الإسكندرون (هاتاي) وذلك في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015.وتبع ذلك عقوبات روسية ألحقت أذى كبيرا بالاقتصاد التركي.
وشهد العام 2016 انعطافة تركية بارزة في سياساتها بل استراتيجياتها تجاه سوريا والمنطقة وروسيا. في السابع والعشرين من حزيران/يونيو 2016 كانت تركيا تطبّع العلاقات في اليوم نفسه مع كل من روسيا وإسرائيل. وكان ذلك بداية تحول نوعي في الاستراتيجيات التركية المتبعة حتى ذلك الوقت وستكون لها آثارها وتداعياتها التي تصب إلى حد كبير لصالح المشروع التركي في المنطقة.
كان كل ذلك يترافق مع اختلافات كبيرة بين السياسات التركية والأميركية ولا سيما تجاه مسألتين: الأولى هو موقف واشنطن من أكراد سوريا والثانية السياسات العامة لتركيا في المنطقة. وتبقى نقطة الافتراق الأساسية هي دعم واشنطن لقوات سوريا الديموقراطية وعصبها الأساسي قوات حماية الشعب الكردية. فقد كانت هذه القوات ركيزة السياسات الأميركية في سوريا الهادفة لإيجاد موطئ قدم أميركية في سوريا للمرة الأولى من عقود، ولاستخدام القوى الكردية أداة لتقسيم سوريا في إطار مشروع تقسيم المنطقة ككل.
لكن تركيا كانت ترى في ظهور الكيانية الكردية في سوريا تهديدا لأمنها القومي وهو ما رفضته بشدة وسبّب في إيجاد شرخ كبير بين أنقرة وواشنطن.
ولعل محاولة الانقلاب العسكرية للإطاحة برجب طيب أردوغان في 15 تموز/يوليو 2016 كان ذروة التباين بين الطرفين بعدما اتهم أردوغان واشنطن بأنها مع بعض الدول الأوروبية والخليجية تقف خلف محاولة الانقلاب.
وقد اتخذت العلاقات مع روسيا، بعد محاولة الانقلاب على أردوغان، منحى جديدا تصاعديا كانت له نتائج مباشرة في تغيير المشهد السياسي والميداني في سوريا وفي العلاقات الخارجية التركية وفي مآلات السياسات العامة في المنطقة.
الصفقة التركية- الروسية
تقاطعت الأهداف الروسية والتركية على قاعدة “رابح- رابح” بالنسبة لكل منهما من دون أن تطال هذه “الحسبة” الدول والقوى الأخرى.
كان لقاء سانت بطرسبرغ في 9 آب/أغسطس 2016 بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان محطة حاسمة في ابتداء مسار جديد في العلاقات الثنائية وفي خريطة التوازنات الإقليمية والدولية.
وضع لقاء سانت بطرسبرغ لبنة الشراكة التركية- الروسية المستقبلية مع الإبقاء على التمايزات والخلافات في العديد من القضايا.
استغلت/استفادت روسيا إلى الحد الأقصى من الخلاف التركي – الأميركي وعملت قدر المستطاع على توسيع الهوة بين أنقرة وواشنطن تحديدا وذلك من خلال جملة من التفاهمات مع تركيا والتي تمنح كل طرف عناصر قوة ومساومة في مواجهة التحديات التي يواجهانها وهي ليست نفسها لكل طرف. بمعنى أن التحديات التي تواجه روسيا ليست هي نفسها التي تواجه تركيا وهذا أفضى أحيانا إلى خلافات وشد حبال بين أنقرة وموسكو.
أعطت تركيا لموسكو المكاسب التالية:
- بناء خط أنبوب “السيل التركي” المزدوج للنفط والغاز الطبيعي عبر البحر المتوسط وصولا إلى تركيا ومنها إلى البلقان وأوروبا. وهذا يحرر روسيا من الارتهان للأنبوب الروسي المار في أوكرانيا والذي خضع لابتزاز أوكرانيا بعد الخلافات الأوكرانية – الروسية حول ارتباط أوكرانيا بحلف شمال الأطلسي. وقد دشّن بوتين وأردوغان الخط فعلا في 12 كانون الثاني/يناير 2020 .
- تلزيم روسيا تشييد المفاعل النووي في مرسين وهذا مكسب للاستثمار العلمي الروسي في الخارج.
- شراء تركيا منظومة صواريخ أس- 400 الدفاعية بعدما امتنعت واشنطن عن بيع تركيا منظومة صواريخ باتريوت لأسباب غير واضحة اعتبرت تركيا أنها بهدف إضعاف الدفاع عن الأمن القومي التركي. وبيع منظومة أس 400 كان خرقا روسيا كبيرا للمنظومة العسكرية الأطلسية كون تركيا بلدا أطلسيا. وقد كانت هذه الصفقة التي اكتملت بتمركز الصواريخ في تركيا في صيف 2019 سببا لتوترات كبيرة وجدية بين أنقرة وواشنطن.
أعطت روسيا تركيا المكاسب التالية:
- يلفت أنه مباشرة بعد اتفاقية سانت بطرسبرغ غير المعلنة رسميا، قامت تركيا بعملية “درع الفرات” العسكرية في سوريا حيث استولت على المثلث الواقع بين جرابلس وإعزاز والباب. وتلا ذلك عمليتان عسكريتان كبيرتان هما “غصن الزيتون” في عفرين مطلع العام 2018 و”نبع السلام” في شرق الفرات في خريف 2019. وساهمت العمليات الثلاث في تحرير تركيا من تهديدات الكوريدور الكردي في شمال سوريا على الأمن القومي التركي وأدخل تركيا من جديد لاعبا رئيسيا في الميدان السوري.
- عملت روسيا على تأسيس “مسار أستانا” الذي ضم روسيا وتركيا وإيران وآخرين والذي ضمن لتركيا دورا مباشرا في العملية السياسية السورية بعدما فشلت في إسقاط النظام السوري والهيمنة الكاملة على سوريا.
- مع تحسّن العلاقات التركية- الروسية أمكن لتركيا أن تلوح بهذه الورقة كما بالورقة السورية لدرء أو ربما تحجيم الضغوط الغربية الأميركية والأوروبية على تركيا في أكثر من قضية.
انطلقت تركيا في حركتها الخارجية في المنطقة وشرق المتوسط وشمال أفريقيا، بعد انفتاح الآفاق نتيجة التفاهمات مع روسيا، لتحقيق استراتيجية متعددة البعد جغرافيا وإيديولوجيا / تاريخيا وسياسيا واقتصاديا.
حدود الميثاق الملّي
تتردد دائما على لسان المسؤولين الأتراك عبارة “حدود الميثاق الملّي” عندما يتحدثون عن الأمن القومي التركي. وهو الميثاق الذي أقره البرلمان العثماني في 28 كانون الثاني/يناير 1920 ورسم حدود تركيا بعد انهيار الدولة العثمانية ووافق عليه البرلمان بمن فيهم قائد حركة التحرير الوطني مصطفى كمال الملقب لاحقا بأتاتورك. ومع أن هذا المصطلح لم يختف من الأدبيات السياسية التركية على امتداد العقود اللاحقة لكنه برز علنا ورسميا في السنوات الأخيرة على لسان معظم مسؤولي حزب العدالة والتنمية. ويندرج ضمن حدود الميثاق الملي كل الشمال السوري بما فيه حلب وشمال العراق وبعض مناطق في القوقاز وبحر إيجه. لكن الصراع في النهاية رسا، ولا سيما في معاهدة لوزان 1923، على الحدود الحالية المعترف بها دوليا. مع ذلك فقد بقي “الحنين” إلى استعادة تركيا حدودها وفق الميثاق الملي حاضرا بقوة في العقل السياسي التركي ولا سيما مع وصول حزب له أيديولوجيا دينية ومذهبية وهو حزب العدالة والتنمية لا يخفي الإشادة بتاريخ الدولة العثمانية والإشارة الدائمة إلى الإرث العثماني.
وتكفي بعض الشواهد لتأكيد النزعة العثمانية و”الميثاقية الملّية”.
منذ خريف العام 2016 بدأ أردوغان يكرر الإشارة إلى حدود “الميثاق الملّي” وربط التواجد “الإرهابي الكردي” بالمناطق التي كانت ضمن الميثاق الملي عام 1920 أي في شمال سوريا وشمال العراق. وتحدث أثناء معركة تحرير الموصل عن أن “الموصل كانت لنا”. وفي 11 كانون الثاني/يناير 2018 قال أردوغان “إن شمال سوريا كان ضمن حدود الميثاق الملي ولن نسمح بقيامة كيان إرهابي هناك”. وفي 24 كانون الثاني/يناير 2018 قال: “لا تنسوا حساسيتنا تجاه حدود الميثاق الملي. حدود الميثاق هي حيث يوجد الآن الإرهاب في شمال سوريا وشمال العراق”. أما الإعلام الموالي لأردوغان فكان يتحدث عن إحلال “درع تركي” بدلا مما وصفه بـ “الكوريدور الكردي” في شمالي سوريا والعراق.
وفي السابع من كانون الثاني/يناير 2019 تحدث وزير الداخلية التركي سليمان صويلو في مقابلة تلفزيونية مع محطة “خبر تورك” عن منطقة الميثاق الملّي في معرض حديثه عن اللاجئين السوريين في تركيا وعن الأزمة السورية عموما. قال صويلو حرفيا:” إن 62 في المئة من اللاجئين السوريين في تركيا جاؤوا من أراضي حدود الميثاق الملي. وفي معركة “تشاناق قلعه” (خلال الحرب العالمية الأولى) سقط 1102 شهيدا من سوريا. ومنذ العام 2011 قدّمت تلك الأراضي من أجل بلادهم 71 ألفا و923 شهيدا. ولا يمكن بعد هذا أن نقول ما الذي يفعلونه هنا(في تركيا)”.
وترافقت كل هذه التصريحات مع تغييرات في البنى الديموغرافية والمالية والتعليمية والدينية والإدارية والأمنية والعسكرية في المناطق التي احتلتها تركيا في سوريا بما ينسجم مع توجهات الحكومة التركية.
إن العودة إلى حدود الميثاق الملي مباشرة أو غير مباشرة كانت تقتضي ليس فقط إسقاط النظام السوري بل كذلك إضعاف الدولة المركزية في سوريا(كما في العراق) وربما إسقاطها. لذا تعمل الدولة التركية على منع عودة الدولة السورية إلى مناطق الاحتلال التركي وفي إدلب أيضا. ففي 16 أيلول/سبتمبر 2018 كان أردوغان يتحدث إلى الصحافيين الأتراك في طريق عودته من باكو عاصمة أذربيجان:” نحن لا نعترف بالنظام السوري ونحن لا نعترف بالدولة السورية. إذا كانت بعض القوى(يقصد إيران وروسيا) تقول إنها في سوريا بناء لدعوة النظام فنحن هناك بناء لدعوة الشعب السوري. في إدلب لا يحمل الناس الأعلام الروسية ولا الأميركية بل التركية” (صحف الاثنين 17 أيلول 2018).وكرّر أردوغان عدم الاعتراف بالدولة السورية كدولة، بعد عودته من قمة “سوتشي” الرابعة في 15 شباط/فبراير 2019 والتي جمعته مع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والإيراني الشيخ حسن روحاني. وغالبا ما يكرر المسؤولون الأتراك أنهم سيسلمون لاحقا المناطق التي يسيطرون عليها في سوريا إلى “أهلها المحليين” خارج أي توجه لتسليمها إلى الدولة السورية الشرعية.
وفي أواخر العام 2019 ظهرت بقوة المسألة الليبية والدخول التركي على خطها حيث وُقّع اتفاق ترسيم الحدود واتفاق التعاون الأمني بين أردوغان ورئيس حكومة طرابلس الغرب فايز السراج في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2019.وبعدها بحوالي الشهر زار أردوغان تونس وبعد عودته إلى إسطنبول تحدث عن أن “ليبيا أمانة عثمانية”( يني شفق 27 كانون الأول/ديسمبر 2019).وقد رد الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالين على منتقدي الاهتمام التركي بليبيا قائلا “إن الذي يعرف تاريخ تركيا الحديث جيدا يدرك بوضوح وبدقة أن أمن تركيا يبدأ مما خلف حدود الميثاق الملي”و”نحن يتحتم علينا أن نرسم خطا أكثر اتساعا لحزامنا الأمني لذلك نحن نهتم بليبيا” و”هذا ليس خيارا بل حتمية”( يني شفق 25 كانون الأول/ديسمبر 2019). وفي 14 كانون الثاني/يناير 2020 تحدث أردوغان عن ليبيا قائلا “إننا هناك لندافع عن أحفاد أجدادنا المتمثلين بقبيلة “كور أوغلو”. وليبيا كانت جزءا من البقية العثمانية” (صحيفة يني شفق 15 كانون الثاني/يناير 2020). وتكرر وسائل الإعلام الموالية لحزب العدالة والتنمية أن الدفاع عن تركيا لا يكون عند نقطة الصفر الحدودية بل باعتماد الهجوم مما خلف حدود الميثاق الملي في سوريا وفي ليبيا وشرق المتوسط.
وفي 30 كانون الأول / ديسمبر 2019 تحدث إبراهيم قالين لصحيفة يني شفق قائلا:” في عصر العولمة يبدأ الأمن القومي التركي مما وراء حدود الميثاق الملي. إذا لم ترسم خطا واسعا فلا تستطيع أن تدافع عن الحدود الوطنية. ولقد رأينا ذلك من خلال أكثر من نموذج. قد تبدو ليبيا للبعض بعيدة. ليبيا جارة بحرية لنا. ليبيا ليست فقط مكانا لنا معه روابط تاريخية بل أيضا إحدى الدول الأكثر تأثيرا في شمال أفريقيا. وعندما تحدث أزمة في شمال أفريقيا فإن كل دول البحر المتوسط تتأثر بها وتركيا تتأثر بها. والقول “أي شأن لنا في ليبيا؟” هي جملة تعكس نظرة ضيقة للغاية”. وهو ما يعكسه الإصرار التركي مثلا على عدم تطبيق اتفاق سوتشي في 17 أيلول/سبتمبر 2018 وعدم الانسحاب من إدلب بقول وزير الدفاع التركي خلوصي آقار في اليوم نفسه “لن ننسحب من نقاط المراقبة الـ 12 في إدلب ولن نخرج من هنا وسنبقى هنا. وفي حال تعرضنا لاعتداء فسوف نرد بالمثل”. وبعد سقوط 8 قتلى من الجيش التركي في إدلب في مطلع شباط / فبراير 2020 انتقد زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشدار أوغلو وجود تركيا في سوريا قائلا: “أي شأن لنا هناك؟” فرد عليه أردوغان في 5 شباط/فبراير رابطا الوجود التركي في سوريا بحدود الميثاق الملي:” هل يعرف كيليتشدار أوغلو أن توقيع مصطفى كمال موجود على “الميثاق الملّي؟”.
ومن هذا المنطلق الأيديولوجي تعمل تركيا على خط الاحتلال الدائم لما كان يوما ضمن حدود الميثاق الملي ومن هنا العمليات العسكرية في شمال سوريا وشمال العراق. والأخطر عمليات التغيير الديموغرافي والاجتماعي التي تقوم بها تركيا في المناطق المحتلة في شمال سوريا. وفي حال لم يستمر هذا الاحتلال فعلى الأقل يكون الحل السياسي النهائي في سوريا مثلا إقامة شريط داخل سوريا تحت النفوذ التركي.
المصالح الاقتصادية
تندفع تركيا من أجل حماية أو بلوغ أهداف اقتصادية تعتقد أنها من حقها. وتجلى ذلك في الصراع على غاز ونفط شرق المتوسط. فبعد ظهور مؤشرات على وجود النفط والغاز في حوض شرق المتوسط منذ أكثر من عشر سنوات بدأت العلاقات الإقليمية تتشكل وفق هذا المعطى تعاونا أو تنافسا.
وفي مطلع العام 2019 تشكل في القاهرة “منتدى غاز شرق المتوسط” الذي ضم كلا من مصر وإسرائيل والأردن والسلطة الفلسطينية وقبرص اليونانية واليونان وإيطاليا. وكان هدفه التعاون من أجل استثمار الطاقة المستخرجة وتصديرها إلى أوروبا عبر خط للغاز والنفط (ميديست) من شرق المتوسط يصل إلى إيطاليا ومنه إلى أوروبا. وقد كان يتطلب ذلك تحديد المنطقة الاقتصادية البحرية الخالصة لكل دولة وهنا بدأ الخلاف بين دول هذا المنتدى وتركيا. إذ رأت تركيا أولا أن المنتدى يهدف إلى عزل تركيا وتهميش دورها المهم في نقل الطاقة إلى أوروبا عبر أراضيها. ومن جهة ثانية اعترضت على اتفاقيات ترسيم الحدود الاقتصادية البحرية بين دول المنتدى والتي لم تكن تركيا طرفا فيها وبالتالي اعتبرته تعديا على حدود شمال قبرص الاقتصادية وعلى حدودها هي. ومن هنا هددت تركيا بمنع قبرص واليونان من التنقيب عن النفط في مناطق قبرص الشمالية البحرية والتي تعتبرها قبرص اليونانية جزءا لا يتجزأ من سيادة جمهورية قبرص المعترف بها دوليا على أنها تمثل كل الجزيرة. لذا اعترضت تركيا بالقوة العسكرية العديد من سفن التنقيب عن النفط والغاز العاملة لمصلحة اليونان وقبرص اليونانية وإسرائيل في مناطق تعتبرها تركيا تابعة لها ولقبرص التركية.
ومضت تركيا أكثر من ذلك من خلال توقيع اتفاقية لترسيم الحدود الاقتصادية البحرية مع ليبيا في لقاء بين أردوغان ورئيس حكومة طرابلس فايز السراج في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2019.ووفق هذه الاتفاقية فقد اتصلت المنطقتان البحريتان التركية والليبية مثل سيف قطع البحر المتوسط من ساحل تركيا إلى ساحل ليبيا دون انقطاع. وهو ما اعتبر ضربة استباقية قوية لجهود منتدى غاز شرق المتوسط كما للتنقيب عن الثروات في شرق المتوسط كذلك لسعيه مد خط أنبوب ميديست الواصل إلى إيطاليا. كذلك اتفقت تركيا وحكومة السراج على أن تقوم شركات تركية التنقيب عن الطاقة في المنطقة البحرية الليبية وهذا يستتبع تعاونا أيضا للتنقيب عن النفط والغاز على البر الليبي وما يمكن أن تقتطعه تركيا من حصص لها في الثروات الليبية. وتهدف تركيا في كل هذه التحركات إلى الاستفادة القصوى من ثروات شرق المتوسط وإلى عدم عزلها عن سوق تصدير الطاقة المشرقية إلى أوروبا باستخدام أراضيها ممرا لأنابيب تصدير النفط والغاز الطبيعي فضل عن عدم الإضرار بالمصالح الخاصة بمنطقة شمال قبرص التركية الاقتصادية والقانونية.
ولا يقتصر التطلع التركي الاقتصادي على ليبيا ودورة تصدير الطاقة عبرها من دول حوض شرق المتوسط، بل إن أردوغان صرح بعد لقائه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 أنه سيقترح على أميركا وواشنطن التعاون للاستفادة من نفط شرق الفرات التي تضع أميركا يدها عليه لتمويل إعادة إعمار سوريا في المناطق الآمنة التي تحتلها تركيا.
الصراع الإقليمي
بعد تراجع المشروع التركي للهيمنة على كامل المنطقة العربية عادت تركيا وحاولت إحياء هذا المشروع بوسائل مختلفة أولها توظيف القوة العسكرية من خلال إقامة قواعد عسكرية في بلدان بجوار دول دخلت معها في صراعات مريرة وفي مقدمها مصر والسعودية والإمارات. من ذلك إقامة قاعدة عسكرية في قطر بجوار المملكة العربية السعودية وأخرى في الصومال في الجهة الجنوبية من الجزيرة العربية وفي سواكن في السودان جنوب مصر وقبالة الساحل الشرقي للسعودية. وفي نهاية العام 2019 وقعت اتفاقية التعاون العسكري مع حكومة السراج في ليبيا. وقد أعلن أردوغان أن بلاده بدأت بإرسال قواتها إلى ليبيا مع تقارير أنه بدأ قبل ذلك بإرسال مرتزقة المعارضين في إدلب إلى ليبيا لمساعدة قوات السراج. ووفق هذه الاتفاقية فإن تركيا تنجح في العودة إلى ليبيا من الباب العريض بعدما خرجت منها بعد الإطاحة بالقذافي. ولا يخفى أن الدخول العسكري التركي على خط الأزمة الليبية له نتائج خطيرة للغاية على أمن شمال أفريقيا وتونس والجزائر والعمق الأفريقي والسودان. لكن الرسالة الأقوى والتهديد الأكبر هو لمصر التي ترى ذلك تهديدا مباشرا لأمنها القومي من جانب دولة إقليمية كبرى في نزاع ضار معها ولها أطماعها الأيديولوجية والاقتصادية والسياسية. وبطبيعة الحال تمسك تركيا بتعاونها العسكري مع حكومة السراج بورقة ضغط كبيرة استثنائية في خضم صراعها الإقليمي مع كل من مصر والسعودية والإمارات التي تقف جميعها خلف الجيش الليبي الذي يقوده اللواء خليفة حفتر. ورغم أنها حذّرت تركيا من مغبة التدخل العسكري في ليبيا فإن هذه الدول الثلاث ستجد نفسها أمام خطر داهم وأمام خطوة لا مفر منها وهو التصدي العسكري المباشر للقوات التركية في ليبيا بأكثر من وسيلة مباشرة أو غير مباشرة.
وقد اندفعت تركيا بقوة في الملف الليبي بحيث إن وقف النار في 12 كانون الثاني/يناير 2020 قد أُعلن من جانب أردوغان ونظيره الروسي بوتين كذلك شاركت تركيا وروسيا بفعالية في مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية في 19 كانون الثاني/يناير 2020. وبدا بوتين وأردوغان كما لو أنهما هما مالكا زمام المبادرة في ليبيا فيما بدا اللاعبون الآخرون كما لو أنهم مجرد لاعبين على دكة الاحتياط وليسوا في التشكيلة الأساسية على أرض الملعب.
تواصل تركيا اندفاعتها الأيديولوجية والعسكرية والاقتصادية في جوارها الجغرافي المباشر والبعيد وعلى امتداد المنطقة العربية. وهي بذلك تشكل تهديدا جدّيا للأمن القومي العربي. ولعل الخطوة الأولى والملحّة لمواجهة هذه التهديدات والتحديدات التركية تكون في إيلاء الأولوية للعمل العربي المشترك وعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية وأن تكون جزءا فاعلا من هذا العمل على أساس أنها تشكل خط الدفاع الأول عن الأمة العربية بمواجهة الخطر التركي.