ينهض الإبداع في كل المجالات: الأدبية والفنية والفلسفية، على ركنين أساسيين لا تقوم له قائمة حال غيابهما: الركن الأول هو الموهبة الفطرية التي تعبر عن نفسها “تلقائيا”، في صور من الإلهام والحدس بالحكمة الفطرية أو البيان اللغوي أو حتى التقمص الفني أو جمال الصوت الطبيعي، ولو لم يحترف أصحابها الكتابة أو التمثيل أو الغناء، فليس غريبا أن نجد رجلا أميا يتسم بـ “حكمة فطرية” وإن لم تصل إلى حد التعبير الفلسفي المُنظم، كما أن الشعراء القدامى كانوا أهل سليقة وقريحة لا أهل تعليم جامعي أو دراسة أكاديمية منظمة. ولعل بعض أبرز فنانينا وأدبائنا المعاصرين قد افتقدوا إلى تلك الدراسة العلمية، كما أن بعضهم انتظم فيها بعد أن مارس الفن فعليا وحقق بعض النجاحات فيه، مثلما أن الكثيرين منهم درسوا الطب والعلوم الأخرى قبل أن يحترفوا الأدب والفن، ويكفينا للتدليل على ذلك الطبيب النفسي يوسف إدريس، تشيكوف القصة العربية، وأيضا يحيى حقي أحد رواد الرواية العربية، ونزار قباني أحد أبرز الشعراء المعاصرين، وهو الدبلوماسي ذو الخلفية القانونية. ناهيك بالطبع عما لا يحصى من الفنانين، وعلى رأسهم بالقطع الطبيب يحيى الفخراني، والمهندس الزراعي عادل إمام.
أما الركن الثاني فيتمثل في الصنعة، أي المهنية التي تُكتسب من تعليم مُنظَم، ومهارات تُنمّى بالاجتهاد العلمي والدراسة الأكاديمية، وهو ركن يصقل الموهبة لكنه لا يخلقها، ويمنح غالبا مشروعية ممارسة المهنة لكنه لا يمنح صاحبها شرعية التألق أو الإبداع فيها، فالمجتهد بالدراسة والتعلم دون موهبة حقيقية قد يكون باحثا مجيدا في تخصصه، أو حتى معلما أكاديميا يخرج من تحت يديه مبدعون كثر، ولكنه لن يكون أبدا واحدا منهم، وحتى إذا حاول وأصر فقد يصبح مبدعا من الدرجة المتوسطة، لا يصل إلى القمة أبدا، فالموهبة منحة إلهية لا تؤتى لكل الناس، ولا تصادف جميع البشر، أما الاجتهاد العلمي فمجرد تعبير عن احترام الموهوب لها، أو محاولة تعويض غير الموهوب عن غيابها.
وهكذا يتأسس كل إبداع على خلطة سحرية من الموهبة التلقائية، والصنعة المنظمة، تتفاوت نسبتها حسب كل مجال، ما ينعكس على العمر الذي ينضج فيه المبدع، وهو أمر يشي به علم نفس الإبداع، مثلما تشي به الملاحظة التجريبية. فمثلا نجد أن المطرب يتألق صغيرا جدا، ربما وهو طفل لأن موهبته طبيعية جدا، لا تحتاج إلا لصقل بسيط. وأيضا يبرز الشعراء في عمر الشباب الباكر لأن الشعر سليقة فطرية وخيال محلق، يحتاجان فقط إلى محاولة التعبير عنهما، أما مبدعو القصة القصيرة، فينضجون في عمر أكبر قليلا من عمر الشعراء، لأن في القصة القصيرة بعض سمات الشعر وعلى رأسها التركيز الشديد والشفافية العالية والاكتناز في التعبير، ناهيك عن وحدة الموقف النفسي، الذي تعبر عنه القصة المثالية بوحدة المشهد الحياتي على منوال القصيدة التي تعبر عنه بوحدة الموقف الشعوري. أما الإبداع في الرواية فيتأخر نسبيا قياسا إلى القصة لأن الرواية انعكاس لتجربة حياة متمدينة، ومن ثم تحتاج إلى خبرة مركبة نوعا، لا يحصل عليها المرء سوى في سن النضوج، حتى أن من يبدؤون في كتابتها صغارا لا يبرزون فيها إلا متأخرا نسبيا. وأخير يأتي الإبداع الفكري والفلسفي متأخرا عن كل صنوف الإبداع الأخرى لأنه رهن الدراية والحذق في تأمل التجربة الإنسانية بل والإحاطة بها، ما يلزم المفكر أو الفيلسوف بفحص تواريخ الشعوب والظواهر والأفكار التي ينوي الكتابة عنها أو الإبداع فيها، وهو أمر يحتاج إلى زمن أطول نسبيا.
الخيال كوعي متمرد
يرتبط الإبداع بالتمرد على السائد والمألوف والسعي إلى خلق المغاير والمختلف عبر شق الدروب الجديدة وتمحيص الحقائق الراسخة والتشكك في السائد والكشف عما هو خفي. وعلى هذا فالتمرد هنا لا يعني العناد الطفولي القاصر الذي يذهب بالشخص إلى الرفض الساذج لكل ما هو موجود، بل يعني الرغبة في الريادة ومحاولة كشف المفقود، سعيا إلى توسيع أفق التجربة الإنسانية، واكتشاف ممكنات الإنسان، فكم من أحلام لمبدعي الأدب والفن تمكن العلم من تحقيقها بعد سنوات أو عقود، فالتمرد هنا بمثابة خيال يتحرك على حواف الزمن، يلتقط للإنسان كل ما يمكن أن يواجهه أو يستطيع تحقيقه في المستقبل سواء القريب أو البعيد.
وكي لا نغرق في التنظير هنا نود أن نضرب مثلا دار حوله جدل قبل أعوام، أساسه ملاحظة ذكية تقول: إن أبدع الكتابات حول الإسلام ونبيه الكريم (صلى الله عليه وسلم ) ثم صحابته الراشدين قد صدرت عن أقلام مفكرين ليبراليين، وليس بأقلام كتاب ينتمون عموما لما يمكن تسميته بالظاهرة الإسلاموية! حيث بدا الأخيرون عاجزين عن مضارعة نظرائهم الليبراليين كالدكتور محمد حسين هيكل في سيرتيه عن الرسول الكريم والصديق أبي بكر، وعباس محمود العقاد في سلسلة العبقريات، الأكثر كشفا عن جوهر الإسلام العظيم، واستجلاء لروحانية أبطاله المؤسسين. بل إن من كانوا ميالين للإبداع الأدبي أو الفكري أو قريبين منه في بدء حياتهم، سرعان ما هجروه بمجرد انتمائهم للظاهرة الإسلامية، كسيد قطب، الذي انتقل من رحابة الإبداع في النقد الأدبي، التي مكنته يوما من أن يقدم نجيب محفوظ للجمهور، إلى غلظة الفكر التكفيري التي جعلته يدين الفن كله والأدب على عمومه، ليخرج من بين مريديه من حاول قتل نجيب محفوظ نفسه بعد أن صار رمزا للأدب العربي في العالم كله. نحن هنا أمام تساؤل إشكالي حول علاقة التمرد بالإبداع؟.
ولو أننا توقفنا عند العقاد وسلسلة عبقرياته التي أبهرت كثيرين بكشفها عن مفاتيح شخصيات الصحابة الأولين، لأمسكنا بطرف الإجابة، فالمفكر الكبير اتخذ من مفهوم (البطولة) مدخلا لفهم التكوين النفسي لعظماء التاريخ الإسلامي، مركزا على الذائقة المتفردة التي صنعت شخصياتهم، وحفزت تضحياتهم الكبيرة، كاشفا عن جوانب التفرد الإنساني لديهم، لأنه كان متحررا وجدانيا من المعتقدات الشعبية، وعقلانيا من المسلمات السائدة، حائزا لروحانية شفافة تهيم على شتى جوانب الحقيقة الإنسانية، بهدف استجلاء أعماقها، وتلك هي غاية المبدع، فهو لا يخلق حقائق جديدة بالضرورة، بل يقدم إضاءات جديدة للوقائع المألوفة، وينفخ الروح في الكلمات المعروفة، ليصوغ منها القصائد والقصص والفلسفات، فالجديد في ما يقدمه المبدع ينبع من ذاته، ووجدانه ورؤاه الخاصة.
لقد تمكن العقاد إذن من الكشف عن جوانب تفرد أبطال الإسلام الكبار لأنه كان يمتلك ذلك الوجدان المتفرد، التي انعكست عليها جوانب تفرد هؤلاء الأبطال، ما يعني أن الإنسان لا يكون قادرا على كشف أبعاد لا يوجد ما يضاهيها لديه، فالإبداع الحقيقي صورة للمبدع، ولن تجد إنسانا غير متحرر قادر على الإبداع، وقد بلغ العقاد قدرا من التحرر لم يتورع معه عن سب الذات الملكية دفاعا عن حق رآه، وهو ضرورة احترام الدستور، ما أودى به إلى السجن، الذي لم يفقده شجاعة الروح، فخرج منه أكثر شراسة في الدفاع عن الحرية. ولم يكن ذلك أمرا غريبا عليه بل امتدادا لما كان في شخصيته من اعتداد بالنفس، واعتزاز بالرأي، وقدرة على الاستغناء عن الآخرين.
ولم يكن في ذلك نوع من الغرور بل نوع عميق من الشعور بالثقة والجدارة، لا يمكن له أن يكون أو يترسخ من دون إيمان عميق، ولكنه ذلك النوع الرهيف من الإيمان، الأقرب إلى روحانية الحدس الصوفي، الموصول بالله مباشرة، حيث يشعر معه الفرد عميقا بذاته عندما يشعر بأن الله يسكنه، مدركا المعنى الجوهري لعقيدة التوحيد: (لا إله إلا الله) حيث تثبت الوحدانية الحق لله، الحرية الكاملة للإنسان، خصوصا لو أدرك الإنسان المغزى العميق للحديث القدسي المؤكد على أن أهل السماء والأرض، ولو اجتمعوا، لا يستطيعون أن يضروه أو ينفعوه بشيء لم يكتبه الله له أو عليه، فمع هذا الإدراك يملأ اليقين الإنسان بأن قدره ليس ملكا لسواه، وأن أمره كله بين يدي خالقه، رزقه وعمره، ولأن الله عادل ورحيم، يتحرر الإنسان من كل سطوة عدا ضميره وحده الذي يصير لديه هو الحاكم بأمره، فيما لا يساوي حكام العالم عنده شيئا .
وفي المقابل، ولأن التربية العقلية لدى الجماعات الدينية، تغفل هذا الجانب العميق في الإيمان، بينما تحرص على استدعاء جوانب التقليد والتراث فيه، حيث ينمو دور الصنعة ويقل دور الموهبة لأن التقاليد هذه ليست إلا جوانب اتباعية تنهض على قواعد مدرسية ونقول متوالية (عن.. عن..)، تعلم الناس كيف يكونون حواريين وأتباعا، لا متمردين وأحرارا، يستندون لا إلى فهمهم الوجداني الخاص للحقيقة الإلهية، بل إلى الفهم الموروث عن شيوخهم، وهو أمر يتناسب مع مطامح قادة هذه الجماعات إذ يمكنهم من تقنين قواعد للسمع والطاعة وتشكيل عقلية قطيع لدى أعضائها، ليسهل على أولئك القادة تحريكهم ودفعهم في الاتجاه الذي يريدون. ولذا كان أولئك أبعد الناس عن استكشاف جوانب التفرد والتمرد لدى الآخرين، ولو كانوا أبطال العقيدة التي يؤمنون بها لأنهم لا يملكون من تلك الجوانب ما يدفعهم للشعور بها وحسن تقديرها، وحتى لو كان أحدهم يمتلك فطريا جزءا منها، فإن نمط التعليم التلقيني الذي يتعرض له، والمنهج الاتباعي الذي يهيمن عليه، إنما يطمسها لديه.
ولأن الإبداع صنو التمرد، نرفض تماما ما جرى ويجري من محاكمات للمبدعين في شتى المجالات لأسباب تخرج عن معايير الإبداع ذاتها، أي خارج مفهوم النقد. نعم قد تصدر أعمال يتدنى مستوى الإبداع فيها عما هو ممكن أو مطلوب، وقد يتسم بعضها بالجرأة على المحرمات الدينية أو السياسية. غير أن المشكلة الكبرى التي تثور هنا تتعلق بسؤال رئيس وهو: من الذي يملك الحق في توصيف قيمة المنتج الفكري أو الأدبي؟ فأيا ما كان هذا الشخص أو تلك الهيئة التي يمكن أن توُكل إليهما تلك المهمة، سنجد أنفسنا تلقائيا أمام سلطة قمع تمارس الرقابة على ضمير المثقف من دون ضمان حقيقي لنزاهة ضميرها هي ذاتها، فإذا ما قامت بحجب عمل تافه اليوم، فالمؤكد أنها سوف تحجب عمل قيم غدا وآخر أكثر قيمة بعد غد, وثالث عظيم في اليوم الذي يليه.. وهكذا. وإذا ما تم المنع اليوم بحجة الحفاظ على القيم الأخلاقية للمجتمع، وهو هدف جدير فعلا بالاحترام، كما جرى لرواية أحمد ناجى “استخدام الحياة” قبل سنوات، فقد تم بالأمس حصار ومحاكمة وسجن بل وقتل الكثيرين بحجة ازدراء الدين لمجرد أنهم اقتربوا من التراث الديني وقدموا حوله اجتهادات غير مألوفة، لا تنسجم مع التيار التقليدي الاتباعي السائد. والأغلب أن يتم المنع في الغد لسبب سياسي، وهنا جوهر القصيد؛ فإطلاق يد السلطة في توسيع دائرة المحرمات وعقاب المبدعين هدفه النهائي إقامة مجتمع مغلق. وحتى إذا لم يكن صاحب السلطة واعيا بذلك منذ البداية، فسينتهي به الأمر إلى ذلك المنحى في النهاية، وعندها قد يجد نفسه في وضع مريح، ليس فقط قادرا على العصف بالرؤى المغايرة للسائد، بل وعلى تجنبها من المبتدأ، بعد أن يصير المبدع نفسه تدريجيا، خوفا من السلطان أو جلبا لعطفه، رقيبا على ذاته، وعندها يصل إبداعه إلى حد الخواء، وقوفا عند هدف التسلية والإمتاع، وتلك وصفات الأدب الساكت، والفكر الساكت، المميزين لكل مجتمع مغلق، يسوده الركود قبل أن تهاجمه العواصف، التي لا يمكن توقعها ولا تجنبها فيما العقل والفكر يخيم عليهما الصمت.
على العكس من ذلك يؤدي فتح الآفاق للإبداع تدريجيا إلى تحسين بيئته والقضاء تدريجيا على الغث منه. قد يُصدر هذا الأديب عملا رخيصا، أو تلقي هذه الشاعرة بجملة منفلتة، أو يطرح هذا الكاتب رأيا شاذا، ولكن إتاحة أعمالهم دون تجريم، يبقيها ملكا للذوق الفردي، ليقوم الناس بفرزها دون عنت واستهجانها دون قيد. وتدريجيا يتم إقصاء الرديء والمنفلت وتكريس الجيد والمفيد، في علاقة حرة بين المبدع والجمهور. أما التحريم بالمحاكمة والسجن فلا يؤدي إلا لرواج تلك المنتجات الرديئة ومنفعة ناشريها وإحالة منتجيها إلى أبطال للحرية، يتوشحون بأوسمة الشجاعة الفكرية دون استحقاق، خصوصا في زمن فائق التكنولوجيا، يملك آليات انتشار بالغة الاستثنائية، قادرة على تجاوز أي سلطة من أي نوع وفي أي بلد.
يفرض ذلك على مؤسساتنا التعليمية ثم الثقافية الاضطلاع بمهمة تربية أطفالنا على الحس النقدي، صوغا لمجتمع قادر على التعاطي مع شتى أطياف الفكر. كما يفرض على إعلامنا ترشيد المجال العام عبر أدواته الذاتية بدلا من التلاعب بغرائزه، وذلك بحصار تيارات التطرف والإلحاد، والخرافة، ورفع الكارت الأصفر في مواجهة قادتها، على نحو ينزع الشرعية الأخلاقية عنهم، ويدمر قنوات تواصلهم مع جماهيرهم وقد يعيدهم إلى جادة الاعتدال، بدلا من الإفراط في رفع الكارت الأحمر من قبل السلطة القضائية، دفعا بهم إلى السجن أو الهجرة، ما يقلل من فرص الجدل الفكري لصالح استقطاب مجتمعي، تنطلق في سياقه دانات المدافع من خلف خطوط النار الملتهبة بين جانبين يرى كل منهما أن لا حياة له إلا على جثة الآخر، فيما الثرثرة حول هوامش الأمور تعطل الحوار حول متون القضايا.
الإبداع الفني كتشريع جمالي
عندما يتذكر المرء كيف كانت حفلات سيدة الغناء العربي أم كلثوم وكيف كان حضورها يستمعون في نشوة صامتة وكأنهم في طقس تعبدي مقدس مشحون بالإيمان. وعندما تهامس آذانه موسيقى جندول عبد الوهاب وكليوباتراه في شبه صخب ملحمي مستوعب لأفق تاريخي يشعر به الفنان وينفعل به المتلقي. ثم وهو يصغي إلى أنات المبدع فريد الأطرش صاحب أشجى ألحان العربية وأطرب أصواتها إذ كانت دقات عوده تكاد تخلع القلوب من مواضعها إلى حيث تتحرك الأوتار. وبالذات عندما تخايله صورة الفنان عبد الحليم حافظ في حالته “الصوفية” فاقدا الشعور بالوجود المادي من حوله، مندمجا إلى حد التماهي في الكلمة التي ينطقها، ومنتشيا إلى درجة التوهج باللحن الذي يصاحبه، فيأتي صوته بالصدق اللانهائي. وآخرا عندما تلتاع روحه مع فيروز تلك الروح النبيلة وهي تناجي مدينتنا السليبة زهرة مدائن التاريخ والأديان رمزا لشرف الأمة الضائع في همس صاخب كأنه صوت الضمير الذي لا يعلوه صوت آخر.
عندما يتذكر المرء ويخايل هؤلاء بالذات وكثيرين حولهم يشبهونهم أو يقتربون منهم، يدرك كيف كانوا يفهمون الغناء كعمل مقدس، وكما أن لكل مقدس طقوسه التعبدية التي تصل بمؤمنيه إلى حالة النشوة الروحية، فقد كان لكل من هؤلاء طقوسه التعبيرية، بدءا من اختيار الكلمة بعد تدقيق، واللحن عبر إحساس، وحتى الأداء بكل صدق أمام جمهور متذوق ينطبع بدرجة من الاحترام الصادق وصولا إلى النشوة الفنية الكاملة. هذا الطقس الفني ربيب التصور الحداثي لدور الفنان باعتباره ذاتا مبدعة لقيم وجدانية وإنسانية تجعل منه مشرعا جماليا وأخلاقيا، وكذلك لدور الجمهور باعتباره متلقيا لهذه القيم بدافع نهمه إلى الرسائل العاطفية والوطنية التي يحملها، فالفنان المشرع هو الابن الطبيعي للحداثة وما أنتجته فلسفاتها من ذات إنسانية اكتسبت موقعا مركزيا في الوجود، وفي التاريخ الإنساني باعتبارها خالقة للمعاني النهائية والفضائل الجماعية، التي يتم تداولها والاحتكام إليها داخل هذا التاريخ نفسه .
هذا الطقس جسدته في الثقافة الغربية أعمال الموسيقيين العظام منذ عصر الباروك (الممتد في القرنين السابع، والثامن عشر)، أي بين عصر النهضة (القرن السادس عشر) وموسيقاه التي كانت لا تزال تختلط بطابع ديني وروح كنسية حتى نهاية السادس عشر، وبين العصر الحديث (مطلع القرن التاسع عشر) وخصوصا باخ، وهيندل، وهايدن وموتسارت، والفرنسيين مارك أنطوان شاربانتييه، وكوبران، ورامو، وجان باتيست لولي، والإيطاليين مونتيفردى الذي عاش بين عامي (1557ـ 1643) ومثل جسرا بين عصر النهضة وعصر الباروك، وأليساندرو سكارلاتى، وأركانجيلو كوريللى، أنطونيو فيفالدي صاحب الكونشيرتو الشهير “الفصول الأربعة”. ثم أعمال الموسيقيين الكبار في القرن التاسع عشر بارتولدي مندلسون، وموديست موسورسكي، وبيتهوفن العظيم، وريتشارد فاجنر الذي حاول التعبير بموسيقاه عن الروح القومية الألمانية، وكان ملهما للفيلسوف الكبير نيتشه خصوصا في مرحلة شبابه. وفي القرن العشرين نجد هذا الطقس وقد تمدد إلى المطربين الكلاسيكيين الكبار الذين وقفوا على خشبة المسرح التقليدي ليمارسوا طقوسا فنية ويكرسوا قيما جمالية أمام جمهور يحسن التلقي، وينفعل بالمتلقي، فلا أحد ينسى مثلا الأمريكي فرانك سيناترا الذي أذاب قلوب شباب العالم برقة صوته، والإسباني خوليو إجلاسيوس ذا الصوت الشجي بالغ التعبير .. وغيرهم كثيرون ممن استطاعوا تجسيد القيم المتسامية لفن الغناء في طبعته الحداثية.
وفي المقابل يمكننا الادعاء بأن الثقافة المصرية/ العربية تمكنت من تطوير حداثتها الفنية عبر موجتين أساسيتين كانتا بمثابة الجذر الذي تنتسب إليه جل الرموز الفنية العربية التي تحدثنا عنها:
الموجة الأولى تمتد بين نهايات القرن التاسع عشر وبداية العشرين وسادتها روح الأصالة المتأثرة بالفلكلور والغناء الشعبي المصري مع نزوع متدرج نحو التحديث، وقد مثل خالد الذكر الفنان سيد درويش قمتها بامتياز معبرا بروح شرقية عربية عن الشخصية الوطنية الآخذة في التبلور والمتوثبة نحو التحرر والنهوض، في موازاة ميلاد طبقة وسطى مصرية قوامها النخبة العسكرية التي التحقت بجيش محمد علي، والشريحة البيروقراطية التي تشكلت في هياكل وقوالب الدولة المدنية الوليدة، أي دولة عصر التنظيمات التي ولدت وتنامت هياكلها الحديثة في ظل الاستعمار، حتى ولو لخدمة مصالحه.
أما الموجة الثانية فتمتد بين عشرينات وسبعينات القرن العشرين، في موازاة الحداثة الثقافية المصرية التي شهدت ذروة صعودها بين نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن الماضي، وذلك على أرضية الدستور المدني، والتجربة الليبرالية، والطبقة الوسطى المدنية المتنامية، التي باتت تحلم بفن حديث، يعكس أحلام الوطنية المصرية الصاعدة، وهو الفن الذي كرست له الإذاعة المصرية التي بدأت بثها عام 1934م بأغنية لأم كلثوم، تلت مباشرة صوت قارئ القرآن الكريم.
لقد شارك في ترسيخ موجة الحداثة الثقافية هذه، مبدعون كثر على شتى الأصعدة من قبيل د. عبد الرازق السنهوري ودوره في ترسيخ الحداثة على الصعيد القانوني، وكتابات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل وعلي أحمد باكثير ويحيى حقي ومحمد عبد الحليم عبدالله، وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس على الصعيد الأدبي، فضلا عن الفتوحات الكبيرة لصلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، وأحمد عبد المعطي حجازي على الصعيد الشعري. وأيضا الكتابات المتأخرة لطه حسين، فضلا عن عباس محمود العقاد، ومحمود شاكر على صعيد الوعي بالتراث الإسلامي تاريخا وشخوصا وعيا نقديا ومنهجيا لا يعادي الإيمان. وفي القلب من ذلك كله عملية صياغة فكر عربي حديث، يستوعب التراث ولكن مع تجاوز بنائه السلفي على صعيد المضمون والقضايا، بل وطريقة العرض والتأليف، تلك التي ارتاد أفقها الأستاذ أحمد أمين ومن حوله المدرسة الفلسفية النشطة في الترجمة والتصنيف ثم التأليف داخل وحول قسم الفلسفة بآداب القاهرة، والتي ضمت توفيق الطويل، ويحيى هويدي، وعثمان أمين، وزكريا إبراهيم، وفؤاد زكريا وعبد الرحمن بدوي، والتي كان قد صاغ منطقها العام وجسد ذروة تألقها بدأب وحذق الفيلسوف العربي الكبير د. زكي نجيب محمود في مشروعه التوفيقي البارز الذي مثل ذروة الوعي العربي النظري والفلسفي بقضية النهضة ومعضلة الحداثة.
وفي قلبها كان الفن المصري العربي على يدي رموز كثر، حيث برز المثال الكبير محمود مختار على صعيد النحت، ومحمود سعيد على صعيد التصوير، ورمسيس يونان ومن حوله الكوكبة المتمردة من جماعة الفن والحرية على الصعيد التشكيلي، أما الموسيقى فشهدت طفرتها الكبرى على يدي زكريا أحمد ومحمد القصبجي وصالح عبد الحي، وخصوصا رياض السنباطي الذي دشن مع عبد الوهاب بوجه خاص حداثتنا الموسيقية التي استوعبت الأدوات والوسائل الموسيقية الغربية كالأورج والبيانو مع الأدوات الموروثة في تكامل فني مثير استلهم الشخصية المصرية والروح الشرقية من جانب، وتجاوب مع إيقاع العصر من جانب آخر.
ما بعد الحداثة.. موت المبدع
على العكس من فلسفات الحداثة ونظريتها الثقافية، حيث يحتل المبدع دورا مركزيا في العملية الفكرية والإبداعية، فإن النظرية الثقافية لـ “ما بعد الحداثة” والنافية لمطلقات الحداثة، وعلى رأسها مركزية الذات الفردية، إنما تنفي أولوية “المبدع” ودوره في التشريع الجمالي والأخلاقي للمجتمع، لحساب أولوية “المتلقي” حيث يموت المؤلف أو يذبل ويعيش القارئ أو يزدهر. انعكست ما بعد الحداثة على الصعيد الفني في النزوع إلى تهميش دور الفنان لصالح دور الجمهور، إذ امتدت مقولة رولان بارت عن “موت المؤلف” بسهولة إلى موت الفنان مؤلف “الطقس الفني”، ومقولة “حياة القارئ” إلى “حياة المستمع” متلقي “الطقس الفني” الذي اكتسب حرية أكبر في تذوقه.
وهنا نشأ طقس فني جديد على الصعيد العالمي، أخذ ينمو منذ ستينات القرن العشرين، في إطار تصاعد حركات التمرد وثورات الشباب متباينة المشارب والنـزعات التي عمت العالم آنذاك، باتجاه جنونية الروك أند رول، وصخب الجاز، وتقاليع البوب التي أنتجت ظواهر غنائية بحجم مايكل جاكسون، ونوع مادونا، وذلك ضمن ظواهر أخرى أدبية وعلمية، وتكنولوجية، اعتبرت جميعها الإرهاص العملي والسلوكي لما تمت صياغته بعد ذلك نظريا وفلسفيا من منهجيات وتيارات ما بعد حداثية وخاصة ذلك التيار الذي ينادي بـ “فلسفة الحياة اليومية” بحيث تصبح لغة الحياة اليومية وسلوكياتها هي مركز العملية الفكرية، ونقطة إلهام العملية الفنية اقترابا من الحركة الدائبة للواقع، وتجاوبا مع اللغة اليومية للشارع، وابتعادا عن الأنظمة الفلسفية الكبرى، والسرديات / الأبنية الفكرية والتاريخية الحاكمة لمناهج المعرفة ومعايير التذوق الجمالي والأخلاقي الحداثي.
وتجاوبا من الثقافة العربية مع هذه الروح ما بعد الحداثية وبعد نحو عقدين تقريبا بدأ طقس فني جديد يحتل ساحة الغناء في القاهرة وبيروت بالذات وينتشر من كلتيهما إلى معظم البلدان العربية بديلا للطقس الفني المتسامي لدى رواد حداثتنا الفنية تمت تسميته في طوره الأول بـ “الأغنية الشبابية” وهي تسمية خاطئة لأنها تستمد منطقها من معيار جيلي لا فني يقع خارج العملية الإبداعية، وربما كان الأوفق تسميتها بالأغنية الصاخبة التي شهدت ركض المطرب على خشبة المسرح ورقص الجمهور في قاعاته وبين مقاعده. وفي طوره الثاني بـ “أغنية الفيديو كليب” والتي يمكن تسميتها أيضا بـ “الأغنية الراقصة” التي جعلت من الحركة الإيقاعية بل والرقص الشرقي، مع الإخراج السينمائي جزءا مركزيا من الأغنية يصعب تذوقها بدونه. ثم كان التحول الثالث نحو “الأغنية العارية” التي تقوم على دمج واضح بين الفن الحداثي وفن أماكن اللهو، وتستدعي عالم ومثل الكباريه الراقص في لوحات تعبيرية راقصة تشاهد ولا تسمع.
وما بين هذه الأطوار الثلاث تم تقويض “المسرح التقليدي” باعتباره الأساس المكاني للفن الحداثي، والذي كان المطرب “الفنان” قد اعتبره المنبر الأساسي لإعلان رسالته الفنية. ثم تقويض المكونات الفكرية والجمالية لهذه الرسالة نفسها أمام زحف لغة الشارع التي فرضت نفسها حتى على مسميات أغنياته من قبيل “قم أقف وأنت بتكلمني” و”هاتلي حد كبير أكلمه” و”بحبك يا حمار” وغيرها من الأعمال التي تختلف اختلافا واسعا بين مصادر إنتاجها، أو قنوات ترويجها، ولكنها تتفق في ملمحين أساسين يؤسسان لنمط جديد من النشوة الفنية لا يعتمد معيار الصدق الفني الحداثي القائم على إبداع قيم عقلية ووجدانية وجمالية، ولكن معيار آخر هو التشظي الفني ما بعد الحداثي؛
الملمح الأول: ذبول قيمة المطرب ودوره الذي يتراجع من موقع “المبدع” النهائي للرسالة الفنية، إلى موقع “المنظم” للطقس الفني، والذي لا فضل له إلا الإعلان، بصعوده إلى خشبة المسرح، عن جاهزية المكان، حيث يبدأ الطقس وينهمك الجمهور في دوره الراقص، متجاوبا مع حضور المنظم وصانعا لنشوته الفنية الخاصة دونما انتظار لتلقيها. يلي ذلك قيام “المطرب المنظم” بتلقي التهنئة على دوره المحدود بغض النظر عن جمال اللحن، أو صدق الكلمات، أو طبيعة الصوت، حيث صار المعيار تنظيميا لا فنيا.
والملمح الثاني: بروز دور الجمهور كمشارك أساسي في الطقس الفني، تتحقق نشوته بنجاحه في إنزال المطرب المنظم من موقعه المتعالي “كفنان حامل للقيمة”، إلى موقع “الشريك العادي” في طقس أشبه بحفلات الزار الجماعي التي يستطيع فيها كل فرد التعبير بحرية ملموسة عن هواجسه وآلامه الإنسانية، أو أشواقه العاطفية المحرومة، أو حتى عن خواء روحي يشعر به لدوافع ثقافية أو سياسية ولكنه لا يرغب في أن يتحاور حولها موضوعيا إما ليأسه من إمكانية حلها، وإما للتعبير عن احتجاجه على السلطة السياسية والأخلاقية المولدة لها، ولذا فليس غريبا أن يكون الشباب في سن المراهقة أو أكبر قليلا هو العمود الفقري لجمهور هذا الطقس الفني حيث المرحلة العمرية، والظرف السياسي جميعها عوامل تحرك لديه ملكة التمرد على كل سلطة أخلاقية أو فكرية، بل وعلى الحضور الموضوعي للعقل ذاته.
ثم كان التطور الأخطر متمثلا في ذلك الاختلاط العبثي بين مطربي الأفراح والفنادق، وأماكن اللهو الذين طالما اعتبروا مطربي مناسبات وجمهور خاص، وبين مطربي وجمهور التيار “العام”، فإذا بالمطرب يبدأ ليلته في مسرح وأمام جمهور عام، وينهيها في فرح أو ملهى ليلي مع جمهور خاص، وهو التطور الذي كسر دوائر النقد الفني وفتح الباب أمام علاقة مباشرة بين الجمهور وبين كل من لديه القدرة على رفع “عقيرته” ليتحول إلى ظاهرة رائجة بالمعايير التجارية التي تكاد ترتبط بعلاقة عكسية مع المعايير الفنية والذوق السليم، وهو ما يبرر وصف وضعية الفن العربي راهنا بـ “الأزمة” إذ يتآكل ما يمكن تسميته بـ “التيار الرئيسي” الذي كانت تقوم على إنتاجه المؤسسات الحديثة المرتبطة بالثقافة “العالمة” على منوال معهدي الكونسرفاتوار، والموسيقى العربية، ودار الأوبرا المصرية وحتى الإنتاج الكلاسيكي للإذاعة والتليفزيون، كما تسهم في ترويجه مهرجانات جرش، وقرطاج، وبيروت، والقاهرة، وذلك أمام التيار الجديد/ الراقص/ العاري الذي تساهم في ترويجه الفضائيات التجارية، وأماكن اللهو الليلي، ويكاد يتحول الآن إلى النغمة الأساسية في الفن العربي، وتلك كارثة ثقافية، وليس فقط فنية، لمثل الحداثة العربية.