تقديم
حرصت الكثير من دول العالم على إيلاء الاهتمام الكافي لمجال البحث العلمي، اقتناعا منها بحيوية هذا القطاع وانعكاساته الإيجابية على تحقيق التنمية والتطور، حيث خصّصت له إمكانيات مالية وتقنية وبشرية هائلة، كسبيل لكسب عدد من الرهانات والمعارك المختلفة.
لم تخطيء هذه الدول الاختيار، فقد استطاعت أن تحقق بفعل ذلك، مكتسبات هامّة بوّأتها مكانة محترمة بين الأمم، واستطاعت بذلك أن تكسب رهانات داخلية متصلة بتحقيق التنمية، وأخرى خارجية على المستويات الاقتصادية والاستراتيجية.
تشير الكثير من الدّراسات والتقارير العلمية إلى حجم الإشكالات التي تواجه البحث العلمي في المنطقة العربية على عدة مستويات، ما يؤثّر بالسلب في مسارات التنمية، وفي مواجهة عدد من التحديات..
كشفت الأزمة التي خلّفها انتشار فيروس كوفيد 19 في مناطق مختلفة من العالم، أهمية البحث العلمي وحيوية الاستثمار في هذا المجال، كمدخل لتطويق الوباء بسبل علمية ومستدامة، ومواجهة مختلف الأزمات والكوارث المحتملة في المستقبل.
أولا- إشكالات البحث العلمي العربي في المنطقة العربية:
انعكست الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية التي مرّت بها المنطقة العربية، على مناخ البحث العلمي، فهذا الأخير لا ينتعش عادة إلا في مناخ تطبعه الحرّية والديمقراطية.
أثّرت الكثير من العوامل بالسّلب على مصداقية وموضوعية البحث العلمي في عدد من الدول العربية، وعلى إسهاماته المفترضة في تنوير المجتمع وتحقيق التنمية، سواء تعلق الأمر بالسياسات العمومية التي لا تُولي أهمية كبرى لهذا القطاع الهام، أو التشريعات التي مازالت بحاجة إلى مزيد من التطوير، ما خلق حالة من الشكّ والحذر بين صانعي القرار من جهة والباحثين من جهة أخرى…
تقاس أهمية الجامعات ومراكز الأبحاث في عالم اليوم بحجم إسهاماتها العلمية، وبدورها في تقديم حلول لقضايا ومشاكل مختلفة، وقد استطاعت الكثير من النظم في الدول المتقدمة أن تستثمر مخرجات البحث العلمي في تطوير مجتمعاتها وعقلنة قراراتها المختلفة، خصوصا وأن العلم يهدف بالأساس إلى “حلّ المشكلات ووضع التعميمات بعد التنقيب الدقيق عن جمع الحقائق المتعلقة بالظاهرة المراد دراستها، بالإضافة إلى تحليل جميع الأدلة التي يتم الحصول عليها، وتصنيفها تصنيفا منطقيا، فضلا عن وضع الإطار المناسب لتأييد النتائج التي يتم التوصل إليها”([1])
يعاني البحث العلمي في المنطقة من مجموعة إكراهات، من بينها المشاكل الإدارية المرتبطة بغياب سياسات وخطط استراتيجية.. وضعف التنسيق والتعاون بين البلدان العربية في هذا المجال، بل وبين مختلف الجامعات حتى داخل البلد الواحد.. إضافة إلى تفشّي المشاكل السياسية المتمثلة في عدم الاستقرار الذي يُعتبر قاعدة أساسية للبحث العلمي.([2])
تكشف أوضاع البحث العلمي العربي عن وجود بون شاسع بين الجامعات ومراكز البحث من ناحية أوليّ، ومحيطهما الاجتماعي من ناحية ثانية، بفعل إهمال مخرجاتهما وعدم توفير الشروط الكفيلة واللازمة لاشتغالهما وتطوير أدائهما… ويبدو أن المركزية المفرطة السائدة في تدبير الشؤون العامة في عدد من الأقطار، انعكست بشكل كبير على أداء هذه المنظومة وعلى أدوارها المفترضة داخل المجتمع.
ساهم البحث العلمي على امتداد مناطق مختلفة من العالم في إرساء مجموعة من الإسهامات الفكرية والفلسفية والإنجازات العلمية التي كانت لها انعكاسات إيجابية كبيرة على مستوى تطوير الحياة الإنسانية، وتحقيق التنمية والرفاه…
لا تخفى أهمية البحث العلمي والتعليم داخل المجتمعات، بالنظر إلى انعكاساتهما على مختلف مناحي الحياة، ولارتباطهما بالاستثمار في الإنسان ذاته. فالتعليم يزوّد الأفراد بالمعارف والمهارات التي تمكنهم من تفعيل كلّ ما لديهم من طاقات كامنة…، كما يؤدي إلى الحدّ من الفقر، والزيادة من فرص العمل، وتعزيز الازدهار الاقتصادي، كما يسهم في ترويج أنماط الحياة الصحية، وفي ترسيخ دعائم الديمقراطية، وتغيير السلوكيات باتجاه حماية البيئة وتمكين المرأة .([3])
فيما يسمح البحث العلمي بكشف الحقائق، وتقديم الحلول لمختلف المشكلات المطروحة داخل المجتمع، وتوسيع دائرة الخيارات المتاحة أمام صانعي القرار، وتوجد علاقة متينة بين منظومة التعليم والبحث العلمي، خاصة في مؤسسات التعليم العالي، فهي تسهم بالأساس في تخريج الكفاءات البحثية، وأي خلل في هذه المؤسسات ينعكس سلبا على البحث العلمي .([4])
لا يمكن كسب رهانات التنمية المستدامة، دون استحضار مخرجات البحث العلمي الذي تراكمه الجامعات ومراكز البحث، علاوة عن الانفتاح على ما تتيحه التكنولوجيا الحديثة من إمكانات وإنجازات واعدة في هذا الشأن، ذلك أن الاعتماد على معطيات ونتائج البحث العلمي وتلافي الارتجال والعشوائية في اتخاذ القرارات على اختلاف أنواعها، يمنح هذه الأخيرة مصداقية ونجاعة واستقرارا، بما ينعكس بالإيجاب على تطوّر المجتمعات… كما تؤكّد الكثير من الدراسات والتقارير إلى أن ثمّة علاقة وطيدة بين الاهتمام بالبحث العلمي وتطوّر الاقتصاد.
إضافة إلى الإمكانات المادية التي ينبغي أن ترصد لدعم البحث العلمي بشكل كاف، وللكفاءات العلمية، يظلّ بحاجة أيضا إلى وجود تشريعات تضمن حقوق الباحثين وتحفظ كرامتهم وحرياتهم، كما يحتاج كذلك إلى فضاء سليم يحتضنه، وهو ما تجسّده الحرية الأكاديمية التي تدعم تحرّر الباحث من كل الشروط والضغوطات تؤثر بالسلب على جهوده، وعلى تناول القضايا بقدر من الموضوعية والحياد العلميين.
تشير الكثير من التقارير والدراسات إلى أن الميزانية المخصصة للبحث العلمي في عدد من دول المنطقة ما تزال دون المستوى المطلوب، كما أن القطاع الخاص بدوره لا يعير الأهمية لهذا المجال ولا يساهم في تطويره من خلال التمويل وبناء الشراكات.. ومن مظاهر تهميش البحث العلمي في المنطقة، عدم إيلاء الاهتمام للأطروحات والرسائل الجامعية، حيث تظل حبيسة الرّفوف…
ويشير أحد التقارير إلى أن المعلومات المتاحة حول نتاج منظومات العلوم والتكنولوجيا والابتكار في البلدان العربية من حيث التقارير العلمية المنشورة أو البراءات المودعة والممنوحة تدلّ بصورة قاطعة على أنه لا يفي كمّيا ونوعيا بما تحتاجه هذه البلدان جميعا، من أجل التوصل إلى تنمية شاملة ومستدامة ([5]).
لا تتوقف أزمة البحث العلمي في المنطقة على عوامل موضوعية، حيث يرى البعض أن مـن أهـم أسـباب انخفـاض حجـم الإنفـاق علـى البحـث العلمـي فـي الـدول العربیـة، افتقـار أغلـب مؤسـسات البحـث العلمـي والجامعـات العربیـة إلـى أجهـزة متخصـّصة بتـسویق الأبحـاث ونتائجهـا وفـق خطـة اقتصادیة إلى الجهات المستفیدة، مما یدلّ علـى ضـعف التنـسیق بـین مراكـز البحـوث والقطـاع الخـاص ([6]).
تتزايد الهوّة التي تفصل حقل البحث العلمي في المنطقة العربية قياسا مع نظيرتها في الدول المتقدمة اتساعا، فالجامعات العربية تعيش في مجملها حالة من التردّي على مستوى المناهج والمضامين والمخرجات، حيث تحوّلت هذه المؤسسات من منارة للفكر وإنتاج المعرفة إلى قنوات للتلقين وتفريخ العاطلين عن العمل، إضافة إلى عدم الانفتاح بصورة كافية على التكنولوجيا الحديثة، وغياب استراتيجية تعليمية واضحة المعالم، يعكسها البون الشاسع بين هذه الجامعات ومحيطها الاجتماعي والاقتصادي، فيما يتمّ إهمال مخرجاتها من قبل صانعي القرارات…
وقد أسهمت هذه العوامل مجتمعة في احتلال عدد من الجامعات العربية مراكز متدنية ضمن التصنيفات الدولية الواردة في هذا الخصوص، بل ودفعت الكثير من الكفاءات التعليمية إلى الهجرة نحو الخارج، بحثا عن فضاءات أرحب وظروف أفضل.
لا تتوقف هذه الإشكالات على المستوى الموضوعي، بما يعنيه ذلك من قلّة الإمكانيات المرصودة لهذا القطاع المعني بالاستثمار في الإنسان، سواء من قبل الدولة أو من طرف القطاع الخاص، وهشاشة المنظومة القانونية الداعمة للحرّية الأكاديمية، ولتطوير منظومة التعليم بشكل عام، بل تجاوز الأمر ذلك إلى إكراهات ذاتية، تتّصل بمعاناة هيئة التدريس نفسها من غياب التكوين المستمر، والافتقاد إلى ثقافة عمل الفريق، وتدنّي نسبة إسهامات الباحثين على مستوى التأليف والنشر والترجمة، وتفشّي عدد من السلوكات المسيئة لأخلاقيات البحث العلمي.
ولا تخفى في هذا السياق التداعيات التي تخلّفها السرقات العلمية التي أصبحت تنتشر في أوساط بعض الباحثين والطلاب، على مستوى الأبحاث والدراسات المنجزة، ويبدو أن تفشّي هذه الظاهرة في الأوساط الأكاديمية، لا يمكن فصله عن الأزمة التي يعرفها الفضاء الجامعي والبحث العلمي في الأقطار العربية بشكل عام. فعلى الرغم من أن دول المنطقة، أصدرت قوانين وتشريعات لحماية حق الملكية الفكرية، كمدخل للحدّ من تصاعد حدّة الظاهرة، فإن الواقع يبرز عدم صرامتها ونجاحاتها على مستوى الواقع، سواء من حيث تعقّد المساطر القضائية، أو التأخير في البتّ أو عدم تنفيذ الأحكام، أو عدم نجاعة هذه الضوابط والتشريعات في ردع الجناة، مما يجعل المتورّطين في مأمن من أية إجراءات عقابية زجرية، رغم ما يلحقون بضحاياهم من إساءة وأضرار مادية ومعنوية كبيرة…
تبرز التجارب الدولية الرائدة، يوما بعد يوم، أن تقدّم الأمم يقوم في جزء أساسي منه على امتلاك المعرفة والعلم، واستحضارهما في صناعة القرارات الاستراتيجية بما يدعم عقلنتها، وعلى إيلاء الاهتمام للمؤسسات التعليمية ومراكز البحث العلمي وجعلها في صلب الأولويات، عبر توفير الإمكانات والتشريعات والبنيات اللازمة في هذا الخصوص.
وقد نبّه أحد الباحثين إلى أن الفجوة المعرفية بين الدول العربية ودول العالم المتقدّم، تتضاعف كل ثمانية عشر شهرا، بعد أن كانت تتضاعف كل ستّ سنوات في الثمانينيات من القرن المنصرم ([7]).
لا تُقاس أهمية التّعليم بحجم الإمكانات المالية والتقنية المرصودة له من كلا القطاعين العام والخاص فقط، بل تتّصل هذه الأهمية أيضا بمخرجات المؤسسات التعليمية، وبمواكبتها للتحولات والإشكالات المجتمعية وجودتها من جهة، وانفتاح صانعي القرار على ما تقدمه هذه المؤسسات من إسهامات واختراعات ونقاشات بنّاءة..
تزداد أهمّية العلم والمعرفة في عالم اليوم بإشكالاته وتحدّياته الكبرى العابرة للحدود، فالعلم هو مدخل ناجح وفعّال لمواجهة الأزمات والمخاطر في أبعادها الاجتماعية والأمنية والبيئية والاقتصادية.. وفق أساليب عقلانية واستراتيجية. كما أن ربح رهان تنشئة اجتماعية وتكوين مواطن محصّن يمارس التفكير بحرية وعقلانية، يتوقف في جزء كبير منه على الاستثمار في قطاعي التعليم والبحث العلمي.
ثانيا- جائحة كورونا ومستقبل البحث العلمي في المنطقة العربية:
كشفت جائحة كورونا بصورة لا لبس فيها، عن واقع البحث العلمي في المنطقة، وحجم الاختلالات المطروحة في هذا الشأن، كما أبرزت أيضا أهمية الاستثمار في هذا المجال، فهو الكفيل بالتعاطي مع الكوارث والأزمات على اختلافها بقدر من النجاعة الجاهزية والفعالية.
مع تمدّد الوباء بصورة متسارعة، وجدت الكثير من دول المنطقة نفسها أمام حالة غير مألوفة، فرضت اتخاذ قرارات ومبادرات على قدر من الشمولية، لتطويق الوباء ومنع انتشاره من جهة، ثمّ إسعاف المصابين والمرضى، من جهة أخرى.
تنطوي التدابير الآنية التي اعتمدتها العديد من الدول العربية في سبيل وقف انتشار الجائحة على أهمية كبرى، لكن الوباء كشف عن ضعف كبير في البنيات التحتية المتعلقة بالقطاع الصحي، كما أبرز غياب استراتيجية مستقبلية للتعاطي تبعاته، بشكل يجعلها قادرة على تحويل الكارثة إلى فرصة للإبداع والاجتهاد.
ففي الوقت الذي انصبت فيه جهود عدد من دول المنطقة وغيرها من دول الجنوب على التعاطي الآني مع تداعيات الوباء، من حيث اعتماد عدد من التدابير الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والصحية الكفيلة باحتوائه والتقليل من مخاطره، كان هناك قصور واضح لدى مجمل من الدول العربية على مستوى المساهمة في الجهود الدولية المبذولة لاكتشاف دواء أو لقاح للوباء.. وهو ما انخرطت فيه العديد من المختبرات العلمية في مناطق مختلفة من العالم، تبين مع الوقت أنها أولت منذ مدة أهمية كبرى للبحث العلمي.
وأمام هذه الكارثة بتداعياتها المتسارعة، اعتبر أحد الباحثين أن كل دولة ستراجع استراتيجياتها في ضوء الدروس المستفادة، خاصّة للعديد من القطاعات التي باتت تحتاج إلى إصلاح وتطوير لتتلاءم مع متطلبات مستقبلية، بما يؤهلها كي تكون قاطرة التنمية الحقيقية لباقي القطاعات، وذلك من خلال صياغة استراتيجية وطنية تعبّر عن متطلبات تقدم حلولًا ومعالجات لمشكلات تعوق عمليات التنمية ([8]).
رغم بعض التقدم الذي تم إحرازه على مستوى إحداث المعاهد والجامعات، وتزايد الإنتاجات العلمية، وتضاعف عدد العلماء والمهندسين في المنطقة العربية خلال العقود الثلاث الأخيرة، فإن الوضع ما زال دون انتظار التحديات ودون مستوى المعدلات الدولية في هذا الخصوص.
وهو ما يعكسه غياب استراتيجية علمية ضمن السياسات العمومية لعدد من الدول، وضعف الإنفاق العام على قطاع البحث العلمي، إضافة إلى الهدر والكلفة الباهظة التي تخلفها ظاهرة هجرة الأدمغة على اقتصاديات هذه الدول.
كشفت أزمة كورونا عن أهمية البحث العلمي، وحيوية الاستثمار في هذا القطاع الاستراتيجي الكفيل بتحويل الأزمات والمخاطر إلى محطات لاستخلاص النتائج وإرساء الاستراتيجيات الكفيلة بتحصين المستقبل، كما بينت أن الكثير من الدول العربية تظلّ بحاجة ماسّة إلى تطوير منظومتها العلمية والبحثية، وبخاصة على مستوى استثمار الإمكانات التي يطرحها التعليم عن بعد.
ثمة الكثير من الأسئلة التي تطرح نفسها بحدّة مع التداعيات التي تفرزها الجائحة، فهل ستستفيد الدول العربية من هذه المحطة القاسية، وتعيد النظر في سياساتها وتشريعاتها المتعلقة بمنظومتي التعليم والبحث العلمي؟
على امتداد التاريخ البشري، شكّلت الأزمات والكوارث على اختلاف أنواعها، محطّات للتأمل وإعادة النظر في السياسات والأولويات، وهو ما تجسّده الفترات التي تخلّفها الحروب والنزاعات والكوارث المختلفة، والتي تدفع صانعي القرار إلى القيام بخطوات شجاعة كانت لها تأثيراتها على مسار الحضارة الإنسانية، كما هو الأمر بتأسيس منظمة الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أو اكتشاف لقاحات وأدوية لعدد من الأمراض الخطرة والأوبئة بعد فترات من المعاناة.
تشكّل الأزمة الراهنة، فرصة حقيقية لدول العالم قاطبة لمراجعة سياساتها وأولوياتها، وبخاصة فيما يتعلق بإيلاء اهتمام كبير لقطاع الصحة، ومجالات التعليم والبحث العلمي، ويزداد الأمر أهمية في المنطقة العربية التي تعاني فيها منظومتي التعليم والبحث العلمي أصلا من عدّة صعوبات وإشكالات.
على امتداد التاريخ، ساهمت الحضارة العربية والإسلامية بعدد من الإسهامات والمنجزات العلمية التي استفادت منها الإنسانية قاطبة، وما زالت المنطقة العربية تحتضن كل المقومات التي تجعلها قادرة على كسب رهان تطوير البحث العلمي، فالكفاءات العلمية متوافرة في مختلف العلوم الطبيعية والاجتماعية، غير أن عددا من هذه الكفاءات اختارت الهجرة إلى بلدان غربية بحثا عن مناخ أفضل للاشتغال والإبداع، ما جعلها تسهم بشكل ملحوظ في تطوّر المجتمعات التي استقرت بها.
إن ما يجعل المراهنة على التعليم والبحث العلمي في الوقت الراهن والمستقبل ضرورة حيوية ومربحة، هو كلفة الخيارات العشوائية التي نهجتها العديد من الدول، والتي تمخّضت عنها سياسات داخلية مرتجلة لم تكن مبنية على أسس علمية، تستحضر مخرجات البحث العلمي، أو بفعل توجهات خارجية إقليمية ودولية غير محسوبة، وهو كان سببا في اندلاع عدد من الأزمات السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية..، ودخول المنطقة في عدد من النزاعات الداخلية والبينية، والتي أضحى معها النظام الإقليمي متردّيا، ما فتح المجال لعدد من القوى الإقليمية لتعلب أدوار ملتبسة داخل المنطقة، مستغلّة في ذلك حالة الفراغ القائم في هذا الصدد.
لا تخفى التمثّلات الملتبسة للمواطن العربي إزاء البحث العلمي، حيث ينظر إليه الكثيرون باعتباره قطاعا ثانويا، ومضيعة للأموال، وهو ما يتطلب ترسيخ وعي مجتمعي عقلاني يؤمن بأهمية البحث العلمي في تحقيق التنمية والرقي بحقوق الإنسان. وتشكّل المراهنة على التعليم والبحث العلميين خيارا سليما سيدعم كذلك في إرساء تنشئة اجتماعية، تسهم في إعادة بناء العقل العربي وتجاوز الأفكار النمطية وغير العلمية، وترسيخ ثقافة تدبير الأزمات والتي تجعل المجتمع على قدر من الجاهزية والثّقة في النفس لمواجهة كل الاحتمالات الصعبة والسيّئة إثر اندلاع الكوارث والأزمات، وتجاوز الارتباكات والهلع التي تطرحها هذه الأخيرة.
وعوما، فإن العمل على تطوير وتشجيع البحث العلمي في المنطقة العربية، ستكون له تبعات وانعكاسات إيجابية على المستوى الداخلي بالتأسيس لسياسات عمومية منفتحة على قضايا المجتمع، بصورة تدعم تحقيق التنمية الإنسانية، وتداعيات بنّاءة على المستوى الخارجي بتجاوز حالة الشرخ القائم، وإرساء نظام إقليمي عربي قادر على تحقيق التعاون والتنسيق لمواجهة مختلف المخاطر والتحديات القائمة في عالم اليوم عبر تجنيد واستثمار المقومات البشرية والثقافية والاقتصادية والاستراتيجية المتوافرة.
تنامت الدعوات إلى تكثيف الجهود لتطوير مستوى البحث العلمي في الدول العربية، وزيادة إنفاق الدولة وكذا الخواص على هذا القطاع، وبخاصة وأن نسبة الأموال التي ترصدها معظم الحكومات العربية للبحث العلمي – وعلى قلتها-، تناهز حوالي 80 بالمائة من مجموع التمويلات المحصّلة، فيما لا يستأثر القطاع الخاص في هذا الشأن سوى بحوالي ثلاثة بالمائة، بينما هناك زهاء 17 بالمائة من هذه التمويلات تحصّل من مصادر مختلفة أخرى..
وفي هذا السياق، أكّدت جامعة الدول العربية في بيان أصدرته يوم 26 أبريل 2020 والذي يصادف اليوم العالمي للملكية الفكرية على أهمية النهوض بالبحث العلمي والتكنولوجي والابتكار للوصول بمنظومة البحث العلمي إلى المستوى الذي تساهم فيه مساهمة واضحة في عملية التنمية المستدامة، كما اعتبرت أيضا أن مواضيع الابتكار تمثّل عاملا أساسيا في النمو الاقتصادي وفي إيجاد فرص عمل جديدة، وفي توفير ظروف أحسن لمعيشة الإنسان، مشيرة إلى أن هذا الابتكار هو الذي تقاس به مقدرة الدول وقطاعاتها المختلفة، فضلا عن كونه يشكل البوابة الرئيسية لطرح الحلول للتحديات الاجتماعية والاقتصادية ([9]).
بدأت بوادر اقتناع بعض الدول العربية بأهمية البحث العلمي في تجاوز الجائحة وتداعياتها، إلى جانب مداخل وخيارات أخرى، حيث أطلقت مجموعة من المبادرات في هذا الخصوص ([10])، والواقع أن الاهتمام بالبحث العلمي تحت ضغط هذه الجائحة، لا ينبغي أن يكون مرحليا فقط، بل ينبغي أن يكون استراتيجيا ومستداما، وينمّ عن قناعة دائمة بجدوى هذا الخيار، خاصة وأن مراكز البحث العلمي عادة ما توفّر العديد من الخيارات الاستراتيجية أمام صانعي القرارات، ما يجعلها في أريحية من أمرها لاتخاذ القرارات المناسبة، سواء في الحالات العادية، أو في الأوضاع الطارئة، أي عند حدوث الأزمات والكوارث.
تُشكّل أزمة كورونا التي وضعت صانعي القرار داخل عدد من دول العالم تحت ضغط غير مسبوق محطّة هامة يمكن الخروج منها بعدد من الدروس، وعلى رأسها الاستثمار في البحث العلمي والمراهنة عليه كأساس لتحقيق التنمية، ومواجهة كل التحديات والمخاطر بقدر من الثقة.
إن كسب هذا الرهان، يقتضي توافر إرادة سياسية حقيقية، مع اتخاذ عدد من التدابير والإجراءات، في ارتباط ذلك بتطوير البنى التحتية المتّصلة بالبحث العلمي، وإعادة النظر في السياسات التعليمية، وإرساء تعليم منفتح على قضايا المجتمع، ومتطوّر بأُطُره ومناهجه وأساليبه ومخرجاته.
لا تخفى كذلك أهمية توظيف التكنولوجيا الحديثة، واستثمارها في مجالات البحث والتعليم كسبيل للولوج إلى عالم المعرفة، غير أن التغيّر التكنولوجي لا يحدث من فراغ، بل تصوغه عمليات اقتصادية واجتماعية.. ويمكن لواضعي السياسات تحديد توجّه التغير التكنولوجي بطرق تعزّز التنمية البشرية ([11]).
كما يتطلب الأمر رفع حجم الإنفاق المالي المخصص للبحث العلمي، ضمن أجندات السياسات العمومية، وفي مبادرات القطاع الخاص، وهذه الزيادة لابد أن تكون من الأولويات، كما يجب التأكّد من استثمار هذه البحوث لتطوير سياسات العمل وزيادة التنمية الإنتاجية، وإلا سيكون صعباً على الدول العربية اللحاق بالدول المتقدمة إنْ لم يكن مستحيلاً وبالتالي ستظل دائماً تحت هيمنتها ([12]).
وتشير الكثير من التجارب الواعدة في هذا الإطار إلى أهمية تطوير قدرات الباحثين والتقنيين، وتخليق البحث العلمي، وإيلاء الاهتمام للقطاع البيولوجي، كسبيل لرصد الأوبئة وبلورة سبل علمية وقائية وعلاجية في التعاطي معها. مع توفير منظومة قانونية ملائمة لاشتغال المراكز البحثية في إطار من المرونة والجودة.. وبلورة أبحاث علمية منفتحة على قضايا المجتمع وعلى الإشكالات والمخاطر الراهنة.
كما يتطلب الأمر عقد شراكات علمية داخلية بين مختلف القطاعات، وأخرى خارجية في إطار تبادل الخبرات والاستفادة من التجارب المتقدمة في هذا الخصوص، واعتماد أسلوب التخطيط الاستراتيجي في أداء المراكز والمختبرات العلمية والسياسات العمومية ذات الصلة.
تبرز الكثير من المؤشرات أن البحث العلمي ما بعد الجائحة التي لم تجد معها الصواريخ والبوارج الحربية والدبابات والطائرات العسكرية نفعا، سيشكّل أحد أهم المقومات التي ستدعم تعزيز حضور الدول على المستوى العالمي، وكسب عدد من الرهانات والمعارك الاستراتيجية في عالم متغيّر، وهو ما يفرض على الدول العربية مجتمعة، توخي قدر كبير من اليقظة، واستيعاب الدروس، الكفيلة بتحقيق التنمية، وإعادة الاعتبار للنظام الإقليمي العربي بكل عناصره.
([1]) د.مصطفى عبد العظيم الطبيب: ضمان جودة البحث العلمي في الوطن العربي (دراسة تحليلية- مدنية)؛ المجلة العربية لضمان جودة التعليم الجامعي؛ المجلد السادس؛ العدد (13) 2013؛ ص 103
([2]) د.مصطفى عبد العظيم الطبيب: ضمان جودة البحث العلمي في الوطن العربي؛ المرجع السابق؛ ص 105
([3]) منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة: التعليم والتعلّم.. تحقيق الجودة للجميع، التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع 2013- 2014 (الملخص)، فريق التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع، منشورات اليونسكو، فرنسا؛ الطبعة الأولى 2014؛ ص 22
([4]) د.مصطفى عبد العظيم الطبيب: ضمان جودة البحث العلمي في الوطن العربي؛ المرجع السابق؛ ص 104
([5]) الابتكار أو الاندثار، البحث العلمي العربي: واقعه وتحدياته وآفاقه، التقرير العربي العاشر للتنمية الثقافية، مؤسسة الفكر العربي، بيروت، 2018-2017، ص 133
([6]) د.بشير هادي عودة، ود.عدنان فرحان الجوارين عوائق البحث العلمي ومتطلبات النهوض به في الدول العربية ، مجلة الغري للعلوم الاقتصادية والإدارية، العراق، السنة الثانية عشرة، المجلد الرابع عشر، العدد 28، السنة 2016، ص 86، على الرابط:
([7]) انظر في هذا الشأن؛ علي محسن حميد: البحث العلمي في الدول العربية: عوائقه ومقتضياته؛ مجلة شؤون عربية، الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، العدد 131 خريف 2007، ص 170
([8]) د.عبد الغفار عفيفي الدويك: كورونا وأزمة البحث العلمي في العالم، بوابة الأهرام، مصر، بتاريخ 27 أبريل 2020، على الرابط”
([9]) انظر في هذا الصدد، الجامعة العربية تدعو للنهوض بالبحث العلمي والتكنولوجي والابتكار مع تفشي كورونا، المصري اليوم، بتاريخ 26 أبريل 2020، على الرابط:
([10]) في خضم التدابير التي اتخذتها السلطات المغربية لمحاصرة جائحة كورونا، أعلنت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي عن إطلاق برنامج لدعم البحث العلمي والتكنولوجي المُتعلق بفيروس كورونا المستجد بدعم مالي قدره 10 ملايين درهم أي ما يناهز (مليون يورو).. كسبيل لتعبئة فرق البحث في الجامعات المغربية لبلورة مشاريع متعلقة بهذا الوَباء في ظرف زمني قصير.. انظر نص البلاغ الذي أطلقت الوزارة في هذا الشأن، على الرابط:
وفي مصر، أولت وزارة الصحة اهتمامًا كبيرًا بالبحث العلمي لمواجهة فيروس كورونا المستجد (COVID-19)، حيث أطلقت نداءًا بحثيًا طارئًا لكافة الباحثين خلال شهر مارس الماضي(2020)، ورصدت له مبلغ 2 مليون جنيه؛ لتمويل المشروع الواحد على أن تكون الأبحاث المطلوب التقدم بها في مجالات الطب والصيدلة والمستلزمات الطبية والصحة العامة وتكنولوجيا المعلومات. انظر في هذا الشأن محمد صبحي: وزير التعليم العالي يطالب بتشكيل لجنة مشتركة لمنظمات البحث العلمي، اليوم السابع، مصر، بتاريخ 27 أبريل 2020، على الرابط:
([11]) تقرير التنمية البشرية لعام 2019 ما وراء الدخل والمتوسط والحاضر: أوجه عدم المساواة في القرن الحادي والعشرين (لمحة عامة)، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الولايات المتحدة الأمريكية، ص 19
([12]) نجاة السعيد: كورونا والبحث العلمي، موقع العربية نت، يوم 16 مارس 2020، على الرابط:
htts://www.alarabiya.net/ar/politics/2020/03/16/كورونا-والبحث-العلمي