منذ بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، اعتاد العالم الرياضي أن يسمع ويقول ويكتب عبارة أول مرة، أول مرة تسقط نهائيًّا كل الحواجز والفواصل بين الرياضة والسياسة، أول مرة تتم معاقبة بلدان رياضيًّا نتيجة قرارات سياسية أو عسكرية، أول مرة يتم فيها السماح باستخدام شعارات سياسية في الدورات الأوليمبية والبطولات العالمية رغم كل القوانين واللوائح التي تمنع ذلك، وكان ذلك كله أحد الأخطاء الشائعة التي تداولها وتناقلها الناس في كل مكان دون مراجعة وانتباه إلى أنها لم تكن المرة الأولى وبالتأكيد لن تكون الأخيرة. فمنذ أسس الفرنسي البارون دي كوبرتان اللجنة الأوليمبية الدولية 1894، ووضع أول قانون رياضي في العصر الحديث وأول قواعد أساسية لابد أن يلتزم بها العالم طول الوقت منذ بدأت الدورات الأوليمبية في أثينا 1896_ لم يكن هذا القانون ملزمًا لكبار الرياضة في العالم، وكان يسهل جدًا تكسيره والخروج عليه كلما تطلبت المصالح ذلك. وبالتالي لم يكن ما جرى في العالم الرياضي منذ بداية حرب روسيا وأوكرانيا هو أول مرة ، المرة الأولى فقط بشكلٍ صحيح تاريخيًّا كانت أنها المرة الأولى التي يتم فيها تكسير قانون الرياضة والتمرد على كل قواعدها بشكلٍ علني وبكل هذه الجرأة وعدم الخجل أو المواراة – بعدما كان ذلك يجرى غالبًا في الخفاء وداخل الغرف المغلقة ولا يعرفه العالم إلا ربما بعد سنين طويلة.
وللتدليل على ذلك لابد أن نعود للوراء مؤقتًا قبل التوقف أمام روسيا وأوكرانيا وأزمة الرياضة والسياسة، ففي أول دورة أوليمبية في أثينا 1896، التزم الجميع بقانون كوبرتان، لكن بعد أربع سنوات فقط، انكسرت أولى هذه القواعد حين شاركت النساء في دورة باريس 1900 في التنس والجولف رغم أنف كوبرتان، فقد كان كوبرتان يرى أنه من الخطأ السماح للمرأة بممارسة الرياضة؛ لأنه أمر غير عملي وغير جذاب وغير جميل أيضًا.
أما القاعدة الثانية الخاصة بالفصل التام والحقيقي بين الرياضة والسياسة، فقد انكسرت قبل بدء دورة أنتيويرب الأوليمبية 1920، فقد قررت (إنجلترا، وفرنسا، والولايات المتحدة) إبعاد كل من كان ضدهم في الحرب العالمية الأولى من المشاركة الأوليمبية، وهكذا تم منع (ألمانيا، والنمسا، وبلغاريا، وتركيا) من المشاركة الأوليمبية، وبعدما انكسرت هذا القاعدة في 1920، لم يعد ممكنًا ترميمها بعد ذلك أو الالتزام بها، فتكرر الأمر في دورة باريس 1924 التي رفضت استضافة ألمانيا التي سبق أن احتلت فرنسا، وفي دورة لندن الأوليمبية 1948- التي أعقبت الحرب العالمية الثانية- تم استبعاد ألمانيا وأصرت الولايات المتحدة على استبعاد اليابان، ووافق المنتصرون عسكريًّا على مشاركة إيطاليا رغم شراكتها لألمانيا في بدء الحرب العالمية الثانية.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، إنما كان تنظيم هذه الدورة في لندن نفسها قمة الخلط بين الرياضة والسياسة، فالإنجليز في البداية رأوا أن الأنسب إقامة دورة 1948 في أي مدينة أمريكية، فإنجلترا خرجت من الحرب العالمية الثانية مهدمة وتحطمت معظم مباني وبيوت لندن نتيجة القصف الألماني، وتقدمت بالفعل مدن أمريكية هي (بالتيمور، ومينيابوليس، ولوس أنجلوس، وفيلادلفيا)، وأبدت كل منها استعدادها لتنظيم الدورة، وقبل اختيار اللجنة الأوليمبية الدولية لمدينة أمريكية لاستضافة دورة 1948، اعترض الملك البريطاني “جورج السادس” وقال: “أن بريطانيا تحتاج لهذه الدورة من أجل صورتها أمام العالم، وأن الرياضة ودوراتها الأوليمبية ليست أهم من بريطانيا”. وبالفعل خضع الجميع لطلب الملك، وبقدر ما احتجت بريطانيا وسخرت من استغلال أدولف هتلر لدورة برلين 1936 للدعاية لألمانيا النازية، مارست بريطانيا في لندن 1948 نفس السياسة واستغلال الرياضة للدعاية السياسية، فأقيمت معظم منافسات الدورة في استاد “ويمبلي”، الذي حمل وقتها بالعمد والقصد اسم الاستاد الإمبراطوري، وكان هناك إلحاح دائم على أن بريطانيا هي الإمبراطورية الأقوى والأهم في العالم.
وكانت دورة لندن 1948 أيضًا هي أول ساحة رياضية تبدأ فيها سياسة الحرب الباردة بين الغرب والشرق بعد طلب ماريا بروفازنيكوفا اللجوء السياسي لبريطانيا، وكانت ماريا هي مدرب منتخب الجمباز النسائي التشيكوسلوفاكي في لندن الذي فاز بالذهب، ورفضت ماريا العودة إلى براج اعتراضًا على الانقلاب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا، ووافقت لندن واستضافت ماريا التي بقيت عدة أشهر قبل انتقالها للولايات المتحدة والبقاء فيها حتى وفاتها. وكان الاتحاد السوفيتي قد رفض المشاركة في دورة لندن وأرسل فقط مراقبين وخبراء استعدادًا لدورة هلسنكي 1952، وحتى تكتمل تجاربه الرياضية انتظارًا لاستغلال النتائج سياسيًّا، وفي دورة طوكيو 1964 تم استبعاد أندونيسيا وكوريا الشمالية، وفي سيدني 2000 تم استبعاد أفغانستان، وكل ذلك كان لأسباب سياسية بعيدًا عن استبعاد جنوب أفريقيا وموزمبيق بسبب التفرقة العنصرية، وبعدما قرر الغرب مقاطعة دورة موسكو 1980 نتيجة احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، قرر الشرق بقيادة الاتحاد السوفيتي مقاطعة دورة لوس أنجلوس 1984 .
وكانت مقاطعة الغرب ثم الشرق لدورتي موسكو ثم لوس أنجلوس هي قمة الحرب الرياضية السياسية، فلم تتردد واشنطن أو موسكو من استغلال الدورات الأوليمبية والبطولات الرياضية من أجل مكاسب سياسية وإعلامية، ونظرًا لقوة الإعلام الغربي أصبحنا نعرف كل حكايات اللجوء والهرب التي كان أبطالها رياضيين سوفييت وألمان شرقيين ومن شرق أوروبا، ولماذا خاف هؤلاء من البقاء في بلدانهم؟
وفي المقابل لم ينجح الإعلام الشرقي الضعيف والبدائي والروتيني في أي رد أو توضيح أو تفسير لما يجري، ورغم ذلك كانت هناك حكاية لم ينجح الإعلام الغربي بكل قوته وسحره في إخفائها أو إنكارها، ففي دورة ملبورن الأوليمبية 1956، طلب معظم لاعبي البعثة الأوليمبية المجرية اللجوء السياسي للولايات المتحدة؛ فقد كان هناك الانقلاب الشيوعي في المجر، وخاف هؤلاء من العودة إلى المجر وقرروا الهرب، وشهدت تلك الدورة معارك لفظية وجسدية بين لاعبي المجر ولاعبي الاتحاد السوفيتي، وبالفعل استجابت لهم الولايات المتحدة ومنحتهم حق اللجوء إليها، وقيل أن الحكاية كلها كانت بقيادة المخابرات المركزية الأمريكية، وسافر أبطال المجر إلى كاليفورنيا، وقالت أستاذة التاريخ “جوانا ميليس”: “أن الرياضيين المجريين أقاموا في ظروف سيئة جدًا وأن الولايات المتحدة أرغمتهم على التكدس حتى أن 12 بطلًا مجريًّا كانوا يتبادلون النوم على ثلاثة أسرة فقط إلى جانب قلة الغذاء والمال وحتى حرية الحركة والتنقل، فقرر معظمهم العودة إلى المجر من جديد بعدما تأكدوا أن الحياة في كاليفورنيا لا تختلف كثيرًا عنه في المجر التي أصبحت دولة شيوعية”. وأكدت الدكتورة جوانا “أن المجريين اكتشفوا أن الولايات المتحدة تستخدمهم فقط لمصالحها الدعائية لكنها ليست مهتمة بحياتهم أو مشاعرهم ورغباتهم وحرياتهم، وأنه لا فرق بين الغرب والشرق في استغلال الرياضة وأبطالها لأهداف ومصالح لا علاقة لها بالرياضة أو حتى الإنسانية”.
ولم يكن الاتحاد السوفيتي أكثر إنسانية حتى مع لاعباته ولاعبيه، وهناك كتب كثيرة مهمة حكت عن ذلك بالوثائق والتفاصيل والأسماء أيضًا، مثل: “كتاب الشرق يلاعب الغرب” لستيفن واج وديفيد أندروز، و”كتاب الرياضة تحت الحكم الشيوعي” لروبرت إيدلمان وآنكي هيلبرينر وسوزان برونيل، و”كتاب ما وراء المعجزة الرياضية في ألمانيا الشرقية” لدينيس وجربكس… وكتب أخرى تروي حكايات مرعبة عن صنع الأبطال الرياضيين وإجبارهم على حياة معينة لا تعترف بآدميتهم أو إنسانيتهم أو حقوقهم ، وكيف كانت معسكرات تدريب هؤلاء البطلات والأبطال تشبه معسكرات الاعتقال بكل ما فيها من قسوة وتعذيب وانتهاك للحقوق والكرامة. فالميدالية الأوليمبية وقتها للبلدان الشيوعية كانت أهم من حياة وكرامة أي لاعبة أو لاعب، حتى لو أدى الأمر إلى استخدام منشطات وعقاقير ممنوعة ومؤذية وتؤدي بعد قليل للشيخوخة والعجز والشلل والجنون، أو إجبار اللاعبات على تعاطي هرمون الذكورة بشكلٍ منظم حتى يصبحن أقوى في الدورات والمسابقات.
وحين قرر الفيفا استبعاد المنتخب الروسي من خوض الملحق المؤهل لنهائيات مونديال قطر 2022، قال كثيرون أنها المرة الأولى التي يشهد فيها العالم الكروي مثل هذا القرار، ولم يكن ذلك صحيحًا أيضًا، فقد سبق أن استبعد الفيفا ألمانيا واليابان من مونديال 1950 في البرازيل، ولم يتكرر هذا القرار فيما بعد، ولم يتم استبعاد الاتحاد السوفيتي نفسه حين قام باحتلال أفغانستان، أو إسرائيل حين دخلت قواتها جنوب لبنان وحتى حدود بيروت، أو الولايات المتحدة حين حاربت أفغانستان والعراق، وفجأة طالبت كوندوليزا رايس- المستشارة الأمريكية السابقة للأمن القومي ووزيرة الخارجية في إدارة الرئيس بوش الابن- بمعاقبة إيران بالحرمان من المشاركة في كأس العالم لكرة القدم إضافة إلى باقي العقوبات الدولية الاقتصادية والسياسية، وقالت كوندوليزا وقتها: “أن الاستبعاد من المونديال قد يكون العقوبة الأقسى التي ستجعل الشعب الإيراني يضغط على قادته للتراجع عن تحدي الغرب وعدم الاستجابة الإيرانية للمطالب والتوصيات والعقوبات الأخرى”. وقوبل طلب كوندوليزا بالرفض والغضب والثورة سواء داخل الفيفا أو الإعلام وحتى داخل الولايات المتحدة نفسها؛ حيث قيل بإلحاح وتكرار وصوت عالٍ وصاخب أن كرة القدم لا علاقة لها بالسياسة وأي خلافات دولية سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، وقيل وقتها في الكواليس الكروية والسياسية أن خطأ كوندوليزا أنها أعلنت مطلبها بوضوح أمام الجميع فكان لابد من رفضه بكل هذا الصراخ، بينما كان من الممكن تحقيق ذلك لو جرى بحث الأمر والاتفاق عليه سرًا في الغرف المغلقة. وتغير كل ذلك حين دخلت القوات الروسية أوكرانيا، وأصبح من السهل جدًا حرمان روسيا من تصفيات مونديال 2022 بعد حربها في أوكرانيا، ولا أحد يستطيع توقع ما ستحكم به المحكمة الرياضية الدولية التي أكد الاتحاد الروسي لكرة القدم أنه سيلجأ إليها ضد الفيفا وقرار استبعاد المنتخب الروسي من المونديال المقبل.
وعلى غرار الفيفا، منع الاتحاد الأوروبي لكرة القدم المنتخب الكروي الروسي النسائي من المشاركة في كأس أوروبا التي تستضيفها إنجلترا في يوليو المقبل، وتم استبعاد نادي سبارتاك موسكو الروسي من الدوري الأوروبي، ولأول مرة أيضًا، قررت رابطة الأندية الأوروبية تعليق عضوية سبعة أندية روسية (سيسكا موسكو، ولوكوموتيف موسكو، وسبارتاك موسكو، وزينيت سان بطرسبرج، وروبين كازان، وكراسنودار، وروستوف)، ولم يكن إبعادًا نتيجة أي أزمة كروية أو أمنية أو مخالفة قوانين كروية، إنما لمجرد أنها أندية تنتمي لروسيا التي تحارب أوكرانيا، ورغم أن المادة 6 من قانون الفيفا تنص على عدم استخدام أي معدات رياضية وملابس وأحذية لإظهار وترويج أي شعارات سياسية و دينية أو شخصية وأي لاعب سيقوم بذلك ستتم معاقبته هو وناديه _ إلا أن رابطة الدوري الإنجليزي الممتاز خاطبت الحكام وطلبت عدم معاقبة أي لاعب في مباريات الدوري يستخدم ملابسه لإعلان تضامنه مع أوكرانيا ضد روسيا. وأكدت الرابطة أنها لا تمانع من تعطيل مؤقت لقانون الانضباط الخاص بالفيفا الذي يُلزم كل اللاعبين بعدم استخدام كرة القدم للتحريض على العنف أو الكراهية، وهو أمر تقوم به رابطة الدوري الإنجليزي الممتاز لأول مرة حيث لم تكن تتسامح من قبل مع مثل هذه الأمور وتتعامل معها بمنتهى الحدة والصرامة، والمرة الأولى أيضًا التي يتساهل فيها الحكام الإنجليز ويسمحون بعدم تطبيق القانون دون أن يزعجهم ذلك.
وتكرر نفس الأمر في دورة بكين الأوليمبية الشتوية الماضية حيث قررت اللجنة الأوليمبية الدولية عدم معاقبة أي لاعب أوكراني يرفع لافتة سياسية تطالب بالسلام أو منع الاعتداء والهجوم على أوكرانيا، وفي نفس الوقت، وبعدما استخدم الروس حرف زد اختصارًا لحربهم في أوكرانيا، وأصبحت كتابة هذا الحرف فوق جدار شارع وبيت أو زجاج سيارة أو ثياب ترمز للتضامن مع روسيا في هذه الحرب _قرر الاتحاد الدولي للجمباز بالتحقيق مع البطل الروسي “إيفان كولياك”، الذي أصر على الصعود لتسلم ميدالية البرونز في كأس العالم للجمباز في الدوحة وفوق صدره حرف زد تأكيدًا لتضامنه مع جيش بلاده، وقال الاتحاد الدولي للجمباز أن البطل الروسي “كولياك” بحرف زد فوق صدره قد خالف الميثاق الأوليمبي وكل القواعد الرياضية الدولية الداعية بالفصل التام بين الرياضة والسياسة، ومن الواضح الآن أن الميثاق الأوليمبي يفصل بين الرياضة والسياسة في حالة التضامن مع روسيا فقط؛ لأنه لم تكن هناك أي عقوبات على أي رياضي الآن يتضامن مع أوكرانيا حتى لو في دورات أوليمبية .
وقررت اللجنة الأوليمبية الدولية أيضًا سحب وسام الاستحقاق الأوليمبي الذهبي من الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، الذي سبق أن ناله عام 2001، وهو أعلى جائزة أوليمبية ولا ينالها إلا من قدم الكثير والمهم للحركة الأوليمبية الدولية، وقالت اللجنة الأوليمبية الدولية أن بوتين بقراره الحرب على أوكرانيا قد خالف الميثاق الأوليمبي ولم يعد ممكنًا احتفاظه بوسام الاستحقاق، ولم تكتفِ اللجنة الأوليمبية الدولية بذلك إنما قررت أيضًا سحب هذا الوسام من “ديمتري تشيرنيشينكو” نائب رئيس الوزراء الروسي و”ديميتري كوزاك” نائب مدير المكتب الرئاسي الروسي؛ حيث سبق أن نال الاثنان الوسام الأوليمبي 2014 عقب تنظيم دورة سوشي للألعاب الأوليمبية الشتوية . وأكدت اللجنة الأوليمبية الدولية أنها ستعاقب أي مسؤول روسي يعمل داخل إدارة الرئيس بوتين والحكومة الروسية وستعتبره شريكًا في قرار الحرب ضد أوكرانيا، وقررت اللجنة الدولية أيضًا منع مشاركة الرياضيين الروس في أي دورات أوليمبية أو بطولات دولية.
والمثير في الأمر أن توماس باخ الذي اتخذ هذه القرارات كرئيس للجنة الأوليمبية الدولية، كان في عام 1980 هو رئيس لجنة الرياضيين في ألمانيا الغربية، وعارض باخ وقتها قرار حكومة بلاده بمقاطعة دورة موسكو الأوليمبية احتجاجًا على الغزو السوفيتي لأفغانستان، وقال باخ حينها: “أنه يرفض أي خلط بين الرياضة والسياسة، وأن ألمانيا الغربية يمكنها إدانة الغزو السوفيتي لأفغانستان سياسيًّا كيفما تشاء، لكنها لابد أن تشارك في دورة موسكو الأوليمبية؛ لأنه لا يمكن الجمع بين الأمرين، فالسياسة لها أهلها وقراراتها، والرياضة أيضًا لها أخلاقها وقوانينها التي لابد من احترامها”.
وكان أحد أغرب المطالب في تاريخ التنس والرياضة كلها، حين طلب “نيجل هودليستون” وزير الرياضة البريطاني من لاعب التنس الروسي والمصنف الأول على العالم “دانييل ميدفيديف” أن يعلن بوضوح وصوت عالٍ وأمام العالم عدم تأييده لرئيس بلاده “فلاديمير بوتين” ورفضه لما يقوم به في أوكرانيا، وإلا فلن يسمح له بالمشاركة في بطولة ويمبلدون في يونيو المقبل، وأعلن الوزير البريطاني ذلك بعد اجتماعه مع مسئولي ويمبلدون وقال أن بلاده لن تسمح لمن يحمل علم روسيا بأن يلعب وينتصر على أرضها إلا إذا رفض وأدان سلوك بلاده ورئيسها. وبالطبع لم يكن هناك أدنى اعتراض من اللجنتين الأوليمبيتين (البريطانية، والدولية) أو الاتحادين (البريطاني، والدولي) للتنس، ولم يرفع أحد راية التدخل الحكومي تلك المرفوعة دائمًا في وجه كل وزراء الرياضة في البلاد الطيبة، وإن حاول أي وزير منهم مراجعة أحوال أي اتحاد في بلاده أو لجنتها الأوليمبية المحلية يجدهم يعاقبون بلاده ويرفعون في وجهه الميثاق الأوليمبي، وفي المقابل يستطيع وزير رياضة بريطاني تهديد لاعب بحرمانه من بطولة كبرى إن لم يتحدث في السياسة بشكلٍ واضح ومباشر ويدين ويرفض قرارًا لرئيس بلاده.
واستكمالًا لعبث الرفض والشكل الزائف للتدخل الحكومي، وبدعوة من “نادين دوريس” الوزيرة البريطانية للثقافة والإعلام والرياضة لاجتماع في مارس الماضي عبر الفيديو كونفرانس شارك فيه 26 وزير رياضة من 26 دولة، واتفق هؤلاء الوزراء وقرروا منع الرياضيين من روسيا وبيلاروسيا من المشاركة في أي بطولة أو مناسبة رياضية، وإلى جانب بريطانيا كانت الدول التي شاركت هي (الولايات المتحدة، وفرنسا، واليابان، وهولندا، والسويد، وسويسرا، وأستراليا، وليتوانيا، وأيرلندا، وكندا، وكوريا الجنوبية، وبولندا، والنمسا، والتشيك، والنرويج، والبرتغال، والدانمارك، وأستونيا، وفنلندا، وآيسلندا، ولاتفيا، ولوكسمبورج، ومالطا، ونيوزيلندا، وسلوفاكيا)، ورغم لافتة التدخل الحكومي التي داستها أقدام هؤلاء الوزراء، فلم تغضب وتثور أو ترفض وتحتج اللجنة الأوليمبية الدولية والفيفا وبقية الاتحادات الرياضية الدولية؛ فهذا الاجتماع كان حكوميًّا خالصًا لم تشارك في قراراته أي هيئة رياضية حتى لو من باب التظاهر والادعاء بأنه قرارات رياضية وليست قرارات دول وحكومات .
باختصار، كان المشهد كله فاضحًا رغم أن كثيرًا من تفاصيله لم تكن تحدث لأول مرة، لكنها طول الوقت كانت تُجرى في الخفاء، لكن بعد الحرب الروسية الأوكرانية لم يعد هناك خفاء أو خجل، صعد الجميع على المسرح ليقول ويقوم كل أحد بما يريده ويناسب مصالحه وهواه، وقد اعترض كثيرون على كل ما يجري ليس تضامنًا مع روسيا أو عداء للغرب، إنما رفضًا لهذا الخلط الفاضح والفادح بين السياسة والرياضة.
واعترض عرب كثيرون أيضًا، أولهم كان محمد باسم رشيد، لاعب كرة القدم الفلسطيني، الذي انتقل مؤخرًا من نادي الجيل السعودي إلى نادي بيرسيب باندونج في إندونيسيا، وقبل إحدى مباريات الفريق في الدوري الإندونيسي، رفض محمد الانضمام إلى زملائه في الفريق خلف لافتة تدعو لوقف الحرب في أوكرانيا، وكان موقفًا استرعى في البداية اهتمام الإعلام الإندونيسي وبعدما شرح محمد أسبابه أصبح الاهتمام عالميًّا وليس في إندونيسيا فقط؛ فقد قال محمد: “أنه ليس مع الحرب في أوكرانيا ولا يؤيد روسيا وهو يرفض أي حرب أو إيذاء لأي أبرياء، لكنه فقط يرفض هذه التفرقة بين الناس”. فالحرب في أوكرانيا أوجعت الضمير الأوروبي والعالمي وبدأ العالم يحشد كل قواه وسلاحه واقتصاده وإعلامه وحتى ألعابه للتعاطف والتضامن مع أوكرانيا وأهلها، لكنه لم يشهد أيًّا من ذلك حين كان الفلسطينيون الأبرياء يواجهون الرصاص والموت، ولذلك يرفض الوقوف خلف هذه اللافتة؛ لأنه لم يشهد لافتة مثلها حين كان الفلسطينيون يموتون أو العرب في بلدان كثيرة وغيرهم في كثير من أنحاء العالم، وكأن الأوربيين أفضل وأهم من كل هؤلاء، وقال محمد أيضًا: “أنه لم يقف خلف تلك اللافتة لأنه حين كان يود هو وزملاؤه لاعبو كرة القدم في فلسطين أو في أي دولة عربية أن يرفعوا لافتة مماثلة وتحمل نفس الدعوة لوقف الحرب وإنقاذ الناس من الموت والدم، كان الفيفا يمنعهم ويؤكد لهم أن قوانين كرة القدم تمنع الخلط بينها والسياسة، وأن الفيفا لن يتسامح وسيعاقب أي لاعب سيرفع لافتة مماثلة ضد أي حرب، فلماذا أصبح الفيفا فجأة يسمح بهذا الخلط بين كرة القدم والسياسة؟”.
وعبر السوشيال ميديا بكل لغات العالم تضامن كثيرون جدًا، في الغرب والشرق والشمال والجنوب، بما قاله محمد باسم رشيد، وتضامن هؤلاء أيضًا مع المصري “علي فرج” بطل العالم في الإسكواش، وإذا كان باسم رشيد قد أعلن موقفه هناك في إندونيسيا، فإن علي فرج أعلن نفس الموقف في قلب الغرب وبالتحديد في مدينة لندن، فبعد فوز علي فرج ببطولة أوبتاسيا في مارس الماضي، أمسك بطل العالم بالميكروفون وقال بوضوح وهدوء: “أن من يتسابقون الآن للتضامن مع أوكرانيا عليهم أيضًا إعلان التضامن مع فلسطين التي لم يتضامن معها أحد، وأنه لا يخشى أي عواقب قد يواجهها نتيجة موقفه وكلماته”.