أصبحت المنصات الرقمية في هذا العصر “عصر الرقمنة” واقعًا فرضته التطورات التكنولوجية السريعة، واتسع تأثير هذه المنصات في عالمنا العربي مع اتساع خريطة الرقمنة فيه، حتي أصبحت أحد أهم وسائل المشاهدة عند قطاعٍ كبيرٍ لا يستهان به من جمهور الوطن العربي، بل أصبحت أحد أهم الوسائل المنافسة لشاشات “التليفزيون العربي”، رغم رهان بعضنا على أن الوسائل الإعلامية طوال تاريخ تطورها وتنوعها لم تستطع أي منها إلغاء وجود الأخرى؛ فالتليفزيون عند اختراعه لم يستطع إلغاء وجود الإذاعة، والسينما لم تستطع إلغاء التليفزيون، واختراع “الفيديو كاسيت” لم يلغِ ذاك أو تلك، وهو رهان ربما يكون صحيحًا جزئيًّا إلا أن هناك فارقًا كبيرًا بين الوجود والتأثير.
وانطلاقًا من هذه الحقيقة اختارت المنصات الرقمية أن تكون شريحة المراهقين هي الشريحة الأولى من جمهورها المستهدف، ليس لأنها الشريحة ذات النسبة الأعلى في تعداد السكان فحسب وإنما لكونها الشريحة التي ستضمن لها استمراريتها، حيث سيتم تربيتها وتشكيلها وجدانيًّا مع هذه المنصات وما تعرضه من محتوى، فيصبح جمهور هذه الشريحة هو جمهور اليوم والغد، وربما كان استهداف سن المراهقة هو أول أولويات هذه المنصات سعيًا لهذه النتيجة، وفي أكثر من بحث أكاديمي أثبتت النتائج أن أكثر من ثمانين بالمئة من جمهور المراهقين من سن الرابعة عشرة إلى سن العشرين يفضلون مشاهدة المنصات الرقمية ويتابعون محتواها بشراهة لأكثر من ست ساعات في اليوم الواحد، وخاصة المحتوى الدرامي والمسلسلات المبنية على الإثارة وعلى الغموض و” الأكشن” والرعب، في حين تأتي الموضوعات الرومانسية في آخر اهتماماتهم، وقد تلاحظ أن أغلبهم حين يشاهد مسلسلًا فإنه يشاهد كل حلقاته كاملة مرة واحدة، وقد حلل علماء النفس هذا النهم بأن المخ يفرز هرمون السعادة عندما يقوم المراهق بمشاهدة الحلقة الأولى فتزيد رغبته في متابعة الأحداث ومشاهدة الحلقة الثانية ومنها إلى الثالثة والرابعة والخامسة وهكذا إلى أن تنتهي حلقات المسلسل، بالإضافة إلى أنه يرى في ذلك فرصة للتواصل مع أصدقائه ليحكي لهم – قبل غيره- أحداث المسلسل وهو ما يولد عنده شعور بالمعرفة والسبق والتفرد.
ولما كانت المنصات الرقمية فيما تقدمه من محتوى قد اختارت أن تبني على ما أسسته ثورة ” الإنترنت”، وبدأت من حيث انتهت الشبكة العنكبوتية من تأثير وتغيير في نمط المشاهدة ونوعية المحتوى المنفتح على الغرب شكلًا وموضوعًا، حيث (الإيقاع السريع، والأفكار الجريئة، والدراما الناقلة للمشاكل اليومية، والممارسة الحياتية القريبة لتليفزيون الواقع)، ثم جاءت فيديوهات مواقع التواصل الاجتماعي لتجعل هذا النمط جزءًا من واقع شرائح كبيرة في المجتمع، واستطاعت المنصات الرقمية -بتبنيها لهذه الأنماط ونقلها إلى المحتوى الدرامي الذي تقدمه لتصبح أحد سماته، مع زيادة متعة بصرية وسمعية -أن تصبح أيضًا جزءًا من حياة شريحة الشباب من سن عشرين إلي خمس وأربعين سنة؛ حيث قضت هذه الشريحة بعضًا من طفولتها داخل تنشئَة وتأثير شبكة الإنترنت والسموات المفتوحة، وما رسخته من إتاحة المحتوى حسب الطلب ووقت الطلب مع حرية في القرار وفي الاختيار للمحتوى الذي يريد مشاهدته دون تدخل، وهو ما جعل نسبة لا تقل عن ٧٠% من الشباب تحت هذه الشريحة العمرية من(٢٠- ٤٥) يفضل مشاهدة المنصات الرقمية عن قنوات التليفزيون حسبما ذكرت بعض الأبحاث، إلا أنه في الموسم الرمضاني ربما تنجح بعض المسلسلات في خلق إجماع عائلي على متابعتها فيكون للتليفزيون في هذه الحالة نصيبًا من المنافسة عند هؤلاء، ويدخل ضمن جدول المشاهدة الخاص بهم ليستقطع بعضًا من وقتهم الذي يعطونه للمنصات يوميًّا، وسرعان ما يعود كل منهم إلى شاشته الخاصة” الموبايل”؛ هربًا من المط في الأحداث، والإفراط في الإعلانات، والترهل في الدراما لحشو العدد الثلاثيني للحلقات.
وقبل الخوض في خصائص المحتوى الذي سنأتي إليه لاحقًا يجب الالتفات إلى أن ثقافة المشاهد تتغير كل خمس سنوات، وأن تقنيات الذكاء الاصطناعي تقيس هذا التغير في سلوكيات المشاهد لتستفيد منه هذه المنصات في توسعة حجم جمهورها ومن ثم حجم مشاهداتها، وتستفيد منه أيضًا شركات الإعلانات التي قد تنسحب من قنوات التليفزيون فتؤثر قطعًا على أرباحه ومن ثم على حجم إنتاجه، حيث تشكل الإعلانات المصدر الأساسي لتمويل المحتوى التليفزيوني مع قليل من الدعم الحكومي الذي أصبح يشكل عبئًا على الحكومات، وهو ما جعل بعض الدول تدخل على بيزنس المنصات الرقمية حماية لتليفزيوناتها من ناحية، واستثمارًا للمحتوى الذي يملكه والذي ينتجه من ناحية أخرى، بالإضافة لتقديم محتوى خاص بالمنصة يواكب أنماط المشاهدة بمقاييسها الجديدة التي فرضتها المنافسة الإلكترونية، وهو ما حدث في مصر مع الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية التي أنشأت منصة “Watch it”، ونفس الشيء فعلته بعض الشركات السعودية المالكة لقنوات تليفزيونية مثل شبكة” MBC” ،التي أنشأت منصات شاهد و شاهد ” vib وviu”، وكذلك فعلت شركات إماراتية …وغيرها، وهو دور محمود لحماية الشباب من خطورة الغزو الثقافي الغربي وجوانبه السلبية التي لا تخلو من مؤامرات وأجندات لمحو الهوية العربية والثوابت الدينية، حتى وإن رأيناها حماية محدودة بسبب طغيان حسابات وقوانين “البيزنس” على المنافسة.
كانت أزمة كورونا في عام ٢٠٢٠ أول أسباب إقبال الشباب على المنصات الرقمية واتساع حجم مشاهدتها، رغم أنه كان من المتوقع أن يكون المستفيد هو التليفزيون وقنواته حيث بقاء الناس في البيوت في شبه عزل صحي، إلا أن أصحاب هذا التوقع خاب ظنهم وجاءت هذه العزلة المصحوبة بالخوف من العدوى لصالح المنصات حيث طغت العزلة الفردية داخل البيت الواحد، فأصبحت شاشة التليفون المحمول أو الحاسوب بأنواعه هي الونيس في هذه العزلة، وكانت مواد التسلية هي الأكثر إقبالًا لكسر الملل إلى أن دخلت المنصات على خط إنتاج المحتوى الدرامي، بعد أن كانت تقوم بتأجير الأفلام والمسلسلات أو شراء حق العرض، على غرار ما كانت تفعله منصة “نيتفيليكس” في بداية انطلاقها وقبل أن تدخل عالم الإنتاج في ٢٠١٣، ورأينا المنصات العربية مثل شاهد وwatch it تتجه للإنتاج الحصري في عام ٢٠٢٠، وبعد عامين فقط وصلت القدرة السوقية للمنصات الرقمية أربعين في المئة، وهي نسبة كبيرة في سنوات قليلة علاوة علي أنها مرشحة للزيادة سنويًّا، كما وصل متابعوها من مجمل الشرائح الشبابية (من سن الرابعة عشرة إلى سن الخامسة والأربعين) أكثر من سبعين بالمئة بالإضافة لجمهور الجاليات العربية من المغتربين، حيث كان لدراما المنصات الإلكترونية معاييرها المختلفة عن دراما التليفزيون، كما كان للمحتوى مقاييسه وخصائصه التي جنحت للتغريب والتجريب.
وكانت أول هذه الخصائص قصر مدة الحلقات حيث تتراوح بين الربع ساعة والنصف ساعة على الأكثر لكسر الملل، وسرعة الإيقاع، وتحاشي المط في الأحداث.
وثانيها: قلة عدد الحلقات حيث تراوحت بين ست حلقات و عشر حلقات وبالتالي البعد عن الحشو والترهل غير المبرر في الدراما التليفزيونية أو في أغلبها توخيًا للدقة. وثالثها: الجرأة في الفكرة المطروحة أو الموضوع المطروح من خلال المسلسل، بحيث توفر السبق والانفراد للمنصة المنتجة وللمحتوى المقدم وإن اقتحم المسكوت عنه في المجتمع العربي.
ورابعها: أن يقترب أسلوب الطرح من أسلوب حياة الشباب ولغتهم (كتابة، وإخراجًا، وإيقاعًا)، وأن يقترب التناول من نبض أدوات السوشيال ميديا وفيديوهات تليفزيون الواقع التي أصبحت جزءًا من تكوينهم، دون الوقوع في فخ تقديم محتوى فقير فنيًّا وهي المعادلة الصعبة.
وخامسها: أن يكون البطل في المحتوى هو موضوع المسلسل، بحيث يكون الموضوع قادرًا على تسويق نفسه للقاعدة العريضة من متابعي المنصات الرقمية دون الاعتماد على نجوم ليكون اختيار الممثلين على أساس الأكثر شبهًا للدور وليس الأكثر شهرة أو الأكثر بريقًا، وبالتالي تقديم صورة أكثر صدقًا وقربًا من الواقع وبعدًا عن الزيف.
وسادسها: سعي المنصات إلى وجود محتوى به مشاهد يصعب وجودها في التليفزيون مثل( بشاعة مشاهد الرعب والدم والقتل)؛ لأنها للأسف من المشاهد المثيرة لقاعدة كبيرة من جمهور المنصات، وحبذا لو جاءت هذه المشاهد ضمن محتوى مبني على الغموض وعلى الألغاز والبوليسية وكذلك الخيال “الميتافيزيقي” وعالم ما وراء الطبيعة، ويشجع على هذا ضعف الرقابة على المحتوى في المنصات الرقمية عنها في التليفزيون وخاصة تليفزيون الدولة.
وسابعها: فتحت المنصات الرقمية المجال للدراما الموسيقية “Musical Drama”، وهي نوع يصعب أو يندر وجوده على شاشات التليفزيون ظنًا أنها مادة لا تلقى إقبالًا من جمهور البيوت أي “جمهور التليفزيون” ويصعب تسويقها من ناحية ولكلفتها العالية إنتاجيًّا من ناحية أخرى.
وبالطبع فإن منصة نتفيلكس- التي تغيب فيها الرقابة – هي أول من أرست هذه الخصائص وتلك المعايير في المحتوى، إلا أن المنصات العربية أيضًا تحت حسابات المنافسة وقوانين ” البيزنس” تبنت نفس الخصائص في محتواها مع هامش من الرقابة، وهو هامش لا يمكن أن يقارن بحجم الرقابة الحكومية في دراما التليفزيون في كل الحالات.
وفي هذا الإطار جاءت منافسات المنصات الرقمية للتليفزيون العربي منذ عام ٢٠٢٠ بمسلسلات شكلت ثورة على المحتوى الدرامي شكلًا وموضوعًا وبدأتها نتفيلكس بمسلسل مصري، ثم جاءت المنصتان العربيتان شاهد و “Watch it”؛ لتدخل المنافسة بعدة مسلسلات نجحت جماهيريًّا ، ثم دخل النجوم الكبار على الخط.
وهنا لابد أن نعترف بالآتي:
- أن تلك النجاحات بما تحققه من نسب مشاهدات فاقت مشاهدات التليفزيونات العربية في العامين الأخيرين هي (أول) وأخطر ملامح التأثير السلبي على مستقبل التليفزيون العربي وخاصة المحتوى الدرامي.
- أنه بعد هجرة قطاع كبير من الجمهور تأتي هجرة قطاع من كتاب السيناريو، الذين وجدوا في المنصات الرقمية مساحة أكبر لحرية التعبير في ظل غياب الرقابة الحكومية بقيودها من ناحية، وعدم الاضطرار للمط في الأحداث لزيادة عدد الحلقات من ناحية أخرى لتشكل (ثاني) عناصر التأثير السلبي.
- أن قدرة بعض المنصات على الاستحواذ على ما تنتجه التليفزيونات من محتوى كي تصبح متاحة حسب الطلب لجمهورها (والعكس غير صحيح لجمهور التليفزيون)، ربما يأتي لصالح المحتوى لكنه حتمًا يؤثر على القاعدة الجماهيرية للتليفزيون الذي لا يستطيع إعادة العرض إلا بعد فترات طويلة.
- إن تطور تقنيات الـ “Smart tv” والفكر المستقبلي لتوفير كل الخدمات عبر التليفون المحمول “Mobile payment” سيزيد من التوحد مع شاشة الموبايل كمنصة خاصة متاحة لمئات الملايين في العالم سيكون له تأثيره الصعب على مستقبل التليفزيون.
إلا أنه رغم ذلك كان للمنافسة تأثيرها الإيجابي في هذه النواحي
أولًا: برزت بعض التأثيرات الإيجابية في التليفزيونات التي خففت من القيود الرقابية وسمحت بتوسيع هامش الجرأة في الأفكار وفي الطرح بعيدًا عن العنف والعري المبالغ فيهما.
ثانيًا: اتجهت الكثير من التليفزيونات للتقليل في عدد حلقات المحتوى الدرامي، و(للإنصاف) يجب أن نقول أن هذا الفكر يرجع في الأصل إلى الدراما التليفزيونية وإلى التليفزيون العربي؛ حيث كانت هناك السهرة التليفزيونية ثم التمثيلية الثلاثية ذات الحلقات الثلاثة ثم الخماسية ذات الخمس حلقات، والسباعية ذات السبع، وكانت أطول المسلسلات لا تزيد عن خمسة عشر حلقة وذلك حتى التسعينيات قبل أن تسوقنا الإعلانات للمسلسلات الثلاثينية في الألفية الثالثة.
ثالثًا: استفاد التليفزيون من ذاك التغير الذي أحدثته المنصات في خريطة النجوم وخريطة الأجور بعد إبراز مواهب شابة في بطولات مطلقة وتغيرت معادلة الأجور المبالغ فيها وفلسفة النجم الأوحد.
رابعًا: أن المحتوى الاجتماعي والإنساني لايزال هو الأعلى إقبالًا ويستطيع التليفزيون أن يراهن عليه ويتحدى به -وخاصة بعد تلك الصياغات والتقنيات العالية في الإخراج والديكور والتصوير، وذلك التطوير في المحتوى بالشكل الذي لم تقترب منه المنصات حتى الآن لارتفاع التكلفة والتقنيات والحاجة للخبرات وهو ما ركزت عليه التليفزيونات مؤخرًا وتفوقت فيه، هذا بخلاف المحتوى الخبري والبرامجي.
خامسًا: أنه في حال تصاعد الأزمات الاقتصادية ستتغير أولويات المواطن وسيعجز قطاع كبير من الجمهور عن تحمل قيمة اشتراك المنصة واشتراك “الإنترنت”، وهو ما قد يؤثر على قدرة المنصات على الإنتاج ويضطرها لإدخال محتوى إعلاني لسد العجز وهو ما سيفقده ميزة نسبية مهمة، في حين سيبقى التليفزيون ومحتوى التليفزيون هو الوجبة المجانية في كل الظروف.
سادسًا: لاتزال القاعدة الجماهيرية التي تربت على التليفزيون ومحتواه الآمن قادرة على ضمان استمراريته طالما زاد من جرعات الإبداع في الشكل والمضمون، وهو ما أدركته قنوات التليفزيون في السنوات الأخيرة فزادت من مساحات وصياغات من المحتوى التفت حولها الأسرة وخاصة تلك التي تتناول قيم العائلة العربية و”نوستالجيا” دفء العلاقات وترابطها، وتلك التي تحرك الانتماء للهوية الوطنية.
سابعًا: سعت التليفزيونات للاستفادة من تقنيات “Smart tv” و “Smart phone”، وأصبح أغلبها متاحًا “On line” على شاشات التليفون المحمول ونجحت في ذلك.
وهنا نخلص إلى أن المنافسة بين المنصات الرقمية والتليفزيون العربي ستبقى لها تأثيراتها السلبية والإيجابية، إلا أنها ستظل تحرك الراكد عند الوسيلتين وتكشف عن مساحات التميز لكل منهما وتحرض على تقديم كل ما هو جاذب للجمهور المستهدف لهذه الوسيلة أو تلك، حتى يبقى الرهان على أنه مهمٌ تعاظم تأثير الوسائل الإعلامية على الساحة فإن إحداهما لا تلغي وجود الأخرى.