بعد تشكيل بنيامين نتنياهو – مواليد تل أبيب 1949، لأب بولوني وأم أمريكية- لحكومته، ظهرت إسرائيل على حقيقتها كدولة (استعمارية، واستيطانية، ودينية، وعنصرية، وعدوانية)، بحيث عُرفت- حتى من الإسرائيليين- باعتبارها الحكومة الأكثر يمينية وتطرّفًا، سيما ضد الفلسطينيين، منذ إقامتها 1948.
وكانت نتائج انتخابات الكنيست الـ 37، التي جرت أواخر العام 2022، تمخّضت عن فوز أحزاب معسكر اليمين القومي والديني، المتمحورة حول نتنياهو، بـ 64 مقعدًا، على النحو الآتي: “ليكود” 32 مقعدًا، تحالف “الصهيونية الدينية” بقيادة المتطرّفين المتعصّبين، “إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموترتش” 14 مقعدًا، “شاس” لليهود الشرقيين المتدينين 11 مقعدًا، “يهوديت هتوراة” لليهود الإشكناز المتدينين 7 مقاعد، في حين تضاءلت حصّة حزب العمل- الذي أسس دولة إسرائيل- إلى أربعة مقاعد، بينما لم يستطع حزب “ميريتس” (اليساري) الفوز بأي مقعد، ما يفيد باستمرار انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو أقصى اليمين، أو التطرف. وهذا يشمل الموضوع الفلسطيني، والقضايا الداخلية الإسرائيلية، وهو ما سنتطرق إليه لاحقًا.
وبرأي رفيت هيخت فإن: “معظم الجمهور في إسرائيل معني بالدولة اليهودية، حقوق زائدة لمجموعة معينة، مع حرمان مجموعات أخرى من الحقوق. من هو الإسرائيلي؟ في إسرائيل 2022 هو أن تكون عنصريًّا دون خجل.” (“هآرتس”، 2/11/2022)
دلالات حكم نتنياهو فلسطينيًّا وإسرائيليًّا:
مع ذلك يمكن القول بأن لا جديد في حكومة يرأسها نتنياهو، إذ هي الحقبة الثالثة لتوليه هذا المنصب، الأولى في أعوام (1996- 1999)، والثانية في أعوام (2009 – 2021)، والثالثة الحالية (منذ أواخر 2022)، بحيث أضحى الأطول عمرًا في ذلك المنصب، حتى مقارنة مع الزعيم الإسرائيلي المؤسّس والأشهر” بن غوريون”، الذي شغله 12 عامًا فقط. وفي ذلك فإن نتنياهو هو الرجل الذي هيمن على السياسة الإسرائيلية في مرحلة ما بعد اتفاق “أوسلو” 1993، أي طوال ثلاثة عقود تقريبًا، وهو المسؤول عن تقويضه، منذ حقبته الأولى، وهي مسألة لا يشاركه فيها إلا إيهود باراك (زعيم حزب العمل، ورئيس الحكومة الإسرائيلية في العام 1999 -2001)، لكن أثر نتنياهو هو الأكبر، والأكثر (رسوخًا، وفاعلية، وديمومة)، في السعي لوأد ولادة كيان فلسطيني مستقل في الأراضي المحتلة 1967، وفي فرض عقيدته السياسية التي تتمحور حول إسرائيل الكبرى، القائمة على التلاقح بين اليمين القومي والديني، وأمن الدولة اليهودية أولًا، وإبقاء السلطة الفلسطينية في حدود الحكم الذاتي المقيّد، وعند مشروع “السلام الاقتصادي”، الذي يعضد خياره في انتهاج الليبرالية الاقتصادية المتوحشة. وعند تسفي بارئيل فإن: “هذه هي نتيجة حكم نتنياهو الطويل والعقيم المليء بالتضليل، والفساد، والتحريض، والعنصرية…الانتخابات، لخّصت الرؤية التي صيغت بتصميم ودقة، وكان الهدف منها القضاء على العلاقة الكاذبة بين اليهودية والديمقراطية، وصوغ وحش إثني– فاشيّ…دولة إسرائيل ستتحول إلى قيادة ميليشيات سياسية، بقيادة متهم بقضايا جنائية، يضع قنابله تحت كل مؤسسة ديموقراطية”. (“هآرتس”، 2/11/2022).
وللتذكير، ففي حقبة نتنياهو الثانية تم تمرير قانون أساس (له مكانة دستورية) يعتبر إسرائيل دولة قومية لليهود 2018، ولهم فقط حق تقرير المصير فيها، في تحديد مكانة أدنى للفلسطينيين من مواطنيها في الحقوق الفردية والمدنية، مع حرمانهم من حقوقهم الجمعية الوطنية، كجماعة قومية. وفي الواقع فإن معظم الأحزاب الإسرائيلية تتساوق مع نتنياهو في نظرتها إلى الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، باعتبارهم شعبًا واحدًا، وكعدو، وإلى الأرض الفلسطينية كأرض واحدة، كملك خاص لليهود، بغض النظر عن التفاوتات بينهم، علمًا أنهم يفرقون بين تجمع فلسطيني وآخر فقط؛ لتجزئة شعب فلسطين، وإضعافه، وتفكيك قضيته.
على ذلك فإن نتنياهو سيواصل في حقبته الثالثة (الحالية)، وبالتحالف بين ليكود وأقصى اليمين القومي والديني المتطرف، ترجمة ما بدأ به حقبته الأولى، لكن بصورة أكثر وضوحًا وتصميمًا، إذ نصّت وثيقة الخطوط العامة للائتلاف الحكومي على الآتي: “للشعب اليهودي حق حصري وغير قابل للتقويض على كل مناطق أرض إسرائيل، …ستدفع الحكومة الاستيطان وتطوره في جميع أنحاء أرض إسرائيل، في الجليل والنقب، والجولان، ويهودا، والسامرة، أي الضفة الغربية.” أيضًا، وبالتوازي، جاء في تلك الخطوط أن “الحكومة ستنفذ خطوات من أجل ضمان القدرة على الحكم وإعادة التوازن اللائق بين السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية”؛ في إطار محاولة الحد من السلطة القضائية (المحكمة العليا)، التي تتهم بأنها صرح للعلمانية، لصالح السلطتين (التشريعية، والتنفيذية).
ويشرح المحلل الاقتصادي “سيفر بلوتسكر” معنى ذلك، بقوله: “مفهوم السيطرة اليهودية الحصرية والمطلقة، من البحر إلى النهر، يُقرَّر كلّ شيء. إنها صيغة متطرفة لا مثيل لها في كل الخطوط التوجيهية لحكومات “الليكود” السابقة، من مناحيم بيغن حتى بنيامين نتنياهو، وهي تتعارض مع أيّ احتمال تسوية مع الفلسطينيين – حتى التسوية المتواضعة التي تضمّنها اتفاق السلام للرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”. (“يديعوت احرونوت”، 11/1/2023)
ويؤكد ذلك المحلل الإسرائيلي “أوري مسغاف”، في مقال عنوانه: “حرب نتنياهو القادمة: الكلّ ضد الكل!”، باعتباره أن “المواجهة لن تقف هذه المرة وراء الخط الأخضر، ولن تحدَّد بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني…هذه المرة، المواجهات بين العرب واليهود ستكون بين النهر والبحر”. (“هآرتس”، 2/12/2022)
أما إبراهام بورغ (أحد قادة حزب العمل ورئيس الكنيست سابقًا)، فيحيل ذلك إلى تناقضات إسرائيل منذ قيامها، فبرأيه ثمة “في إسرائيل ثلاث حروب باردة وهي الصراع بين الاستقلال اليهودي والنكبة الفلسطينية، والتوتر البنيوي بين السيادة الحاخامية والديمقراطية التي تنتمي لكل المواطنين، والحرب بين المحافظة الراسخة والليبرالية المنفتحة…هنا تفوق عرقي، احتلال فاسد.” (هآرتس، 17/12/2022)
ويستنتج من ذلك، بأن المعنى أو الجديد، الذي يأتي به نتنياهو اليوم، له وجهان: واحد إزاء الفلسطينيين والثاني للإسرائيليين، الأول: يتمثل بإحداث قطيعة مع فكرة، وعملية التسوية مع الفلسطينيين. والثاني: فيتمثل بالقطيعة التي يحدثها بين (الإسرائيليين، علمانيين ومتدينين)، وهي في الوجهين المذكورين بمثابة قطع بين اليهودية والديمقراطية، لصالح الأولى؛ إذ بات من المتعذر- على ما يبدو- الاستمرار في تلك المعادلة الصعبة، التي نشأت مع إسرائيل منذ قيامها، ولو شكليًّا، بخاصة مع توفر ظروف دولية وإقليمية مساعدة، ومع شعور إسرائيل بأنها باتت في مكانة مستقرة على الصعيد الدولي، رغم الشبهات التي تحوم حول سياساتها.
ولعل نحاميا شترسلر أفضل من عبر عن ذلك التداخل، بين الوجهين المذكورين، فبرأيه: “الاتفاقات التي وقع عليها نتنياهو مع الفصيلين الكهانيين في الحكومة، “الصهيونية الدينية” و”قوة يهودية”_ تحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية، ما يعني حربًا أهلية لا تنتهي وصراعًا مع كل العالم العربي…وزير المالية “بتسلئيل سموتريتش”، سيكون المسؤول عن الإدارة المدنية وعن مكتب منسق أعمال الحكومة في المناطق، وهكذا سيسيطر على توسيع المستوطنات وعلى شرعنة البؤر الاستيطانية وعلى قمع 2.5 مليون فلسطيني، سيقف إلى جانبه “إيتمار بن غفير”، وزير الأمن القومي، الذي حصل على صلاحيات غير مسبوقة لوضع سياسة الشرطة، بالإضافة إلى قيادة مباشرة على حرس الحدود، ما سيؤدي إلى انتفاضة ثالثة. هكذا فإن هذين الكهانيين سيدمران أي فرصة لاتفاق سياسي، ووجود آمن لدولة يهودية وديمقراطية داخل حدود الخط الأخضر، وهو نهاية الحلم الصهيوني. الخطوة الثانية لنتنياهو- المناهضة للصهيونية- هي تدمير جهاز القضاء…سيحطم استقلالية جهاز القضاء، وسيقصي المحكمة العليا، بدلًا من السلطات الثلاث ستكون هناك سلطتان، بالأحرى واحدة، وهي الحكومة. يعتبر هذا ضربة قاضية للديمقراطية كما هي معروضة في وثيقة الاستقلال. الخطوة الثالثة المناهضة للصهيونية لنتنياهو، هي إضعاف الدولة عبر تقسيم وخلط وزارات الحكومة، وتعيينات سياسية لا أساس لها، واتفاقات نهب هستيرية مع الأحزاب الحريدية. بدلًا من تشجيع التعليم والعمل فإن الاتفاقات ستشجع على الجهل والبطالة.” (“هآرتس”، 7/1/2023)
ما يجدر ذكره أن التحول الحاصل في إسرائيل ليس مفاجئًا، فممهداته في استناد الصهيونية للدين اليهودي، كما نظّر لها يهود علمانيون، منذ أواخر القرن 19، باعتبار اليهودية رابطة قومية، وليست دينًا فقط، وبتبرير استيطان فلسطين بأسطورة “أرض الميعاد” التوراتية؛ لاستخدام الدين في جذب الجماهير اليهودية، فيما اصطلح عليه بعلمنة الدين.
ومعلوم إن إسرائيل شهدت تحولًا آخر باحتلالها باقي أرض فلسطين في (الضفة، والقطاع، والقدس الشرقية)، في حرب يونيو 1967؛ إذ تم التطابق حينها بين الجغرافيا وأسطورة “أرض إسرائيل” (“أرض الميعاد”)، ما نجم عنه- بعد عشرة أعوام- تغيير في خريطتها السياسية بتراجع مكانة حزب العمل “ماباي” سابقًا، المؤسس للدولة لصالح اليمين القومي والديني (ليكود، والمفدال، والأحزاب الدينية). ومنذ ذلك الحين تراجعت المؤسسات العامة (القطاع العام، والكيبوتزات، والموشاف، والهستدروت)، سيما مع موجة الخصخصة، ما أفضى إلى تضاؤل ما سمي ببوتقة الصهر الإسرائيلية، التي كانت تتركز في القطاع العام ومؤسسات الدولة والجيش. وقد أدى ذلك، أيضًا، إلى تعزيز التناقض بين الطابع اليهودي/الديني للدولة، وطابعها العلماني والديمقراطي (نسبة لليهود فيها)، إذ غلب الوجه الأول الثاني.
من الإطاحة بأوسلو إلى الإطاحة بالسلطة:
هكذا ورغم سياساتها المختلفة إزاء الفلسطينيين، أينما كانوا، وبغرض تجزئتهم وإضعافهم، وخلخلة إجماعاتهم، إلا أن إسرائيل تنظر إليهم، كشعب واحد عدو، وكمصدر تهديد لها، سواء كانوا من “مواطنيها” في 48، أو في الأراضي المحتلة 1967، في (الضفة، وغزة، والقدس)، أو من اللاجئين في البلدان العربية أو الأجنبية، يفترض تغييبه أو إزاحته أو تهميشه.
وفي التجربة، وفيما يتعلق بالعلاقة مع السلطة الفلسطينية، فمن الواضح أن إسرائيل لم تلتزم بالاستحقاقات المطلوبة منها وفقًا لاتفاق أوسلو، طوال العقود الثلاث الماضية؛ إذ اعتبرت أراضي الضفة أراض متنازع عليها، ثم اعتبرتها حق لها، وفي الغضون جعلت الكيان الفلسطيني الناشئ مجرد سلطة (مع شرطة وضرائب) على شعبها فقط، إذ جيشها يتواجد في المدن الفلسطينية، أو يقتحمها وقت يشاء، ويرابط بين المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، فيقتل ويعتقل ويهدم البيوت، ويحمي المستوطنين.
الآن، ومع تشكيل نتنياهو حكومته الجديدة، التي تضم (أحزاب اليمين القومي والديني، وعتاة المتطرفين)، باتت إسرائيل غير معنية بالمواربة، إن في سعيها شطب الكيان الفلسطيني، بالتعامل مع الفلسطينيين من دون وكالة السلطة، عبر توسيع قاعدة العمال الفلسطينيين فيها، وبزيادة منح بطاقات VIP لـ(رجال أعمال، ومقاولين، وتجار، وشخصيات عامة)، أو ربما بسعيها إبقاءها هذا الكيان عند حدود الحكم الذاتي على البشر، من دون أي سيادة على الأرض أو الموارد أو المعابر، ومن دون صلة بحقوق وطنية جمعية للشعب الفلسطيني، ومن دون سلطة من أي نوع على المجتمع الفلسطيني، إلا فيما يتعلق بموجبات التنسيق الأمني مع إسرائيل.
ولعل أول تصويت للكنيست الجديد (11/1)، الذي جاء لصالح تمديد سريان القانون الإسرائيلي في مستوطنات الضفة، يؤكد ذلك؛ إذ هو كناية عن تحرر كامل من اتفاق أوسلو، وضم فعلي للضفة، وشرعنة للمستوطنات، وضمن ذلك ما يعتبره إسرائيليون بيوتًا وممتلكات لهم قبل 1948 في مدينة الخليل.
على أية حال فإن المطالبات بتحجيم السلطة الفلسطينية، أو عدم التسامح معها، بالضغط عليها ومعاقبتها، أو حتى للتخلص منها نهائيًّا، باتت تشكل تيارًا في السياسة الإسرائيلية، مع حكومة تضم (نتنياهو، وسيمريتش، وبن غفير).
وهذا ألون بنكاس يوضح مدى ضعف السلطة وارتهانها لإسرائيل، بقوله: “توجد عملة واحدة وغلاف ضريبي واحد وتجارة خارجية واحدة، 55 في المئة من استيراد الفلسطينيين مصدره إسرائيل، و80 في المئة من التصدير الفلسطيني مخصص لإسرائيل، نحو 80 ألف فلسطيني يعملون في إسرائيل في فرع البناء، و15 ألفا في الصناعة والخدمات. إذا كان هناك أي أحد يبحث عن أدلة وشهادات على الضم بحكم الأمر الواقع، فإن الاقتصاد الفلسطيني هو المكان لرؤيتها، ما بدأ كرابطة قوية أصبح اعتمادًا اقتصاديًّا مطلقًا للفلسطينيين على إسرائيل واقتصادها، تبلغ الميزانية السنوية العامة للسلطة 5.7 مليار دولار، 65 في المئة من الميزانية مصدرها الضرائب التي تجبيها إسرائيل”. (“هآرتس”، 8/1/2023)
رغم كل ذلك، ثمة وجهة نظر أخرى ترى بأن مصلحة إسرائيل عدم الإطاحة بالسلطة الفلسطينية، والإبقاء عليها لأغراض داخلية، وللصورة الخارجية، لكن مع تقييدها، ومنع ما يمكنها من التحول إلى دولة مستقلة. وبحسب إيال زيسر فإن: “السلطة الفلسطينية تحولت من شريك لصنع السلام إلى وكيل صيانة، يساعدنا، بشراكة مصالح خاصة؛ للحفاظ على الوضع الراهن. مسؤولون حذروا من انهيار السلطة ودعوا لمساعدتها على الصمود، لأنها إذا ما انهارت، فستسود الفوضى. في الحكومة يوجد من يؤمن بأن الحفاظ على الوضع القائم سيسمح لتثبيت التواجد الإسرائيلي في يهودا والسامرة، وجعل خطوة فك ارتباط أو انفصال متعذرة، دون إعلانات تثير علينا غضب الأمريكيين.”(“إسرائيل اليوم”، 16/1/2023)
هكذا، فإن سياسات إسرائيل إزاء الفلسطينيين عمومًا ستتركز- على الأرجح- في الآتي:
أولًا: سيجد فلسطينيو 48 المواطنين أنفسهم إزاء محاولة قضم مزيد من حقوقهم الفردية والمدنية، ومكانتهم كمواطنين، تبعًا لتقلص الهامش الديمقراطي، وتعزز الطابع اليهودي للدولة.
ثانيًا: سيصبح وضع فلسطينيي الضفة والقطاع أكثر توترًا، وربما أكثر اشتباكًا مع الاحتلال في الأغلب؛ لمواجهة سياسات توسيع الاستيطان، ومصادرة الأراضي، والهيمنة.
ثالثًا: زيادة الضغط على السلطة، وتقييد صلاحياتها أكثر من قبل، يشمل ذلك، ربما، إقفال حلم القيادة الفلسطينية بدولة مستقلة، وإطاحة أوهامها بالتسوية مع إسرائيل في هذه الظروف. وفي ذلك سيكون الفلسطينيون، من النهر إلى البحر، أمام واقع من احتلال وأبارثايد في نفس الوقت، وهذا ما تحدثت عنه تقارير دولية كـ(منظمة هيومن رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية، ومفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وحتى بيتسيليم الإسرائيلية).
وهذا يؤكده تسفي بارئيل، في مقال له عنوانه: “حكومة بن غفير وسموتريتش تسعى لإعادة احتلال الضفة”، بقوله: “تسعى حكومة بن غفير وسموتريتش للعودة إلى أيام الاحتلال الأولى، ومحو بقايا اتفاقات أوسلو، وإلغاء وجود السلطة، وإدارة منظومة التعليم والصرف الصحي والمياه والكهرباء للفلسطينيين، وإعادة الخليل كله إلى تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، ويأمل سموتريتش وبن غفير بألا يبقى للسلطة خيار غير الاستقالة…هناك قرابة 100 ألف عامل فلسطيني من الضفة يعملون في إسرائيل، بالإضافة إلى آلاف من الذين يعملون من دون تراخيص والحصيلة، وقف التنسيق الأمني مع السلطة، يسلّم محمود عباس مفاتيح السلطة”. (“هآرتس”،12/1)
وكان بارئيل تساءل في مقال سابق له: “كيف سنقنع العالم، الآن، بأن الصهيونية ليست من أشكال العنصرية؟!”. (“هآرتس”، 29/12/2022)
عدوانية إسرائيلية وتحديات فلسطينية:
هكذا، فإن ما تقدم يفيد بأن إسرائيل لم تتغير كثيرًا، ففيما يتعلق بالفلسطينيين، فقد انتهجت كل الحكومات الإسرائيلية سياسات معادية لوجودهم ولحقوقهم (الوطنية، والمدنية)، الجمعية والفردية، مع تعزيز الاستيطان، والاعتقال الإداري، وتهديم البيوت، وانتهاك حرمة الأماكن المقدسة، والقتل (في العام الماضي مثلًا قتل حوالي230 فلسطينيًّا برصاص الجيش الإسرائيلي والمستوطنين)، لكن بعض الحكومات كانت تعمل كل ذلك بقفازات ناعمة (إن جاز التعبير)، وبخطاب لا يقطع مع السلطة الفلسطينية، في حين أن الحكومة الحالية تضم أشخاصًا من عتاة المستوطنين، الذين ارتكبوا جرائم، أو حرضوا ضد الفلسطينيين، والذين يعتبرون أن لا حق لهؤلاء في بلدهم.
من جهة ثانية، وبما يتعلق بإسرائيل فإن ذلك التحول كشفها على حقيقتها، بدون تلك الادعاءات التي طالما روجتها عن ذاتها كدولة علمانية، وباعتبارها كواحة للديمقراطية والحداثة وكامتداد للغرب في الشرق الأوسط، إذ أن أركان تلك الحكومة لا تهمهم كل تلك الادعاءات، ويصرون على تهميش كل ماله علاقة بالعلمانية بدعوى الديمقراطية (الفوز بالانتخابات)، ولصالح إسرائيل كدولة يهودية، أو كدولة لليهود فقط، حتى لو كانت دولة عنصرية ودينية ولا ديمقراطية.
ثمة ثلاث ملاحظات هنا:
الأولى: تفيد بأن ما يحصل سيخلق تحديات صعبة للفلسطينيين ولقضيتهم، لجهة تكريس سياسات الاستيطان والحصار، ومصادرة الأراضي، والهيمنة بكل الوسائل، وهذا سيفتح على تطورات تتعلق بوضع مصير السلطة الفلسطينية على الطاولة، كما سيفتح ربما على انتهاء الأوهام المتعلقة بالتسوية معها في هذه الظروف.
الملاحظة الثانية: إن التطرف وكراهية الآخر (أي الفلسطينيين)، سيرتدان عكسًا؛ إذ إن تقلص هامش (الديموقراطية، والعلمانية، والليبرالية) في إسرائيل، سينقل عدواة إلى علاقة التيارات الإسرائيلية بعضها ببعض. وبحسب تسيبي ليفني، إسرائيل ستكون “دولة ضعفت فيها أجهزة القضاء وإنفاذ القانون، من شأننا أن نجد وزير دفاع يعطي الأذون للمزيد من المستوطنات كي لا نتمكن أبدًا من الانفصال عن ملايين الفلسطينيين، ويخضع الجيش الإسرائيلي إلى قيادة المستوطنين، من شأننا أن نرى وزراء بدلًا من أن يحيدوا برميل البارود المتفجر الذي نجلس عليه يفجرونه باسم أيديولوجيا دينية مسيحانية.” (“يديعوت أحرونوت”، 1/11/2022). وبرأي يوسي هدار فإن: “إسرائيل آخذة في التفكك، لم يعد الحديث يدور فقط عن التوترات المعروفة بين اليمين واليسار، المتدينين والعلمانيين، المركز والمحيط، هذه المرة يدور الحديث عن كانتونات حقيقية، بغياب حوكمة وبفقدان سيادة، منذ نشأت وإسرائيل تعيش تهديدات لا تتوقف من الخارج، لكن يخيل أن التهديد الأخطر هذه المرة هو من الداخل.” (معاريف، 23/12/2022)
أما الملاحظة الثالثة: فتفيد أن إسرائيل ستجد نفسها في صورة أخرى مهزوزة، في الرأي العام العالمي، وربما أن عديد من الدول ستجد نفسها عاجزة، أو مترددة، في دعم سياساتها، ما يذكر بما حصل لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا سابقًا. وهو ما حذر منه أفي غيبل في مقال عنوانه: “لم تعد إسرائيل نورًا لـ “الأغيار” ولا لليهود”، جاء فيه: “في أعقاب الحكومة الجديدة، تتخذ إسرائيل في نظر الكثيرين منهم صورة من تخون القيم، التي قبعت في أساس الحلف بين إسرائيل والولايات المتحدة: إهانة السلطة القضائية، بظلم “عرب إسرائيل”، وبانعدام المساواة بين الجنسين، وبتدخل الدين في شؤون الدولة والفرد، وبتفضيل القيم اليهودية على القيم الديمقراطية. تقلص الميول الديمغرافية في إسرائيل وزن القبيلة العلمانية بينما تتعزز قوة القبائل التي ترى في القيم الليبرالية تهديدًا.” (“معاريف”،11/1/2023)
باختصار: مشكلة الفلسطينيين مزدوجة، فهم لم يستطيعوا، في تجربتهم الوطنية المديدة، الاستثمار في التناقضات الكامنة في إسرائيل، بين علمانيين ومتدينين، وشرقيين وغربيين، ويسار ويمين، وفقراء وأغنياء، ومستوطنين قدامى ومستوطنين جدد. وأيضًا، هم غير قادرين، سيما في أوضاعهم الراهنة، وفي ظل المعطيات غير المواتية عربيًّا ودوليًّا، على استنهاض أحوالهم لمواجهة التحديات التي تفرضها إسرائيل؛ بسبب اختلافاتهم، وضعف كياناتهم، كما بواقع قصور إدراكاتهم لطبيعة إسرائيل، وافتقادهم إستراتيجية سياسية وكفاحية مناسبة وممكنة.