المقدمة:
يبزُغُ من بين ثنايا تداعيات الزلزال المُدِّمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال غربي سوريا، في 6 نوفمبر 2023م، وحصد آلاف الضحايا_ متغيرات سياسية وأمنية وازنة لخريطة مصالح القوى الإقليمية والدولية المتشابكة، وغالبًا المتضادة، في الشمال السوري، من دون احتمالية أن تُزيح معها أجواء الاضطراب والفوضى العارمة التي لطالما وسمت مشهد ساحته “المنكوبة”، طيلة أمد الأزمة السورية.
وإذا كانت مؤشرات تلك المتغيرات قد لاحت بَواطنها قبيل وقوع الزلزال، إلا أنها مُرشحة للتعمّق أكثر في مرحلة “ما بعده”؛ بعدما أرجأ، مؤقتًا، عملية عسكرية بريِّة واسعة كانت تهدد تركيا بشنها في شمال سوريا، نظير انكفائها على جهود معالجة تداعيات الكارثة الفادحة، والتي ستنعكس بدورها على المشهد السياسي التركي المُشارف على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، والتي بات مصيرها على المحك، أسوة بمصير الرئيس “رجب طيب أردوغان” نفسه.
وفي حين أجلَّت تداعيات الزلزال مسار التقارب السوري – التركي، بدون أن تلغيه، فإنها أعادت رسم خريطة انتشار القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الشمال السوري، وسط ترقب إيراني لملء الفراغ الناجم إما عن انشغال تركيا بمعالجة آثار الكارثة، أو انكباب روسيا على تحديات حربها مع أوكرانيا؛ سبيلًا لتوسيع النفوذ المرتبط بمشروعها التوسعي الطموح في المنطقة، في ظل قيود أمريكية ضابطة، مما سيُلقي بظلاله على قلب معادلة الموازين السياسية والأمنية، ويؤثر في أداء الجماعات المسلحة الدائرة في فلك تغذيتها( مالًا، وسلاحًا)، بينما قد يجد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الإرهابي في أجواء الفوضى والتوتر بيئة خصبة لتنشيط خلاياه الجاثمة هناك إبان هزيمته.
أولًا: المتغيرات السياسية
جمّدت كارثة الزلزال عملية عسكرية برية واسعة كانت تهدد تركيا بشنها في شمال سوريا؛ لأجل إحراز أهداف سياسية وأمنية واعدة لسياستها الإستراتيجية تجاه الأزمة السورية، بحيث تتبع- وفق ما كان مخططًا لها- سلسلة ضربات جوية بدأتها، منذ شهر نوفمبر 2022م؛ ردًا على هجوم وقع بمدينة إسطنبول، في 13 من الشهر نفسه، وأسفر عن خسائر بشرية، اتهمت فيه “وحدات حماية الشعب” الكردية السورية (YPG)، التي تشكل القوام الرئيس لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، المشكلة عام 2015م، والمدعومة ماليًّا وعسكريًّا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية_ بوصفها حليفًا رئيسًا في الحرب ضد تنظيم “داعش” بسوريا، والتي تعدها “أنقرة” “منظمة إرهابية” وجناحًا سوريًّا لحزب العمال الكردستاني التركي (PKK) المحظور والمصنف (تركيًّا، وأمريكيًّا، وأوروبيًّا) “منظمة إرهابية”، والذي يخوض حربًا انفصالية ضد تركيا منذ العام 1984م.
ورغم أن توجه تركيا لتأجيل نفاذ عمليتها العسكرية، التي قوبلت بانتقاد غربي، سبق وقوع الزلزال لإفساح المجال أمام الجهود الروسية والأمريكية للتهدئة واختبار مسار التقارب مع النظام السوري، إلا أن تداعيات الكارثة قلبت معادلة الأولويات؛ إزاء انكفاء تركيا على جهود معالجة آثارها الفادحة، واستدعاء نحو 25 ألفًا من عناصر جيشها للمساعدة فيها، وانشغالها بإعادة الإعمار، مما يجعل منها- أيضًا- معطيات وازنة تحتل موقعًا حاسمًا في ميزان تقديرات الناخبين الأتراك لمدى نجاح الحكومة التركية في إنجاز مهامها قبيل إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، التي بات مصيرها على المحك (دستوريًّا، وعمليًّا)، في ظل انتقادات المعارضة بتقاعسها قبل الكارثة وتقصيرها بعدها، وذلك بديلًا عن ما كان يتطلع إليه الرئيس “أردوغان” من وراء حملته العسكرية في إعلاء فرص فوزه بالمعركة الانتخابية عند التلويح بتهديد الأمن القومي لحشد القومية المناهضة للخطر الكردي الماثل عبر الحدود.
ومع ذلك، ليس من السهل على الرئيس “أردوغان” تغيير سياسته تجاه سوريا؛ فبالرغم من ارتباط مصيره الانتخابي المقبل بمدى نجاحه في تجاوز المحنة، وتأثير انكبابه على جهود معالجة تداعياتها في دوره الإقليمي، وإرجاء عمليته العسكرية التي عوَّل عليها لما سمَّاه “تطهير” الشمال السوري من “قوات سوريا الديمقراطية”، في مناطق سيطرتها لاسيما: تل رفعت، وعين العرب “كوباني”، ومنبج بمحافظة حلب، وإنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومترًا عند الحدود الجنوبية_ إلا أن التحرك العسكري الذي بات مؤجلًا لم يكن يشكل سوى حلقة ضمن حملته الواسعة في شمال سوريا، بما يبقيه قائمًا في الأجندة التركية حتى لو بعد التعافي من تداعيات الزلزال.
إذ يتصدّر هدف منع قيام دولة كردية، أو “فيدرالية”، في شمال سوريا، أولوية الإستراتيجية التركية تجاه الأزمة السورية، إزاء ما تعتبره تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي وتقويضًا لدورها المنشود في الساحة السورية ولنفوذها الطموح في المشهد الإقليمي، وإضعافًا لجهودها في مقارعة حزب العمال الكردستاني الكردي، في ظل تواتر مساعي أكراد سوريا لتثبيت دعائم حكمهم الذاتي تحت مسمى “الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا”، أو “روج آفا”، مما يفسّر زخم نشاط تركيا عند حدودها الجنوبية، ومعارضتها الشديدة لإعلان دولة “كردستان العراق” الاستقلال؛ نظير خشيتها بانسحاب التجربة إلى داخل عقرها، في ظل نزعة حزب العمال الكردستاني الانفصالية، بما يشكل جبهة ممتدة من شمال سوريا حتى الإقليم الكردي العراقي، قد تؤول دولة حيوية ذات منفذ مطل على البحر الأبيض المتوسط، ستقف حاجزًا أمام اعتماد “كردستان العراق” على خطوط الأنابيب التي تمر في تركيا فتعرض اقتصاد أنقرة للخطر. ومن خلال مسعى تركيا الدؤوب لإحكام القبضة الأمنية على الحدود السورية- التركية، التي يصل طولها إلى نحو 911 كم، تستطيع- وفق تصورها- إحباط أي محاولة لإقامة الدولة الكردية، ومنع تقدم عناصر “داعش” إليها، ويحول دون تدفق اللاجئين إلى أراضيها، باعتباره هاجسًا تركيًّا مقلقًا، في ظل استضافتها لأكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري، مثلما يؤمن لها ضرب خصمها التقليدي، الممثَل في حزب العمال الكردستاني، بجناحه السوري.
في حين تتيح سيطرة تركيا المنشودة على منطقة شمال سوريا- الغنية بالثروات النفطية والمائية والمشكِّلة لحلقة وصل بين الدول العربية وأوروبا- التمتع بقوة إقليمية مؤثرة، وتعزيز نفوذها في الساحة السورية، بما يُسِّهل عليها فرض نفسها كرقم حيوي على طاولة تسوية الأزمة السورية سياسيًّا، في ضوء تصورها بأن من يملك حضورًا قويًّا على الأرض ستكون له الكلمة في رسم مستقبل سوريا.
غير أن شبكة المصالح التركية في شمال سوريا تصطدم مع مصالح قوى إقليمية ودولية متداخلة ضمن ساحته؛ فإذا كانت إيران- الحليف الداعم للرئيس “بشار الأسد”- تتشارك مع تركيا في الخشية من إقامة الدولة الكردية في سوريا، تحسبًا من قلق محاكاة التجربة داخل أراضيها التي تضم من الأكراد حوالي (8- 10) ملايين نسمة يعيش معظمهم في غرب وشمال غرب البلاد، رغم جهودها، عام 1946م وبعد عام 1979م، في “قصقصّة” أجنحتهم بالقبضة الحديدية وإحباط تطلعهم للكيان المستقل، فيما تنظر إلى قوات “قسد” كأداة أمريكية لمواجهة نظام “الأسد” وتجزئة الأراضي السورية شمالًا_ إلا أن رؤيتها متمايزة عن تركيا حيال طبيعة الأزمة السورية، بعيدًا عن مسارعة إيران لتقديم التعازي إليها في ضحايا الزلزال المدمر وإبداء الاستعداد لإرسال المساعدات اللازمة، وبعيدًا عن حالة التقارب الثنائي التي برزت في مباحثات “سوتشي”، برعاية روسية عام 2018م، ومحادثات مسار “أستانا”، الذي تشكل (روسيا، وتركيا، وإيران) الدول الضامنة له، وذلك إزاء الخشية الإيرانية من الوجود التركي في سوريا، بوصفه تهديدًا طويل الأمد لمستقبل الرئيس”الأسد”، وللمعاقل الساحلية الشمالية للنظام السوري، وعرقلة التقدم الإيراني الجامح نحو البحر الأبيض المتوسط، وتحفيزًا “للجيش الوطني السوري” الموالي لتركيا على تنفيذ عمليات عسكرية جديدة لاستعادة مدينة حلب، التي افتتحت فيها إيران قنصلية قبل أعوام.
ويبدو أن إيران تبحث عن دور أوسع لها في سوريا بعد الزلزال؛ إذ سارعت لإظهار تواجدها في مدينة حلب عبر زيارة قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال “إسماعيل قاني”، في 8 فبراير 2023م؛ لتقديم المساعدات والإشراف على عمل فرق الإنقاذ الإيرانية التي توجهت إلى سوريا فور وقوع الزلزال للمشاركة في عمليات إزالة الركام والأنقاض. غير أن حجم التحديات التي تواجه “طهران” في الساحة السورية ليس سهلًا؛ إزاء نفوذ القوى الفاعلة ضمنها، والتي من شأنها مجتمعة، إما أن تقصيها من أية استحقاقات مستقبلية في سوريا، أو تقوِّض نفوذها هناك، مما يدفعها لحفظ تواجدها (السياسي، والعسكري) في شمال سوريا بوصفه جزءًا من طموحها التوسعي الإقليمي، بالرغم من أزماتها الداخلية وثقل العقوبات المفروضة عليها وتعثر مفاوضات “فينا” بشأن برنامجها النووي، إلا أن الصراع في سوريا بالنسبة إليها مصيري، والهزيمة فيه ستكون تاريخية للمشروع الإيراني بالمنطقة.
ويطل هنا ثِقل الوجود الأمريكي في الشمال السوري المضاد لمساعي إيران التوسعية؛ غير أن الولايات المتحدة لا تزال غير مستعدة لأي تغيير في الوضع الراهن أو فتح قنوات اتصال مع النظام السوري، بما تجسد في بادئ الأمر إزاء امتناعها عن تخفيف العقوبات والقيود الاقتصادية التي تفرضها بموجب “قانون قيصر” على سوريا، بعد وقوع الزلزال، لكن بعد اشتداد حملات الاستنكار (العربية، والإسلامية) قامت “واشنطن” بإبداء بعض المرونة، بتعليق العقوبات والقيود المفروضة بموجب القانون لمدة 180 يومًا، مع تأكيدها على استئناف العمل بها لاحقًا.
في حين يدفع الدور الروسي النافذ في الشمال السوري، تجاه إعادة دمج المنطقة الشمالية – الشرقية السورية ضمن سيطرة الرئيس “الأسد”؛ لمنع تركيا من الاستيلاء عليها وتهديد تواجدها في شمال غرب سوريا بمناطق التماس حول محافظة إدلب، حيث ترتبط روسيا مع تركيا بشأنها بعدة اتفاقات أمنية منذ عام 2019م، فضلًا عن مخاوف إعادة ترتيب خريطة النفوذ في الشمال السوري.
ومن هنا سعت روسيا لرعاية الحوار الوطني السوري في “سوتشي”، للتوصل إلى اتفاق -لم يتم بين الأكراد، والنظام السوري- وذلك بعدما عقدت اتفاقها الخاص مع الأكراد، والذي أنشأت بموجبه قاعدة عسكرية في منطقة “عفرين”، في مارس 2017م، مقابل تأمين الحماية لهم في مواجهة تركيا. ومن ثم التعهد لاحقًا، وفق اتفاق جرى مع تركيا، بسحب عناصر “قسد” من مدينتي (تل رفعت، ومنبج) السوريتين وبمسافة 30 كيلومترًا من الحدود السورية التركية، أسوة بتعهد أمريكي مماثل لتأمين عناصره هناك، لم يتم تنفيذهما حتى الآن، فيما كان هدف روسيا الأبعد الضغط عليهم ودفعهم نحو “أحضان نظام الأسد”، وبالتالي وضع حد لتبعيتهم للولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها ورقة لتقديم تنازلات في ملفات متعلقة بتحرك النظام السوري في بعض المناطق السورية. إلا أن ذلك المقترح لا يجد قبولًا مرضيًّا عند الأكراد؛ لأنه يقلص نطاق مساحتهم الجغرافية، ويدفعهم إلى المواجهة المباشرة مع تركيا، ويترك قواتهم تحت نيرّ التفكيك مستقبلًا، كما يجعلهم عالقين بين مطلب حليفهم الأمريكي واشتراط النظام السوري بسط سيادته على الشمال السوري واستلامه دُفَّة الأمور (الأمنية، والعسكرية، والمحلية)، واستعادته السيطرة على الموارد النفطية في المنطقة، إذ كلا الأمرين يقودان الأكراد نحو مصير مجهول.
وإذا كانت تداعيات الزلزال قد عطلت مسار التقارب السوري – التركي الذي سعت إليه روسيا على مدار العام الماضي تمهيدًا لعقد لقاء يجمع الرئيسين “الأسد” و”أردوغان”، وتدشينًا للقاءات سابقة جمعت مسؤولي أجهزة الاستخبارات في البلدين، ولكنها لم تلغه تمامًا، إذ قد تشكل بالنسبة إليهما فرصة مواتية لإصلاح العلاقات الثنائية، والتأسيس على المصالح المشتركة التي تجمعهما في مواجهة “قوات قسد”، مقابل تنحية الخلافات جانبًا في ضوء التداعيات الفادحة الناجمة عن الزلزال والتي تتطلب تنسيقًا وتعاونًا مشتركًا لمواجهة الأزمة الطارئة.
ويبدو أن النظام السوري يسعى من بين ثنايا تداعيات الزلزال في حدوث انفراجة إقليمية ودولية، وتعليق العقوبات المفروضة عليه واستعادة بسط سلطته في الأجزاء السورية الخارجة عن سيطرته؛ إذ بعد أن أصرت الحكومة السورية على أن تكون عملية حصر المساعدات الدولية بالقنوات الرسمية الحكومية السورية، وافقت أخيرًا على إرسالها إلى شمال غربي سوريا من خلال عدد أكبر من المعابر الحدودية مع تركيا. وقد سعى النظام السوري لاتخاذه كمبرر لرفع الغرب عقوباته عن دمشق، وقد تم له ذلك بشكل جزئي، بعد تأكيد إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” أن كل الصفقات السورية التي تتم على أسس إنسانية، والتي كان من الممكن لها أن تتعارض مع العقوبات، أصبح بإمكانها أن تتم خلال فترة تمتد لستة أشهر، بما شكل انتصارًا على العقوبات بالنسبة للنظام السوري. وبعيدًا عما يمكن أن يكسبه الرئيس “الأسد” سياسيًّا من زيادة تدفق المساعدات إلى بلده، فثمة واقع يشير إلى أن أي تعاطف طبيعي مع محنة السوريين قد يساعد النظام السوري، الذي قاطعته معظم دول المجتمع الدولي، على كسر الجليد من حوله والخروج من حالة العزلة الدولية.
وقد يسهم “الدفء” الذي أحاط بالرئيس “الأسد” من جانب الدول العربية، التي هبت للمساعدة وإبداء الاستعداد لتقديم العون عبر الاتصالات الهاتفية والزيارات الدبلوماسية، ومنها يتم لأول مرة لأكثر من سنوات، وإرسال المساعدات الإغاثية والإنسانية_ في فتح قنوات جدية بعد طول انقطاع، قد تؤدي في مرحلة لاحقة إلى عودة سوريا لشغل مقعدها في جامعة الدول العربية.
ثانيًا: المتغيرات الأمنية
إذا كانت مؤشرات المتغيرات الأمنية في الشمال السوري قد لاحت أبعادها قبيل وقوع كارثة الزلزال، إلا أنها بصدد التعمق أكثر في مرحلة ما بعده، في ظل تأكيد القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في ساحته، والتي تُعد المحرك الفعلي لإدارة ديناميكيته الميدانية، على إظهار القوة في تثبيت مناطق النفوذ والسيطرة لعدم استغلال الوضع الراهن في إحداث التغيير.
وقد سبق التحرك الكارثة بكثافة؛ إذ قامت تركيا، في 3 فبراير 2023م، بتوسيع خريطة انتشارها العسكري عبر ضخ نحو 10 آلاف جندي ونشر عشرات القواعد العسكرية ودمج النقاط العسكرية التركية في مناطق خفض التصعيد شمال غربي سوريا، والتي تأسست بموجب اتفاق تركي – روسي عام 2017م ضمن محادثات مسار “أستانا”، مُشكِّلةً عائقًا أمام تقدم قوات النظام السوري والقوات الروسية والجماعات المسلحة الموالية لإيران، باتجاه مناطق سيطرة المعارضة السورية، وذلك عقب تحرك مماثل في شمال سوريا بعملية إعادة انتشار وتمركز في (إدلب، وريف حلب)؛ لمواجهة تقدم قوات النظام السوري، وتحجيم تحركات “هيئة تحرير الشام”، وزيادة الضغط عليها ليس فقط في سوريا ولكن أيضًا داخل تركيا، التي سبق أن صنفتها “منظمة إرهابية” في مطلع العام 2018م. غير أن خسائر تركيا الاقتصادية جراء تداعيات الزلزال، والمقدرة بنحو 84 مليار دولار، ستدفعها إلى تغيير هندسة الانتشار على الساحة السورية، بينما قد يؤدي انكفائها على جهود معالجة أزمتها المتفاقمة في إضعاف وضع المعارضة السورية، حيث لا تمتلك تركيا راهنًا فائض الدعم والمساعدة لتقديمه إليها.
وبالمثل، دخلت إيران على الخط ذاته لإعادة ترتيب خريطة الانتشار والنفوذ في مناطق السيطرة بسوريا، في الوقت الذي تدرك فيه “أنقرة” أن “طهران” ستسعى لاستغلال انكفائها على أزمتها وظروف إعادة الانتشار المحتملة ومسار التقارب التركي – السوري، في محاولة ملء الفراغ الذي يمكن أن تنسحب منه القوات التركية، إلا أنها تستغل ذلك كورقة ضغط على روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، إذ إن إحلال الوجود الإيراني بالتركي لن يكون في صالحهم، ويشكل موضع رفض من جانبهم، لاسيما في ظل مساعي إيران للتوسع في حلب، بحيث باتت تشكل طوقًا حول مناطق نفوذ النظام السوري نفسه، ضمن دائرة ممتدة من حلب إلى سواحل اللاذقية، بوصفها خطوة ممهدة لترتيب الانتقال إلى الضفة الشرقية من نهر الفرات، حيث مناطق نفوذ “قوات قسد”، باتجاه دير (الزور والبوكمال)، وربما تهدف أيضًا إلى بناء موازين القوى في مواجهة ضربات الاحتلال الإسرائيلي، بل واحتمال مضاعفتها في ظل الرسائل التحذيرية الإسرائيلية من مغبة الإقدام عليها.
في حين دفعت الحرب الروسية – الأوكرانية إلى قيام “موسكو” بتخفيف تواجدها العسكري في سوريا، عبر سحب العديد من قواتها وقدراتها الجوية لإعادة توجيهها صوب الحرب مع أوكرانيا، مما فرض قيودًا على حركتها السياسية والعسكرية داخل ملف الأزمة السورية لصالح إيران، سينعكس بالضرورة على حالة التحكم الروسية بمفاعيل المشهد في الشمال السوري.
وبالتوازي، عززت الولايات المتحدة الأمريكية تواجدها في مناطق الشمال السوري، تحت عنوان دعم حليفتها “قسد”، وفي إطار تأكيد استمرار مهمة التحالف الدولي للحرب ضد “داعش”، في حين قد يشكل جزءًا من قواعد اللعبة لبناء التوازنات في مواجهة الوجود (الروسي، والإيراني). ورغم إعلان التحالف الدولي، في 4 فبراير 2023م، بأن قوات “قسد” طهرت “الرقة” شرق سوريا، ومحيطها من عناصر “داعش”، إلا أن الأخير واصل عملياته الإرهابية بعد وقوع الزلزال، مما يشي بمساعيه لاستغلال أجواء الفوضى والاضطراب في تنشيط خلاياه الإرهابية.
وفي المحصلة: أحدثت تداعيات الزلزال المدمر متغيرات (سياسية، وأمنية) وازنة لخريطة مصالح القوى الإقليمية والدولية المتشابكة، وغالبًا المتضادة، في الشمال السوري، ولكنها لم تقوِّضها كليًّا، طالما بقي الحل السياسي بعيدًا عن أفق ساحته المتوترة، بينما يبقى العنصر البشري الحلقة الأضعف، سواء في مداميك القتال الدامية، أم نتيجة آثار كارثة طبيعية فادحة.