نقطة7 : الوطنيات
تنقسم أعمال محمد عبدالوهاب الوطنية إلى قسمين كبيرين: الأغنية الوطنية والنشيد -المارش، وكلها جاءت تطويرًا للأغنية الوطنية والأناشيد الدرويشية. لقد لحن سيد درويش عشرات الألحان والأغنيات الوطنية التي تدعو إلى محاربة الوجود الأجنبي في مصر سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وتمتلئ مسرحياته الغنائية بهذين النوعين من الأغاني: الأغنية الوطنية (الطقطوقة) ذات الكلام الوطني ونذكر منها: يا أمي ليه تبكي علىّ، سالمة يا سلامة، القلل القناوي، وشد الحزام على وسطك. أما النشيد-المارش، فنجده في أغنيات كثيرة أذكر منها: الجيش رجع من الحرب- أحسن جيوش في الأمم (شهر زاد 1922)، قوم يا مصري،… وغيرها. وعلى منوال هذين النوعين نسج محمد عبدالوهاب عشرات الأغنيات الوطنية والأناشيد، إنه صاحب أكبر عدد من هذه النوعية من التأليف الموسيقي، من النوع الأول نذكر : حب الوطن فرض علىّ 1933، ونذكر أيضًا مين زيك عندي يا خضرة 1943، التي تُغنى بالعلم المصري الأخضر. ويطور محمد عبدالوهاب الأغنية الوطنية العاطفية فيلحن سنة 1948 قصيدة “فلسطين”، وهي تأملية رثائية تصف كارثة ضياع فلسطين، فيأتي نصف الأغنية بشكلٍ إلقائي Reciativo من دون إيقاع وعند دخول الإيقاع في جملة “أخي أيها العربي الأبيّ” يستعمل الملحن إيقاع ثقيل وبطيء شبيه بالمارش الجنائزي تعبيرًا عن الحدث -النكبة. ويصل هذا النوع من الأغنيات الوطنية -العاطفية الدرامية إلى ذروته في قصيدة “مصر نادتنا” 1948، فيعطينا لحنًا وطنيًّا رومانتيكيًّا يذكر برومانتيكية شوبان في أعماله الوطنية (البولونيز،.. وغيرها)، وكذلك في تحفته الدارمية الكبيرة قصيدة دمشق (سلام من بردى 1943)، أما نشيد الجهاد(هتف الداعي ونادى للجهاد 1941)، فيأتي بين النشيد والمارش ويستعمل فيه الكورال الرجالي مقسوم إلى قسمين: قسم يغني على الجواب (تينور) وقسم على القرار (باص)، وذلك في المذهب (قلبي يمين لساني)؛ لإخفاء طابع النشيد وصفة المارش، الذي نشعر به من دون المبالغة في إظهار آلات الإيقاع العسكرية أو غيرها.
النوع الآخر من الأعمال الوطنية من الأغاني الوطنية والأناشيد، نجد بدايتها عند محمد عبدالوهاب في نشيد تحية العلم ( أيها الخفاق -دموع الحب 1935)، ونلاحظ فيه بداية التوزيع الكبير، الذي نجده في أناشيده القومية الكبيرة، ونجد فيه تأثره الكبير بـ”فردي” في أوبرا عايده ونأتي إلى بداية أعماله القومية الكبيرة في “نشيد الحرية ” 1952، ولابد هنا من ذكر نشيده المارش العظيم” نشيد القسم ” 1955.
وتبدأ مرحلة جديدة من الإضافات على سيد درويش وذلك في أغانيه الوطنية الكبيرة، التي تشارك في غنائها مجموعة من المطربين: قولوا لمصر تغني معايا 1956، الوطن الأكبر 1958، الجيل الصاعد 1961، صوت الجماهير1963، وأخيرًا الأرض الطيبة (صوت بلادي- في الثمانينيات)، كل ذلك بمصاحبة أوركسترا كبير مع توزيع أوركسترالي ضخم، موصلًا الأغنية الوطنية إلى ذروتها الكبيرة، مع أنها بدأت كبيرة مع سيد درويش- كما ذكرنا-: في قوم يا مصري، وأحسن جيوش، والجيش رجع. ولا بد هنا من ذكر نوع جديد نهائيًّا للأغنية الوطنية ابتكره محمد عبدالوهاب في أغنية “في حب مصر” غناء وردة، ويسبق غناء كل مقطع، على خلفية عزف الأوركسترا، إلقاء أبيات من أشعار أمير الشعراء أحمد شوقي الوطنية، بصوت الممثل الكبير محمود ياسين، ولا ينسى فيها الملحن كورال الرجال في المقاطع الغنائية الحماسية على إيقاع المارش (يا ربنا يا الله)، كذلك التوزيع الأوركسترالي الكبير. ولابد من ذكر الأغاني الوطنية – الأهازيج، التي ابتكرها محمد عبدالوهاب مستوحيًا إياه من هتافات المظاهرات مثل: طول ما أملي معايا، بطل الثورة إحنا معاك، ناصر، والله عرفنا الحب، الذي يستعمل فيها جملة “كان الشيطان بيعزم يوم على ابن الناس” من أغنية “الشيطان” لسيد درويش (البروكة 1921)، في جملة “الحرية كفاح ومبادئ صلى عليها الشعب وصام” وفي المقطع المشابه،… وغيرها .
إن كل ما ذكرناه هنا قليل من كثير لحَّنه محمد عبدالوهاب، وكل هذا على سبيل المثال لا الحصر؛ فأغاني محمد عبدالوهاب الوطنية- خاصة في مرحلة ما بعد الثورة -تُعد بالعشرات ومليئة بتأثراته بسيد درويش وتحتاج لوحدها دراسة خاصة منفصلة.
نقطة8 : الآلات الغربية
استعمل سيد درويش آلة البيانو في مصاحبة بعض أغانيه التي سجلها: البحر بيضحك ليه (قولوله 1919) ، ومحاورة أدي ست الكل زي الفل (راحت عليك 1920) وأغنية والله تستاهل يا قلبي(راحت عليك 1920 )،… وغيرها. وإذا كان استعمال البيانو في الأغنية الأولى البحر بيضحك ليه (مقام بياتي) يفتح باب النقاش في صحة أو عدم صحة استعماله، ففي الأغنيات الأخرى الخالية من أرباع الصوت فتح الباب أمام محمد عبدالوهاب على مصراعيه لاستعمال الآلات الغربية لتحويل التخت العربي إلى فرقة موسيقية، ثم إلى أوركسترا كبير يستطيع عزف أي عمل مهما كان مستوى التوزيع الأوركسترالي فيه. بدأ محمد عبدالوهاب استعمال التشلو(وهو الآلة الناطقة لأرباع الصوت) في مونولوج “في الليل لما خلي” 1932، في عزف منفرد (سولو) تأملي وصفي رائع ثم تحول إلى آلة رئيسة في الفرقة الموسيقية (مع الكونترباص) مضيفًا بذلك العمق العمودي لمساحة صوت الأوركسترا العربية. ولا ننسى دور مجموعة التشلو الرائع في أغنيته (قابلته) في النصف الثاني من الأغنية؛ حيث تُغنى المقدمة الموسيقية للأغنية في عزف أوركسترالي رائع كذلك في مقدمة “النهر الخالد”. وقد أوسع محمد عبدالوهاب استعمال آلات الأوركسترا، فبعد استعمال التشلو والكونترباص مكملًا بذلك صوت الوتريات في الأوركسترا العربي، انتقل إلى استعمال الآلات الأخرى (آلات النفخ)، منطلقًا من استعمال سيد درويش البيانو في الأغاني التي ذكرنا، فعلى سبيل المثال: نسمع آلة “الأوبوا” لأول مرة في أغنية “أنا اللي طول عمري ما حبيت” (لست ملاكًا 1946)، أغنية “مشغول بغيري” في اللازمة التي تلي جملة “صورت جنة”، فيعطي إيحاء بأن هذه الآلة تنطق أرباع الصوت -مع أنها لا تفعل- جاعلًا أيامًا تُعزف في المساحة الصوتية لمقام البياتي غير المحتوية على أرباع الصوت، تاركًا ربع الصوت للوتريات ونسمعه في جملة طويلة في مقدمة مقطع “وفضلت أتمنى”. أما ذروة تفهمه لطبيعة صوت الأوبوا فجاء في استعماله لتصوير الجو الصحراوي في بداية “قيس وليلى” وفي مقدمة أغنية جبل التوباد (نفس مسرحية مجنون ليلى). أما استعمال آلة الكلارينيت بشكلٍ منفرد فنراه في أغنية عاشق الروح (غزل البنات 1948)، في مقدمة مقطع “وكم من فجر صحاني” وفي نفس الأغنية نرى آلة البيكولو (الفلوت الصغير) في مقدمة مقطع “وكل ده وأنت مش داري” بشكلٍ بوليفوني بسيط من صوتين على خلفية جملة الوتريات كذلك في مقدمة أغنية القمح ( لست ملاكًا) على خلفية الإيقاع. ونرى في أغنية “عاشق الروح” مجموعة الآلات الماندولين والبالايكا (الآلة الروسية) يعزفون مقدمة الأغنية، ومن أطرف استعمال آلة الماندولين نسمعه في مقدمة أغنية الحب جميل (غزل البنات)، بينما نرى ليلى مراد تداعب أوتار الجيتار. فقد “سيَّك” محمد عبدالوهاب هذه الآلة الغربية أي أضاف حاجزًا معدنيًّا على رقبتها كي يجعلها تنطق السيكا العربية، ومن أجمل استعمالات محمد عبدالوهاب لهذه الآلة نسمعه في الأغنية ذات الطابع المتوسطي: كان أجمل يوم. وفي نفس الفيلم (غزل البنات) افتتاحية عاشق الروح نرى أربع آلات ترومبيت، بينما لا نرى آلة الكورنو التي تعزف معها، أما أعظم استعمال لآلة الكورنو فنسمعه في بداية قصيدة الخطايا (لست ملاكًا 1946) يعزفه المايسترو وعازف الكورنو الأول شعبان أبو السعد على خلفية بداية المقدمة التي تعزفها مجموعة الوتريات بطريقة التريمولو (ترجيف القوس على الوتر). كذلك نسمع هذه الآلة النبيلة ورائعة الصوت في “أنا والعذاب وهواك”، كذلك في أغنية عبدالحليم حافظ الرائعة “عشانك يا قمر”، ويجمع في أغنية “أنا لك على طول” آلات النفخ الخشبية في توزيع رائع لأندريا رايدر(الأوبوا، والفلوت، والكلارينيت)، مع مصاحبة الجيتار ومداخلة القانون وطبعًا مع أوركسترا وتريات كبير. ولا ننسى استعماله لآلة الفاجوت (الباسون)، وهي قليلة الاستعمال كآلة فردية في الموسيقى العربية، في اللازمة الخلفية للإلقاء الرائع لمحمود ياسين لأبيات أمير الشعراء أحمد شوقي، في أغنية “في حب مصر”، ولابد من ذكر (الساكسوفون) في “أبجد هوز” (ليلى مراد -غزل البنات) و(الكسيلوفون) في أغنية “توبه” لعبدالحليم حافظ، وقد أحدث استعمالها ضجة في الوسط الفني حين ظهورها كما قال لي الفنان الكبير كمال الطويل، مع أن محمد عبدالوهاب له تاريخ في استعمال هذا النوع من الآلات، فقد استعمل آلة الماريمبا (من عائلة الكسيلوفون لكنها أكبر وأعقد) في معزوفة “نشوتي” 1935، وأخيرًا وليس آخرًا لابد من الإشارة إلى استعمال محمد عبدالوهاب لآلة البيانو في رائعته “الصبا والجمال”(يوم سعيد 1939) والتنويه على أسلوب التلحين للبيانو في هذه الأغنية المنطلق من تفهم الملحن العميق لشخصيّة صوت الآلة.
وكان لسيد درويش في استعماله البيانو والتشلو لأول مرة في الموسيقى العربية أثره غير المحدود عند محمد عبدالوهاب حتى أنه لم يترك آلات الإيقاع الغربية في حالها. وبداية استعماله لها نراه في أغنية – مونولوج “في الليل لما خلي” جنبًا إلى جنب مع التشلو فلأول مرة نسمع آلة الإيقاع الإسبانية (الكاستانيت) في مقدمة مقطع “الفجر شأشأ”. ونسمع هذه الآلة بشكلٍ صارخ في أغنية “عمري ما حنسى يوم الاثنين” المتأثر فيها بالرقصة الإسبانية الشهيرة البازودوبلي Pasodoble (الخطوة المزدوجة) فيأتي هنا الاستعمال الكاستانبيت طبيعيًّا جدًا وفي مكانة الطبيعي، ونسمع لأول مرة في الموسيقى العربية الكلافس (قطعتين خشبيتين تضرب ببعضها) في مصاحبة مقدمة ولوازم أغنية “يا ناسية وعدي” (يوم سعيد 1939) مظهرة بوضوح إيقاع الرومبا المسيطر على الأغنية، كذلك استعمل هذه الآلة بشكلٍ واضح في معزوفة “أنا وحبيبي”، وفي الكثير من أعماله على إيقاع الرومبا، ونسمع أيضًا وأيضًا لأول مرة في الموسيقى العربية آلة الماراكاس (آلة إيقاع جنوب أمريكية) في أغنية “جفنه علّم الغزل” (الوردة البيضاء 1933). أما ذروة استغلال الآت الإيقاع الغربية (السمفونية)، فنجده في استعماله لآلة التيمباني (الطبول السمفونية) في أعماله الدرامية كما في: لست أدري 1944، والخطايا 1946، وأغنية عربية 1958،… وغيرها الكثير. كذلك أضاف إلى التيمباني (timpani) آلة الصنوج (السيمبال) في أغنياته الدرامية، وفي أناشيده القومية الكبيرة لإيصال التعبير الدرامي إلى قمته في نقطة الذروة.
نقطة 9: الجمل اللحنية الطويلة .
لم يغفل محمد عبدالوهاب عن خاصية مهمة عند سيد درويش، فهو صاحب أطول جمل لحنية في تاريخ الموسيقى العربية، فنرى أغنية كاملة مؤلفة من جملة موسيقية واحدة، من غير استعمال لوازم موسيقية مع تطور داخل للحن من أوله لآخره على نفس واحد، من هذه الأغنيات أذكر: شد الحزام على وسطك – 36 مازورة موسيقية، وأغنية العربجية -التي تتألف من جملة موسيقية واحده طولها 42 مازورة موسيقية. ويبدأ التدفق اللحني من بداياتها الغنائية، بعد انتهاء المقدمة الموسيقية، التي استوحاها محمد عبدالوهاب (مع شيء من الإضافة في وسطها) في مقدمة مقطع “وفاكر أيه” من يادي النعيم مع ليلى مراد، ولا يتوقف هذا التدفق إلا عند نهايتها التي تشكل نقطة الانطلاق لمقدمتها الموسيقية تمهيدًا للمقطع التالي.
حتى هذه الخاصية لم تترك محمد عبدالوهاب من غير تأثير، فقد استعملها على الأقل في أغنيتين: مضناك جفاه مرقده في مقطع “جحدت عيناك” حيث يأتي هذا المقطع مؤلَّفًا من أربعين مازورة موسيقية، كذلك في المقطع الأخير من النهر الخالد” سمعت في شطك الجميل” حيث يأتي هذا المقطع من دون لوازم موسيقية على أربع وعشرين مازورة موسيقية.
نقطة 10: القوالب الموسيقية الجديدة
في نشيد الجيش رجع من الحرب يستعمل سيد درويش للضرورة الدرامية ولأول مرة في الموسيقى العربية القالب الثلاثي، هذا القالب (وكما يدل اسمه) مؤلف من ثلاثة أقسام: القسم الأول يتكرر في القسم الثالث، يأتي الثاني بالاختلاف والتنويع وهو من أهم القوالب في الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، ويُرمز إليه في علم الموسيقية ب: أ-ب-أ ، وقد اختاره سيد درويش بكل عبقرية وبكل تفهم لوظيفته الدرامية في النشيد المذكور: يبدأ كورال الرجال(الذي يمثل الجيش) في القسم الأول بالغناء وعرض الحدث- حدث الانتصار على الأعداء- ثم يأتي دور البطل “زعبلة” في القسم الأوسط(ب) فيشرح الخطة والوسيلة التي مكنته من تحقيق الانتصار على الأعداء، ثم يختم الكورال النشيد بإعادة القسم الأول” الجيش رجع من الحرب بالنصر المبين”. وقد استعمل محمد عبدالوهاب هذا القالب في أغانيه الطويلة وذلك داخل البناء اللحني للمقاطع: أنا من ضيع في الأوهام من الجندول، وأنا هيمان ويطول هيامي من الكرنك، مع إضافة مهمة جدًا: فقد حول القسم الأوسط (ب) من (أ-ب-أ) إلى قالب ثلاثي صغير داخل القالب الثلاثي الكبير. استعمل هذا القالب الثلاثي أيضًا في معظم معزوفاته، ذلك بعد ما بدأ في تلحين المعزوفات مطوِّرًا فيها القوالب التركية الموروثة من غير أي تغيير (البشرف، السماعي، اللونجا،… وغيرها)، وذلك بواسطة التركيب (synthesis) بينها، ونرى ذلك في معزوفاته الأولى: ألوان 1935، شغل 1935، عتاب 1935، فكرة 1933، فانتازيا نهاوند 1933،… وغيرها. استعمل محمد عبدالوهاب أيضًا القالب الثلاثي (الدرويشي) هذا في معزوفاته الكبيرة التي لا تخلو من الدراما، فنرى هذا بكل وضوح في معزوفة “إليها” مستعملًا في القسم الأول وإعادته في الثالث الحوار بين (الأوركسترا، والعود)، وفي المماليك حيث يرد في قسمها الأوسط حوار بين الأوركسترا وبين الكمان المنفرد. وقد أدى هذا إلى تطور خطير في معزوفات محمد عبدالوهاب؛ ظهور صيغة الكونشرتو (الكلاسيكية الغربية) في المحاورة بين الأوركسترا والآلة المنفردة في حوار درامي رائع وعميق، فإلى الأمثلة المذكورة لابد من إضافة مقدمة معزوفة “أنا وحبيبي” المرسلة، وهي عبارة عن محاور درامية بين (القانون، والأوركسترا) بكتابة موسيقية تصل في تفكيرها إلى التأليف السمفوني الأوركسترالي، كما في سابقتيها “إليها” و”المماليك”. وقد جمع كل هذا في بوتقة واحدة في المقدمة الأوركسترالية السمفونية لأغنية “بفكر في اللي ناسيني”؛ حيث نرى وشم البناء الداخلي للقالب الكلاسيكي الغربي المعروف في فترة الباروك: كونشرتو جروسو concerto grosso (أي الكونشرتو الكبير)، إذ يأتي في الحوار بين الأوركسترا وعدد من الآلات الفردية التي تأتي على التوالي في مقدمة الأغنية: القانون، الكمان، العود والتشلو.
نقطة 11: مقامات جديدة
كسر سيد درويش سيطرة بعض المقامات على ملحني عصره فاستعمل مقامات غير مألوفة وغير مطروقة قبله في تلك الحقبة، أصبحت من بعده من أهم المقامات العربية، وأذكر : مقام النكريز الذي سمعه من موسيقي أرميني فلحن عليه دوره الشهير “يا للي قوامك يعجبني”، ومقام الكورد الذي لحن منه أشهر أدواره “أنا هويت وانتهيت”، ولمقام النوا أثره الرائع الذي سكب عليه دوره “عواطفك دي أشهر من نار”. ولم يترك محمد عبدالوهاب هذه المقامات الجديدة دون الاستفادة منها في توسيع رقعة تلحينه وتنويع مقاماته، فلحن في فترة التأثر المباشر بسيد درويش على مقام النكريز دور “القلب ياما انتظر”، وعلى مقام الكورد دور “عشقت روحك”، ولم يكتفِ بهذا القدر من التأثر بهذه المقامات، بل أدخلها في صلب أعماله حتى أننا لا نستطيع تخيل الموسيقى العربية الكبيرة من غيرها، واستعمل هذه المقامات الدرويشية الجديدة في تلحين أغنياته الكبيرة على قالب الطقطوقة، فنرى مثلًا في أغنيته الكبيرة لوردة “في يوم وليلة” لحن الكوبلية الأول “يا للي كان طيفك على بالي” على مقام النكريز، ولمقام النوا أثر في نفس الأغنية مقطع “حبيب آمالي يا غالي”، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
ولم يكتفِ محمد عبدالوهاب بنشر واستعمال هذه المقامات، بل أقدم على نشر مقامٍ عربي لم يكن معروفًا إلا محليًّا وبشكلٍ ضيق في الموسيقى العراقية وهو مقام اللامي، استعمله في العديد من أغنياته وفي قوالب مختلفة. بدأ استعمال هذا المقام في أغنية “يا للي زرعتوا البرتقال” 1937، وتلى ذلك في أغنيته “اسمح وقول لي” 1941، “قلبي بيقول لي كلام” 1954، “عيني بترف” (ليلي مراد، ونجيب الريحاني) 1949، “أنا والعذاب وهواك” 1955، “ونشيد قولوا لمصر” 1956.
نقطة 12: التتاليsequence
هو إعادة جملة موسيقية صغيرة (فكرة) على درجة أو أكثر -أعلى أو أوطأ- من السلم الموسيقي؛ وذلك لتطويرها وتكبيرها من داخلها حفاظًا على وحدة المادة اللحنية المستعملة، ولإضافة الحركة الديناميكية على اللحن. وقد استعمل سيد درويش هذه الطريقة في التلحين في الكثير من أعماله، وأسوق هنا مثالًا يحتوي في نفس الوقت على التتالي الصاعد والهابط على السلم الموسيقي في أغنيته الدرامية الرائعة “الشيطان” فعند جملة “ضرب نفير في نار السعير أبومين يطير” تأخذ الجملة وبطريقة التتالي تتسلق السلم الموسيقي وعند الجملة التالية “جريم عليه يشوفوا أيه” تأخذ الجملة في الانحدار على السلم الموسيقي. استعمل محمد عبدالوهاب هذه الطريقة الفذة في تطوير البناء الداخلي لألحانه طوال مشواره الفني، حتى إنك لا تجد أغنية واحدة عنده تخلو من هذه الطريقة في التطوير الداخلي للجملة اللحنية.
ولابد من ذكر أن هذه الطريقة في تطوير اللحن عند سيد درويش جاءت على السلم الموسيقي الدياتوني، أي دون تغيير في درجاته الموسيقية. وقد طور محمد عبدالوهاب هذه الطريقة بإدخالها على السلم الملون (الكروماتيكي) بإضافة أنصاف صوت على السلم الأساسي، ونجد هذا على سبيل المثال في أمثلة صارخة في أغنية: يالوعتي يا شقايا(الوردة البيضا 1933) عند جملة “ضاع الأمل”، وفي أغنية مشغول بغيري وحبيته (رصاصة في القلب 1944) عند ” أتاري طيري لايف لغيري” وعند “مسكين يا قلبي مظلوم في حبي”، وفي لحنه الرائع لجلال حرب “يا مفرحني يا مبكيني” عند هذه الكلمات بالذات (الحب الأول 1945).
نقطة 13: البوليفونيا
نصل هنا إلى أهم إنجاز أدخله سيد درويش على الموسيقى العربية، والذي استعمله محمد عبدالوهاب وطوَّره إلى أبعد حد، وهو المعالجة الهارمونية والبوليفونية (تعدد الأصوات) للحن العربي. مثال على المعالجة الهارمونية البسيطة نجدها في أغنية ” بلاش تبوسني” حين يغني الكورال البنات هذه الجملة، وعند إعادتها يضيف عليها بصوته (وعلى البعد الثالث هارمونيا) لحنًا يؤلف هارمونيا بسيطة ولكن متجانسة إلى أبعد الحدود، وهذه المعالجة نجدها في الكثير من أغانيه الموزعة. أما البوليفونيا، فهي تعدد الأصوات بألحان مختلفة تؤدي في نفس الوقت؛ لذلك يعتبر التناغم عنصرًا مهمًّا جدًا لجعل هذا الغناء والتلحين لأول مرة في تاريخ الموسيقى العربية قاطبة (وهو أصعب أسلوب في التلحين في الموسيقى الكلاسيكية الغربية)، ورد في ختام الفصل الأول من مسرحية شهر زاد 1921 على شكل مبارزة كلامية – غنائية بين البطل زعبلة ومناصريه متغنين بانتظار عودته منتصرًا من جهة وبين أعدائه الذين يتغنون بفشله وهزيمته من جهة أخرى.
جاء هذا الأسلوب في المعالجة الغنائية وفي مرحلة التأثر المباشر بسيد درويش في أغنيتين من أغاني محمد عبدالوهاب. الأولى: كثير يا قلبي 1927 عند “حييت وقاسيت وصبحت عليل”، يغني المطرب هذه الجملة في المرة الأولى وفي الإعادة يغنيها كورال الرجال ويضيف المطرب” محمد عبدالوهاب” على هذه الخلفية في الإعادة لحنه الثاني المختلف والمتناغم مع لحن الكورال. في المرة الثانية: تأتي هذه الطريقة في أغنية ” اللي يحب الجمال” 1927
تيجي تصيده يصيدك ومين سلم من حباله
وكل خالي مصيره يعذب الحب باله
يغني المطرب هذين البيتين في المرة الأولى بطريقة تقليدية، أما في الإعادة فيغني الكورال الرجالي البيت الأول مستعيدًا أياه على لحن آخر، بينما يقتحم المطرب هذه الخلفية بلحن ثانٍ مختلف. وقد نقل محمد عبدالوهاب هذا المقطع حرفيًّا من سيد درويش، بعد ذلك أخذ يطور هذه الطريقة متخليًّا عن الكورال في أغنياته الفردية، لكنه لم يتخل عن المعالجة البوليفونية مستعملًا الأوركسترا بدلًا من الكورال، ونرى ذلك في أغنية “يا ناسية وعدي” حيث تتحول جملة تسليم الغناء عند الأوركسترا إلى الخلفية البوليفونية التي يدخل عليها المطرب بلحن مختلف، ويستعمل في هذه المعالجة البوليفونية جملتين وردتا في المقدمة الموسيقية للأغنية: الأولى عند تسليم الغناء في جملة “يا ناسية وعدي”، والثانية عند صرخة “أيايا يا حبيبي” وترد الجملتان في خلفية الغناء الفردي طوال الأغنية في ذات المكانين مشيرة بوضوح لا يقبل الشك إلى إرادة الملحن في استعماله المعالجة البوليفونية للحن. نرى هذه المعالجة بشكل مختلف ومبتكر في أغنية “عندما يأتي المساء”، فبعد مقدمة الرومبا وبعد جملة تسليم الغناء يبدأ المطرب- الملحن بالغناء على خلفية هذه الجملة -التسليم التي تستمر لغاية “عندما تبدو النجوم في السما”. في أثناء الغناء تقوم هذه الخلفية بدور الصوت الثاني البوليفوني، وعند توقف المطرب عن الغناء يتحول ما تبقى من الخلفية البوليفونية إلى لازمة موسيقية بين الجمل المغناة لاعبة بذلك دورها العربي، وهذا واضح جدًا في تسجيل الأغنية، وتراث محمد عبدالوهاب مليء بهذه الطريقة للتطوير البوليفوني لألحانه.
ولابد من القول إن سيد درويش بقي مع محمد عبدالوهاب طول حياته، وذلك واضحًا في أغاني سيد درويش التي كان محمد عبدالوهاب يغنيها في المقابلات الإذاعية، منها على سبيل المثال لا الحصر: مطلع “أنا هويت”، وأغنية “الشيطان”،… وغيرها الكثير. وأذكر أنه في أثناء عملي في إذاعة لبنان الرسمية (1980-1988)، سجل محمد عبدالوهاب نصف دور “أنا هويت” على عوده بمدة 45 دقيقة كاملة، مع أن طول الدور كله لا يتعدى 12 دقيقة، معيدًا كل جملة عدة مرات وطبعًا بطرق مختلفة، على أن يسجل النصف الثاني والقيام بعملية المونتاج لاحقًا، لكن هذا لم يحدث وبقي هذا الكنز في أدراج الإذاعة اللبنانية لهذا اليوم من غير مونتاج.
بقي أن أضيف أن كل ما ورد من أمثلة في هذا المبحث لا يمثل إلا القليل من آثار سيد درويش على محمد عبدالوهاب، ذلك أن حصر كل هذه الآثار يتطلب تفرغًا كاملًا يملأ موسوعة عامرة، ويتطلب سنوات كاملة من البحث والتدقيق، والجمع والتصنيف والمقارنة الكاملة بين تراثي هذين العملاقين.