هذه إحدى القضايا الهامة في عالم الفن كثيرًا- بل دائمًا- تثير النقاش في بلادنا أو غيرها، نجيب محفوظ مثلًا لم يقف عندها، وقال أن “الرواية تخصه هو، بينما الفيلم يخص صناعه”. بينما آخرون كانوا يرون أن الفيلم لم يأتِ بجمال الرواية أو تفوق عليها، لكن نعود قليلًا إلى تاريخ السينما لنعرف شيئًا من علاقتها بالأدب.
منـذ البدايـة والـعـلاقة حميمة بين الرواية والفيلم، لم تحدث المفارقـة إلا متأخرًا في ستينيات القرن الماضي، حين ظهرت موجة السينما الجديدة في فرنسا التي تعني سينما المؤلف وهو هنا المخرج، كان لها أثرٌ في كل العالم ومنه مصر.
فجاءت جماعة السينما الجديدة عـام 1968، التي قدمت مخرجين مثل: أشرف فهمي، وسعيد مرزوق، وعلي عبدالخالق، وعلي بدرخان، و من جاء بعدهم مثل: محمـد خـان، وعـاطف الطيب، وخيري بشـارة، وداود عبد السيد، سعوا إلى خلق سينما مستقلة وجديدة، تقوم على فكرة سينما المخرج المؤلف، لكن لم تنقطع علاقة السينما بالرواية لديهم أحيانًا، أو لدى غيرهم أكثر.
في بداية السينما، كانت الأفلام قصيرة جدًا ومجرد أشيـاء تتحـرك، لكن بعد خمس سنوات، أدخل المخرج الفــــــرنـسـي “جـــــــورج ميلييه” الشرح على الفيلم ” كتابة تظهر على الشريط تشرح مشاهد القصة وتفسر الحوادث”، انفتح الطـريـق أمـام الحـكاية في السينما، وما دام لدينا حكايات (شعبية، وتاريخية، ودينية، وأدبيـة)، فلتكن هي المنبع الأول لهذا الفن الذي يتقـدم بخطى سريعـة. ميلييه نفسه صنع أفلام “سندريلا”، و”رحلة إلى القمر” و”قضية دريفوس”، وظهـرت أفلام صامتة تحمل أسماء روايات أدبية وتاريخية ودينية، لكتّاب مثل: (أناتول فرانس، وفيكتور هوجو وجـوتـه).
بعـد الحرب الأولى، راجت الأفلام الصامتة المأخوذة عن نصوص أدبية، لمع مخرجون ألمان مثل: (أرنست لوبيش، وفريتز لانج)، ومخرجون سوفييت مثل: (إيـزنشتين، وبودوفكين)، وظهرت أفلام عن روايات مثل: ” الأم ” لجوركي، و” عشرة أيـام هـزت العـالم” عن استيـلاء البـلاشـفـة على الحكم، وقصص الثـورة الشيوعية وأبـرزها حـكـايـة “المدرعة بوتِمكين” إبان ثورة 1905 في بطرسبرج، التي قدم فيها إيزنشتين إسهامه الفني الكبير في التصوير والمونتاج بأساليبـه الجديدة المبتكرة؛ ليخلص الفن السينمائي إلى الـصـورة كلغـة وحيـدة.
عندما نطقت السينما في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، انطلقت السينما أكثـر لتستوعب مئـات من الروايات العالمية، وقدمت للرواية خدمة جليلة؛ إذ أوصلتها إلى الإنسان العادي في كل الدنيا برغم اختلاف اللغات. وهكـذا مثلًا دخـل الأدب الروسي في ثقـافـة الرجل العادي في بـلاد كبـلادنا،عن طريق الأفلام الأمريكية (أنا كارنينا، الأخوة كرامازوف، تاراس بولبا… إلخ)، وأعطت الـرواية للممثلين فـرصة عظيمة لأداء أدوار تاريخية (القياصرة، والأباطرة، والقادة العسكريين،… إلخ )، وهكذا اختصرت السينما للمشاهد (الزمان، والمكان)، ووفرت كل شيء في الزمن الحاضر، ولم يخلو الأمر من متعة كبيرة للمؤلفين المعاصرين للروايات الأدبيـة، وهـم يـرون أبطالهم يتحـركـون أمـامهم على الشاشة. لقد امتد عمل السينما العـالميـة ليشمل أنواعًا أخـرى من الروايات؛ نظرًا للتقـدم التقني الذي يسـاعـد على ذلك، وأقصـد هنا الــروايـــات البوليسية، وروايات الاستخبارات والمغامرات، وروايات الخيال العلمي (التي حققت فيهـا السينما نجـاحـات مذهلة).
من أهم ملامح الاختلاف بين الفيلم والرواية، أن السيناريو السينمائي يمكن أن يختصر شخصيات الرواية حين تكون كثيرة، ويمكن لصفحة كاملة أو أكثر في الرواية تشرح مشاعر الشخصية، أن تعبر عنها لقطة” كلوز” قريبة لوجه الشخصية، كما يمكن أن تعبر نفس اللحظة عن نِيَّة الشخصية في الإجرام مثلًا، كما حدث ذلك في لقطات لوجوه (زكي رستم، ومحمود المليجي، وعادل أدهم، وتوفيق الدقن،… وغيرهم)، كما أن الروائي يمكن أن يصف مكانًا يرى فيه المنتج أمرًا مكلفًا فينقل السيناريست الأحداث إلى مكان آخر، كما أنه في الفيلم تعبر الموسيقى عن مشاعر الشخصيات وأحداث الفيلم، لكن في الرواية يكون التعبير باللغة ويحتاج صفحات.
لقد استقر منذ وقت مبكر، أن السينما فن قائم بذاته لا يخضع لمقتضيات العمل الأدبي إلا إذا رأى كاتب السيناريو ضرورة لذلك، إن عمل سيناريو عن كتاب يعني تغيير الثاني (الكتاب) إلى الأول (السيناريو)، وليس مطابقة أحـدهما للآخر، إنهما شكلان مختلفان- تفاحة وبرتقالة- لكنهما ممتعان.
الفيلم والرواية غير المسلسل والرواية؛ ففي المسلسل تعدد الحلقات يمكن أن يسمح بعناصر كثيرة من الرواية، بل وإضافة شخصيات أخرى لاستمرار الدراما.
نعود إلي تاريخ السينما والرواية قليلًا في مصر.
في مصر كان أول فيلم عربي عن روايـة هو فیلم ” زينب ” الصامت الذي أخرجه محمد كريم عام 1930، عن روايـة “زينب” الشهيرة لمحمـد حسين هيكل، وكان ممثلوه (سراج منير، وبهيجة حافظ، وزكي رستم، ودولت أبيض)، والطريف أن محمـد كـريـم أعـاد إخراج الفيلم مرة ثانية لكن ناطقًا طبعًا عام 1952 بتمثيل (راقية إبراهيم، ويحيى شاهين…). ظهرت بعد أول فيلم أفلام مثل: ” ظهور الإسلام “، عـن قصص” الـوعـد الحق” لطه حسين، و”سلامة ” لأم كلثوم عن إحدى قصص علي أحمد باكثير. وصار الاقتباس من روايات أو أفلام عالمية هو الأكثر شيوعًا.
الاقتباس بعد فيلم ” زينب ” كان له مشروعيته، وكـان حـلًّا لنـدرة النصـوص الروائية.
قفزت الـروايـة إلى السينما من جديد مع فيلم “ليلـة غـرام” عام 1951، أي بعد حوالي عشرين سنة من فيلم “زينب” الأول، وهو فيلم من إخراج أحمد بدرخان، عن رواية “لقيطة” لمحمد عبدالحليم عبدالله، بطولة مـريـم فخرالدين، ثم حـدث انجذاب كبير للرواية في الخمسينيات والستينيات، وظهر مخرجون مثل: يوسف شاهين، وعاطف سالم، وتوفيق صالح، وعزالدين ذو الفقار، ومخرج أسبق قليلًا هو صلاح أبو سيف.
المخرج صلاح أبو سيف على وجه الخصوص كان له دور كبير في الالتفات إلى الأعمال الأدبية، حين سعى للتعاون مع نجيب محفوظ، الذي أتقن حرفة السيناريو على يديه، وكتب له عدة سيناريوهات أو شارك في كتابتها لأفلام مثل: ” المنتقم”، و” ريا وسكينة “، و” الفتـوة “، ثم سيناريـوهـات لعـدد من روايات إحسان عبدالقدوس. كذلك كـان صلاح أبـو سيف وراء جـذب أمين يـوسف غـراب للكتابة للسينما، فيلم “شباب امرأة”عام 1956 كتبه يوسف غراب للسينما أولًا ثم صاغه رواية!. مع شهرة عـدد من الأدباء على رأسهم (يوسف السباعي، وإحسان عبدالقدوس)، ذهبت السينما بقوة للأعمال الأدبية المصرية فشهدنا أفلامـًا عن روايـات: ” لا أنام”، و” الـوسـادة الخالية “، و”الطريق المسدود”، و”أنا حرة”، و”لا تطفئ الشمس”، و”في بيتنا رجل”، وكلها روايات للأديب إحسان عبد القدوس، و” رد قلبـي “، و “بين الأطــلال ” للسبـاعـي ، و” دعـاء الكروان ” لطه حسين،… وغيرها.
شهـد عـام 1960 أول فيلم روائي عـن روايــة لنجيب محفوظ وهـو ” بداية ونهاية “، وجاءت السنوات التالية بانطلاق القطاع العام في السينما، وانـدفـعـت السينما أكثـر وراء روايـات كـبـار الأدباء، فظهرت أفلام عن روايات وقصص لأسماء أخرى من الأدباء مثل: لطيفـة الـزيــات، وعبدالحميد جودة السحار، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدریس، ومصطفى محمـود، وثروت أباظة، وفتحي غانم، وصـلاح حافظ، ويحيى حقي، وصالح مرسي، وعبدالرحمن الشرقاوي،… وغيرهم كثير.
حققت السينما الرواية بكامل معانيها في نصوص قليلة مثل ” بـدايـة ونهاية ” لنجيب محفوظ وهي رواية واقعية جدًا واضحة المعاني، كذلك بالنسبة لروايات إحسـان عبـدالقدوس ويوسف السباعي، “في بيتنا رجل” مثلًا لإحسان و”السقا مـات” للسباعي، وكلاهما تحول إلى فيلم رائع لم يبتعـد عن الـروايـة كثيرًا، كـذلك روايات عبدالحليم عبـداللـه، لكن الأمر اختلف مع قصص نجيب محفوظ غير “بداية ونهاية”. ولم يكن ممكنًا الـوصـول إلى روح العمل الأدبي وأبعـاده الفلسفية دائمًا، حافظ المخرج حسام الدين مصطفى الذي أخرج ” السمان والخريف “، و ” الطريق “، و” الشحاذ” لنجيب محفوظ على الأحداث والمغامرات، لكن البعد الفلسفي لم يتحقق. من يستطيع من فيلم “الطريق” أن يفهم أن الرواية رحلة بحث عن الله “سيد سيد الرحيمي”، وليست رحلة بحث عن الأب، كذلك فعل كمال الشيخ في” اللص والكلاب”، من يستطيع أن يفهم من الفيلم معنى أن الحل الفردي لا يصل إلى نتيجة، والرواية كتبت عام 1960، وعبد الناصر هو المتنفذ الوحيد في البلاد، فكانت رسالة صامتة إليه بأن الحكم الفردي ليس حلًّا.
سأعطي مثالين مصريين علي تغير الرواية في الفيلم وعظمة الأفلام، ولن أتوقف عند الأفلام التي جعلت من الرواية مجرد مغامرات أو نصائح، نبدأ برواية “شيء من الخوف” وهي رواية قصيرة لثروت أباظة.
ماذا فعل الفيلم بالرواية؟ منذ البداية تخلص الفيلم من القصص الثانوية في الرواية كلها، في الرواية يذهب عتريس لزواج فؤادة قسرًا دون سبب واضح إلا مايقوله لها أنه كان يحبها منذ الطفولة في صمت، لكن الفيلم يأخذ منحى آخر هوتغير الحياة بالمحبين (فؤادة ، عتريس)، وتعاطف فؤادة مع الفلاحين المقهورين حتى فتحت لهم أبواب هاويس المياه، في مشهد غير مسبوق في السينما المصرية ولا ملحوق أيضًا. القصة في الأصل واقعية رومانسية ذات أساس أخلاقي – ديني، لكنها تحولت في الفيلم إلى قصة ملحمية حقيقية ذات طابع مأسوي، وهذا ما تصنعه الصورة والموسيقى والأداء الفذ للممثلين.
في الرواية لا نهاية لعتريس بل يترك المؤلف لنا التوقع، لكن في الفيلم يضع النهاية أمامنا، عتريس لا يشغل في الرواية إلا مساحة صغيرة، بينما هو أساس الفيلم كله، عتريس ينتقل في الفيلم من مجرم خالف شرع الله في الرواية بزواجه القسري من فؤادة وعليه مجرد شبهة الرمز بالديكتاتور، إلى ديكتاتور حقيقي بلا مواربة في الفيلم، ذلك الديكتاتور الذي لايستمع لأحد ويعيث في الأرض فسادًا.
نأخذ رواية ثانية مثل: “دعاء الكروان” لطه حسين، أنها رواية تنتمي إلى لغة العميد الموسيقية والإنشائية وأهدافه المعلنة في الإصلاح الاجتماعي، رواية تدين الجهل وتدعو إلى العلم سبيلًا لإنقاذ الفقراء، والحب والمحبين. في الرواية تتزوج “آمنة” من مخدومها المهندس الذي سبق له أن قتل أختها، لقد جاءت “آمنة” لتعمل خادمة عنده لتقتص منه وتقتله ثأرًا لأختها، لكنها شيئًا فشيئًا تحبه ويحبها وفي النهاية يتزوجان رغم الفارق الطبقي، فلقد حظيت آمنة بشيء من الثقافة حين خدمت من قبل في بيت المأمور من جراء قربها وعلاقتها ببنت المأمور! وهكذا لا تقف الفوارق الطبقية بينهما ولا الخطيئة السابقة، وتطلب آمنة من روح هنادي أن تغفر لها!
الفيلم يلتقط هذه الفكرة ويعيد تشكيلها على يد كاتب سيناريو كبير هو يوسف جوهر ليخرجها مخرج كبير هو هنري بركات.
لقد تم تقديم الفيلم عام 1959، فلم تعد فكرة العلم الذي يفتح باب الحب كافية، وهي الفكرة التي اعتمدها العميد في الثلاثينيات حين صدرت الرواية التي تجري أحداثها في العشرينيات. كانت مياه كثيرة قد جرت في المجتمع، تعلمت البنات ورفعت الدولة شعار ذوبان الطبقات وتكافؤ الفرص وغيرها من الممارسات الاجتماعية لصالح الفقراء.
وهكذا كان على الفيلم أن يصنع نهاية جديدة، كما حذف الفيلم كثيرًا من المشاهد المترهلة في الرواية لاستقامة أحداث الفيلم وتماسكها.
“آمنة” في الفيلم لا تتزوج المهندس، يموت في اللحظة التي يظهر فيها خالها مُصوِّبًا نحوها بندقيته ليقتلها كما سبق وقتل أختها هنادي، يندفع نحوها المهندس ليحميها فيصاب بالرصاصة في ظهره، ربما لاستحالة بناء الحب على الإثم، وربما عقابًا للمهندس على ماضيه. وأنا أميل للتفسير الأول أكثر فالسيناريست من الكتاب الكبار، كما أن العاشقين وقد تخلصا من نوازعهما الشريرة، فاتن حمامة في رغبتها في الانتقام، و أحمد مظهر في رغبته في الاغتصاب، وعادا معًا إلي البراءة الأولى، لا يستطيعان أن يبنيا سعادتهما على الإثم، ذلك أن الحب الجديد رغم تطهر المهندس وعلم وثقافة آمنة، سيتحول إلى شعور بالإثم وخطيئة جديدة. هذا هو التفسير الذي أميل إليه أكثر من التفسير الأخلاقي الثاني، رغم أن التفسير الثاني وارد على الأقل عند الجمهور.
رواية “دعاء الكروان” أدبيًّا رواية رومانسية، ابتداءً من عنوانها مرورًا بلغتها وحتى نهايتها، لكن الفيلم نقل الرواية درجة في الواقعية، وكذلك حلَّق الفيلم في آفاق ملحمية في الوقت الذي تأنَّى فيه عند الصراع النفسي لأبطاله. الذي أعطى الفيلم هذا الأفق أكثر من عنصر، أهمها التصوير الذي بلغ فيه الأبيض والأسود درجة عالية من التعبير، مشاهد النساء اللاتي يظهرن بين الحين والحين متشحات بالسواد كإنذار بالموت، بحث الأم “أمينة رزق” المضني عن ابنتها في فراغ لا نهاية له، والظهور المفاجئ بين الحين والحين للخال القاتل “عبد العليم خطاب” واقفًا مترصدًا كالقدر في فراغ محيط به، وكذلك وهو يختفي في هذا الفراغ كأنه القدر الذي يأتي ويعود منذرًا بالموت الأكيد، وهكذا فرواية “دعاء الكروان” عمل ريادي فكري وعقلي جميل في هذه الحدود، لكن الفيلم عمل سينمائي كبير يعبر فوق حدود الزمان، متخليًّا عن الرسالة الإصلاحية للرواية لصالح التراجيديا الإنسانية في خستها ونبلها!
الأمثلة العالمية على التغير الذي تحدثه السينما بالرواية كبيرة، فمثلًا في رواية مثل: “الفراشة” قصة الفرنسي “هنري شاريير” وإخراج “فرانكلين شافنر” وسيناريو “دالتون ترامبو” عام 1973_ محاولات هروب لشخصيات تتكرر من السجن، لكن السيناريست والمخرج جمعهما في شخصيتين هما (ستيف ماكوين، وداستين هوفمان) فقط ومحاولة هروبهما، ويقومان بمغامرات كل من حاولوا الهرب. طبعًا تستطيع أن تتصور لو أحتفظ بعدد الشخصيات وقصصها لصنع مسلسلًا وليس فيلمًا. والحديث طويل عن الأفلام العالمية التي تغيرت فيها الروايات، ويبقي سؤال هل غيرت السينما في كتابة الرواية؟ الإجابة نعم؛ كثير من الكتاب صار يعتمد الإيجاز في الحكي وتتابع الفصول لتعطي معنى وليس مجرد تتابع في الزمن وغير ذلك، لكن المهم أن السينما قربت الرواية من الجمهور بشكل عظيم.