2023العدد 196ملف ثقافي

 تأثير الثقافة الأوروبية على المسرح العربي

المسرح ظاهرة ثقافية ترتبط بحركة المجتمع ومراحل تطوره، كما ترتبط بعلاقة هذا المجتمع بغيره من المجتمعات سواء التي قد تختلف عنه ثقافيًّا أو المتفقة معه.

ومما لاشك فيه أن المجتمعات العربية في علاقتها بالثقافة الأوروبية كانت في حالة شد وجذب عبر مراحل التاريخ، ولكن التأثيرات المتبادلة واضحة في كافة المجالات بداية من (الطب، والهندسة، والكيمياء، وانتهاءً بالفلسفة).

إذا عدنا إلى المسرح العربي سنجد أن هناك اتجاهين:

الاتجاه الأول :

يبحث عن الظواهر المسرحية التي كانت موجودة عند العرب: كالمحبظاتية، الحكواتي، شاعر الربابة،  وخيال الظل، والمقامات، والتعازي وحتى الاستعراضات العسكرية، والمواكب الملكية التي يعتبرها البعض نوعًا من العروض ذات الصبغة المسرحية، وتناول بعض المسرحيين تلك العروض في العصر العباسي باعتبارها إرهاصات أو أشكال مسرحية لم تتطور، ويرجح البعض سبب عدم تطور هذه الظواهر إلى أن العالم العربي كان يميل إلى البداوة والترحال وأن المسرح يحتاج إلى مجتمعات مستقرة وحضارة ثابتة، كما يرجع البعض السبب إلى عنصر الدين والإسلام (يمنع التصوير، ويمنع التجسيم أو التجسيد)، كما أن العرب بشكل عام لا يميلون إلى الفردية ولكن يفضلون الشكل الجمعي القبلي، وأيَّا كانت محاولات تبرير أسباب عدم تعرف العرب على فن المسرح، ولكنها تظل في نطاق الاجتهاد ومحاولات التفسير من وجهة نظر شخصية.

الاتجاه الآخر:

يحسم الأمر بأنه رغم وجود هذه الظواهر شبه المسرحية إلا أن العرب قد نقلوا الفن المسرحي عن أوروبا عبر مراحل مختلفة.

فتشير الدراسات المتخصصة إلى أن البداية الأولى للتعرف على فن المسرح كان مع الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798؛ حيث قدمت عروض مسرحية للترفيه عن الجنود والضباط وشاهد المصريون بعض هذه العروض والاحتفالات، ومع رحيل الحملة أصبحت هناك بعض المحاولات الشعبية لتقديم عروض مسرحية هدفها التسلية في الأساس حتى أقام إسماعيل باشا دار الأوبرا الخديوية للمشاركة في احتفالات افتتاح قناة السويس واستقدم بعض الفرق الأوروبية لتقديم عروضها لضيوفه ويصبح تقليدًا بعد ذلك لاستضافة فرق تقدم عروضها للصفوة وللجاليات الأجنبية، وكانت طبيعة العروض تميل إلى الكوميديا التي يقدمها الفرنسيون وألعاب السيرك التي يقدمها الإيطاليون وبعض التراجيديات البسيطة .

ويعتبر القرن التاسع عشر هو بداية تقديم مسرح عربي حقيقي؛ حيث ظهرت أعمال مارون نقاش في لبنان 1847، وأبو خليل القباني وإسكندر فرح في سوريا 1884، ويعقوب صنوع في مصر، كما ظهرت بعض العروض المسرحية المترجمة والمقتبسة في العراق من خلال بعض المدارس الدينية والأديرة وبالتحديد من خلال الاقتباسات والترجمات التي قام بها القساوسة وبعض المسيحيين الذين درسوا في فرنسا وإيطاليا على وجه الخصوص.

وهنا يجب أن نشير إلى وجود نوع من المقاومة والرفض لدى رجال الدين، الأمر الذي اضطر(مارون نقاش، ومن بعده سليم نقاش، وأبو خليل قباني، وإسكندر فرح) للهجرة إلى مصر والعمل بها وتقديم عروضهم في القاهرة والإسكندرية، وإن كان القباني قد عاد إلى الشام مرة أخرى ،إلا أنه قد تعرض للنفي بسبب العروض التي يقدمها.

ويمكننا أن نقسم العروض المسرحية التي كانت تقدم في القرن التاسع عشر إلى:

  • عروض شعبية تستخدم الظواهر الشعبية وهدفها التسلية وهي عروض تقدم في المناسبات أو من خلال الفرق الجوالة كـ(المحبظاتية، والأراجوز، وخيال الظل، ……إلخ) .
  • عروض تستلهم التاريخ العربي مثلما فعل القباني الذي قدم ” ألف ليلة وليلة ” و ” الحاكم بأمر الله ” و ” الشاه محمود”، وهي محاولات مهمة لصناعة مسرح عربي يقدم نصوصًا عربية تستلهم التراث كموضوع، ولكنها تستخدم الشكل المسرحي الأوروبي، وقد استمرت هذه المحاولات فقد قدم فرح أنطون “صلاح الدين ومملكة أورشليم “، وجاءت بعده محاولات التأليف على يد (أحمد شوقي، وعلي أحمد باكثير،…. وغيرهم من المؤلفين).
  • عروض تعتمد على الترجمة وكانت معظمها من أعمال (موليير الكوميدية، و راسين و كورني)، وهي بطبيعة الحال منقولة عن الفرنسية، وقد برع في هذا المجال يعقوب صنوع “أبو نظارة”، الذي لقب نفسه “بموليير مصر”، وظهرت بعد ذلك محاولات التعريب والتمصير والاقتباس، فعلى سبيل المثال: تم تقديم “نص  طرطوف” موليير باسم “الشيخ متلوف” على يد محمد عثمان جلال، ومن خلال الترجمة والتمصير والاقتباس ازدهر المسرح العربي في مصر ومع بداية القرن العشرين على وجه التحديد عاد جورج أبيض من بعثته الدراسية التي أرسله فيها الخديوي إلى فرنسا؛ لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ المسرح المصري والعربي، حيث قاد جورج أبيض وفرقته تقديم نصوص مترجمة عن الفرنسية لاقت نجاحًا كبيرًا، وتجولت الفرقة في أنحاء العالم العربي وانعكست هذه الجولات في تأسيس فرق مسرحية في معظم البلدان العربية ” تاجر البندقية، عطيل، ترويض النمرة، لويس الحادي عشر”

ثم يعود أيضًا يوسف وهبي من دراسته في إيطاليا ليكوِّن فرقته ” رمسيس” 1923، وليقدم أعمالًا مترجمة عن (الإيطالية، والإنجليزية، والفرنسية)، مثل: “كرسي الاعتراف، راسبوتين، غادة الكاميليا، اللوكاندة، الجريمة والعقاب، عطيل، أكسير الحب…إلخ” .

   وهنا يجب أن نلاحظ ما يلي :-

  1. أسهمت حركة الترجمة ومن بعدها الاقتباس والتمصير والتعريب في تعريف الجمهور العربي وفناني المسرح بالمسرح الأوروبي وبالعديد من الموضوعات والأفكار الدرامية التي طورت من أداء المؤلفين والمسرحيين العرب.
  2. لم يتوقف المسرح الشعبي عن إنتاج عروضه وبالتالي النصوص الخاصة به؛ حيث قدمت عروض كوميدية وغنائية وإسكتشات في مسارح عماد الدين وهذه العروض أنتجت مؤلفين عظام وممثلين ومخرجين أيضًا أمثال: (علي الكسار،بديع خيري ، نجيب الريحاني) وملحنين عظام أمثال: (سلامة حجازي، وسيد درويش) .
  3. اتجاه التأليف العربي الخالص واللجوء للتاريخ ويمثله: (أحمد شوقي، وعلي أحمد باكثير)، ونشير هنا إلى أن توفيق الحكيم قد بدأ كتاباته للفرق الخاصة، فكتب أكثر من 40 نصًّا مسرحيًّا قبل سفره إلى فرنسا وبعد عودته إلى مصر اتجه لكتابة نصوص مستمدة من التاريخ فكتب: “أوديب”، و”أهل الكهف”،…وغير ذلك من الأعمال العظيمة .
  4. الشكل المسرحي وشكل خشبة المسرح أو ما يطلق عليه مسرح العلبة الإيطالي، ثم نقله بالكامل حتى أن مكان الملقن “الكمبوشة” تم نقله وتداوله في المسارح الجديدة حتى مع عدم وجود وظيفة الملقن.

إن المسرح المصري والعربي قد استفاد من المسرح الأوروبي من حيث العناصر و الشكل، ولكنه سعى إلى تطويع الشكل المسرحي والثيمات الفنية لخدمة الثقافة العربية والجمهور العربي، ولا يمكن إغفال العناصر المهمة التالية :-

  • إنشاء معاهد التمثيل، والتي بدأت في مصر عام 1934 ثم تلاها إنشاء معاهد وكليات متخصصة في (سوريا، وتونس، والجزائر، والعراق، والكويت، والمغرب)، وهذه الكيانات المتخصصة خرجت أجيالًا من المبدعين في كافة التخصصات (التأليف، التمثيل، الديكور، الإخراج، والموسيقى).
  • بعد قيام ثورة يوليو 1952 في مصر، أرسلت الدولة العشرات من المبعوثين إلى أوروبا بداية من (روسيا، إنجلترا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، وأمريكا)، ومع عودة هؤلاء الدارسين إلى مصر أسهموا في نقل الجديد في المسرح الأوروبي في تخصصاتهم المختلفة؛ حيث تم إنشاء مسرح الجيب أو المئة كرسي وغيره من المسارح الطليعية، وتعرف الجمهور العربي على المدارس المسرحية المختلفة كـ(الملحمية، التعبيرية، العبث)، إلى جانب إثراء حركة الترجمة التي أثرت المكتبة العربية بآلاف النصوص والكتب المسرحية .

إن المخرجين أمثال: ( نبيل الألفي، كرم مطاوع، سعد أردش، حمدي غيث، جلال الشرقاوي، ومن قبلهم زكي طليمات، عزيز عيد، فتوح نشاطي) إلى جانب العديد من المترجمين والمؤلفين العرب _شكلوا جسرًا بين الثقافة الأوروبية والمسرح العربي؛ حيث تم تقديم نصوص وعروض وتجارب مسرحية تستفيد من الخبرة والشكل الأوروبي، ولكنها تهدف إلى التأثير في الجمهور المصري وتخاطب عقليته ومشاعره وتسعى للتأثير فيه، أي أن المسرح العربي استخدم الأدوات الفنية التي قدمها المسرح الأوروبي لخدمة المضمون والأهداف العربية.

  • لا يمكن إغفال دور حركة الترجمة التي قدمتها الدول العربية و المثقفون العرب كأفراد في كل من: مصر، ولبنان، وسوريا، وكذلك دول المغرب العربي، وانتهاء سلسلة المسرح العالمي التي أصدرتها الكويت، وسلسلة عالم المعرفة، وكذلك ترجمات الهيئة العربية للمسرح ومطبوعات أكاديمية الفنون بالقاهرة، وإصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي التي أثرت المكتبة العربية بآلاف النصوص المؤلفة والدراسات والأبحاث العلمية في مجال المسرح.
  • ظهرت في المسرح العربي عدة دعوات وتجارب مسرحية تدعو للبحث عن هوية المسرح العربي وضرورة انفصاله عن الشكل المسرحي الأوروبي فكانت مقالات يوسف إدريس الثلاث ” نحو مسرح عربي” في مقدمة نص “الفرافير” محاولة للبحث عن شكل مسرحي عربي، وجاءت محاولات مسرح ” الجرن “، وتلاها محاولات أخرى كمسرح ” الحلقة “، و”الشارع”  في (المغرب، العراق، وتونس)، للبحث عن خصوصية  للمسرح العربي، وبحثًا في الأشكال المسرحية والظواهر المسرحية العربية التي تحقق هذه الخصوصية .

وانتهت الدراسات إلى أن كل عرض يفرض الشكل الذي يناسبه وفقًا لطبيعة النص ورؤية المخرج ، وأن المسرح الأوروبي ليس فرضًا على المسرح العربي، ولكن هو مادة ثقافية وتراث إنساني يمكن الاستفادة منه وتطويعه وتوظيفه لخدمة أهدافنا وثقافتنا، وليس حتمًا علينا أن نرفض الثقافة الأوروبية لمجرد محاولتنا الاختلاف عنها باعتبار أن الثقافة الأوروبية والمسرح الأوروبي نفسه هو انعكاس وتطوير للمسرح الإغريقي و الحضارة الإنسانية، كما أنه قد استفاد من مسرح الشرق ومن كل الإمكانات التي يمكن توظيفها في هذا المسرح، فقد تم الاستفادة من مسرح ” بالي”، ومسرح  “النو و الكابوكي”، والمسرح الصيني والهندي، بل وهناك تجارب مسرحية أوروبية مستمدة من التراث العربي وتوظيف الموسيقى العربية والتاريخ والموضوعات التراثية العربية وتقدمها بشكل فني.

إن المسرح العربي يشارك في الحركة الإنسانية العالمية وفي طرح الثقافة العربية والتعبير عنها إلى جانب خدمة الجمهور العربي، ويمكننا أن نعتبر المسرح قد تم استيعابه عربيًّا مثلما تم استيعاب التكنولوجيا الحديثة التي ظهرت في عالمنا .

ومازال المسرحيون العرب يسعون إلى تقديم أنفسهم و فنهم محليًّا وعالميًّا، كما أنهم يستوعبون الجديد في العالم ويسعون إلى توظيفه لخدمة فنهم.

إن المهرجانات المسرحية التي تقام في العالم العربي مثل: “مهرجان قرطاج، مهرجان بغداد، مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي”، تهدف إلى زيادة التواصل بين المسرحيين العرب والعالم من خلال الاحتفال بالعروض العالمية، والتي لا تقتصر على أوروبا فقط ولكنها تقدم عروضًا إفريقية وآسيوية إلى جانب مسرح أمريكا اللاتينية.

وبنفس القدر الذي استوعب المسرح العربي الفكر والفلسفة، فقد استوعب الجديد في عالم تجهيزات المسارح، فأصبحت لدينا مسارح مجهزة بأحدث عناصر الصوت والإضاءة وتحريك خشبة المسرح وتم توظيف الشاشات والتكنولوجيا الرقمية في العديد من المسارح العربية .

إن المسرح هو حالة فنية راقية لها سحرها وجمالياتها الخاصة التي تعكس ثقافة المجتمع الذي ينتجه، فهو وسيلة اتصال ثقافي يقوم فيه الفنان بالتعبير عن نفسه وطموحاته ومشاكله ومشاكل مجتمعه، وهو يطرح صورة هذا المجتمع أمام العالم بهدف التواصل، ولا يمكن فصل أي مجتمع وأي فن عمَّا يدور حوله من متغيرات ثقافية واجتماعية .

 إن فن المسرح قد تجاوز الحدود والحواجز مثل: حاجز اللغة، والاختلافات السياسية والمذهبية؛ ليقدم تفسيرًا خاصًا ورؤية فلسفية للحياة، وهذا ما فعله المسرح العربي؛ حيث بدأ متأثرًا و مقتبسًا ومترجمًا وناقلًا عن المسرح الأوروبي حتى أصبح قادرًا على التعبير عن نفسه وعن مجتمعه من خلال: المؤلف العربي، والمخرج المتخصص، ومصمم الديكور والملابس، ومؤلف الموسيقى والاستعراضات، وكل هذه الأطقم تعبر عن قضايا مجتمعها حتى وإن استخدمت الشكل المسرحي الأوروبي أو تأثرت به .

اظهر المزيد

د.ايمن الشيوي

مدير المسرح القومي المصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى