2024العدد 199ملف ثقافي

المسرح العربي والسياحة

هل تحول المسرح العربي إلى مسرح سياحي؟

كثيرًا ما يواجهني هذا التساؤل من قبل العديد من المهتمين بالمسرح العربي، خاصة الإعلاميين والمثقفين، ويرجع سبب هذا التساؤل في الأساس إلى ما أُطلق عليه مؤخرًا اسم “المواسم المسرحية” في معظم الدول العربية، مثل: موسم الرياض، موسم جدة، موسم دبي، موسم العلمين، إلى جانب بعض المهرجانات المسرحية التي تضع ضمن أهدافها عنصر الجذب السياحي، وتقديم برامج سياحية تجمع ما بين (السياحة، والثقافة)، والتي يمكن أن نطلق عليها اسم” السياحة الثقافية”، أو “السياحة الفنية” باعتبار أن الفن والمسرح يمكن أن يكونا عنصرين جاذبين ومشجعين للسياحة، وهو أمر معروف عالميًّا.

لقد اختلفت الآراء وتباينت بين مؤيد ومعارض لفكرة المسرح السياحي، وامتد النقاش ليصل إلى وظيفة المسرح ودوره الاجتماعي بمعناه الواسع، الذي يشمل: الثقافة، والأخلاق، والعلاقات الإنسانية، وقضايا المجتمع والدور التنويري الذي يلعبه المسرح.

 فالاتجاه الرافض لفكرة المسرح السياحي يستند إلى أن هذا النوع من المسرح يظهر في فترات انهيار المسرح وابتعاده عن الوظيفة الاجتماعية، باعتبار أن المسرح في خدمة المجتمع وقضاياه، وأن هذا النوع من المسرح يهدف في الأساس إلى الربح وتحويل العروض المسرحية إلى سلعة تخضع لقواعد العرض والطلب، ومن ثم، ستكون العروض المسرحية السياحية مرتبطة برغبات الجمهور، وستلجأ لعناصر العرض الجماهيري من نجوم الصف الأول المفضلين لدى الجمهور، وهم من نجوم السينما والتليفزيون بالدرجة الأولى، كما أن الموضوعات المقدمة ستكون كوميدية بسيطة تهدف إلى الإضحاك، أو استعراضية غنائية بهدف تحقيق الإبهار والمتعة البصرية. والتجربة تشير إلى تحول هذا النوع من العروض إلى شكل فني أقرب إلى الاسكتشات التي تفتقد إلى البناء الدرامي والعمق، كما أن العنصر الحاكم سيكون هو الربح المادي وثمن التذكرة العالي التي سيدفعها الجمهور، مما يجعله جمهورًا نوعيًّا له مستوى اقتصادي معين.

ويستشهد أصحاب هذا الرأي بما حدث في المسرح العربي في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وأوائل القرن الحالي، من سيطرة عروض مسرح القطاع الخاص التجارية، والتي ارتبطت بأسماء نجوم محددين وأسعار تذاكر عالية وكانت جاذبة للسياحة العربية؛ حيث ارتبطت السياحة العربية بمشاهدة عروض مسرحية لنجوم أمثال: فؤاد المهندس، عادل إمام، سمير غانم، محمد صبحي، دريد لحام (سوريا)، الرحبانية (لبنان)، عبد الحسن عبد الرضا (الكويت)، غانم السليطي (قطر)،… وغيرهم من نجوم المسرح العربي.

كما أن تلك العروض بنجومها كانت تقوم بجولات عديدة في معظم الدول العربية. وبمرور الوقت، تعرض هذا النوع من المسرح لأزمة كبيرة وتناقص عدد العروض السياحية التجارية بشكل كبير حتى اختفت تمامًا؛ ويرجع ذلك إلى أن الجمهور لم يعد يُقبل على مشاهدة هذه العروض، واتهمها البعض بالتكرار والإسفاف أحيانًا؛ حيث أصبحت الموضوعات قديمة ونمطية، بالإضافة إلى عدم تطور الشكل الفني للعروض وعدم تطور خشبات المسرح، وعدم مواكبتها للتكنولوجيا الحديثة، وعدم قدرتها على منافسة السينما والتليفزيون والقنوات الفضائية ثم المحطات والفضاءات، واتجاه النجوم للأعمال السينمائية والتليفزيونية التي تُدرُّ ربحًا كبيرًا ولا تحتاج إلى جهد كبير مثل المسرح الذي يحتاج إلى فترات طويلة من التحضير والبروفات والعرض بشكل يومي أمام الجمهور.

الرأي الثاني، وهو الذي يستند إلى أن المسرح لا يكون حقيقيًّا وناجحًا بدون جمهور، وإذا كان الجمهور قد انصرف عن المسرح فلماذا لا يسعى المسرحيون إلى استعادة جمهورهم مرة أخرى؟

وعلينا أن نستخدم كافة الوسائل الممكنة من أجل إعادة الجمهور إلى المسرح، وأهم عناصر جذب الجمهور للمسرح هو النجم المحبب إليه؛ فالجمهور يرتبط بالنجم الذي يحبه ويسعى لمشاهدته على خشبة المسرح ليصبح قريبًا منه ويراه حقيقيًّا بشحمه ولحمه كما يقولون، وإن كان هذا لا يمنع أن النجم الذي يذهب لأجله قد يكون مخرجًا أو مؤلفًا أو مطربًا، وقد يكون الموضوع هو النجم في حد ذاته مثلما يحدث في بعض عروض المسرح الشعري؛ حيث يصبح التناول واللغة وعناصر العرض عنصرًا جاذبًا للجمهور.

ولماذا لا تتكامل كافة العناصر لتقديم عرض مسرحي متميز وجاذب للجمهور (الموضوع الجيد، عناصر الإبهار، الإخراج، النجوم، الخدمات الترفيهية المصاحبة)؟

لقد أثبتت التجارب التي قامت بها (المملكة العربية السعودية، ودبي، ومصر) أنه يمكن ربط المسرح والعروض المسرحية بالسياحة وبالترفيه بشكل عام، وقدمت عروضًا مسرحية لاقت نجاحًا كبيرًا، وهو أمر ثابت عالميًّا كعروض المسارح برودواي في أمريكا، وعروض الويست إند في إنجلتر، توضع ضمن البرامج السياحية المهمة ويتم حجز تذاكرها بمبالغ كبيرة وقبل مشاهدة العرض بشهور عديدة. كما أن (إيطاليا، وفرنسا، والنمسا على وجه الخصوص) تقدم عروضًا أوبرالية هامة ترتبط ببرنامج سنوي يتم الترويج له سياحيًّا، هذا بخلاف العروض التي تُقدم خصيصًا في أماكن طبيعية: على شاطئ البحر، الصحراء، القلاع تحت سفح الهرم أو معبد الأقصر (كما في أوبرا عايدة على سبيل المثال).

ولنا هنا عدة ملاحظات:

أولًا: الربط بين العروض المسرحية والسياحية فهي ظاهرة عالمية قديمة لاقت نجاحًا في دول أوربا وأمريكا وكانت موجودة في (مصر، ولبنان، وسوريا)، واتسمت العروض العربية بصفة التجارية أو ما يطلق عليه الدارسون “مسرح القطاع الخاص التجاري”، والذي كان يهدف إلى الربح ويستعين بالنجوم الكبار كعنصر جذب رئيس، وكانت معظمها كوميدية وتوظف عناصر الاستعراض والغناء في معظمها، وقد ازدهرت هذه الظاهرة في الثلث الأخير من القرن الماضي مع ازدهار السياحة العربية- خاصة السياحة الخليجية.

ثانيًا: وجود العروض المسرحية السياحية لا يلغي وجود عروض مسرحية جادة تدعمها الدول، كما هو الحال مع معظم الدول العربية (إن لم يكن كلها)؛ حيث تقوم وزارة الثقافة والهيئات المنظمة بدعم عروض مسرحية جادة غالبًا ما ترتبط بالقضايا الاجتماعية أو الحس الوطني، والتاريخية، والملحمية في هذه الدول. وهذا الاتجاه الرسمي “Formal”، قد يظهر أيضًا في المهرجانات المسرحية التي تقيمها الدول العربية، مثل: مهرجان المسرح الخليجي، مهرجان قرطاج تونس، مهرجان المسرح بالمملكة العربية السعودية، مهرجان جرش الحر بالأردن، مهرجانات المسرح بالمملكة المغربية، المهرجان القومي للمسرح مصر، مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، أيام الشارقة المسرحية، مهرجان الهيئة العربية للمسرح.

ثالثًا: اتجاه بعض الدول العربية بتقديم عروض مسرحية بهدف الترفيه قد دعم الحركة المسرحية في أنحاء العالم العربي، وتسبب في تحريك المياه الراكدة؛ حيث سعى الجميع إلى تقديم عروض مسرحية متنوعة، وهو ما انعكس على كم العروض المقدمة في الأعوام الماضية وتنوعها بين (التراجيديا، والكوميديا، والدراما الاستعراضية).

رابعًا: تقديم العروض المسرحية الجماهيرية انعكس على تطوير تكنولوجيا العرض المسرحي، وتقديم عناصر حديثة توظف لخدمة العملية الفنية، كما أدى إلى إنشاء دور عرض واكتشاف أماكن جديدة تصلح لتقديم عروض مسرحية.

إن المسرح نشاط إنساني يجمع بين عناصر المتعة (السمعية، والبصرية، والفكرية)، وكل عرض مسرحي لا بد أن يحمل أبعادًا اجتماعية وإنسانية إلى جانب تلك المتعة، وإذا كان الترفيه هو عنصر الجذب الأول لذهاب الجمهور إلى المسرح، فإن ذلك لا ينفي التأثير الفكري غير المباشر، وقد أثبتت الدراسات بأن أفضل وسائل التأثير هي تلك التي تقدم في إطار غير مباشر، والتي يسعى الجمهور لمشاهدته بإرادته بهدف الاستمتاع، ومن ثم فإن المسرح العربي يحتاج إلى تنوع العروض المسرحية التي يقدمها ومن بينها العروض المسرحية ذات الطابع الترفيهي والسياحي، والتي ستقدم إلى جانب الأشكال المسرحية الأخرى.

إن وضع العروض المسرحية على خريطة السياحة العربية، وتقديم العروض في أماكن سياحية وفي أوقات معينة يضيف للفن والثقافة العربية نوعًا من أنواع المسرح المعروفة عالميًّا، ويصبح لدى المواطن العربي فرصة السياحة الثقافية إلى جانب الترفيه. وإذا كانت السياحة الترفيهية، والسياحة العلاجية، والسياحة التي ترتبط بزيارة الأماكن التاريخية وذات الطابع المميز، قد أخذت خطها معظم الدول العربية، فإن السياحة الثقافية وربط الترفيه والمتعة البصرية والسمعية بالثقافة نتيجة تقديم أفكار هامة للمواطن العربي، ويمكنه من طرح قضاياه الاجتماعية بشكل فني محبب وغير مباشر، كما أنه يوفر الكثير من الأموال الطائلة التي يتم انفاقها في السياحة الخارجية لمختلف دول العالم، والتي تدفع لمشاهدة حفلات موسيقية أو عروض فنية عالمية (باليه، أوبرا، مسرح)، كما أن هذا النمط السياحي قد أدى إلى تقديم أشكال فنية جديدة وعروض متميزة وغير تقليدية سواء من حيث: المكان، أو الموضوع، أو الشكل الفني، فتم تقديم عروض فنية مسرحية ترتبط بالرياضات المائية، وتم توظيف الليزر والهولوجرام في عروض أخرى -خاصة الموسيقية، كما تم تزويد معظم المسارح في الدول العربية بشاشات رقمية، وكاميرات واجهة مارة حديثة. والشيء الأهم من ذلك، أنه قد حدث تغيير جذري في عقلية الفنان العربي؛ حيث بدأ التفكير في الربط بين العناصر الاقتصادية والإبداعية، وهو الموضوع المطروح لدى المسرحيين على مستوى العالم كافة في الآونة الأخيرة فيما يُطلق عليه “اقتصاديات الإبداع”؛ ليصبح للإبداع الفني ومن ثم العرض المسرحي أهدافًا اقتصادية مباشرة أو غير مباشرة، حيث أن الدراسات قد أثبتت أن الجمهور يقبل على العروض الفنية غير التقليدية، وأنه في بعض الأحيان يتم تقييم المستوى من قبل الجمهور من خلال حملات الدعاية المكثفة للعرض، ومن خلال ميزانية العرض وضخامتها، والجديد الذي يقدمه، والنجوم الذين يشاركون فيه.

وأخيرًا، ليست كل العروض العربية سياحية، ولكن تنوع العروض واختلافها هو الذي يثري الحركة الفنية للمسرح، وهو الذي يعطي الجمهور الفرصة لاختيار ما يراه مناسبًا لذوقه وثقافته، إن المسرح يجب أن يشبه مائدة عليها أصناف متنوعة من الطعام بحيث يجد كل مشاهد الوجبة التي يحبها والتي تشبعه فنيًّا، وثانيًا فإن دعم وزارات الثقافة العربية هو الذي يؤكد هذا التنوع، وهو الذي يدفع إلى تطوير العروض المسرحية العربية.

اظهر المزيد

د.ايمن الشيوي

مدير المسرح القومي المصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى