2024العدد 199دراسات

حرب غزة: الجيش والمجتمع في إسرائيل

مقدمة:

مرت العلاقات المدنية-العسكرية في إسرائيل بمنعطفٍ حاد عام 2023، على خلفية ما أُطلق عليه “الانقلاب القضائي” والأزمة السياسية الداخلية التي دارت حوله، وانخراط الجيش في الأزمة كونه خلافًا على هُوية الدولة ونظامها السياسي. تسببت عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ ذلك الحين في طي صفحة الأزمة الداخلية مؤقتًا فيما يعرف بظاهرة “الاصطفاف تحت العلم”.([1]) غير أن ذلك لم يؤدِّ إلى انتهاء حالة فقدان الثقة بين المستويين (السياسي، والعسكري)، بل على العكس تطالعنا وسائل الإعلام بأخبار متواترة عن الخلافات بينهما فيما يخص إدارة الحرب. تحاول هذه الدراسة الإجابة على تساؤل عما إذا كانت هذه الخلافات تنحصر في إطار العلاقات المدنية-العسكرية أم تتعدى ذلك لما هو أبعد، خاصةً وأن صدمة 7 أكتوبر، بقدر ما كانت كاشفة، فقد تكون أيضًا مُنشئِة للتوجهات داخل المجتمع الإسرائيلي.

يتبين الآن، بعد مرور ما يقرب من عام كامل على الحرب، أن فقدان الثقة بين المستويين (السياسي، والعسكري) لم يعد سوى جزء من صراع مُركب ترتبط أبعاده المختلفة (بُعد العلاقات المدنية-العسكرية، وبُعد الصراع بين التيار الليبرالي والتيار الديني القومي، والبُعد الطبقي) ببعضها البعض؛ لتندرج تحت العلاقة بين الجيش والمجتمع، ومن هنا اختيار عنوان هذا المقال، كون موضوع البحث يتعدى العلاقات المدنية-العسكرية – التي هي، بحكم التعريف، جزءٌ من العلاقات بين المجتمع والجيش وتُعنى بالعلاقة بين المؤسسات السياسية وبين المؤسسة العسكرية – ليتناول العلاقة بين المجتمع ككل، بما في ذلك مؤسسات الدولة المختلفة والتيارات السياسية والاجتماعية بداخله من جانب، وبين المؤسسة العسكرية من جانب آخر.([2]) وقبل الانتقال إلى مناقشة هذا الصراع، استعرض باختصار لظاهرة “الاصطفاف تحت العلم” المشار إليها داخل المجتمع الإسرائيلي بعد عملية “طوفان الأقصى”، كونها تمثل ملمحًا هامًا في الرؤية العامة للعلاقة بين الجيش والمجتمع.

“الاصطفاف تحت العلم” ثابت إلى حين:

ربما يكون شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” الأقرب لذهن القارئ العربي في هذا الشأن، وبغض النظر عما إذا كان “الاصطفاف تحت العلم” ظاهرة إيجابية من عدمه، فإنها تعني تمتع قيادات الدولة بتأييد واسع من المجتمع زمن الحرب، على الأقل في بدايتها، سواءٌ كان ذلك نتيجة لاستشعار المواطنين في مثل هذا الوقت أن القيادة تجسد الوحدة الوطنية أو لخفوت صوت المعارضة خشية اتهامها بإثارة الانقسام.([3]) وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن هذا التعريف لا ينطبق بدقة على الوضع الراهن في إسرائيل. من جانب، تظهر استطلاعات الرأي (من أكتوبر 2023 إلى يوليو 2024) انخفاض معدلات الثقة في شخص رئيس الوزراء والحكومة ككل، ومن جانب آخر فهي تؤكد تأييد الأغلبية لمجمل نهج هذه الحكومة التي يقودها رئيس الوزراء حيال الحرب على قطاع غزة، بالإضافة إلى الثقة العالية في الجيش الإسرائيلي وقادته.

وعلى سبيل المثال، أظهر استطلاع رأى أجرته “جمعية علاقات الجيش والمجتمع في إسرائيل” بتاريخ 28/10/2023، أن أقلية ضئيلة 16% تثق في الحكومة كمؤسسة وبدرجة أقل 14% في رئيس ووزراء الحكومة. في الوقت نفسه، أظهر الاستطلاع أن الأغلبية 71% تؤيد سياسات الحكومة بشأن شن الحرب حتى مع وجود أسرى في أيدي حركة حماس، كما تؤيد بدرجة أقل 51% استحالة تحرير الأسرى الإسرائيليين بغير طريق الحرب، علمًا بأن أغلبية ملموسة 67% لديها شعور “بالتطلع إلى الانتقام”. كذلك، فإن أغلبية المستطلع آراؤهم 80% تثق في المؤسسة العسكرية وبدرجة أقل 70% في قادة الجيش الإسرائيلي.([4])

تتفق هذه النتائج مع نتائج استطلاعات الرأي التي أجراها معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب في هذا الشأن؛ إذ أظهر استطلاع المعهد في ديسمبر 2023، أن من يثقون بالحكومة هم فقط أقلية 23%، فيما أن الأغلبية 96% تؤيد أهداف الحرب التي أعلنتها الحكومة من تدمير حركة حماس في قطاع غزة، وتؤمن أغلبية أقل 86% أن الجيش الإسرائيلي سوف يحقق النصر في حرب غزة.([5]) يوضح الجدول التالي ثبات هذه التوجهات (بالنسبة للمواطنين اليهود فقط)، بالرغم من تغير النسب المئوية، خلال الفترة من أبريل إلى يوليو 2024:([6])

 أبريل 2024مايو 2024يونيو 2024يوليو 2024أغسطس2024
الثقة في الحكومة 24%22%25%18%20%
الثقة في رئيس الوزراء “نتنياهو”30%28%33%29%31%
الثقة في الجيش89%82%82%78%78%
الثقة في رئيس الأركان “هاليفي”65%52%53%45%49%
تأييد أهداف الحكومة في الحرب87%86%86%87%
الاعتقاد بأن الجيش الإسرائيلي سينتصر63%61%63%68%70%

ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل أظهر استطلاع آخر للرأي نُشر في 2/8/2024، أي بعد اغتيال إسرائيل للقائد بحزب الله “فؤاد شكر”، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس “إسماعيل هنية”_ أن أغلبية كبيرة من الإسرائيليين 69% تؤيد سياسة الاغتيالات حتى وإن أدت تلك إلى تعطيل صفقة تبادل الأسرى.([7]) بل إن استطلاع معهد دراسات الأمن القومى في أغسطس 2024 المشار إليه أعلاه أظهر أن الأكثرية من المواطنين اليهود (47%) تؤيد الرأي أنه لا ينبغي على إسرائيل الالتزام بالقوانين الدولية والمعايير الأخلاقية في الحرب!  خلاصة ذلك، أن ما ترسخ بعد 7 أكتوبر لدى الإسرائيليين في مجموعهم، وفق أحد المحللين، هو أنه ” يجب ألا يكون هناك أي تهاون في استخدام القوة، بأي قدرٍ مطلوب؛ لإقناع الطرف الآخر باستحالة نيل أهدافه بالعمل المُسلح (أو بالمقاومة) “. ([8])

أما ما يفسر ذلك فهو عاملان: أولهما، التوجهات التقليدية والمستقرة للكتلة الغالبة في المجتمع الإسرائيلي، حيث توضح الدراسات أن غالبية المواطنين الإسرائيليين اليهود يؤيدون بشكل عام سياسات حكوماتهم زمن الحرب، بما في ذلك المواجهات الشبيهة بالحرب الدائرة حاليًّا، خاصةً حرب غزة 2014، التي شهدت غزوًا بريًّا محدودًا للقطاع.([9]) أما العامل الثاني: فهو الصدمة التي أحدثها “طوفان الأقصى” في توجهات المجتمع، ذلك أن الفشل الاستخباراتي، متبوعًا بانهيار الدفاعات الإسرائيلية، ثم الحجم الضخم – نسبيًّا – للخسائر البشرية، من حيث عدد القتلى والمصابين والأسرى، أدى إلى أن غالبية الإسرائيليين اليهود أصبحت ترى أن هدف كل من: حركة حماس، وحزب الله على حد سواء، هو إزاحة اليهود بالكامل من أرض فلسطين التاريخية، وأن أي انسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة لن يسفر سوى عن نشوء كيان سياسي فلسطيني أكثر خطورة على إسرائيل.([10]) وذلك بخلاف وجهة النظر المؤسسية التي تبرر الحرب البشعة في قطاع غزة بضرورة استعادة الردع بعد الهزيمة المُهينة في 7 أكتوبر، خشية أن يصير 7 أكتوبر نموذجًا يحتذى به أعداء إسرائيل.([11])

صحيح أن هناك بعض التصدعات، سواءً استمرار المظاهرات الشعبية المطالبة باستعادة الأسرى الإسرائيليين عن طريق المفاوضات غير المباشرة مع حركة حماس،وآخرها الإضراب العام يوم 2/9/2024 الذى دعا إليه الاتحاد العام للعمال وبدعم من زعيم المعارضة “يائير لابيد” جنباً إلى جنب مع المظاهرات التي شارك فيها عشرات الآلاف، أو انسحاب حزب “معسكر الدولة” – “جانتس”، و”أيزنكوت” – من مجلس الحرب المصغر، بالإضافة إلى آراء وزير الدفاع “يؤآف جالانت” المخالفة في إدارة العمليات العسكرية، والتي تسربت غير ذات مرة إلى الإعلام، ولكن ذلك ينصرف إلى الاعتراض على شخص “نتنياهو” أو الحكومة ووزرائها، ولا يتعارض مع حقيقة أن الغالبية تؤيد أو على الأقل تتسامح مع سياسة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

صعود اليمين القومي: صراع محتدم:

في الوقت الذي تستمر مؤشرات “الاصطفاف تحت العلم” بالإيجاب كما تقدم حتى الآن، إلا أن ذلك يتزامن، ودون تناقض، مع تطور صراع مُركب ترتبط أبعاده المختلفة (بُعد العلاقات المدنية-العسكرية وبُعد الصراع بين التيار الليبرالي والتيار الديني القومي والبُعد الطبقي) ببعضها البعض. ليس فقدان الثقة بين المستويين (السياسي، والعسكري) في إسرائيل سوى جزء من هذا الصراع.

فيما يخص العلاقات المدنية-العسكرية، فإن كل طرف يلوم الآخر على الفشل الذريع يوم 7 أكتوبر ويُعِّدُ نفسه للجنة التحقيق في أحداثه. سبق وأن قام “نتنياهو” بتاريخ 29/10/2023، بنشر تغريدة ذكر فيها أن كافة تقارير المخابرات، بما في ذلك التي قدمها رئيسا المخابرات العسكرية وجهاز الأمن العام حتى اندلاع الحرب، كانت تؤكد عدم وجود نوايا لدى حماس للتصعيد، وإن كان قد حذفها لاحقًا واعتذر عنها، ثم تكرر الأمر بعدما نشر الجيش الإسرائيلي بتاريخ 23/4/2024، أن رئيس الوزراء تلقى أربع رسائل تحذيرية بين (مارس، ويوليو 2023) من المخابرات العسكرية بشأن كيفية رؤية أعداء إسرائيل للانقسامات الحاصلة في إسرائيل وتأثيرها على الجيش على وجه الخصوص، مما دفع “نتنياهو” لإصدار بيان ينفي فيه ذلك، مؤكدًا أن ما تلقاه من الجيش لم يحذره من نوايا حماس مهاجمة إسرائيل بل على العكس تمامًا.([12])

هناك أيضاً خلافات حول أهداف الحرب وسبل تحقيقها، سواءٌ مدى اتصال استمرار العمليات العسكرية بالقدرة على تحقيق الأهداف الثلاثة المعلنة للحرب: تدمير قدرات حماس العسكرية وقدرتها على الحكم، وتحرير كافة الأسرى الإسرائيليين، وضمان ألَّا يشكل قطاع غزة تهديدًا لإسرائيل في المستقبل،التصريح الأبرز جاء على لسان المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي في 19/6/2024 بأنه لا يمكن القضاء بالكامل على حركة حماس، كونها فكرة متجذرة لدى الناس، وهو ما أثار غضب “نتنياهو” وجعل مكتبه يصدر بياناً يؤكد على أن الجيش ملتزم بالأهداف التي وضعتها الحكومة.([13]) أو التصريح بأنه لا يمكن تحرير الأسرى الإسرائيليين من خلال العمليات العسكرية فحسب، فضلًا عن التصريح بأنه لا يمكن فتح مواجهة شاملة مع حزب الله في لبنان دون إنهاء العمليات في قطاع غزة (باستثناء آراء “جالانت” بعد 7 أكتوبر مباشرةً بالدخول في حرب شاملة مع حزب الله) وذلك كله، وَفق محللين، كمحاولة من الجيش لتجنيد الرأي العام الإسرائيلي لبث آرائه بشكل غير مباشر لإثناء الحكومة عن مسارها.([14])

وفيما يخص الصراع بين التيار الليبرالي والتيار الديني القومي، فقد صار يمثل الانقسام الرئيس في إسرائيل اليوم وجوهره صراع على هوية الدولة، وليس كما كان الحال في الماضي انقسامًا بين (اليمين، واليسار) جوهره صراع بين هؤلاء الذين يقبلون بالدولة الفلسطينية وأولئك الذين يرفضونها، بعدما أصبح لدى المجتمع الإسرائيلي حاليًّا ما يشبه الإجماع على أن إقامة دولة فلسطينية تمثل خطرًا على إسرائيل.([15]) سبقت الإشارة أعلاه إلى أن غالبية المجتمع الإسرائيلي تؤيد، أو على الأقل تتسامح مع، سياسة الحرب على قطاع غزة. وبالتالي فإن الخلاف بين التيار الليبرالي (الذي تنتمي إليه الغالبية من كبار قيادات الجيش)، والتيار الديني القومي (الذي تنتمي إليه غالبية وزراء الائتلاف الحكومي)، فيما يخص العمليات العسكرية في قطاع غزة هو خلاف حول التفاصيل، وإن تظل تلك مهمة بالنظر إلى جدية العواقب التي سوف تترتب على اختيارات كل تيار.

تُذكر هنا واقعتان رئيستان، أولهما: واقعة الجندي المُلثم الذي نشر في مايو 2024 مقطعًا مصورًا (أعاد نجل رئيس الوزراء “يائير” نشره) من داخل قطاع غزة يدعو فيه للتمرد على وزير الدفاع ورئيس الأركان، ويتعهد بالامتثال لتعليمات “نتنياهو” دون غيره. صحيح أنه تم القبض على الجندي المذكور، فضلًا عن أن رئيس الوزراء أصدر بيانًا يدين هذا التصرف، إلا أن الرسالة لم تخفَ على أحد، كونها تنضم لمواقف شبيهة موثقة. ومن ذلك تصريحات العميد “باراك حيرام” أواخر أكتوبر 2023 بدعوة الساسة إلى عدم الدخول في أي مفاوضات، فالمطلوب على حد قوله هو: “الدخول إلى غزة والقيام بالمناورة وقتلهم.”([16]) تجدر الإشارة إلى أن نتنياهو لم يفته في بيان الإدانة أن يلمز الجيش بالتأكيد على أنه “حذَّر مرات عديدة من مخاطر العصيان والمواقف المتساهلة تجاهه”([17]) – في تذكير بانتقاد “نتنياهو” في أغسطس 2023، لإحجام قادة الجيش عن عقاب رافضي الخدمة العسكرية اعتراضًا على قوانين الإصلاح القضائي المقدمة من حكومته عندئذٍ.

أما الواقعة الثانية: فهي اقتحام متظاهرين من أنصار اليمين المتطرف، من بينهم أعضاء كنيست، يوم 29/7/2024 لمعسكري الجيش الإسرائيلي بـ “سدى تيمان” و”بيت ليد” للحيلولة دون قيام الشرطة العسكرية بالقبض على جنود متهمين بارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان للأسرى الفلسطينيين، الذين قام الجيش الإسرائيلي بإيداعهم هذين المعسكرين. بلغت خطورة المصادمات بين المتظاهرين وقوات الجيش يومئذٍ حدًّا دعا رئيس الأركان “هاليفي” لأن يعلق اجتماعًا كان يجريه بشأن التطورات على الجبهة الشمالية ويتوجه بنفسه لأحد المعسكرين للسيطرة على الموقف. التصريحات على الجانبين كانت واضحة الدلالة، فبينما نشر وزير المالية المتطرف “بتسلئيل سموتريتش” تغريدة قال فيها: “إن الجنود- المتهمين بانتهاكات حقوق الإنسان- يجب أن يعاملوا أبطالًا وليس كمجرمين”، كتب زعيم المعارضة “يائير لابيد” عبر وسائل التواصل الاجتماعي “نحن لسنا على شفا الهاوية، نحن في الهاوية”، ودعا لإقالة نائب رئيس الكنيست الذي انضم للمتظاهرين.([18])

أما فيما يتعلق بالبُعد الطبقي، فيُشار هنا إلى ما أورده الباحث في علم الاجتماع السياسي في إسرائيل “ياجيل ليفي” في كتابه الأخير من أن الطبقة الوسطى العلمانية، التي شكَّلت تاريخيًّا العمود الفقري لسلك الضباط بالجيش الإسرائيلي، قد تراجعت تدريجًا عن هذه المكانة بحكم تغير أنماط اختيارات العمل والمعيشة لدى هذه الطبقة، وأن مَن حل محلها في الأجيال الجديدة هم أتباع الصهيونية الدينية. اعتبر “ليفي” أن ذلك هو ما يفسر عدم ضغط المجتمع – الذي تلعب فيه الطبقة الوسطى العلمانية دورًا قياديًّا – على الساسة الإسرائيليين على اختلاف مشاربهم للتوصل إلى اتفاق سلام مع الجانب الفلسطيني، كون أن هذه الطبقة لا تتكبد خسائر تضطرها للتحرك سياسيًّا.([19])

في الوقت نفسه، يعتبر “ليفي” أن تراجع دور الطبقة الوسطى العلمانية في سلك الضباط بالجيش يفسر أيضًا، أن الخسائر الجسيمة في صفوف الجيش الإسرائيلي منذ الغزو البري لقطاع غزة لم تنعكس بعد على معنويات المجتمع للمطالبة بوقف الحرب، بحكم أن أغلب الضحايا ينتمون إلى فئات اجتماعية إما أنها هي من تطالب باستمرار الحرب مثل: المستوطنين، والمتدينين، وإما أنها تفتقر إلى فعَّالية التحرك السياسي، مثل: اليهود الإثيوبيين والدروز.([20]) وقد وصلت هذه الشُقة بين القيادات العليا للجيش وبين نسبة معتبرة من الضباط الأصاغر والمجندين إلى وسائل الإعلام التي نشرت رسالتين، إحداهما للفئة الأولى: تؤكد فيه شعورها بالإحباط من أن المستوى السياسي ليس لديه غاية إستراتيجية من الأهداف التي يحققها الجيش، والآخر للفئة الثانية: تتمسك فيه باستمرار الحرب إلى حين تحقيق النصر الكامل.([21]) يدلل على ذلك أيضاً استطلاع للرأي أجراه معهد “مسجاف” نهاية أغسطس 2024 وأظهر أن أغلبية المجندين (60%) لا يثقون في قيادات الجيش الإسرائيلي فيما تؤمن أغلبية أكبر منهم (77%) أن الجيش الإسرائيلي لديه القدرة على تحقيق أهداف حرب غزة.([22])

يستكمل هذا البُعد ملف خدمة التجنيد الإلزامي بالجيش الإسرائيلي لليهود الحريديم، الذين هم، بخلاف أتباع تيار الصهيونية الدينية، أكثر تشددًا من الناحية الدينية وأقل اندماجًا في المجتمع؛ إذ يكرسون حياتهم للدراسة الدينية، وبالتالي فمعدلات البطالة مرتفعة في صفوفهم ومستوى الدخل لديهم هو الأقل في المجتمع. تاريخيًّا وحتى الآن، يتم إعفاء أغلب الحريديم المنخرطين في دراسة التوراة من التجنيد وفق صيغة تُسمى “عمله توراته”، وإن كان الجيش الإسرائيلي سعى لتشجيع أتباع هذه الطائفة على التجنيد والتطوع من خلال أطر متعددة لتأدية الخدمة العسكرية دون إخلال باشتراطات التزامهم الديني، غير أن ذلك محل اعتراض من التيار الليبرالي الذي سعى مرارًا لتعديل القانون؛ ليتم تجنيد الحريديم مثلهم مثل غيرهم وفق مبدأ “المشاركة في العبء”، ليس فقط في الجيش، وإنما أيضًا في المسؤوليات الاقتصادية للمجتمع لما سوف يترتب على التجنيد من: الانخراط في سوق العمل، ودفع الضرائب، وتخفيض المخصصات المالية في ميزانية الدولة للمعاهد الدينية وطلابها.

في خضم الحرب الدائرة في غزة، صوَّت الكنيست في 11/6/2024، على الدفع بتعديل تشريعي يقنن عمليًّا إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، تم التصويت على ذلك بموافقة 63 عضوًا واعتراض 57 عضوًا، من بينهم وزير الدفاع نفسه الذي يُعتبر أنه يمثل وجهة نظر الجيش. بطبيعة الحال، فإن التصويت جاء ضمن صفقة لاستمرار الائتلاف الحكومي، الذي يتشارك فيه حزب الليكود برئاسة “نتنياهو” مع الأحزاب الحريدية ذات المصلحة الواضحة في إعفاء الحريديم من التجنيد واستمرار العوائد الاقتصادية لهذه الطائفة. وبالنظر إلى اعتراضات التيار الليبرالي سالفة الذكر، فقد تسبب ذلك في تعميق الاستقطاب، كون أن إعفاء الحريديم يزيد من عبء الخدمة العسكرية على الآخرين، لاسيما في مرحلة ما بعد 7 أكتوبر، ويزيد من حدة عدم المساواة بين المواطنين.([23]) تجدر الإشارة هنا إلى أنه بالرغم مما تتضمنه هذا التعديل من إعفاء، إلا أن متشددين من الحريديم يرفضونه لأنه سمح بتجنيد عدد محدود منهم لا يتجاوز بضع مئات سنوياً، وتعددت المصادمات بين هؤلاء وبين السلطات، حتى بلغ الأمر قيامهم يوم 6/8/2024 باقتحام معسكر التجنيد في تل هاشومير احتجاجاً،[24] استكمالاً للظاهرة الجديدة المتمثلة في اقتحام مواطنين إسرائيليين معسكرات جيشهم.

خاتمة:

في أحد فصول كتاب عن الجيش والمتدينين في إسرائيل نُشر عام 2015، تناول الباحث “عامير بار-أور” سيناريو افتراضيًّا في المستقبل لنشوب حرب أهلية في إسرائيل على خلفية وقوع انقلاب عسكري إثر رفض الجيش- الذي صارت تسيطر عليه قيادات من الصهيونية الدينية- أوامر الحكومة بالانسحاب من الضفة الغربية بعد اتفاق سلام مع الجانب الفلسطيني.([25]) افترض الباحث عندئذ أن الأمر الأكثر احتمالًا هو انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، فيما أن الأمر المستبعد – الذي اضطر إلى اللجوء إلى الأعمال الأدبية والخيال من أجل البحث فيه – هو نشوب حرب أهلية وعصيان الجيش. لا يخفى على القارئ أن الأرجح الآن هو استبعاد قيام إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة، فيما أن الأمر الأكثر احتمالاً هو نشوب صراع داخلي و/أو عصيان وحدات بالجيش في إسرائيل. 

لا يتعارض استمرار ظاهرة “الاصطفاف تحت العلم” الحاصل في إسرائيل، وتحديدًا اتفاق أغلبية الإسرائيليين اليهود على أهداف حكومة “نتنياهو” من الحرب في غزة ودعمهم للجيش وقيادته، مع تطور صراع مُركب تكشف أبعاده الثلاثة مجتمعةً عن صراع محتدم بين تيارين يختلفان جديًّا حول رؤية دولة إسرائيل ذاتها، بين هؤلاء الذين يرونها دولة مؤسسات، علمانية وإن كانت قومية لليهود، يحترم مواطنوها قوانينها، وتدرك حدود ممارسة القوة، وبين أولئك الذين يرونها دولة تعلو فيها المعتقدات الدينية القومية المتطرفة على ما سواها. غنيٌ عن البيان أن هذين التيارين لا يختلفان جوهريًّا فيما يخص سياسة احتلال الشعب الفلسطيني وأرضه، غير أن التيار الليبرالي يعنيه كثيرًا ألا تنزلق بلاده إلى الفوضى الداخلية أو أن تتحول إلى دولة منبوذة دوليًّا، تعاني من العقوبات أو يحذر مواطنوها من السفر للخارج خشية المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية.

والشاهد هنا، أنه بحكم عوامل عديدة، ليس أقلها عملية “طوفان الأقصى” وما بعدها، فإن الأبعاد الثلاث هذه تتقاطع كلها عند ملف رئيس: الجيش الإسرائيلي ومكانته في المجتمع، سواء كان ذلك في علاقة القيادة العسكرية بالقيادة السياسية، أو حجم تأثير تيار الصهيونية الدينية وأفكاره على عمل المؤسسة العسكرية بشكل مباشر أو غير مباشر، أو الصراع الطبقي داخل المجتمع وبين طوائفه، هذا الصراع جدٌّ خطير بالنسبة للإسرائيليين. بالنسبة للمواطن العربي، قد لا يعدو هذا الصراع كونه هامشًا على متن الحرب البشعة والخارجة عن القانون على قطاع غزة، وإن كانت عواقب ما سوف يؤول إليه هذا الصراع بين التيارين (الليبرالي، والديني القومي) – من حيث احتمالات نشوب صراع داخلي/ حرب أهلية في إسرائيل أو تمكن أي من التيارين من استجلاب تأييد الأغلبية – ستكون لها تداعيات مباشرة على الصراع العربي/الإسرائيلي وفرص تجسيد حل الدولتين في الأجلين (المتوسط، والبعيد).  


([1]) عمرو يوسف، “الجيش الإسرائيلي في الأزمة السياسية 2023: لاعب غير محايد”، شؤون عربية العدد 196 (شتاء 2023)، ص 174-190.

([2]) Patricia M. Shields, “Dynamic Intersection of Military and Society,” in Anders McD Sookermany, eds., Handbook of Military Sciences (Springer: Cham, 2020), p. 3.

([3]) Alan J. Lambert, John P. Schott, and Laura Scherer, “Threat, politics, and attitudes: Toward a greater understanding of rally-’round-the-flag effects,” Current Directions in Psychological Science 20, no. 6 (2011), pp. 343-344.

([4]) عوزي بار-شالوم وإيتمار ريكوبر، “علاقات الجيش والمجتمع في إسرائيل في أثناء حرب السيوف الحديدية”، نتائج استطلاع رأى في 28 أكتوبر 2023، (بالعبرية) جمعية علاقات الجيش والمجتمع في إسرائيل.

https://www.civil-military-studies.org.il/wp-content/uploads/2023/11/סקר-אוקטובר-28.10.2023.pdf

([5]) Meir Elran, Mora Deitch, Anat Shapira, and Rebecca Meller, “Israel’s Societal Resilience during the Gaza War,” INSS Special Publication, Dec. 31, 2023.

([6]) INSS, “Swords of Iron Survey Results,” April, May, June and 2024,

https://www.inss.org.il/publication/?ptype=1335

([7]) القناة السابعة، “استطلاع معاريف بعد الاغتيالات: الليكود برئاسة نتنياهو 21 مقعدًا، وحزب القوة اليهودية يحصل على 10 مقاعد” (بالعبرية) (2 أغسطس 2024)، https://www.inn.co.il/news/644684

([8]) جمال أبو الحسن، “حرب غزة: كيف يفكر الإسرائيليون والفلسطينيون؟”، المصري اليوم (20 مايو 2024).

([9]) Yuval Feinstein, “One flag, two rallies: Mechanisms of public opinion in Israel during the 2014 Gaza war,” Social Science Research, no. 69 (Jan. 2018), pp. 65-82; Shingo Hamanaka, “The ground operation sent citizens into a frenzy: the rally around the flag effect during operation protective edge,” Global Security: Health, Science and Policy 5, no. 1 (2020): 142-152.

([10]) Haviv Rettig Gur, “Hamas does not yet understand the depth of Israeli resolve,” Times of Israel (Oct. 16, 2023).

([11]) Eitan Shamir, “The End of Mowing the Grass: If Israel Wants to Continue to Exist, It Must Uproot Hamas from Gaza,” BESA Perspectives Papers no. 2223 (Oct. 22, 2023).

([12]) العربية، “ردًا على العسكر … نتنياهو: لم يتم تحذيري حول هجوم حماس” (23 مايو 2024).

([13]) الشرق الأوسط، “تصريح الجيش الإسرائيلي عن حماس يغضب نتنياهو ويعقد أزمة الحكومة” (20 يونيو 2024).

([14]) مهند مصطفى، “الجيش والحكومة الإسرائيلية: صراع الاستراتيجية والمكانة”، الجزيرة (24 يونيو 2024).

([15]) جمال أبو الحسن، “صعود اليمين الإسرائيلي: الظاهرة الأخطر في الشرق الأوسط”، المصري اليوم (24 يونيو 2024).

([16]) إيلانا ديان، “قائد الفرقة 99: ليس لدينا القدرة على تدمير حماس ببنيتها التحتية ومؤسساتها دون الدخول إلى غزة واحتلال الأرض”، (بالعبرية) News12 (26 أكتوبر 2023)،

https://www.mako.co.il/news-military/6361323ddea5a810/Article-831cb8cdf6d6b81026.htm

([17]) العربية، “حذرت من مخاطر العصيان … نتنياهو يعلق على فيديو الجندي المتمرد” (25 مايو 2024).

([18]) الشرق الأوسط، “بعد اقتحام متظاهرين لمجمعين عسكريين … الجيش الإسرائيلي يعلق مناقشات الجبهة الشمالية” (30 يوليو 2024).

([19]) ياجيل ليفي، يطلقون النار ولا يبكون: العسكرة الجديدة في إسرائيل في سنوات الألفية (بالعبرية) (دار نشر لامدا والجامعة المفتوحة، 2023).

([20])  ميرون ربابورت، “الجيش كمن نقض اتفاقًا بشكل عميق”، (بالعبرية) سيحا مكوميت (15 يناير 2024)،

/            הצבא-נתפס-כמי-שהפר-חוזה-במובן-העמוק-בי/ https://www.mekomit.co.il

([21]) الشرق الأوسط، “انقسام داخل الضباط الإسرائيليين حول احتمالات نجاح المفاوضات” (11 أغسطس 2024).

([22]) هوديا كريش حازوني، “استطلاع رأى: جنود الاحتياط في أزمة ثقة عميقة تجاه القيادة العليا للجيش”، (بالعبرية) ماكور ريشون (29 أغسطس 2024)، https://www.makorrishon.co.il/news/781502

([23]) INSS, “The Conscription Law: Danger to the National Security of Israel,” Policy Recommendations (June 19, 2024).

([24]) شيلا فريد، “مصادمات واقتحام الحريديم المتطرفين لمعسكر تجنيد: القبض على 21 شخصاً وتخريب أشجار لذكرى ضحايا الجيش”، (بالعبرية) Ynet (6 أغسطس 2024)، https://www.ynet.co.il/news/article/rkvpr4jca

([25]) عامير بار-أور، “الدين والسياسة والجيش – النثر والواقع والخيال: من التدين إلى انقلاب عسكري/حرب أهلية”، في رؤوفين جال وتامير ليبل (محررين)، بين الكيباة والبيرية: الدين والسياسة والجيش في إسرائيل (بالعبرية) (موشاف بن شيمين: دار مودان للنشر، 2015): ص 243-263. 

اظهر المزيد

عمرو يوسف

وزير مفوض بالامانة العامة لجامعة الدول العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى