المقدمة
أدى العدوان الإسرائيلي المتواصل ضد لبنان، منذ أكتوبر 2023، إلى حدوث متغيرات اجتماعية وجغرافية وازنة في الساحة اللبنانية، وسط مشهد سياسي داخلي مأزوم، وأزمة اقتصادية ومالية متراكمة منذ زهاء خمس سنوات، مما فاقم الأوضاع سوءًا، إلا أن تكرس التبعات المؤقتة لواقع مُغاير يرتبط بمصير الحرب وأمدها الزمني ونتائجها الميدانية ومسار التفاوض الدبلوماسي المُتعثِّر الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية بدون أفق قريب للحل حتى الآن.
وتدخل تبعات الحرب في لبنان ضمن خطة إسرائيلية مرسومة لإدامتها وتثبيتها واقعًا ملموسًا؛ مما يُفسِّر تصعيدها الأخير، منذ سبتمبر 2024، بوابل غارات جوية كثيفة وسلسلة عمليات اغتيال متلاحقة ومجازر دموية ضد المدنيين اللبنانيين، بهدف تقليص نفوذ “حزب الله” في السياسة اللبنانية وتدمير بنيته العسكرية، أو على الأقل إضعافه وتحييده، وخلخلة التركيبة السكانية، وزعزعة الاستقرار المحلي، وتغيير الخارطة الجغرافية اللبنانية لفرض واقع أمني وجغرافي جديد.
إلا أن الوعي المجتمعي وصمود المقاومة الإسلامية وإدراك القوى السياسية اللبنانية لأبعاد العدوان، من شأنها أن تُفشل المخطط الإسرائيلي في لبنان.
أولًا: المشهد السياسي اللبناني.
أثار اغتيال الأمين العام لحزب الله “حسن نصر الله” إثر غارة جوية إسرائيلية على الضاحية الجنوبية في بيروت، وإعلان الحزب نبأ استشهاده في 28 سبتمبر 2024، تكهناتٍ بقرب نهاية “حزب الله” أو على الأقل زعزعة مكانته سياسيًّا وعسكريًّا، إلا أن حدوث أيِّ متغيرات في المشهد السياسي اللبناني يرتبط بمصير الحرب ونتائجها الميدانية ومسار التفاوض الدبلوماسي ومدى نجاح محاولات خصوم الحزب الداخليين لاستغلال الضربات الموجعة التي طالت منظومته القيادية وصولًا إلى رأس الهرم في تغيير موازين القوى السياسية اللبنانية لصالح ترجيح كفَّة حضورهم.
يشكل مسعى تغيير المعادلة السياسية الراهنة في الساحة اللبنانية، أحد أبرز أهداف الاحتلال الإسرائيلي غير المعلنة من وراء عدوانه على لبنان، إلى جانب أهدافه العسكرية الإستراتيجية الأخرى، التي تحظى بإجماع داخلي ودعم أمريكي، بتدمير القدرة العسكرية والبنية الاتصالية لحزب الله ونزع سلاحه وفصل جبهته عن غزة وإنشاء منطقة عازلة في الجنوب اللبناني حتى الليطاني لتأمين عودة آمنة للمستوطنين إلى شمال فلسطين المحتلة، فضلًا عن استرجاع هيبة الردع التي انعطبت بعملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023.
إلا أن فشل الاحتلال الإسرائيلي، سواء بالعمل العسكري أم بالمسار التفاوضي، في تحقيق هدفه المحوري بإضعاف “حزب الله” سياسيًّا وعسكريًّا حدَّ القضاء عليه وتحييده، يعني انتصارًا للمقاومة الإسلامية، طالما لم تُمكِّن الطرف الآخر من إنجاز هدفه، وهو الاحتمال الأكثر ترجيحًا، فرغم تنفيذ الاحتلال لسلسة اغتيالات طالت قيادات وشخصيات بارزة في الحزب، وارتكاب المجازر الدموية التي أدت لاستشهاد وجرح آلاف الضحايا المدنيين، وتدمير البيوت والبنية التحتية، فإن قواته لا تزال عاجزة عن التقدم والثبات في أي مكان بالقرى اللبنانية المُستهدفة، ولم تستطع تغيير شيءٍ في الميدان.
إذ ليس سهلًا انهيار “حزب الله” أو القضاء عليه، أو حتى إضعافه، كما يخطط الاحتلال، مما يطوي جهلًا إسرائيليًّا بأيديولوجية الحزب وفكرة المقاومة وعقيدتها الدينية وبنيتها الهيكلية التنظيمية وتغلغلها المجتمعي ومصادرها التمويلية وارتباطاتها الإقليمية. إن الإرث المتراكم الذي عزَّزه “نصر الله” طيلة مدة قيادته لنحو 32 عامًا، جعل من الحزب قوةً إستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط ومكونًا مُعتبرًا في الساحة السياسية اللبنانية، عبر منفذي الحكومة والبرلمان، ومؤسسة (سياسية، اجتماعية، اقتصادية، وعسكرية وازنة)، وقاعدة شعبية حاضنة؛ حيث يمثل الحزب مع حليفه السياسي “حركة أمل” بقيادة رئيس مجلس النواب اللبناني “نبيه بري”، أو ما يُعرف بـ “الثنائي الشيعي”، نسبة 90% تقريبًا من المسلمين الشيعة في لبنان.
وقد اختبر الاحتلال الإسرائيلي جيدًا قدرات “حزب الله” العسكرية وإمكانياته في أثناء الحرب المستمرة، عدا أدائه منقطع النظير لناحية القدرة على المناورة والاستهداف العسكري، وهو ما تظهره تلكؤات الجيش الإسرائيلي في حركته خلال الغزو البري المحدود، الذي بدأه في الأول من أكتوبر 2024، مما ثبت فشل هدفه الآخر بشل قدراته العسكرية وضرب بنيته التحتية، وذلك حينما واصل الحزب إطلاق صواريخه على مدن وبلدات الشمال وداخل عمق الكيان الإسرائيلي حتى من بعد سلسلة عمليات الاغتيال الإسرائيلية، مما يدلل على عدم تأثر بنيته العسكرية ويثبت تماسكه وقدرته على استعادة قدراته الردعية ومواصلة القتال، فضلًا عن سرعة استجابته للحدث الطارئ الذي أصابه بانتخاب “نعيم قاسم” أمينًا عامًا جديدًا للحزب؛ لمواكبة المرحلة المقبلة التي تجمع بين قيادة المعركة والاستمرار في تنفيذ خطة الحرب المرسومة من قبل “نصر الله” وفق تأكيد “قاسم”، ومعالجة التحديات السياسية والحزبية والاجتماعية وإعادة الإعمار، بعد وقف إطلاق النار.
غير أن الإشكالية تبرُز محليًّا عند تباين آراء القوى السياسية اللبنانية بمختلف انتماءاتها حيال ترتيب الأولويات على وقع العدوان الإسرائيلي؛ فمنها من يرى، مثل: “حزب الله” وحركة “أمل”، أولوية وقف الحرب قبل مناقشة القضايا الداخلية الخلافية، في ظل توافق كثير من القوى اللبنانية على ضرورة مواجهة الاعتداءات الخارجية ورفض أي تعدٍ على حدود لبنان البرية والبحرية أو الجوية؛ إذ أعلن “التيار الوطني الحر”، وهو ثاني أكبر حزب مسيحي بزعامة “جبران باسيل”، وقوفه إلى جانب “حزب الله” في دحر الاحتلال، أسوة بتأييد حليفه التاريخي زعيم تيار “المردة” “سليمان فرنجية”، ومطالبة “الحزب التقدمي الاشتراكي” بوقف إطلاق النار وتطبيق القرار الدولي 1701(*)، الذي أعلن لبنان بمختلف مكوناته السياسية التزامه به وضرورة تطبيقه بطريقة متوازنة بين الجانبين. مقابل من يرى، مثل: أحزاب (القوات اللبنانية، والكتائب) وكلاهما حزبان مسيحيان، بانتخاب رئيس الجمهورية أولًا، في ظل الفراغ الرئاسي الذي يعود لشهر أكتوبر عام 2022 مع انتهاء ولاية الرئيس السابق “ميشال عون”، وفصل هذا الاستحقاق عن الحرب الجارية، مع السعي لفصل لبنان عن جبهة غزة، مما أثار الانتقادات الداخلية نظير اتساع عدوان الاحتلال الإسرائيلي نحو مناطق مختلفة من البلاد، مثل: جبل لبنان، والشمال، وعدم اقتصاره على الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت.
ولطالما عبَّر خصوم “حزب الله” الداخليون عن انتقادهم لهيمنته في السياسة اللبنانية، وتفرُّدِه بقرار الحرب، وطالبوا بمناقشة سلاحه وتحجيم دوره العسكري في جنوب لبنان، وقد يرون في إضعافه فرصة سانحة لتحقيق مكاسب سياسية، وقد يجد بعضهم تشجيعًا من القوى الأجنبية لتحقيق هذه الغاية، وربما الضغط على “حزب الله” للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بالشروط الإسرائيلية وتسليم سلاحه، أو الضغط على الحكومة اللبنانية لتكليف الجيش اللبناني بلعب دور أكبر في مواجهة قوة “حزب الله”، وليس فقط انتشاره في الجنوب اللبناني، أو الذهاب لأبعد من ذلك عند بروز تدخلات خارجية لزعزعة استقرار البلاد وخلخلة ضوابط تاريخية متفق عليها بإثارة الدعوة لإعادة النظر في التقسيم لعام 1943، الذي يتضمن توزيع السلطة السياسية بين مختلف الطوائف الدينية في لبنان، باعتبار أن الزمن قد تجاوزه ولم يعد مناسبًا في الوقت الحالي. غير أن محاولات من هذا النوع ستشكل وصفة جاهزة لإشاعة أجواء التوتر والاحتقان حدَّ الصدام المجتمعيّ، وهي محاذير تدركها القوى السياسية اللبنانية جيدًا وتسعى جاهدة لعدم الانزلاق إليها لصالح تعزيز الوحدة الوطنية.
وفي ظل تزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على قاعدة “حزب الله” الشعبية، وعقب اغتيال “نصر الله”، يبرز دور “نبيه بري” كمرجعية سياسية محورية للبنانيين الشيعة، لاسيما بعد تفويضه من قبل “قاسم” بقيادة جهود التوصل إلى وقف إطلاق النار، وإزاء تقديرات مراقبين لبنانيين بأن الفرصة قد تكون سانحة أمامه لإعادة التوازن داخل الحاضنة الشعبية، واستعادة مكانته التي تراجعت لصالح “حزب الله” في السنوات الأخيرة، عبر اتخاذ مواقف أكثر استقلالية عن الحزب. فمنذ توليه رئاسة مجلس النواب اللبناني عام 1992، عُرف عن “بري” تمكنه من بناء شبكة واسعة من العلاقات السياسية التي ساعدته كثيرًا في التأثير على مسار الأحداث السياسية والاجتماعية في البلاد والقدرة على التوفيق بين الأطراف المتنازعة وحل الخلافات الشائكة، غير أن تنحية دور “حزب الله” بثقله الوازن في القرار السياسي داخل قاعدته الشعبيّة وعلى المستوى الوطني، يعتبر أمرًا صعبًا، في ظل تماسكه وقدرته على تنظيم حضوره سياسيًّا ومواصلة القتال عسكريًّا.
أما في حال صياغة أي اتفاق لوقف إطلاق النار على حساب “حزب الله”، فإن ذلك قد يغيِّر من طبيعة التوازنات السياسية داخل قاعدته الشعبية اللبنانية، حتى وإن بقي قويًّا سياسيًّا. وفي ظل هذا الاحتمال الضعيف؛ فإن “نبيه بري” لن يشارك وحده في إعادة تشكيلها رغم مرونته السياسية وقدرته على التكيف مع التحولات الإقليمية وخاصية حضوره الحالي كجزء من سلطة رسمية لبنانية لإدارة المرحلة الانتقالية نحو إنهاء الحرب، فضلًا عن قدرة حركته السياسية على المشاركة في ترتيبات سياسية خلال مرحلة لاحقة، فهناك الأحزاب التقليدية أيضًا، كما قد يفتح المجال بشكل أكبر أمام قوى وأحزاب سياسية ناشئة وتغييرية تطرح مشاريع سياسية متنوعة وحديثة لكسب تأييد القاعدة الشعبية، صاحبة القرار الأخير.
ومع ذلك، من المستبعد أن يُقدم “بري” على مثل تلك الخطوة، أو على إعادة صياغة دوره فيها، أمام غلبة تشابك المصالح التي نُسجت بين “حزب الله” وحركة “أمل” عبر مدار السنوات السابقة، ولإدراك الأخيرة ثقل قوة الحزب، الذي بدوره يعي حيوية دور الحركة كطرف رئيس في التوازنات الداخلية لحاضنته الشعبيّة اللبنانية، رغم التباينات الثنائية العميقة، بما يجعل فك التحالف البيني أمرًا صعبًا. وبالرغم من سعي بعض قيادات وعناصر حركة “أمل” لإظهار نوع من التمايز عن “حزب الله”، إلا أن أي تراجع في نفوذه أو ضعف يصيبه قد يثير قلق الحركة من احتمال تأثرها به أو عدم قدرتها على سد الفراغ الذي قد يخلفه.
ثانيًا: مخطط إسرائيلي لتغيير الخارطة الجغرافية اللبنانية.
يسعى الاحتلال الإسرائيلي من وراء توسيع عملياته العسكرية وارتكاب المجازر الدموية بحق المدنيين اللبنانيين وتهجيرهم وتدمير البُنى التحتية، إلى تغيير الخارطة الجغرافية اللبنانية وتثبيتها لاحقًا في محاولة فرض واقع جغرافي وأمني جديد، إلا أن الوعي المجتمعي وصمود المقاومة الإسلامية وإدراك القوى السياسية اللبنانية لأبعاد العدوان، من شأنها أن تعاكس مخططاته.
لا شك أن الحرب في لبنان قد أحدثت متغيرات جغرافية مؤقتة بمسعى تفريغ منطقة (الجنوب، البقاع، والضاحية الجنوبية لبيروت) من معظم سكانها تحت وطأة الغارات الجوية الإسرائيلية الكثيفة وأوامر الإخلاء، التي أثرت على 32% من المساحة الإجمالية للبنان وما رافقها من عمليات نزوح جماعي نحو الشمال أو قرب الحدود السورية، تشمل إخلاء 129 قرية في محافظتي الجنوب والنبطية، ما يمثل 8% من مساحة البلاد، منها 82 قرية تقع جنوب نهر الليطاني، و26 قرية تقع بين نهري (الليطاني، والأولي)، ومطالبة سكان البقاع وضاحية بيروت الجنوبية بمغادرة منازلهم بحجة وجود مقرات أو مراكز تابعة “لحزب الله”، وهناك قرى أخرى لم يطالب الجيش الإسرائيلي بإخلائها، لكنها محاصرة تمامًا بقرى أخرى مطلوب إخلاؤها، مما يصعب حركة التنقل خارجها.
ومن الواضح، أن الجانب الإسرائيلي لا يكتفي باتفاق يضمن منطقة خالية من عناصر “حزب الله” وسلاحه جنوبي الليطاني فقط، بل يسعى لما هو أكثر من تطبيق القرار الدولي رقم 1701، وربما إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه حينما حافظ على احتلال مطوَّل لأجزاء أكبر من جنوب لبنان، قبل خروج قواته من لبنان عام 2002، أو على الأقل إيجاد ترتيبات أمنية تضمن بقاء قواته على مقربة من الحدود إن لم يكن داخل مساحات منها، وتطهير المنطقة من منصات صواريخ “حزب الله” ومستودعات سلاحه وأصول أخرى استعملها لإطلاق النار على الجانب الإسرائيلي، وإجبار مقاتليه الذين يتمركزون في الجنوب على الانتقال بمسافة كبيرة نحو الشمال، بما يشكل تغييرًا جغرافيًّا جذريًّا فيها. ولكن من غير المرجح، أن يتمكن الجيش الإسرائيلي من تحقيق ذلك الهدف من خلال غزو بريٍّ واسع يتردد في شنِّه، فالقتال على الأرض في المنطقة الجبلية بالجنوب يترك قواته عرضة للكمائن؛ حيث يتمتع الحزب بمزايا عديدة إضافة إلى خبراته الطويلة في حرب العصابات، كما تحتوي ترسانته على صواريخ مضادة للدبابات وغيرها من الصواريخ التي يصعُب اعتراضها، وحفر أنفاق تحت الحدود وأنفاق أخرى لربط المواقع المختلفة في جنوب لبنان.
وفي ظل استمرار الحرب وغياب الحل الدبلوماسي؛ من غير المرجح أن ينجح أي من خياري الاحتلال الإسرائيلي في العودة الآمنة لسكان المستوطنات إلى شمال فلسطين المحتلة، ومنع استئناف الهجمات من لبنان. فطبقًا لتقديرات عسكرية لبنانية خبيرة؛ فإن أحد هذين الخيارين يتمثل في احتلال طويل الأمد لأراضٍ لبنانية، أما الثاني: فيصب في محاولة تدمير بنية “حزب الله” العسكرية. وقد يتطلب الخيار الأول توسيع الجانب الإسرائيلي لاحتلاله إلى مناطق أخرى في لبنان، بما في ذلك (وادي البقاع، وضواحي بيروت الجنوبية)؛ حيث يتجذر “حزب الله” بين السكان، غير أن مثل هذه المناورة قد تنطوي على فرض نظام أمني مؤقت في تلك المناطق لتعقب أفراد الحزب وتفكيك مؤسساته الواسعة، لكن تكرار مشهد الاحتلال السابق لجنوب لبنان سيكون مسألة طويلة من المرجح أن تُلحق الألم بالجانب الإسرائيلي، على شكل سقوط مستمر للقتلى في صفوف جنوده واقتصاد أكثر ضعفًا وعزلة دبلوماسية.
أما بالنسبة للخيار الثاني؛ فليس واضحًا أن لدى الاحتلال الإسرائيلي فرصة أفضل في القضاء على “حزب الله”، لاسيما وأن جيشه يحارب منذ سنة في قطاع غزة، ولا يزال ينتشر هناك وفي الضفة الغربية أيضًا. وقد يكون الأمر الأكثر ترجيحًا، أن جهوده ستسمح له بالاحتفاظ بمزيته العملياتية والتكتيكية في الوقت الذي يدير فيه التهديدات على جبهته الداخلية لمدة طويلة من الزمن، لكن من دون نتائج واضحة.
في حين تطل المطامع الإسرائيلية القديمة في نهر الليطاني من بين ثنايا مخطط تغيير الخارطة الجغرافية اللبنانية، نظير موقعه الإستراتيجي وقربه من الحدود مع فلسطين المحتلة، وإدراجه في المشروع الصهيوني التوسعي الذي يتضمن، وفق تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، مخططَ الاستيلاء على جنوب لبنان وضم الليطاني وتأمين كميات المياه التي يحتاج إليها، مما جعل أطول أنهار البلاد اللبنانية وأكبرها وأهمها إستراتيجيًّا مركز اهتمام الاحتلال الإسرائيلي، ومحور عمليات عسكرية نفذها في السابق، وموضع مساعيه المتواترة لإبعاد عناصر “حزب الله” إلى ما وراءه، ومما يُفسِّر أيضًا هجماته الكثيفة لتفريغ الأراضي الواقعة بين الليطاني والحدود الشمالية لفلسطين المحتلة من سكانها.
ثالثًا: تبعات الحرب اجتماعيًّا.
تعتبر التبعات الاجتماعية الجانب الأثقل ضررًا من العدوان الإسرائيلي المتواصل ضد لبنان لأكثر من عام؛ فبالإضافة إلى الخسائر البشرية الفادحة، فإن النزوح المستمر يُلقي بظلاله القاتمة على أمن واستقرار الجبهة الداخلية اللبنانية وموازين التركيبة السكانية الحالية، وسط أزمة اقتصادية ومالية خانقة ممتدة منذ قرابة خمس سنوات، وقد تتفاقم تلك التداعيات سوءًا في حال استمرت الحرب بدون أفق قريب للحل التفاوضي.
أولًا: تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، راكمت الحرب في لبنان أوضاعًا (اقتصادية، اجتماعية، ومالية) غير محمودة ممتدة منذ قرابة خمس سنوات، إزاء انهيار مالي انسحب على النقد والاقتصاد وأسفر عن أزمة مصرفية كبيرة، وفراغ سياسي ومؤسساتي، مما أدى لتصدُّع اقتصاده ومؤسساته وقطاعه المصرفي، وضعف مقومات الصمود المعيشية للبنانيين، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي إلى 17 مليار دولار عام 2023، وحجم خسائر اقتصادية إجمالية تخطت 20 مليار دولار، وفق تصريح وزير الاقتصاد والتجارة اللبناني “أمين سلام”، في 20/11/2024، متضمنًا خسائر القطاعات الاقتصادية والأضرار التي لحقت بالمنشآت السكنية والتجارية والبنية التحتية.
طالت التداعيات السلبية للحرب مختلف القطاعات الحيوية اللبنانية التي تُسجل تراجعًا مستمرًا في مستوى المداخيل؛ فطبقًا لأرقام رسميَّة لبنانية، فقد تكبد القطاع السياحي، الذي يسهم بربع الناتج المحلي الإجمالي، خسائر إجمالية تقدر بنحو 3,7 مليار دولار، أسوة بالقطاع الزراعي، الذي يسهم بنحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي وبنسبة أكبر تفوق 30% يرفدها الجنوب اللبناني وحده؛ حيث وصلت خسائره لأكثر من مليار ونصف المليار دولار، تزامنًا مع فقدان 30% من قدرته الإنتاجية وتراجع صادراته الزراعية. فيما بلغت خسائر المؤسسات التجارية نحو 4,70 مليون دولار، وطال الدمار أكثر من 2500 وحدة إنتاجية من مصانع ومخازن ومحالٍّ تجارية، مما يجعل انعكاسات الأضرار المادية على الاقتصاد مباشرة.
كما تسببت الحرب في تدمير أكثر من 4 آلاف وحدة سكنية بشكل كامل أو جزئي، وإلحاق الضرر بأكثر من 7 آلاف وحدة سكنية، بالإضافة إلى العديد من المرافق الحيوية، مثل: محطات ضخ مياه وكهرباء، وطرقات ومحطات إرسال للاتصالات …، بحيث تقدر خسائر البنية التحتية بأكثر من ملياري دولار بأقل تقدير. فيما كان تأثير الحرب ملحوظًا مع انخفاض حجم الصادرات إلى 2,99 مليار دولار، وحجم الواردات، التي تركزت بشكل كبير على الأساسيات وتخلت عن السلع غير الأساسية، إلى 17,5 مليار دولار، مع ترشيح توالي انخفاضها وسط بطالة تقنية ضربت اليد العاملة اللبنانية بأكثر من 50% من مجمل اليد العاملة، والتي بدورها سترتفع أكثر مع مرور الوقت وستتحول لاحقًا إلى بطالة فعلية سينخفض معها الاستهلاك والناتج المحلي الإجمالي بشكل هيكلي.
وفي حال استمرار الحرب، وتفاقم حجم الخسائر البشرية والمادية، وضعف الاستجابة الدولية لتقديم الدعم المالي؛ فإن ذلك سيؤدي إلى تقليص حجم الاقتصاد الرسمي اللبناني بأكثر من 7% للعام الحالي و5% العام المقبل، وزيادة الشلل في المؤسسات العامة، وتكبيل الاقتصاد، وترجيح توجه الحكومة اللبنانية إلى تكثيف سياساتها المالية التقشفية تجاه القطاعات الإنتاجية والخدماتية، مما يعني زيادة معاناة اللبنانيين.
ثانيًا: النزوح المستمر، تسبب العدوان الإسرائيلي واستهدافه المتواصل لبيوت المدنيين في تهجير أكثر من مليون و400 ألف لبناني من مختلف مناطق (الجنوب، البقاع، والضاحية الجنوبية لبيروت) نحو الداخل اللبناني، ورغم تقسيم المناطق اللبنانية وفق التوزيع الجغرافي والانتماءات الحزبية المختلفة، إلا أن أجواء التكافل الشعبي والتضامن الوطني طغت على الانقسامات الداخلية؛ إذ استقبل اللبنانيون أقرانهم النازحين في بيوتهم، وسارعت اللجان والجمعيات الأهلية والأحزاب على اختلافها لفتح المساجد والكنائس والمدارس وباحات الأندية كمراكز إيواء، إلى جانب توفير منازل مجانية لهم، أسوة بنشاط مشابه لمنظمات مدنية محلية ومبادرات شبابية وفردية لتأمين احتياجاتهم الأولية، رغم قلة الموارد المتاحة.
ولم تَقِل الرعاية الرسمية جهدًا مماثلًا؛ إذ أعلنت الحكومة اللبنانية عن مراكز إيواء، وسعت لتطبيق خطط الطوارئ المعنية بالاستجابة للأزمة الإنسانية الناجمة عن الحرب وأطلقت، في 2/10/2024، نداءً إنسانيًّا وجهته للدول المانحة بمبلغ 425,7 مليون دولار على مدى الأشهر الثلاث المقبلة للمساعدة في تأمين احتياجات النازحين من المواد الغذائية؛ حيث أضحت الحاجات الأساسية للنازحين تشكل عبئًا على الجهات المعنية، خاصة وإن كانت الاستجابة الدولية، لاسيما من المنظمات الإنسانية الدولية، ما زالت خجولة.
ومع ذلك، تطل تبعات موجة النزوح المتواصلة وتوسُّع رقعة الحرب بين ثنايا مشهد التضامن الوطني، في ظل ضغوط اقتصادية واجتماعية خانقة وانقسامات سياسية حادَّة، وتأخذ الإشكالية منعطفًا قاتمًا نظير الاحتكاكات والتوترات والشجارات المتزايدة بين النازحين والسكان المحليين في بعض المناطق اللبنانية المضيفة، فضلًا عن احتكاكات بين النازحين والأجهزة الأمنية التي تنفذ عمليات إخلاء من عقارات خاصة شُغلت دون موافقة أصحابها، مما دفع عدد من المسؤولين اللبنانيين، مثل وزير الخارجية اللبناني “عبد الله بو حبيب”، في تصريحه بتاريخ 28/10/2024، للتحذير من احتمال اندلاع فتنة داخلية بين اللبنانيين، أو وقوع حوادث متفرقة قد تتصاعد وتيرتها حدَّ انفلات مجتمعي يصعُب ضبطه، بعيدًا عن شبح الحرب الأهلية التي تعيد للذاكرة مشاهد الصراع الدموي الذي عاشته البلاد عقودًا طويلة؛ لإدراك القوى السياسية اللبنانية مخاطر الانزلاق إليها.
وللنزوح تداعياته المُضاعفة القاتمة؛ فجُل النازحين يعيشون ظروفًا اقتصادية وصحية صعبة ويعتمدون أساسًا على المساعدات الإنسانية التي غالبًا ما تكون غير كافية لتلبية احتياجاتهم الأساسية، وهم بذلك يشكلون ضغطًا هائلًا على الموارد والخدمات في المناطق المضيفة، التي تعاني من الاكتظاظ السكاني وسوء الأحوال المعيشية، مما يفاقم استنزاف مواردها مثل: المياه والكهرباء، ويشكل تهديدًا لاستقرار المجتمع على المدى البعيد في حال طال أمد الحرب ومعه النزوح، وقد تؤدي الأزمة الاقتصادية الخانقة إلى تأجيج التوتر والاحتقان الاجتماعي، في ظل نسبة فقر وبطالة عالية؛ حيث يشكل التنافس على فرص العمل أحد أبرز أسباب الاحتكاك بين النازحين والمجتمع المضيف.
ولن يقتصر الخطر هنا على التوترات الداخلية المباشرة، بل قد يمتد ليشمل احتمالات التدخلات الخارجية التي قد تسعى لاستغلال ثغرات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة والانقسامات اللبنانية الحادة لزعزعة أمن واستقرار الساحة اللبنانية. ولا تبتعد يدُ الجيش الإسرائيلي كثيرًا عن تلك الأجواء؛ عبر مساعيه المسّتمرة لتفجير الوضع الأهلي بتكثيف الاعتداءات الجوية وملاحقة أبناء الجنوب اللبناني إلى أماكن نزوحهم واستهدافهم بالقصف والغارات الهمجيَّة لجلب المعاناة المشتركة لهم ولمجتمعهم المضيف، مثل: استهداف قرية “أيطو” في شمال لبنان وتسكنها أغلبية مسيحية؛ لاستضافتها النازحين، بهدف إثارة الخلافات الداخلية من مدخل التقسيم الطائفي في لبنان، بالتزامن مع إسقاط مناشير تحريضية وأخرى تحمل عبارات التهديد في العديد من القرى الجنوبية وقرى البقاع الغربي والأوسط التي حل فيها آلاف النازحين، بهدف إحداث شروخ مجتمعية بين البيئات الحاضنة. غير أن الوعي المجتمعي الذي اختبر هذه المحاولات سابقًا وأفشلها، يصر هذه المرة أيضًا على إحباطها، في ظل تأكيد القوى السياسية اللبنانية على ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية ودعم النازحين، في مواجهة العدوان الإسرائيلي الذي وسع غاراته الجوية من حيث العدد والنطاق الجغرافي، مما دفع مختلف القوى (السياسية، الروحية، الصحية، والشعبية) إلى الاستنفار للتصدي لتداعيات العدوان، خاصة فيما يتعلق بالإغاثة والإيواء وتعزيز التضامن الوطني.
ثالثًا: يسعى الجيش الإسرائيلي، من وراء هجماته الكثيفة وإنذارات الإخلاء، إلى تفريغ (جنوب لبنان، البقاع، والضاحية الجنوبية لبيروت) من سكانها، وخلخلة التوازن المجتمعي جغرافيًّا، عبر النزوح من تلك المناطق، ذات الأغلبية الشيعية، إلى الداخل اللبناني، مثل: غرب بيروت التي يتواجد فيها الأغلبية السنيَّة، باعتباره أحد أبرز أهداف العدوان الإسرائيلي ضد لبنان.
وفي المحصلة: فإن الوعي المجتمعي وصمود المقاومة الإسلامية وإدراك القوى السياسية اللبنانية لأبعاد العدوان الإسرائيلي، من شأنها إحباط مخطط تكريس التبعات السياسية والجغرافية والاجتماعية الناجمة عن الحرب لواقع مُغاير ودائم، بما يستدعي، لبنانيًّا، إعلاء المصلحة الوطنية على الأطر التنظيمية الضيِّقة، والنهوض بمشروع جامع يضع التفاعل اللبناني بمختلف مكوناته في مسار تعزيز الوحدة الوطنية، ومواجهة تحديات المرحلة الراهنة، وربما المقبلة أيضًا.
*****
(*) صدر القرار 1701 عن مجلس الأمن الدولي في 11 آب 2006 بهدف إنهاء الحرب بين الجانب الإسرائيلي و”حزب الله” في جنوب لبنان بعد 34 يومًا من الصراع، ويتضمن بنودًا عدة من أبرزها: وقف إطلاق النار، ومطالبة الحكومة اللبنانية وقوات الأمم المتحدة “اليونيفيل” بنشر قواتهما في مناطق الجنوب، وبشكل موازٍ، مطالبة حكومة إسرائيل بسحب جميع قواتها من جنوب لبنان، وبسط سيطرة الحكومة اللبنانية على جميع الأراضي اللبنانية وممارسة سيادتها عليها، واحترام الخط الأزرق، وهو الحدود المعترف بها دوليًّا بين إسرائيل ولبنان، وإنشاء منطقة بينه وبين نهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة، بخلاف ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان.