2024العدد 200ملف إقليمي

أدوار الدول غير العربية  كما عكستها الحروب الإسرائيلية في المنطقة

شكلت عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 محطة بارزة في الصراع العربي الإسرائيلي منذ تأسيس دولة إسرائيل في العام 1948؛ حيث اتسمت العملية بالمفاجأة والنوعية غير المسبوقتين في تاريخ الصدامات والحروب بين إسرائيل والفلسطينيين تحديدًا.

وطرحت العملية مجددًا السؤال الأكثر خطورة بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي وهو مصير الكيان والوجود، لذلك كانت ردة فعل إسرائيل أيضًا استثنائية ومصيرية وسمَّاها لهذا السبب قادتها بحرب الاستقلال الثانية.

  1. من أهم ميزات ردة فعل إسرائيل أنها كسرت الصورة الشائعة التي كانت تقول بأن حروب إسرائيل خاطفة ولا تستطيع تحمل حروب طويلة، لكن حرب إسرائيل على غزة لا تزال مستمرة، بل توسعت إلى لبنان، وربما تتسع بعد أكثر، وهي فاقت السنة وثلاثة أشهر تقريبًا وربما تمتد لأكثر من ذلك.
  2. والميزة الثانية أن عقيدة إسرائيل الوجودية جاهرت بأنها لن تعترف بما سُمي حلَّ الدولتين وفقًا للقرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن، وهذا يعني الإبقاء على دولة واحدة على أرض فلسطين هي الدولة اليهودية، وهذا يستدعي محو الوجود الفلسطيني بكافة أشكاله (السياسية، والعسكرية) وصولًا إلى “إبادة” الوجود البشري كما حصل ولا يزال في غزة؛ حيث كانت محاولة تهجير الفلسطينيين هناك إلى شبه جزيرة سيناء، لكن هذه المحاولة فشلت حتى الآن مع تمسك الفلسطينيين بأرضهم إضافة إلى اعتراض مصر.
  3.  وأظهرت الحرب على غزة أن إسرائيل لا تشكل فقط “أرضًا موعودة” لليهود بل قبل ذلك قاعدة للدول الغربية الاستعمارية ذات الأطماع الدائمة في منطقة الشرق الأوسط والعالمين (العربي، الإسلامي) وبدأت القصة منذ مطلع الثلاثينيات مع اقتراح القنصلية البريطانية في القدس إقامة وطن لليهود في فلسطين يكون مانعًا لتوحيد مصر وسوريا وذلك مع بدء إبراهيم باشا التوسع من مصر إلى سوريا والسيطرة عليها وصولًا إلى أبواب الأستانة، ومثل هذا الوطن يجعل شرايين التجارة البرية والبحرية تحت سيطرة هذه الدولة.

لذا تداعى الغرب بقضه وقضيضه وكل قادته بعد طوفان الأقصى إلى إسرائيل لدعمها في مواجهة الفلسطينيين وكل خصومها، وبرزت الولايات المتحدة في طليعة هذه الدول، التي سخَّرت ترسانتها العسكرية وحتى البشرية من أجل دعم إسرائيل وحماية وجودها من التهديدات.

  • من ميزات الحروب الإسرائيلية المفتوحة هو إظهارها البعد العنصري المقيت للحضارة الغربية التي تعامت عن الإبادة المكشوفة ضد فلسطينيي غزة، وسمحت لإسرائيل بتدمير وقتل كل مظاهر الحياة البشرية والمادية في القطاع.
  •  وإذا كانت الدول الضعيفة لا تجد نصيرًا لها سوى منظمة الأمم المتحدة بمختلف مؤسساتها، فقد أظهرت المنظمة الدولية أنها عاجزة بالكامل عن نصرة الضعفاء، وهذا في جوهره يعني انهيار النظام الدولي القائم وسيطرة شريعة الغاب والقوي في المحطات المفصلية.

وقد يكون ذلك مشابهًا لمرحلة انهيار “عصبة الأمم” عشية الحرب العالمية الثانية وتأسيس منظمة جديدة هي “الأمم المتحدة” التي تكاد الآن تلفظ أنفاسها الأخيرة.

التكتلات والدول غير العربية وغير الأممية.

عندما يتم الحديث عن الغرب فإن التكتلات الكبرى الاقتصادية والعسكرية تتصدر هذه الدول، وعلى رأسها: مجموعة الدول السبعة، كما منظمة حلف شمال الأطلسي، ويمكن أن نخصُّ بالذكر (الولايات المتحدة، بريطانيا، ألمانيا، وفرنسا تحديدًا) لقد عكس الدعم الغربي غير المسبوق للحروب الإسرائيلية بكل وضوح أن الغرب عندما يدافع عن إسرائيل إنما يحاول أن يحمي نفسه ومصالحه أولًا وقبل أي شيء آخر.

أما الدول والمنظمات غير الإقليمية وغير الدولية الأخرى فيمكن أن تُختصر بالموقفين (الروسي، الصيني) وبتكتل (شانغهاي، البريكس)، ولقد كانت حروب إسرائيل في المنطقة أكبر وأوسع اختبار لحجم قوة الدول والقوى العالمية.

ولا يخفى أن الاتحاد السوفيتي السابق كان قادرًا على فرض توازنات حقيقية استمرت إلى نهاية الحرب الباردة، لكن وعلى الرغم من انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية وحلفها العسكري المُسمى “حلف وارسو” استمرت الولايات المتحدة في اعتبار الاتحاد الروسي- بديل الاتحاد السوفيتي- الخطر الأول على الولايات المتحدة، وكانت وسيلتها الأولى لذلك هو توسيع حلف شمال الأطلسي بطريقة تهدف إلى التضييق على روسيا ومحاصرته. وكان توسيع حلف شمال الأطلسي خطيرًا على الأمن القومي الروسي بحيث تم تطويقه من كامل المنطقة الغربية مع انضمام (السويد، فنلندا، والدنمارك) وكان سعي الحلف لضم أوكرانيا الخط الأحمر الذي استفز روسيا التي تدخلت في أوكرانيا في شباط/فبراير 2022، وربما كان ذلك استدراجًا لفخ نصبته الولايات المتحدة لروسيا.

وتحولت حرب أوكرانيا إلى حرب استنزاف لقدرات روسيا، بحيث أثر ذلك سلبًا على قدرة روسيا في التدخل أو التأثير في النزاعات التي تنشب في أماكن أخرى، وفي رأسها الحرب التي وقعت بعد عملية طوفان الأقصى، واكتفت روسيا بتوجيه نداءات إلى إسرائيل بوقف حروبها من دون الانتقال إلى خطوات عملية على الرغم من أن هذه الحروب تصب في خدمة الولايات المتحدة والغرب، لكن ربما حتى لو كانت روسيا قادرة على التدخل فإنها لم تكن لتفعل ذلك؛ أولًا لأن علاقاتها مع إسرائيل ليست سيئة بل هي طبيعية وتحكمها علاقات اقتصادية ووجود أكثر من مليون إسرائيلي من أصل روسي، كما لا ترغب روسيا في تسعير التوتر كي لا تمتد الحرب إلى سوريا فتدخل هناك في صدام غير متكافئ مع الولايات المتحدة.

أما الصين فإنها أقل قوة عسكرية فيما تُولي أهميةً لتنمية قوتها الاقتصادية في ظل عدم الانجرار إلى أي حرب مع الولايات المتحدة، كما إن للصين علاقات مميزة مع إسرائيل على كافة الصُعُد (الاقتصادية، التكنولوجية) كما للصين استثماراتها الواسعة في إسرائيل، وبالتالي لم يكن منتظرًا من الصين ولو في أي لحظة أن تتخذ موقفًا منحازًا إلى جانب الفلسطينيين ولبنان وحتى سوريا، فيما لو امتدت الحرب إلى الأخيرة.

أما بالنسبة للتكتلات الكبرى غير الأممية، فإننا نقف عند تكتلين رئيسين وهما: مجموعة دول شنغهاي، ومجموعة دول البريكس.

وهاتان المنظمتان في الإطار العام لم تخرجا بمواقف محددة أكثر من الدعوة لوقف النار وحل الدولتين ولم تسعيا أصلًا إلى اتخاذ أي مبادرة ضد إسرائيل للضغط عليها، وهذا طبيعي نظرًا لعدم وجود سياسة واحدة في كل منهما في هذا الإطار؛ إذ تضمَّان دولًا متنوعة الانتماءات السياسية، ومنها ما هو على علاقة جيدة مع إسرائيل ومع الغرب، وبالتالي فإن هياكلهما لم تكتمل وتصل إلى مرحلة متماسكة أو موحدة وربما لن تستطيعا ذلك، ولذلك فإن تأثير هاتين المنظمتين في الحروب الإسرائيلية في المنطقة كان شبه معدوم.

الدول الإقليمية غير العربية.

تبرز في رأس الدول الإقليمية غير العربية بالنسبة لاتجاه المواقف من الحروب الإسرائيلية كل من (تركيا، إيران).

  1. تركيا.

تأسست دولة إسرائيل في العام 1948، وفي العام التالي كانت تركيا تمتاز عن غيرها من الدول العربية والإسلامية باعترافها بالدولة العبرية، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم احتفظت تركيا بعلاقات (سياسية، اقتصادية، وعسكرية) ممتازة مع إسرائيل، لم تقلل من حجمها وأهميتها العديد من الاختلافات والتوترات التي عرفتها العلاقات الثنائية من وقت لآخر.

عندما قامت حركة “حماس” بعملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر من العام 2023، كان حزب العدالة والتنمية في تركيا يتهيأ- في اليوم نفسه- للتجديد لرئيس الجمهورية “رجب طيب أردوغان” زعيمًا للحزب مرة جديدة، وعندما أُحيط أردوغان بتفاصيل هجوم “حماس” صباح ذلك اليوم، كانت ردة فعله أن المسألة هي أبعد بكثير من مجرد كونه هجومًا لمنظمة على إسرائيل، كان في اعتقاده أن الهجوم لم يكن بمنأى عن تورط دولة إقليمية كبيرة (هي إيران) فيه، ولذلك كان تأخير تعليق تركيا على ما جرى إلى ساعات ما بعد الظهر.

كان خطاب أردوغان أمام مؤتمر حزب العدالة والتنمية، كان على امتداد أسبوعين كاملين، جوهره اتخاذ موقف “الحياد” بين إسرائيل وحماس، كانت مطالب تركيا موجهة إلى الطرفين في الوقت نفسه بضرورة وقف الهجمات والابتعاد عما يفاقم التوتر وعدم استهداف المدنيين.

كان أردوغان خارجًا للتو على امتداد السنوات الثلاثة الماضية من مصالحات نالت الكثير من الجهد لكي تتحقق مع كل من (السعودية، الإمارات، وإسرائيل)، وكان أردوغان خارجًا للتو قبل أسبوعين، في 20 أيلول/ سبتمبر 2023، من لقاء هو الأول منذ سنوات مع رئيس وزراء إسرائيل “بنيامين نتنياهو” في واشنطن على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، وكان الاتفاق على العمل معًا في مجال الطاقة واستخراج الغاز والعمل على نقل الغاز الإسرائيلي عبر أنابيب تحت البحر إلى أوروبا عبر تركيا.

وكانت تركيا قد خرجت للتو أيضًا من تصحيح جزء من علاقاتها مع الولايات المتحدة في اجتماع فيلنيوس (تموز/ يوليو 2023) عاصمة ليتوانيا لحلف شمال الأطلسي.

لذلك فوجئت تركيا بهجوم “حماس” وارتبكت في اتخاذ الموقف منه؛ فـ”حماس” هي الذراع الأهم لتركيا في القضية الفلسطينية كما في المنحى الفكري، وفي الوقت نفسه فإن المصالحة مع إسرائيل ومع (السعودية، الإمارات، والولايات المتحدة) كانت ضرورية لتركيا لمحاولة التخفيف من الأزمة الاقتصادية، لذلك كان الموقف الحيادي الذي اُتخذ.

غير أن تفاعلات حدث السابع من تشرين الأول / أكتوبر في الداخل التركي كان كبيرًا؛ نظرًا للتعاطف المعنوي والمادي الكبير للشعب التركي، وخصوصًا لقاعدة حزب العدالة والتنمية الإسلامية مع الشعب الفلسطيني، وخرجت الأصوات المطالبة بتطوير الموقف التركي ورفض هجوم إسرائيل الوحشي على غزة وارتكاب المجازر الكبيرة.

وفي ظل الضغط الشعبي الكبير أمسك الرئيس التركي العصا من منتصفها والبدء في تغيير الموقف التركي من الحياد إلى التنديد بنتنياهو وإسرائيل، وفي الوقت نفسه الاستمرار في العلاقات مع إسرائيل على كافة الصُعد الديبلوماسية والاقتصادية.

يمكن القول إن الموقف التركي المزدوج استمر على هذا المنوال على امتداد أشهر الحرب في غزة لأي تصعيد كبير في نبرة الخطاب من دون اللجوء إلى خطوات عملية مثل: قطع أو تخفيض العلاقات الديبلوماسية، أو وقف أو تقليص العلاقات الاقتصادية.

وحتى عندما أمرت أنقرة بوقف التجارة مع إسرائيل في شهر أيار/مايو 2024، استمرت التجارة مواربة عبر دول ثلاثة لتعود من جديد في الصيف مباشرة مع استبدال اسم الجهة المرسلة إليها البضائع من “دولة إسرائيل” إلى “دولة فلسطين”.

وعلى الصعيد الدولي، لم يترجم تحذير أردوغان من أنه سيشهِّر بإسرائيل في المحافل الدولية بأي إجراء عملي، بل كانت جنوب إفريقيا المسيحية مثلًا، وليس تركيا المسلمة، هي التي تقدمت، في نهاية العام 2023، بطلب إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي بمحاكمة إسرائيل على أنها مجرمة حرب.

وفي هذا الموقف كانت تركيا تحاول إجراء توازن بين صورة الدولة المعترضة على إسرائيل وبين صورة الدولة الحريصة على استمرار العلاقات معها، كذلك لم تكن تريد حصول أي توتر جديد في العلاقات مع الولايات المتحدة الداعمة الأولى لإسرائيل.

كان أردوغان- تحديدًا- يريد من هذا الموقف، على الصعيد الداخلي، استدراك خسارة تأييد فئات مختلفة متدينة كانت أبدت امتعاضها الشديد من موقف الدولة الرسمي في استمرار العلاقات مع إسرائيل، وجاءت استطلاعات الرأي لتؤكد أن خسارة أردوغان وحزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية، في 31 آذار/ مارس 2024، وحلوله للمرة الأولى في المركز الثاني خلف حزب الشعب الجمهوري، كان من أسبابها الرئيسة عدم تصويت فئات متعددة متدينة لحزبه، كانت تصوت له عادة، فجاءت بعد الخسارة بشهر تقريبًا خطوة وقف التجارة مع إسرائيل التي كانت مع ذلك خطوة نظرية وبعدها أطلق أردوغان تحذيره الشهير إلى إسرائيل من أنه “كما دخلنا إلى ليبيا وكما دخلنا إلى قره باغ، سندخل إليهم” -الإسرائيليين- من دون أن ينتقل إلى ترجمة هذا التهديد إلى واقع.

في كل هذا السياق، كان الرئيس التركي يحاول الاستفادة من الحرب في غزة من أجل تصحيح علاقاته مع دول أخرى مثل: مصر، فزارها أولًا وزير الخارجية “حاقان فيدان” ومن ثم كانت زيارة أردوغان نفسه إلى القاهرة في 14 شباط/ فبراير 2024، وما لبث الرئيس المصري أن رد الزيارة إلى أنقرة في الرابع من أيلول/سبتمبر 2024، وكان الموضوع الرئيس في لقاءات أردوغان والسيسي هو التضامن في الموقف برفض حرب إسرائيل على غزة والدعوة للوقف الفوري للنار هناك.

ومع ذلك، فإن إسرائيل كانت ترفض كل نداءات المجتمع الدولي متمسكة بالدعم الهائل للولايات المتحدة والغرب.

غير أنه في مطلع تشرين الأول/أكتوبر من العام 2024، كان الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” يطلق موقفًا مثيرًا عندما أعلن أمام البرلمان التركي في افتتاح دورته الجديدة أن إسرائيل تريد بعد أن فتحت الحرب واسعة على لبنان، في 17 أيلول/سبتمبر، أن توسّع الحرب إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط ومنها تركيا، وقال “إن حرب إسرائيل التي تستند إلى مزاعم توراتية مزيفة لا تستثني تركيا من خطتها” “من النيل إلى الفرات” ومن ثم كرر أردوغان تحذيراته في أكثر من مناسبة بأن التهديد يقترب من تركيا داعيًا إلى وحدة الأمة، وقال “إن تركيا تتخذ كل التدابير الضرورية لمواجهة هذا الخطر”.

أحدثت تصريحات أردوغان هذه ضجة في الداخل التركي بين مؤيد ومعارض، وكان في رأس الاعتراضات أنه كيف يمكن لتركيا التي هددت بأنها ستدخل إلى إسرائيل كما دخلت إلى قره باغ، أن تظهر بمظهر “الخائف” من إسرائيل؟ وهذا يخدم دعاية إسرائيل نفسها والظهور بمظهر الأقوى في المنطقة، كذلك اتهمت المعارضة أردوغان أنه لم يقدم أي دليل ملموس على وجود تهديدات إسرائيلية لتركيا، وبأنه يسعى لتوظيف السياسة الخارجية في خدمة مصالحه الشخصية؛ إذ يريد شد العصب القومي وتقديم نفسه أنه سيكون المنقذ لتركيا من الخطر الإسرائيلي، والتمهيد بالتالي لتعديل الدستور ليتم السماح للمنقذ بالترشح مجددًا لولاية رابعة.

ولعل من عوامل تحذير أردوغان أنه يستشعر من التوسع الإسرائيلي خطرًا على المشروع العثماني الذي يحمله، والذي يجعل من تركيا تحتل أجزاء من الشمال السوري وتفرض هيمنة عسكرية في شمال العراق وتوسعًا أيضًا في مناطق أخرى منها: ليبيا.

وفي الواقع، إن إسرائيل التي تعمل لتكون “الممثل الحصري للتوحش الغربي” في المنطقة، لن تتوانى عن التمدد إلى أبعد نقطة ممكنة بما فيها تركيا، لكن العديد من العوامل الرادعة تجعل تركيا- على الأقل في المدى المنظور- خارج لعبة التوسع الإسرائيلي المباشر، وهي أنها عضو في حلف شمال الأطلسي؛ حيث من الخطورة على الحلف أن يسمح لإسرائيل بالعدوان على دولة منتمية إليه، كما إن الحلف سيبقى بحاجة إلى تركيا موحدة وقوية في مواجهة أعداء مباشرين للحلف ودوله الغربية، مثل: إيران، وروسيا.

كذلك فإن تركيا دولة قوية عسكريًّا وقادرة على أن تقف في وجه أي أطماع إسرائيلية في الأراضي التركية حتى لو كانت تقع ضمن “الأراضي الموعودة” في التوراة.

يمكن إجمال الموقف التركي بأنه يعطي أولوية لحماية العلاقات مع إسرائيل والغرب، وبالتالي “النأي بالنفس” عن أي خطوة عملية ضد إسرائيل (عسكرية، أو سياسية) والاكتفاء بمهاجمة النظام الدولي وعجزه عن ردع إسرائيل، فيما يُترك الخطاب الحماسي لأردوغان، المنتقد بشدة لرئيس وزراء إسرائيل “بنيامين نتنياهو”؛ ليتم توظيفه في الأجندات الداخلية السياسية للرئيس التركي مثل: تعديل الدستور؛ ليتاح له الترشح مرة رابعة لرئاسة الجمهورية في العام 2028.

  • إيران.

شكلت إيران منذ اندلاع الثورة الإسلامية فيها عام 1979، العدو الأول لإسرائيل في المنطقة، وهذا كان انعكاسًا لهشاشة النظام العربي الذي فتح المجال واسعًا أمام تغلغل النفوذ الإيراني وغير الإيراني، سواء في القضية الفلسطينية أو في قضايا أخرى، وهو الأمر نفسه الذي كان ينسحب على تركيا بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، وانحيازه لأسباب أيديولوجية إلى جانب القضية الفلسطينية، وإذا كانت تركيا مقيدة في هذا المجال بانتمائها الأطلسي وعلاقاتها الرسمية والقوية مع إسرائيل وعدم تقديم الدعم للفلسطينيين بشكل غير محدود_ فإن إيران كانت في حل من هذا الأمر لجهة أنها لم تكن في أية علاقة مع إسرائيل، وتقدم الدعم لكل القوى التي تناهض إسرائيل ليس فقط في سياساتها بل في أصل وجودها، والتي يطلقون عليها اسم “محور المقاومة”.

لم يكن الدعم الإيراني للقوى الفلسطينية والعربية المناهضة للمشروع الإسرائيلي والتطبيع مع إسرائيل، من منطلق عقائدي فقط، بل كان ينظر إليه على أنه تعزيز لنفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط ومحيطها الإقليمي. من هنا جاء دعم إيران لحركة “حماس” في فلسطين و”حزب الله” في لبنان، والنظام السوري و”حركة أنصار الله” في اليمن المعروفة باسم “الحوثيين”، إضافة إلى بعض القوى في العراق مثل “الحشد الشعبي”.

لا شك إن إيران تحاول الاستفادة من هذه القوى أيضًا لتعزيز نفوذها أولًا في المنطقة العربية ذات الأكثرية السنية الساحقة، وثانيًا في ملف المفاوضات مع الولايات المتحدة والغرب عمومًا ولا سيما بخصوص الملف النووي.

لذلك كان الضغط على إسرائيل أحد أهم مفاتيح تعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة، وكانت إيران البلد الوحيد في البداية الذي بارك عملية طوفان الأقصى، ومن ثم كان دخول حزب الله “معركة إسناد غزة” في اليوم التالي للسابع من أكتوبر محطة مهمة في معركة محور المقاومة مع إسرائيل، ومن ثم كان دخول الحوثيين في اليمن أيضًا على خط الصراع بإطلاق صواريخ على إسرائيل وعمليات إرباك حركة الملاحة في البحر الأحمر، عاملًا غير متوقع، وحتى ذلك الحين كانت إيران تخوض المواجهة عبر وكلائها في المنطقة إلى أن قصفت إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نيسان/أبريل 2024، وقتل العديد من ضباط الحرس الثوري كانوا بداخلها، وكان ذلك اعتداءً واضحًا على السيادة الإيرانية ويحدث للمرة الأولى، وكان هذا يعني دخول البلدين للمرة الأولى أيضًا في مواجهة عسكرية مباشرة، وكان الرد الإيراني في 13 نيسان/أبريل بقصف إسرائيل بعشرات الصواريخ والطائرات المسيّرة، ومن ثم كان اغتيال “إسماعيل هنية” رئيس المكتب السياسي لحماس في قلب طهران في 31 تموز/يوليو 2024، الأمر الذي اعتبرته طهران اعتداءً على السيادة الإيرانية.

وفي 27 أيلول/سبتمبر 2024، كانت إسرائيل تغتال السيد “حسن نصر الله” أمين عام حزب الله في الضاحية الجنوبية ببيروت وكان معه نائب رئيس الحرس الثوري الإيراني “عباس نيلفروشان” وردت إيران في الأول من تشرين الأول/أكتوبر بقصف صاروخي أوسع على إسرائيل اعتبرته ردًّا على اغتيال هنية ونصر الله.

ونظرًا لكون حزب الله يشكل القوة الأكثر تأثيرًا في المنطقة على إسرائيل، فإن الحرب الواسعة التي شنتها إسرائيل على الحزب، بدءًا من 17 أيلول/سبتمبر واغتيال معظم قياداته العسكرية والسياسية وتوجتها باغتيال نصر الله، شكلت ضربة قاسية لحزب الله في لبنان وتاليًا للنفوذ الإيراني في المنطقة كون حزب الله له دور مؤثر على صعيد القضية الفلسطينية، وفي سوريا خصوصًا خلال العمليات العسكرية بين الجيش السوري وحلفائه والجماعات المسلحة المعارضة في السنوات العشر الماضية.

يضاف إلى ذلك أن تدمير معظم غزة وتهجير معظم سكانها وتراجع المقاومة فيها وصولًا إلى اغتيال قائد حركة حماس “يحيى السنوار” في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، شكل أيضًا عاملًا إضافيًّا في توجيه ضربة أخرى مؤثرة للنفوذ الإيراني في المنطقة وفي القضية الفلسطينية بالذات.

تواجه إيران أمام هذه الضربات المباشرة لها ولحلفائها في “محور المقاومة” وضعًا حرجًا للغاية، وسيكون لهذا تأثير سلبي على قدراتها للتفاوض مع الولايات المتحدة، وهنا تحاول إيران ألا تواجه تراجعًا كبيرًا في قدراتها على المواجهة، من خلال إعادة ترتيب أدوار محور المقاومة ودفع روسيا للقيام بدور أكبر في المنطقة، وإبداء الاستعداد للتفاوض مع الغرب من دون تنازلات “قوية”.

لا تعير إيران أهمية كبيرة لإسرائيل نفسها، وترى أنها مجرد قاعدة للقوى الغربية، وما كان لإسرائيل أن تستمر وتواصل حربها على (غزة، لبنان، وسوريا) بل ضرب إيران نفسها، لولا الدعم الغربي الكامل. وترى إيران أن الهدف النهائي للحروب الإسرائيلية ليست فقط محاولة إقامة إسرائيل الكبرى من “النيل إلى الفرات”، بل تأديب وتطويع خصوم الغرب في المنطقة وفي رأسهم إيران، وخصوصًا العمل على منعها من امتلاك قنبلة نووية، ومن ثم قطع أذرعها في المنطقة وإعادتها إلى حجمها الطبيعي خارج أي دور إقليمي مؤثر. ويستفيد الغرب من عدم قدرة روسيا والصين على التدخل العسكري في المنطقة واختلال التوازن الذي كان قائمًا خلال الحرب الباردة لكي يحاول حسم الصراع مع إيران وتوجيه ضربة حاسمة لها، وإذ تدرك إيران جيدًا هذه الأهداف الغربية وفي ظل هذه الظروف بالذات، فإنها تجهد لامتصاص الهجمة عليها بكل الوسائل الممكنة عسكريًّا ودبلوماسيًّا.

ولعل التجربة الطويلة في مقارعة الغرب على امتداد أربعين سنة، تتيح لإيران تجنب التعرض لضربة حاسمة سواء باستخدام قدراتها العسكرية أو اختلاق جبهات جديدة في المنطقة تحول دون مضي الغرب إلى النهاية في حربه مع إيران ومنع أي استقرار فيها، يريده الغرب ويخدم مصالحه.

تأثيرات الاندفاع الإسرائيلي.

يمكن توقع أن يترك التوسع الإسرائيلي المدعوم بالكامل غربيًّا التأثيرات التالية على المنطقة:-

  1. تقييد حركة المناوئين للغرب وفي رأسهم إيران في كل مناطق الشرق الأوسط.
  2. تراجع القدرة التركية على التحرك بمنأى عن الرضا الغربي.
  3. تعزيز قدرة القوى الوكيلة للغرب في المنطقة على التحرك ضمن حدود الدول التي فيها، وتعزيز مشاريع التقسيم.
  4. إضعاف الدولة السورية ومعها الوجود الروسي في سوريا، وبالتالي في المنطقة.
  5. تصفية القضية الفلسطينية حتى في حدها الأدنى “حل الدولتين” الذي بات مستحيلًا.
  6. تعميم مشاريع التطبيع بين إسرائيل وسائر الدول العربية.
  7. إضعاف الدور العالمي النسبي لكل من (روسيا، والصين) بما يخدم مضي الغرب في توجهاته على أكثر من صعيد بمعزل عن طبيعة الإدارة الأمريكية بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية.

لكن كل هذه الاحتمالات- القوية لا شك- يبقى تحققها رهنًا أيضًا بقدرة القوى المعارضة للمشروع الغربي، من دول وحركات شعبية، وهي منتشرة في المنطقة والعالم_ على النهوض من جديد ومحاولة الوقوف على قدميها، وهذه سنَّة تاريخ المنطقة في مواجهة العدوانات الغربية بكل أدواتها وأشكالها منذ الحروب الصليبية، مرورًا بالغزوات الفرنسية والإنجليزية، وصولًا إلى اليوم.

اظهر المزيد

د. محمد نورالدين

أستاذ في الجامعة اللبنانية - بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى