من المعروف أن إيران استحدثت مقاربة أيديولوجية مع قيام الثورة الإسلامية عام 1979م، أدت إلى نجاحها في اختلاق عمق إستراتيجي لها بمنطقة غرب آسيا، وأنها استغلت تدهور البيئة الإقليمية في إعادة إنتاج الهوية في كلٍ من (العراق، لبنان، واليمن) على أسس طائفية، تسعى من تلقاء ذاتها نحو تعزيز نفوذ إيران الجيوسياسي، تحت ما يُسمَّى محور المقاومة، الذي اكتسب- بمرور الوقت- دينامية التحالف الإقليمي، من حيث: الدور والمهام والقدرة على التوازن بين تهديدات الأعداء والخصوم وبين متطلبات الأمن الجماعي والتكامل الدفاعي.
غير أن تفاقم النفوذ الإيراني أخلَّ بالتوازن الإقليمي، على نحوِ مثل تحدٍ لمعظم القوى الفاعلة، حتى بات عليها التقارب ضرورة ملحَّة لكبح هذا النفوذ وتقويضه. وقد بلغ التقارب بينها، برعاية الولايات المتحدة، مرحلة تطبيع (البحرين، والإمارات) علاقاتهما مع إسرائيل، بموجب “اتفاقات إبراهيم” عام 2020م، التي منحت إسرائيل صفة الوجود التعاقدي على السواحل العربية المقابلة لإيران، إضافة إلى أن الولايات المتحدة ضمت إسرائيل إلى قيادة المنطقة الوسطى “سينتكوم” المسؤولة عن منطقتي (الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى)، في مايو 2021م، تمهيدًا لقيام تكتل إقليمي مناوئ لإيران.
وبما أن إيران وإسرائيل خصمان إقليميان يتمتعان بفائض قوة، ويدركان أن التنافس بين القوى الدولية الفاعلة قد أثر بشكل عميق على تفاعلات منطقة الشرق الأوسط، وجعلها تمر بتحولات جذرية، تقتضي منهما سرعة العمل على تأمين مصالحهما الإستراتيجية، وتعظيم نفوذهما الإقليمي. حتى ولو أدى ذلك إلى وقوع مواجهة مباشرة بينهما، أو أسفر عن خلل بالتوازن التاريخي للقوى بالمنطقة.
وبالتالي، كانت تفاعلاتهما المختلفة كاشفة لنوايا كل منهما الإستراتيجية حيال تشكيل أنماط جديدة للقوة، وتحقيق طموحاتهما التوسعية؛ فإيران مُصرَّة على أن تصبح “قوة إقليمية عظمى” مهيمنة، تحفظ بقاء نظامها، وتضمن له قدرته على التأثير على شتى التفاعلات التي تجري بمنطقتي: غرب آسيا، والقرن الإفريقي وفضائه الأوسع بشرق إفريقيا، بما يحقق أهدافها المختلفة. ولعل هذا ما يفسر لنا حرص إيران الدائم على دفع الأقلية الشيعية داخل دوائر اهتمامها إلى الظهور المُخل بالاستقرار السياسي، أو النشاط العسكري المهدد للأمن الإقليمي.
وفي المقابل، يزداد إصرار إسرائيل على أن تظل قوة إقليمية كبرى، قادرة على تحقيق متطلبات بقاء الدولة داخل حدود آمنة معترف بها دوليًّا، وحماية أمنها الجيو إستراتيجي، وضمان تفوقها التكنولوجي والعسكري، سواء في المجال التقليدي أو فوق التقليدي، على نحو يحقق لها أهدافها السياسية والاقتصادية. ولعل هذا ما يفسر لنا أسباب استهداف إسرائيل المستمر لعلماء برنامج إيران الصاروخي والنووي، وتدمير جزء من منشأة “نطنز” النووية ومجمع “بارجين” للصناعات العسكرية، فضلًا عن شن الهجمات السيبرانية التي أعطبت عددًا كبيرًا من أجهزة الطرد المركزي، والسطو على وثائق البرنامج النووي والصاروخي من منطقة “تورقوز آباد” ناهيك عن الاستهداف المتكرر لعناصر الحرس الثوري وقادة المليشيات التابعة له داخل الأراضي السورية.
وبناء عليه، يمكن القول إن المواجهات التي حدثت مؤخرًا بين إسرائيل وإيران وحلفائها من دون الدول بمحور المقاومة على مدار عام كامل، يدخل ضمن محاولات كل منهما إعادة تعريف الجغرافيا السياسية بمنطقة الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، في ظل تفاقم التنافس الدولي، وأن هذه المواجهات أدت إلى تدهور الاستقرار الإقليمي، ناهيك عن تعطل سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، واضطرار بعض السفن إلى الالتفاف حول إفريقيا، بعيدًا عن البحر الأحمر، مما زاد من تكلفة الشحن والتأمين، وانخفاض حركة التجارة العالمية.
ديناميكيات القوى الدولية.
يرى كثير من المراقبين أن الولايات المتحدة هيمنت على منطقة الشرق الأوسط بمواردها الإستراتيجية، منذ أن ربطت النفط بالدولار ضمن مبادلة الاقتصاد بالأمن مع السعودية، وبنت هيكلًا أمنيًّا يقوم على اتخاذ إيران والسعودية نقاط ارتكاز إستراتيجية، وتعزيز تحالفها مع إسرائيل، ودمج تركيا في حلف شمال الأطلسي. وعلى الرغم من هذا، تحولت إيران إلى الدولة الأكثر معاداة لها في المنطقة؛ بعد أن أدركت أن العلاقات التي أسسها الشاه معها، كانت محض خطأ جسيم أصابها بوهن إستراتيجي، لن تكرره.
وأن الولايات المتحدة شنت، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، عمليات عسكرية واسعة ضد (أفغانستان، والعراق) ومارست ردعًا عسكريًّا ضد (ليبيا، سوريا، السودان، وإيران) ولكنها لم تجعل خطتها للتحول الديمقراطي الشرق الأوسط، منطقة آمنة مستقرة، بقدر ما أدت إلى تفاقم الصراعات بين مكوناته الطائفية، وزادت حدة الإرهاب والتطرف، كما جعلت الفوضى خصيصة لنمط التفاعلات الإقليمية، منذ 2011م، على نحو هدد بنية المنطقة (السياسية، الأمنية، والاقتصادية) إضافة إلى أنها حولت برنامج إيران النووي تدريجًا إلى قضية إقليمية ودولية ساخنة؛ تبرر من خلالها فرض مزيد من العقوبات عليها. وعلى الرغم من كل هذا، فإنها قادت انكماشًا إستراتيجيًّا من الشرق الأوسط، مثل فرصة مواتية لإيران لتعزيز نفوذها الإقليمي وترسيخ عمقها الإستراتيجي بمنطقة غرب آسيا، عبر مرتكزات محور المقاومة في كل من (العراق، لبنان، سوريا، واليمن).
وأن هذا الانكماش أحدث تموجات جيوسياسية أثرت بالسلب على الوضع الأمني للمنطقة، خاصة أن الرئيس الأسبق “باراك أوباما” أحجم عن التدخل في الصراع الذي اندلع في سوريا عام 2011م، وأعلن انسحاب بلاده من (العراق، وأفغانستان) بحلول عام 2014م، وأبرم الاتفاق النووي مع إيران، أبريل 2015م، غير أن خليفته “دونالد ترامب” أعلن الانسحاب من هذا الاتفاق، مايو 2018م، وفرض عقوبات صارمة عليها، شملت كبرى مؤسساتها الاقتصادية الداعمة لمحور المقاومة، وهو الأمر الذي أدى إلى منع إيران من الوصول إلى شبكة المصارف الدولية، ومن ثم حرمانها من أي مصادر مالية، أو عوائد تجارتها الخارجية، ناهيك عن تقلص صادراتها النفطية؛ مما جعلها على حافة الانهيار.
وفي المقابل، حاول ترامب إخراج إسرائيل من عزلتها الإقليمية عبر الاتفاقات الإبراهيمية على افتراض أن التقارب الاقتصادي يمكن أن يؤدي إلى تقارب سياسي، قد يشجع المزيد من الدول العربية على تبني موقف منفصل عن القضية الفلسطينية، بوصفها أكبر مصدر توتر للأمن الإقليمي، الأمر الذي دفع حركة حماس والجهاد لتنفيذ عملية عسكرية مباغتة ضد إسرائيل، يوم السابع من أكتوبر 2023م؛ لتندلع جولة جديدة ضارية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، التي ما لبث أن اتسع نطاقها بانخراط مرتكزات محور المقاومة الموالي لإيران في (لبنان، اليمن، والعراق) وشن هجمات متكررة على إسرائيل وعلى أهداف عسكرية أمريكية، مما أدى إلى تدهور الوضع الأمني في الشرق الأوسط بصورة أكثر تعقيدًا.
ويبدو أن هذا الوضع المتدهور جعل الولايات المتحدة أكثر إصرارًا على مواصلة مساعيها الرامية للحفاظ على هيمنتها منفردة على المنطقة، وعدم التسامح مع سلوك إيران المناوئ لها، أو لحلفائها الإقليميين، أو أن ترفع مستوى علاقاتها مع روسيا والصين إلى مستوى يهدد مصالحها الإستراتيجية، كما لن تسمح لها بامتلاك أسلحة نووية. وبالتالي، أصبح إجبار النظام الإيراني على الإذعان لها هو الثابت الذي تجتمع عليه كل الإدارات الأمريكية، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية، ناهيك عن توفير الضمان الكامل لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد التهديدات التي يمكن أن تشكلها إيران أو أي قوى إقليمية أخرى.
وفي هذا الإطار، أثارت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض جدلًا واسعًا بين المراقبين بشأن مواقفه المرتقبة حيال كثير من القضايا الخارجية، وعلى رأسها إيران. فمنهم من ذهب إلى أنها لن تعني بالضرورة تكرارًا لسياساته السابقة تجاهها؛ بناء على مزاعمه بأنه قادر على التوصل إلى اتفاق معها في فترة زمنية وجيزة، واستنادًا إلى تصريحاته لقناة العربية، يوم 20 أكتوبر2024م، التي قال فيها أنه “يحترم” إيران وشعبها، وأنهم “أذكياء للغاية” و”مفاوضون عظماء” ومن ثم برهن هؤلاء المراقبون على ما ذهبوا إليه، بأنه إذا نجحت إدارة ترامب الثانية في إنهاء الصراع في أوكرانيا، فسوف تقل بالتالي الضغوط على إيران جراء دعمها لروسيا، وعندها سوف تصبح مفاوضات إحياء الاتفاق النووي أمرًا محتملًا، خاصة إذا اتفقت جميع الأطراف على التعديلات التي يعتزم إدخالها عليه.
بينما ذهب فريق آخر إلى أن عودة ترامب قد تعني تطبيقًا أكثر صرامة للعقوبات على إيران، حتى وإن أدت إلى تقليص إمدادات النفط العالمية وإثارة غضب الصين، بوصفها أكبر مشترٍ للنفط الإيراني، بدليل أن إيران تحسبت لأي عقوبات أمريكية محتملة، وأن وكالة “شانا” للأنباء نقلت عن وزير النفط “محسن باکر نجاد” قوله “إن طهران وضعت خططًا بديلة للحفاظ على استمرار إنتاج وتصدير النفط”.
وفي المقابل، يرى بعض المراقبين الإيرانيين أن “بزشكيان” كان أكثر واقعية عندما أقرَّ بغياب إستراتيجية إيرانية واضحة للتعامل مع الولايات المتحدة، ونوَّه إلى ضرورة التنسيق مع المرشد الأعلى لوضع إطار عام لآليات التعامل مع عودة ترامب. وهذا يعني أن إيران بدأت تنتهج مسارًا قد تبلور عليه سياستها ومواقفها مع واشنطن، وسبل إحياء المفاوضات بشأن برنامجها النووي والصاروخي ورفع العقوبات، وصولًا إلى كل ما يرتبط بمصالح إيران وأمنها القومي، وسبل إنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة وضد “حزب الله”.
وعلى مستوى المنافسة الإستراتيجية، تواصل الولايات المتحدة مساعيها لتطويق روسيا جيو سياسيًّا واحتواء الصين تكنولوجيًّا؛ للحفاظ على استمرار تفوقها (العسكري، الأمني، العلمي، والتكنولوجي) عليهما. وفي المقابل، تسعى روسيا لتحقيق أهدافها الإستراتيجية بمنطقة الشرق الأوسط، وإجبار الولايات المتحدة على الاعتراف بمكانتها العالمية بوصفها دولة عظمى مثلها، وكسر احتكار حلف الناتو لمنطقة الشام والجزء الجنوبي من شرق المتوسط، استنادًا إلى قواعدها العسكرية الموجودة في سوريا، إضافة إلى تعزيز علاقاتها مع (مصر، وليبيا) وإصلاح علاقات التعاون المشترك مع تركيا.
وكم كانت العزلة السياسية والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على كل من (روسيا، وإيران) والصراع الروسي الأوكراني دافعًا لمزيد من التقارب بين (موسكو، وطهران) بل ودفعه إلى الاقتراب من إبرام اتفاقية التعاون الإستراتيجي الشامل بينهما، خاصة أنها مطروحة منذ زيارة الرئيس السابق “إبراهيم رئيسي” لموسكو، في يناير 2022م، كما اتفق الرئيس “فلاديمير بوتن” خلال أول زيارة خارجية له بعد نشوب الصراع مع أوكرانيا، مع نظيره الإيراني في يوليو 2022م، استثمار 40 مليار دولار في مشاريع الطاقة الإيرانية، وتعزيز التعاون العسكري بينهما. وفي هذا الإطار، زودت إيران بموجبها روسيا بمئات الطائرات المسيَّرة، كما عقدتا صفقة أخرى لتزويد إيران بمقاتلات سوخوي سو-35، وطائرات هليكوبتر هجومية من طراز “ميل مي-28” وطائرات تدريب نفاثة من طراز “ياك-130” وفي إطار التعاون المتعدد الأبعاد بين البلدين، ساندت روسيا انضمام إيران لتجمع البريكس مع (مصر، السعودية، الإمارات، وإثيوبيا)، مطلع 2024م، وهو الأمر الذي سيفتح المجال أمام إيران للانضمام إلى بنك التنمية التابع لهذا التجمع العالمي الصاعد.
ومن ناحية أخرى، كانت المواجهات بمنطقة الشرق الأوسط محور محادثات الرئيس “بوتين” مع نظيره الإيراني “بزشكيان” على هامش “المنتدى الدولي لزعماء دول آسيا الوسطى” الذي عُقد في تركمانستان، وكذلك في أثناء مشاركة الرئيس الإيراني في قمة البريكس، التي عقدت في روسيا يوم 24 من نفس الشهر، غير أن حسابات الموقف الروسي من اندلاع هذه المواجهات كانت محكومة بجذب انتباه الغرب بعيدًا عن الصراع الدائر في أوكرانيا. وعلى الرغم من احتياج روسيا لإيران أكثر من حاجتها لإسرائيل، إلا أنها حرصت على علاقاتها بالدولتين، خاصة أن إسرائيل رفضت تزويد أوكرانيا بالأسلحة، رغم تحالف روسيا مع إيران، وأنها يمكنها أن ترسل أسلحة إلى أوكرانيا إذا وقفت بشكل أكبر إلى جانب إيران.
ولكنها حذرت، في نفس الوقت على لسان وزير الخارجية “لافروف” من شن إسرائيل أي هجوم على منشآت إيران النووية، وأكد أنه “إذا تم تنفيذ أي خطط أو تهديدات بمهاجمة المنشآت النووية السلمية لجمهورية إيران الإسلامية، فإن ذلك سيكون في الواقع استفزازًا خطيرًا للغاية”.
أما الصين، فهي أكبر مشترٍ للنفط الإيراني، وأبرمت معها اتفاقية تعاون إستراتيجي شامل، بتاريخ 27 مارس 2021م، فكان موقفها محكوم بالحرص على مواصلة المساعي الرامية لتحقيق السلام والتنمية، كما تكللت مساعيها بالنجاح في إتمام المصالحة بين (إيران، والسعودية) مع إبراز الحرص -في نفس الوقت- على تجنب خسارة شريك اقتصادي مهم مثل: إسرائيل، والمحافظة على استثماراتها الضخمة فيها، خاصة في قطاعي (البنية التحتية، والتكنولوجيا).
ولهذا، كانت استجابة الصين للصراع بالشرق الأوسط ضمن التوازن الذي طالما حافظت عليه، بين الدعوة إلى حل الدولتين ورفض إدانة حماس، وبذل جهود رمزية لوقف هذا الصراع، مع استغلال المشاعر المعادية لإسرائيل؛ لترسيخ مكانتها هي بين دول الجنوب العالمي، وإحباط المساعي الأمريكية الرامية إلى تشويه سمعتها لدى دول العالم الثالث، وتعزيز مكانتها بوصفها قطبًا عالميًّا صانعًا للسلام بمنطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد فشل إستراتيجية الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته “جو بايدن” في تحقيق الاستقرار بهذه المنطقة، حتى اندلع الصراع فيها مرة أخرى بعد فشل الآلية الرباعية، وتأثر مبادرة إنشاء الممر الاقتصادي بين (الهند، وأوروبا) كما أنه تجاهل تدهور الوضع الإنساني في غزة، وقدم الدعم الشامل لإسرائيل، على النحو الذي أثار المشاعر المعادية أكثر لبلاده وألحق الضرر بسمعتها بين الدول العربية والإسلامية.
وفي هذا الإطار، طالبت الصين بالوقف الفوري لإطلاق النار، وتصدت لمشاريع القرارات الأمريكية التي كانت ترى فيها مساسًا بقرارات الأمم المتحدة السابقة الخاصة بالقضية الفلسطينية، ثم أطلقت مبادرة للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية، تكللت بالاتفاق بين ( فتح، وحماس) على وحدة جميع الفصائل في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، حتى نيل فلسطين العضوية الكاملة بالأمم المتحدة في المستقبل.
ديناميكيات المواجهة الإقليمية.
مما لا شك فيه أن المواجهات الإقليمية التي جرت مؤخرًا، لم تخلُ من دلالة سياسية وجيوسياسية؛ مفادها أن القوى الفاعلة من غير الدول أصبحت الأداة الأهم في إدارة الصراع، وتشكيل أنماط القوة الإقليمية وهيكل السلطة، حتى ولو على حساب الدولة وخارج منطق التوازنات، بدليل أن حركة المقاومة الإسلامية “حماس” شنت صباح يوم 7 أكتوبر 2023م، هجومًا صاروخيًّا مباغتًا من قطاع غزة على إسرائيل، لترد إسرائيل بشن غارات انتقامية ضارية، لم تتوقف حتى قضت على الآلاف من مقاتلي حماس وقادتها الميدانيين ودمرت قدراتها العسكرية والإدارية، وقتلت الآلاف من المدنيين العزل، وشردت أكثر من 90% من سكان قطاع غزة، بعد أن دمرته بالكامل، على نحو جعله أصبح غير قابل للعيش فيه؛ لإثبات أن أي هجوم عليها له ثمن باهظ.
وحيال هذه العمليات الانتقامية، انخرطت مرتكزات محور المقاومة، الذي يقوم على هوية طائفية وخيارات إيران الإستراتيجية ووكيلة عنها في مواجهة إسرائيل؛ لتثبت أن لديها القدرة على القتال على جبهات إقليمية متعددة؛ حيث شن “حزب الله اللبناني” هجمات بالصواريخ والمسيرات على إسرائيل، تبعها إطلاق جماعة “أنصار الله الحوثي” صواريخ ومسيرات من مناطق سيطرتها بشمال اليمن، باتجاه إسرائيل، وضد السفن المتجهة إليها عبر باب المندب جنوبي البحر الأحمر، بينما استهدفت الميليشيات الموالية لإيران في (سوريا، والعراق) القواعد الأمريكية.
ثم تصاعدت هذه المواجهات إلى مواجهة مباشرة بين (إسرائيل، وإيران)، عندما قصفت القوات الجوية الإسرائيلية يوم 1 أبريل 2024م، مبنى ملحق بالقنصلية الإيرانية في دمشق، وردًا على ذلك أجرت قوات الدفاع الجوي الإيراني مناورات ميدانية بالذخيرة الحية، أعقبها شن الحرس الثوري هجمات صاروخية على أهداف إسرائيلية بـ “أربيل” عاصمة كردستان العراق، وعلى “إدلب” بشمال غرب سوريا. كما استهدف مقاتلي تنظيم “جيش العدل” الانفصالي داخل الأراضي الباكستانية، ردًا على تفجيرات نفذها بمدينة “كرمان” بجنوب شرق إيران، وآخر بمدينة “راسك” في محافظة سيستان وبلوشستان.
ثم شنت إيران أول هجوم عسكري مباشر في تاريخها على إسرائيل، في 13 أبريل 2024م، سمَّته “الوعد الصادق” لترد عليه إسرائيل بقصف منشآت دفاع جوي وقواعد عسكرية داخل الأراضي الإيرانية؛ لتثبت أنها الدولة الوحيدة القادرة على ردع إيران وتدمير وكلائها بالمنطقة، وبدأت في استهداف كبار قادة حزب الله، فاغتالت “فؤاد شكر” ورئيس المكتب السياسي لحماس “إسماعيل هنية” بقلب طهران. وقبل أن تتاح لإيران أي فرصة للانتقام، نجحت في تفجير متزامن لآلاف من أجهزة الاستدعاء والاتصال اللاسلكي، التي كانت بحوزة قادة وعناصر حزب الله في كل من (لبنان، وسوريا) ثم شنت ضربة جوية مركزة، أودت بحياة أمين عام حزب الله “حسن نصر الله” ومن معه من قادة الحزب، إضافة إلى نائب قائد العمليات بالحرس الثوري العميد “عباس نيلفورشان” ثم بدأت في شن هجوم بري على جنوب لبنان، مكثفة غاراتها الجوية على الضاحية الجنوبية لبيروت، حتى أودت بحياة الأمين العام الجديد لحزب الله “هاشم صفي الدين”.
وكانت إيران قد صعدت المواجهات، عندما نفذت هجومها الثاني “الوعد الصادق2” على إسرائيل يوم 1 أكتوبر، أصابت محطة رادارات وثلاث قواعد جوية على مشارف تل أبيب. وفي المقابل، شنت إسرائيل هي الأخرى ضربة جوية مركزة ضد ثلاث قواعد عسكرية إيرانية مهمة في محافظات (طهران، إيلام، وخوزستان).
تداعيات المواجهة.
لقد كان لهذه المواجهات الإقليمية، التي استمرت عامًا كاملًا، تداعيات اقتصادية على المستوى الإقليمي والعالمي؛ فقد أدت إلى انخفاض إيرادات بعض الدول مثل: مصر، التي تعتمد على قناة السويس في مواردها المالية، كما أسفرت عن تدمير البنية التحتية بقطاع غزة وجنوب لبنان على نحو يمثل تحديًا أمام عمليات إعادة إعمارها، فضلًا عن إغلاق المجال الجوي لبعض دول المنطقة، وانخفاض حركة السياحة وتدهور مناخ الاستثمار بشكل عام. أما على المستوى الإستراتيجي، فقد تركت هذه المواجهات، وفقًا للكاتب الإيراني “آرش رئیسي نژاد” تداعيات تتعلق بتشكل أنماط جديدة للقوة الإقليمية، خاصة أنها أسفرت عما يلي:
أولًا: تحول إستراتيجية إيران لردع الخصوم، من الاعتماد على حلفائها من غير الدول بما في ذلك: حماس، وحزب الله، وأنصار الله، إلى نوع جديد من الردع القائم على قدراتها الذاتية.
ثانيًا: تخلي إيران عن الصبر الإستراتيجي الذي كانت تعتمد عليه في السابق، وانتقالها إلى مرحلة الانتقام المباشر، على نحو جسد رغبتها في التأكيد على أن هذا الصبر لم يكن مرادفًا للضعف، وإفهام خصومها أنها قوة إقليمية لديها طموحاتها الإقليمية غير قابلة للردع.
ثالثًا: إثبات أن قوة إيران الصاروخية هي عماد أمنها القومي، فقد كشفت هجماتها المباشرة على إسرائيل أن لديها إرادة وقدرة على شن هجمات مدمرة على أعدائها، خاصة أن هجومها الثاني “الوعد الصادق 2” نجح في تجاوز أنظمة الدفاع الإسرائيلية المتقدمة، وهذا الأمر يعزز احتمال أن تكون هذه القوة غير قابلة للتفاوض في المستقبل، ويزيد دوافع طهران للإسراع في إبرام اتفاقية “التعاون الإستراتيجي الشامل” مع روسيا؛ لتوسيع التعاون العسكري معها، بما في ذلك شراء أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ ومقاتلات التفوق الجوي من طراز سو-35.
رابعًا: التأكيد على أن الأراضي الإيرانية خط أحمر، وبالتالي فإن شن هجوم مباشر على إسرائيل، وهي دولة نووية، وتنفيذ عمليات عسكرية داخل الأراضي الباكستانية، وهي دولة نووية_ كان يحمل رسالة إيرانية واضحة مفادها أن أراضيها خط أحمر، حتى لو لم تتمكن من حماية مرتكزات محور المقاومة بشكل كامل.
خامسًا: زيادة شعبية إيران بين بعض الجماهير، على نحو قد يساعد في إعادة بناء صورتها الذهنية في العالم الإسلامي، خاصة أنها تسعى لخفض حدة التوتر بينها وبين الدول العربية، بعد أن تأكدت أن التوتر الإقليمي لم يعد يفيدها في شيء، بل إن التصعيد الحالي قد أضعف حلفاءها وجعلهم غير قادرين على دعم نفوذها الإقليمي، أو تحقيق مصالحها المرجوة.
سادسًا: التلويح بأن إيران قد تغير سياستها النووية حال تعرض منشآتها النووية لهجوم إسرائيلي، وقد يعزز هذا التلويح بقاء التيار الأصولي في السلطة، خاصة أنه داع ٍلعسكرة البرنامج النووي لكونه أداة ردعٍ إستراتيجي كاملة، وبالتالي فإن هذه المنشآت ربما تؤدي إلى تكثيف جهود إيران لتصنيع السلاح النووي.
سابعًا: بروز نمط جديد للمواجهة بين قوة تكنولوجية وقوة جيوسياسية، خاصة في ظل التباين الجيوسياسي الواضح بين (إيران، وإسرائيل) فإيران تتمتع بمزايا جيوسياسية تفتقدها إسرائيل؛ إذ كانت إيران تفضل تنفيذ عملياتها عبر شبكة من حلفائها من غير الدول، في حين تفضل إسرائيل تنفيذ الضربات الوقائية استنادًا إلى تفوقها التكنولوجي. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال العامل الجيوسياسي مهمًّا في تشكيل أنماط إقليمية، وقد تكون التكنولوجيا خففت من وزن المزايا الجيوسياسية، إلا أنها لم تتمكن من إزالتها بالكامل.
وإضافة إلى ما سبق، يمكن القول إن المواجهات بين إيران وإسرائيل أفضت إلى ما يلي:
- أصبحت إسرائيل معزولة، وأدانتها معظم القوى الدولية والإقليمية وحثت على وقف إطلاق النار.
- استردت القضية الفلسطينية مركزيتها بالشرق الأوسط، وأصبح حل الدولتين جذابًا للمجتمع الدولي.
- نجحت إسرائيل في تنفيذ إزاحة جيوسياسية لنفوذ إيران الإقليمي، بعد سحق قوة (حماس، وحزب الله).
- أوقفت السعودية مفاوضات تطبيع العلاقات مع إسرائيل، واستدعت البحرين سفيرها لدى إسرائيل، ودعت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية معها، بينما صرحت الإمارات بأنها لن تخلط بين علاقاتها السياسية مع إسرائيل ومصالحها الاقتصادية والتجارية معها.
- تقلصت خيارات إيران الإقليمية بقدر ما أهدرت قدراتها السياسية والاقتصادية في زعزعة استقرار البنية الإقليمية، خاصة أن العمق الإستراتيجي الذي اختلقته بمنطقة غرب آسيا لم يقم إلا على مصالح أمنية. وبالتالي، لم تنلْ منه إلا العزلة السياسية والعقوبات الصارمة، التي جعلت وضعها الاقتصادي على حافة الانهيار، والاجتماعي على وشك الانفجار، وحولت محور المقاومة إلى عبء جيو اقتصادي، لم تعد تحتمله.
- بات النظام يعاني من تناقضات داخلية، في وقت تقلصت فيه فرص استمرار ولاية الفقيه حال وفاة المرشد الحالي، البالغ من العمر 85 عامًا، خاصة أن خليفته الذي كان محتملًا الرئيس السابق “إبراهيم رئيسي” لقي مصرعه فجأة، وبالتالي لا يمكن فهم تولي “مسعود بزشكيان” خارج هذه التناقضات، التي تحتم على إيران ضرورة إعادة النظر في أسلوب إدارة تفاعلاتها الخارجية، والقبول بشروط الاتفاق حول برنامجها النووي؛ لرفع العقوبات والإفراج عن أرصدتها بالمصارف الدولية وإعادة إدماجها في السوق العالمية.