مقدمة
ذهب التقييم الغربي للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، في مجمله، إلى التأكيد على أن هذا الغزو الواسع النطاق كان الأكثر تهديدًا وضررًا للنظام الدولي بعد الحرب الباردة، حتى من هجمات 11 سبتمبر الإرهابية على الولايات المتحدة، والغزو الأمريكي المثير للجدل للعراق في أعقاب ذلك. ووفقًا لهذا التقييم، أعادت الحرب في أوكرانيا ذكريات القرن الماضي عندما كانت القوى العظمى مدفوعة إما بالمصلحة الذاتية أو برؤى العظمة أو طموحات تصحيح أخطاء الماضي، غالبًا ما بدأت حروبًا ضد جيران أضعف بذرائع واهية.
وكان التوقع المبكر داخل الولايات المتحدة وأوروبا، وفيما يُسمي بــ “الغرب الإستراتيجي” بوجه عام، هو أن المجتمع الدولي سيقف متحدًا بقوة في إدانة روسيا، إلا أن الحرب سرعان ما كشفت عن تصدعات صارخة في النظام العالمي، والتي جاءت كنتيجة حتمية لتصادم الأفكار والمبادئ والمصالح في بيئة إستراتيجية تنافسية، فلم تنضم إلى قائمة العقوبات الغربية غير المسبوقة التي فرضت على روسيا سوى نحو 50 دولة فقط، واختار عددٌ لا يستهان به من الدول الامتناع عن إدانة روسيا، عند مناقشة ستة قرارات والتصويت عليها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، تعلقت بجوانب مختلفة من النزاع، أو عدم التصويت على الإطلاق، وحتى تلك التي أدانت روسيا، رفضت الانضمام إلى نظام العقوبات الغربية. وبدلًا من انهيار الاقتصاد الروسي بسبب العقوبات، كما كان يأمل الغرب، وجدت روسيا مخرجًا لذلك من خلال الاعتماد على شركاء من خارج الغرب بصفة أساسية، وأدى ذلك الآن – وفقًا لبعض الكتاب الغربيين – إلى “التأكيد المتجدد على الاعتماد على الذات باسم الأمن، مع إدراج السياسة الاقتصادية ضمن اهتمام أوسع نطاقًا، يحصن روسيا ضد مجموعة متزايدة من التهديدات الخارجية”.
ويتناول هذا المقال تداعيات انشغال روسيا بالحرب على دورها العالمي، وعلى أحداث منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من ناحية أخرى.
أولًا: تداعيات انشغال روسيا بالحرب على دورها العالمي.
يمكن تحليل تداعيات انشغال روسيا بالحرب مع أوكرانيا على دورها العالمي، أو وضعيتها كقوة كبرى، من وجهات نظر مختلفة؛ كأن يُنظر إلى هذه التداعيات من وجهة نظر القانون الدولي وحقوق الإنسان، على النحو الذي يغلب بشكل واضح على المقاربة الغربية للحرب واتهام موسكو بالانتهاك الصارخ للقانون الدولي. ومع ذلك، لا تعد حقوق الإنسان والقانون الدولي ضمن العوامل ذات الأهمية في الصراع العالمي على النفوذ أو التأثير، كما لا تؤثر في تطور الأحداث.
ومن منظور القوة العسكرية في ميادين القتال، هناك ما يشبه الإجماع بين الخبراء المستقلين اليوم على أن القوات الروسية تملك زمام الموقف بصفة عامة، وقادرة على الصمود والاحتفاظ بالأراضي التي تسيطر عليها، والتي تبلغ نحو 17% من إجمالي مساحة أوكرانيا. وكانت تقديرات بعض الدول الغربية، ومع تصدي القوات الأوكرانية للجيش الروسي على حدود (خاركيف، وكييف) في بدايات الحرب، قد رجحت انتصار أوكرانيا، وهو ما شجع على تقديم المزيد من المساعدات العسكرية والمادية لكييف، إلا أن هذه التقديرات سرعان ما ثبت عدم واقعيتها بما في ذلك هجوم أوكراني مضاد، كان متوقعًا إلى حد كبير، في يونيو 2023، واجهته روسيا وقامت بإحباطه.
وفي تقدير خبراء عسكريين غربيين مستقلين، استفادت روسيا من الأخطاء التي ارتكبتها في بدايات عمليتها العسكرية وتبنت منذ أواخر عام 2022 أكبر وأوسع خطوط للتحصينات الدفاعية في التاريخ الحديث، وتضافرت الألغام المضادة للدبابات، والأخرى المضادة للأفراد، والمخابئ، والخنادق، وفخاخ الدبابات والطائرات بدون طيار والمدفعية؛ لإحباط خطط أوكرانيا وفشل هجومها المضاد.
وبعيدًا عن الموقف الميداني، يمكن القول بأن دور روسيا العالمي لم يتأثر جوهريًّا بانشغالها بالحرب، وهو ما يرجع بالأساس إلى عدد من الاعتبارات المتداخلة، أبرزها:
- الفشل الذريع للموجات المتتالية من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد المؤسسات المالية والصناعات والأصول الروسية. ولم يردع التهديد بفرض عقوبات موسكو قبيل الغزو، ومن ثم تحركت أمريكا والحلفاء، موضحة أن الهدف – كما قال بايدن نفسه في بداية الصراع – هو “فرض تكاليف باهظة على الاقتصاد الروسي، سواء على الفور أو مع مرور الوقت”. وبعد ذلك بوقت قصير، أكد بايدن أن “مجمل عقوباتنا وضوابط التصدير تسحق روسيا”.
وعلى عكس تصريحات الإدارة الأمريكية، أكدت تقديرات خبراء غربيين، ومنهم Erik Jones، مدير مركز روبرت شومان للدراسات المتقدمة في معهد الجامعة الأوروبية، في مقال له بعنوان “نتائج عكسية: كيف تعيد العقوبات تشكيل العالم ضد المصالح الأمريكية؟” (دورية Survival – مجلد 65، عدد 3 – يونيو / يوليو 2023) _أن العقوبات “لم تكسر الاقتصاد الروسي، أو تجبر الحكومة الروسية على وقف عدوانها العسكري، وكان هذا متوقعًا”. ولكي يدلل جونز على قوله إن العقوبات عادة ما تفشل في تحقيق أهدافها السياسية، ينقل عن كاتب آخر “بروس جينتلسون” قوله: “إذا تمكنت روسيا من إنهاء الحرب بشروط مقبولة لأوكرانيا والمجتمع الدولي، فإن العقوبات ستستحق بعض الفضل، ولكن الفضل الرئيس سيعود إلى الإستراتيجية العسكرية”. ويتابع “إن أي نجاح يحققه نظام العقوبات، سيكون استثناء أكثر من كونه سابقة، وأن “أغلب الأدلة المتاحة تشير إلى أن العقوبات لم تنجح قط في تحقيق أهداف السياسة خارج نطاق ضيق من الظروف”.
وتفيد التقديرات أن إدارة بايدن والحلفاء ربما أدركوا فشل العقوبات، إلا أنه لم يكن بوسعهم الوقوف موقف المتفرج وعدم القيام بأي شيء في مواجهة العدوان الروسي، كما لم يكن بوسعهم تجاهل مساهمة تجارتهم في السلع والخدمات والاستثمار والتمويل في المجهود الحربي الروسي.
في المقابل، أجبرت العقوبات روسيا على الاعتماد على شركاء من خارج الغرب بشكل أساسي، وقد أدى ذلك الآن إلى نوع من الاكتفاء الذاتي في بعض القطاعات الاقتصادية مثل: الإنتاج الزراعي، والاعتماد على الذات باسم الأمن، وإبداء اهتمام كبير بالسياسة الاقتصادية والمالية.
- تواصل روسيا دورها العالمي، من خلال دبلوماسية نشطة، ثنائية وفي الأطر المتعددة الأطراف، رغم اعتراضات التحالف الغربي، مستخدمة في ذلك عددًا من الأدوات أهمها:
- الحرب ذاتها كمظهر من مظاهر تأكيد القوة والنفوذ.
من منظور تحليلات غربية رصينة، ينظر الروس إلى حربهم في أوكرانيا على أنها مظهر من مظاهر جهودهم الرامية إلى تأكيد حضور روسيا كقوة فاعلة في الصراع العالمي على النفوذ والتأثير. وقد فهم القادة الغربيون أن هذه الحرب استهدفت في المقام الأول، “تعزيز رؤية روسيا لنظام دولي مختلف”. ويشار في ذلك إلى تصريحات للرئيس “بوتين” أكد فيها أن “أزمة أوكرانيا ليست صراعًا إقليميًّا”، بل “تتعلق بالمبادئ التي سيقوم عليها النظام الدولي الجديد”. وفي حديثه، في 7 نوفمبر 2024، خلال فعاليات منتدى “فالداي” في نسخته الحادية والعشرين في مدينة سوتشي، أكد بوتين “لقد بدأ يتكشف صراع جديٌّ وغير قابل للتوافق من أجل تشكيل نظام عالمي جديد، وهو وقبل كل شيء، ليس صراعًا على القوة أو النفوذ الجيوسياسي، إنه صراع المبادئ في حد ذاتها، والتي ستُبنى عليها العلاقات بين الدول والشعوب في المرحلة التاريخية المقبلة”.
وقد ردد وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” ما ذكره “بوتين” خلال ترأسِه اجتماعًا لمجلس الأمن الدولي حول “التعددية لإرساء عالم أكثر عدلًا وديمقراطية واستدامة”، نظمته روسيا التي تولت الرئاسة الدورية للمجلس في يوليو الماضي. وعاد لافروف، وأكد الخطاب نفسه أمام وزراء خارجية نحو 40 دولة إفريقية في سوتشي، في 8 نوفمبر 2024.
ومن الناحية الإستراتيجية، تقدِّر هذه التحليلات أن الحرب في أوكرانيا تعكس كيفية نظر روسيا إلى النظام العالمي القائم وتصوراتها لتغييره. ويشير هؤلاء، في هذا السياق، إلى أن موسكو تتوقع عالمًا مجزأً إلى مناطق نفوذ تتركز حول حفنة من “الدول الحضارية” التي تجسد ثقافات سياسية وتاريخية متميزة، لا تتوافق بالضرورة مع الليبرالية والديمقراطية. وتستخدم روسيا منطقة نفوذها في “أوراسيا” كحاضنة لمجموعة بديلة من المعايير والمؤسسات التي تسعى إلى تعميمها على مستوي العالم، ويضيف هؤلاء أن هذه الرؤية الروسية تحظى بقبول “قوى تعديلية” أخرى، لا سيما (الصين، وإيران) بدافع الرغبة في تقليص النفوذ الأمريكي، وتعزيز مناطق نفوذها الإقليمية، كما تحظى عناصر عديدة من هذه الرؤية بقبول في مختلف أنحاء ما يُسمى بالجنوب العالمي، الذي أصبح الآن ساحة رئيسة للمنافسة على النظام العالمي المستقبلي.
ويرجِع كُتَّاب كُثر الدافع وراء انتقاد روسيا المستمر للنظام الدولي الليبرالي إلى رؤيتها للعالم الذي نشأ بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، والذي لم يأخذ المصالح الروسية في الاعتبار، ولم يعكس الأولويات الروسية. وبحلول منتصف تسعينيات القرن العشرين، كانت النخبة السياسية الحاكمة في موسكو تشعر بالغضب إزاء التوقعات القائلة بأن موسكو ينبغي أن تُدمَج في “العالم المتحضر” ولكن قوة من الدرجة الثانية، وقد أشار بوتين في اجتماع نادي “فالداي” عام 2023، إلى أن الولايات المتحدة وشركاءها يعتقدون أن العالم الجديد “سيتم بناؤه من قبل أولئك الذين أعلنوا أنفسهم منتصرين في الحرب الباردة، على افتراض عملي أن روسيا مستعدة للسير على خطى شخص آخر”.
- النفوذ الروسي المتزايد في “الجنوب العالمي”.
تتمتع روسيا بالعديد من المزايا في مختلف أنحاء ما يسمى بــ “الجنوب العالمي” أو “الأغلبية العالمية”، التي تشير إلى الدول التي “ليس لديها علاقات ملزمة مع الولايات المتحدة والمنظمات التي ترعاها”، والتي قاومت “تسونامي العقوبات” الغربية ارتباطًا بالحرب في أوكرانيا. وتشمل هذه المزايا العلاقات مع النخب الحاكمة التي يعود تاريخها إلى الحقبة السوفيتية؛ حيث دعمت موسكو حركات التحرر الوطني من الاستعمار، ويبدو ذلك واضحًا بشكل خاص في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا؛ حيث تستثمر موسكو إرثها المناهض للاستعمار، وعدم تدخلها في الشؤون الداخلية للدول لتعزيز وضعيتها في العديد من الدول للمنطقة. وفي هذا السياق، وفي خضم الحرب في أوكرانيا، استضافت روسيا القمة الثانية “روسيا/ إفريقيا” في 27/28 يوليو 2023، في مدينة “سانت بيترسبرج” العاصمة القديمة لروسيا، تحت شعار “القمة الاقتصادية والإنسانية الروسية / الإفريقية”. وقد رأت دول القارة في هذه القمة فرصة لتبني مقاربات براجماتية تتيح لها الاستفادة من الإمكانات والفرص التي توفرها السوق الروسية، وصدر عن القمة بيان ختامي وخطة عمل مشتركة حتى عام 2026، وأيضًا خطة للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب وأخرى لتنشيط التنسيق بين الجانبين في السياسة الخارجية. وقد تعهدت موسكو بتوفير ما بين (25,000 إلى 50,000) طن من الحبوب مجانًا وتحمل تكلفة توصيلها لكل من: بوركينافاسو، زيمبابوي، مالي، الصومال، إفريقيا الوسطي، وإريتريا، وهو ما تم بالفعل قبل نهاية 2023. وامتد النفوذ الروسي ليشمل (منطقة غرب إفريقيا، والساحل) من خلال أدوات وآليات متنوعة تعزز الحضور الروسي على الساحة الإفريقية، وترسخ مكانة موسكو على الصعيد العالمي. وتتبنى روسيا في ذلك سياسة براجماتية، مستفيدة في ذلك من صعود قيادات إفريقية جديدة راغبة في الابتعاد عن الغرب، خاصة فرنسا التي تراجع نفوذها بشدة في كل من: مالي، النيجر، بوركينافاسو، ومؤخرًا السنغال.
- مجموعة بريكس كأداة لتعزيز طموحات روسيا العالمية.
ينظر كتاب كبار (روس، وغربيون) إلى مجموعة بريكس- والتي أنشئت عام 2009 بمبادرة من روسيا وتضم اليوم تسع دول خمس منها مؤسسة (البرازيل، الهند، روسيا، الصين، وجنوب إفريقيا) والأخرى انضمت اعتبارًا من يناير 2024 (مصر، الإمارات العربية المتحدة، وإيران، إثيوبيا) بجانب دول شريكة عديدة في إطار صيغة “بريكس+” – على أنها وسيلة تكميلية في يد روسيا لتوسيع نفوذها العالمي خارج الغرب؛ حيث تشكل المجموعة نموذجًا للتعاون المرن الخالي من أي قيود سياسية ملزمة.
إن دول مجموعة البريكس في نظر كتاب روس وغربيين هي من “صقور السيادة” الذين يرفضون التدخل في شؤونهم الداخلية ويطمحون إلى قدر أعظم من الحكم الذاتي، كما أن هذه الدول لا تحظى بالقدر الكافي من التمثيل في المؤسسات الدولية العريقة، وهي تتقبل الدعوات الروسية إلى إقامة نظام عالمي أكثر عدالة. وقد جعل هذا التقارب في وجهات النظر من مجموعة البريكس أداة رئيسة في إستراتيجية روسيا لمقاومة الضغوط الغربية بشأن الحرب في أوكرانيا والضغط على أجندة موسكو التعديلية الأوسع نطاقًا، فقد رفضت دول مجموعة البريكس فرض عقوبات على روسيا، واعتبرت الدعوات الغربية إلى معاقبة روسيا وعزلها نفاقًا، خاصة إذا ما قورنت بالسياسة الغربية بشأن فلسطين المحتلة.
ووفقًا لتقرير أعده ثلاثة من أبرز المحللين السياسيين الروس هذا العام، فإن مجموعة البريكس “هي في الأساس نموذج أولي لمنظومة النظام العالمي الجديد”. وتثمن روسيا مجموعة البريكس باعتبارها بنية مفتوحة قادرة على تنسيق جهود الدول غير الغربية على أساس وظيفي دون فرض التزامات صارمة أو متطلبات الإجماع. وبالمثل، فإن شراكة أوراسيا الكبرى – ممثلة في منظمة شنغهاي للتعاون – والتي تركز على التعاون الصيني الروسي، ولكنها مفتوحة أمام الدول الأخرى والتجمعات المتعددة الأطراف، تتمتع بتصميم مماثل.
في السياق عاليه، استضافت روسيا قمة بريكس عام 2015، بُعيْد فرض العقوبات عليها بسبب ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، وقدمتها كدليل على أنها ليست في عزلة، وأن المجموعة يمكن أن تكون بديلًا عن مجموعة السبع (G8 سابقًا، والتي طُردت منها موسكو آنذاك). وبالمثل، استضافت روسيا القمة السادسة عشرة للمجموعة، في الفترة من (22 إلى 24 أكتوبر 2024) في مدينة قازان، والتي عقدت تحت شعار “تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين”، وقد عكس “إعلان قازان” الصادر عن القمة، وإلى حد كبير، الرؤية الروسية لعالم متعدد الأقطاب، وللتجمع كحاضنة للمعايير والمبادئ التي يقوم عليها “النظام العالمي الجديد”. وفي هذا السياق، تنص الفقرة السادسة من الإعلان على: “ونلاحظ ظهور مراكز جديدة للقوة وصنع القرار السياسي والنمو الاقتصادي، وهو ما يمكن أن يمهد الطريق لنظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر إنصافًا وعدالة وديمقراطية وتوازنًا، ويمكن للتعددية القطبية أن توسع الفرص أمام البلدان الناشئة والنامية لإطلاق العنان لإمكاناتها البناءة والتمتع بالعولمة الاقتصادية والتعاون الشامل والمفيد للجميع…”.
لقد كشفت الحرب في أوكرانيا عن أن الدول التي تتبنى نهج الانتقاد الصريح للنظام الدولي المالي ورفضه، ليست وحدها التي ترى أنه يمثل مشكلة. إن عدم رغبة دول مثل: البرازيل والهند، والدول الأخرى الأعضاء في البريكس التي لا تعادي الغرب، في المساعدة في عزل روسيا، يعكس صدى انتقادات روسيا للنظام الليبرالي باعتباره نظامًا غربيًّا وأيديولوجيًّا أكثر من اللازم، ولا ترى هذه الدول أن الحرب بين (روسيا، أوكرانيا) هي معركتها، وتشعر بالاستياء عندما يطلب منها أن تنحاز إلى أي من الجانبين.
- استفادة روسيا من السقوط الأخلاقي للغرب.
يؤكد خبراء غربيون أن جهود الغرب فشلت في استحضار الفضيلة الأخلاقية المتمثلة في إنهاء الاستعمار لحشد معارضة الجنوب العالمي لحرب روسيا في أوكرانيا؛ حيث نجحت موسكو – مستفيدة في ذلك من سياسة غربية تتسم بالنفاق والازدواجية – في تقديم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي باعتبارهم ورثة للإرث الاستعماري الغربي الكريه، ويلاحظ المراقبون في الجنوب العالمي أيضًا أن الاهتمام الغربي بالأوكرانيين البيض المسيحيين لا يقابله تعاطف مماثل مع سكان غزة ودارفور وغيرهم من مناطق الأزمات خارج أوروبا. وقد سجلت موسكو نقاطًا قوية من خلال مقارنة السياسة الغربية في أوكرانيا بعدوان إسرائيل على فلسطين المحتلة، ودعم السردية الفلسطينية، التي تؤكد أن إسرائيل وداعميها الغربيين امتداد للإمبريالية الغربية.
- عودة ترامب تطور إيجابي يخدم مصالح روسيا.
تشير أغلب التقديرات إلى أن الساحة الأكثر احتمالًا لظهور “غرائز ترامب الشعبوية” ستكون في العلاقات عبر الأطلسي، وتحديدًا علاقات واشنطن مع حلفائها الأوروبيين والحرب في أوكرانيا. وفي هذا السياق، تطرح أغلب تعليقات الذين قام ترامب بتسميتهم لتولي المناصب العليا في إدارته الثانية، وترامب نفسه، شكوكًا في استمرار المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا؛ إذ يشير هؤلاء إلى أن إدارة بايدن لم تأخذ المخاوف الأمنية الروسية في الاعتبار كسبب رئيس للحرب. ومن المرجح، أن تتأثر سياسة ترامب الخارجية في هذا الشأن بهدفه المعلن المتمثل في إنهاء الحرب ورغبته في التوسط من أجل السلام بين (روسيا، وأوكرانيا).
من ناحية أخرى، يقول “ستيفن كوتكين” وهو مؤرخ أمريكي بارز لروسيا في مؤسسة هوفر بجامعة ستانفورد (دورية الشؤون الخارجية – 7 نوفمبر 2024) أن إعادة انتخاب ترامب “وجهت ضربة للقوة الناعمة الأمريكية وللنظام الليبرالي الدولي، التي تزعم أنها تقوده وتدافع عنه”.
وبالرغم مما تقدم، يصعب تجاهل التحديات التي فرضتها الحرب على الدور العالمي لروسيا، لعل أبرزها:
- تراجع مبيعات روسيا العسكرية للخارج؛ بسبب توجيه جل مواردها في هذا الشأن للمعركة في أوكرانيا. وبالرغم من ذلك، تشير التقديرات الغربية إلى أن موسكو ما تزال تشغل المرتبة الثالثة عالميًّا من حيث القدرة العسكرية الشاملة، بعد الولايات المتحدة والصين. ومع ذلك، فإن عبء موازنة الدفاع على مجمل الإنفاق الحكومي دفع الرئيس “بوتين” إلى استبدال وزير الدفاع الجنرال “سيرجي شويجو” في 7 مايو 2024، بمدني هو “أندريه بيلوسوف” الذي عمل وزير للتنمية الاقتصادية، وهو خبير اقتصادي معروف في روسيا والنائب الأول لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية والمالية منذ عام 2020، وحتى تعيينه. وعمل بيلوسوف سابقًا في مجالات “السياسة التكنولوجية” والابتكار والإشراف على إنتاج الطائرات بدون طيار.
وقد بررت تقديرات مستقلة تعيين بيلوسوف وزيرًا للدفاع باعتبارات تتعلق برغبة الرئيس بوتين في إعادة هيكلة الإنفاق في الوزارة وتوظيف المخصصات المقررة لها من موازنة الدولة، والتي بلغت 6% في موازنة 2024 -2025، على الوجه الأمثل، بما في ذلك تنشيط الصناعات العسكرية الروسية، وذلك بما يلبي احتياجات “اقتصاد الحرب”.
وتضيف التقديرات المستقلة أن التركيز على تعبئة الموارد والاهتمام بالتنمية الاقتصادية والتكنولوجية وكفاءة الإنتاج والاستهلاك والإدارة، هي كلها توجهات مدفوعة باقتناع النخبة الحاكمة في روسيا بأن العلاقات المتدهورة بين موسكو والغرب، والتي وصلت إلى حد القطيعة، لن تشهد انفراجًا في أي وقت قريب.
- اعتماد روسيا المتزايد على الصين، الأمر الذي لا يلقى ارتياحًا لدى بعض أوساط النخبة السياسية في موسكو، وعادة ما تشير التقديرات الأمريكية في هذا السياق إلى خطورة دعم الصين لروسيا اقتصاديًّا وتجاريًّا، وتداعيات ذلك على دور روسيا العالمي. وعلى سبيل المثال، أشار تقرير حول “تقييم التهديد السنوي لمجمع الاستخبارات الأمريكي” نشر في 13 مارس 2024، إلى أن “الارتباط الاقتصادي العميق لموسكو مع بكين، يوفر لروسيا سوقًا رئيسة للطاقة والسلع الأساسية، وحماية أكبر من العقوبات المستقبلية، وشريكًا أقوى في معارضة الولايات المتحدة”.
وقد وصلت التجارة الثنائية بين البلدين إلى أكثر من 220 مليار دولار في عام 2023، متجاوزة بالفعل إجمالي حجمها القياسي لعام 2022 بنسبة 15%. ويعترف التقييم في هذا الصدد بأن روسيا تستمر في السعي وراء مصالحها بطرق تنافسية، وأحيانًا “تصادمية واستفزازية”.
والواقع أنه، بالرغم من إدراك روسيا للأهمية الإستراتيجية لعلاقاتها مع الصين، خاصة في هذه المرحلة التي تشهد قطيعة كاملة مع الغرب، إلا أنها تعي في الوقت ذاته أن هناك قيودًا على تحركات بكين المناهضة للغرب، في ظل المصالح الاقتصادية والتجارية الضخمة للصين معه، وارتباط ذلك بعملية الاستقرار الداخلي في الصين. وكثيرًا ما يشير الكتاب الروس إلى هذه الحقيقة في معرِض تناول بعضهم لطبيعة العلاقة بين (روسيا، والصين) والتي توصف بعدم التكافؤ. وعلى سبيل المثال، أشار تقرير أعده عدد من أبرز المحللين السياسيين الروس، نُشر العام الماضي، بعد أن أكد أنه من مصلحة روسيا تعزيز موقف الصين في مواجهتها مع الولايات المتحدة: “أن البلدان لا يتبنيان نهجًا متطابقًا تمامًا تجاه التغيير، في النظام الدولي الحالي؛ فالصين منخرطة بعمق في عمليات العولمة وتسعى، على الأقل في المدى المتوسط، إلى تحويل النظام القائم بسلاسة بدلًا من استبداله”. ويضيف التقرير أن الصين “ستواصل اللعب وفقًا للقواعد القائمة في الوقت الراهن، من أجل كسب الوقت لمواصلة إعادة الهيكلة الداخلية الجارية حاليًّا”.
ويدعو التقرير الخبراء والسياسيين الروس إلى ضرورة أن يدرسوا رؤية بكين للعالم؛ حيث يساعد ذلك في تجنب سوء الفهم المحتمل، كما يسهل العلاقات المشتركة للبلدين مع بلدان الأغلبية العالمية، ويذهب التقرير إلى حد التعبير عن المخاوف من أنه بمجرد تحقيق الصين الاكتفاء الذاتي الإستراتيجي، فقد تفقد بكين – جزئيًّا – اهتمامها بالعلاقات مع روسيا في الأمد البعيد.
ثانيًا: التداعيات على المنطقة.
بصفة عامة، تتمثل محددات السياسة الخارجية الروسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالأساس في: مكافحة الإرهاب والتطرف الديني، تأمين الفرص والمصالح الاقتصادية والتجارية لروسيا في المنطقة، وأخيرًا إبراز القوة والنفوذ بما في ذلك الظهور بمظهر القوة العظمى. ومن المهم، التأكيد على أن هناك توافق بين العديد من المحللين الغربيين المتخصصين في الشأن الروسي حول أن روسيا لم تستهدف أبدًا أن تصبح القوة المهيمنة في الشرق الأوسط، أو أن تحل محل الولايات المتحدة كمورد أمني أو مصمم للدبلوماسية الإقليمية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من أعباء ومسؤوليات ومخاطر. وبدلًا من ذلك، تهدف موسكو إلى الاحتفاظ لنفسها بمقعد على المائدة، مستخدمة ما لديها من أدوات، خاصة عضويتها الدائمة في مجلس الأمن وصادراتها من الأسلحة، لتحقيق أهداف سياستها الخارجية وإحباط الهيمنة الأمريكية في المنطقة.
ولقد كان من تداعيات الحرب في أوكرانيا، ارتفاع حدة المنافسة بين روسيا والغرب، وحرص موسكو على الاحتفاظ بعلاقاتها بدول المنطقة والعمل على تعزيزها، بما فيها كلٌ من (إيران، تركيا، وإسرائيل)، وقد باتت الحرب بمثابة عاملٍ مهم، أعاد ترتيب علاقات موسكو الدولية بصفة عامة، وفي الشرق الأوسط بصفة خاصة خارج المنطقة الأوروبية. ومن المهم التأكيد، في هذا السياق، على الآتي بصفة خاصة:
- جاءت عودة روسيا إلى الشرق الأوسط على خلفية تدهور العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة والغرب بصفة عامة.
فقد وفر الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، لروسيا فرصة لتوجيه انتقادات لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وجاء الربيع العربي عام 2011؛ ليوفر لموسكو فرصة أخرى لتعزيز وضعيتها في المنطقة؛ حيث تلاقت مصالحها مع مصالح كل دول المنطقة تقريبًا في مواجهة مزاعم الولايات المتحدة بأن الربيع العربي يمثل “بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين في جميع أنحاء العالم”. فقد اعتبرت موسكو أن هدف هذه الثورات لم يكن تحقيق الديموقراطية، وإنما كان قلب نظم الحكم القائمة وفرض نُظم جديدة موالية للغرب، تمامًا مثلما كان تقييم روسيا للثورات الملونة في مناطق مختلفة في الاتحاد السوفيتي السابق.
ومما لا شك فيه أن التدخل العسكري الروسي في سوريا في آخر سبتمبر 2015، كان بمثابة نقطة تحول كبيرة، وضعت روسيا كلاعب عسكري في الشرق الأوسط، لم يعد بإمكان الولايات المتحدة تجاهل وجوده. وقد رسخ هذا التدخل لروسيا وجودًا طويل الأمد في شرق البحر الأبيض المتوسط يمكنها الاستفادة منه، واستخدام ذلك كنقطة انطلاق للقوة العسكرية والنفوذ في أماكن أخرى مثل: ليبيا، والقارة الإفريقية.
من ناحية أخرى، أدت الشراكة المعززة طويلة الأمد بين (روسيا، وإيران) إلى تشجيع دول الخليج العربية للتعامل مع روسيا كوسيط قوة. وفي هذا السياق، اتفقت موسكو ومنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) في عام 2016، على تشكيل أوبك+، كإطار لتنسيق إستراتيجيات أسعار النفط والإنتاج، كل ذلك بجانب حرص روسي على تطوير العلاقات مع إسرائيل، التي باتت موطنًا لمئات الآلاف من المواطنين السوفييت والروس السابقين، ولاعبًا جيوسياسيًّا يتمتع بنفوذ يفوق بكثير حجمها الصغير. ووفقًا لبعض الكتاب الروس، أدى الانتشار العسكري الروسي في سوريا إلى جعل روسيا جارة لإسرائيل بحكم الأمر الواقع، وعاملًا مهمًّا في حسابات إسرائيل بشأن طموحات إيران العسكرية والنووية.
- الحرب في أوكرانيا تعزز الحضور الروسي في المنطقة.
بالرغم مما بدا من التأثير السلبي لانشغال روسيا في الحرب ضد أوكرانيا على الدور الروسي في المنطقة، إلا أنه مع استمرار هذه الحرب وتغير مسارات الأحداث في المنطقة قد أسفر عن المظاهر التالية:
- تطورت علاقات روسيا بالدول الرئيسة في المنطقة مثل: مصر، المملكة العربية السعودية، إيران، وتركيا، وذلك إلى حد الشراكة الإستراتيجية أو الإستراتيجية الشاملة، كما هو الحال مع (مصر، وإيران). وعلى مدى العامين الماضيين، يلاحظ استثمار روسيا في الاتصالات المكثفة مع جميع بلدان المنطقة، وهي اتصالات تؤتي ثمارها (سياسيًّا، اقتصاديًّا، وتجاريًّا) خاصة دول الخليج العربية مثل: قطر، دولة الإمارات العربية المتحدة، بجانب شركاء روسيا التقليديين مثل: الجزائر، ليبيا، والسودان. وقد أدت العقوبات الغربية إلى إعادة ترتيب غير مسبوق للعلاقات التجارية الروسية؛ حيث أعادت موسكو توجيه بعض أعمالها من العواصم والمراكز المالية الغربية إلى عواصم دول الخليج العربية، وقام المسؤولون وقادة الأعمال الروس بتطوير ترتيبات وعلاقات مربحة للطرفين مع تلك الدول. وقد أتاح ذلك لروسيا، وأيضًا لشركائها في المنطقة، العديد من المكاسب الجيوسياسية، والتأثير على اتجاه الاقتصاد العالمي وأسواق الطاقة، وإنشاء سلاسل توريد جديدة، وتدفقات مالية متحررة من قيود العقوبات وضوابط التصدير التي تقودها الولايات المتحدة وأوروبا.
وعلى حين باتت شراكة روسيا مع إيران لا غنى عنها كمورد أسلحة لموسكو وحليف جيوسياسي، رغم عدم وجود تحالف رسمي بين البلدين واختلاف مصالحهما في المنطقة، تعززت العلاقات الروسية بتركيا؛ بسبب توجه الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” نحو اتباع مسار مستقل في السياسة الخارجية عن حلفائه في الناتو. وصحيح أن تركيا أدانت التدخل الروسي في أوكرانيا، وزودت هذه الأخيرة بالأسلحة، إلا أنها لم تفرض عقوبات على موسكو، وبرزت كعنصر رئيس في جهود روسيا لتجاوز العقوبات الغربية وضوابط التصدير، كذلك قامت أنقرة بتسهيل مفاوضات بين (روسيا، وأوكرانيا) في الأشهر الأولى من الحرب.
- جاءت عملية طوفان الأقصى لتوفر لروسيا فرصة كبرى لتوجيه انتقادات حادة لإدارة جو بايدن وللغرب بصفة عامة، مستفيدة في ذلك من النفاق والمعايير المزدوجة في السياسة الأمريكية والغربية في المنطقة.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه، وبعد أقل من أسبوع على عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، حذر بوتين من تكتيكات الحصار الإسرائيلية في قطاع غزة، وقارن هذه التكتيكات بالحصار النازي لليننجراد خلال الحرب العالمية الثانية، ولم يقدم بوتين تعازيه لنتنياهو حتى 16 أكتوبر 2023. وفي 26 أكتوبر2022، استضافت روسيا وفدًا رفيع المستوى من حماس في موسكو، والتي تحتفظ معها بعلاقات وثيقة، ولا تعتبرها منظمة إرهابية مثل: الولايات المتحدة وحلفاء أوروبيين. وفي الأمم المتحدة، نفى سفير روسيا لدى المنظمة- مرارًا- حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها باعتبارها “دولة احتلال”.
وفي فبراير 2024، استضافت روسيا اجتماعًا في موسكو في محاولة لتحقيق مصالحة فلسطينية بين منظمة التحرير وفصائل المقاومة الأخرى، كذلك استقبلت موسكو الرئيس الفلسطيني “محمود عباس” في أكتوبر 2024، في الوقت الذي كان فيه “موسى أبو مرزوق” نائبَ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في موسكو أيضًا. وصدر بيان عن الخارجية الروسية يشير إلى أنه جرى مناقشة الوضع العسكري السياسي في غزة مع التركيز على الأزمة الإنسانية، التي وصلت إلى أبعاد كارثية، كما تم التأكيد على ضرورة استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، واستعداد الدبلوماسية الروسية لمواصلة تعزيز توحيد القوى والحركات السياسية الفلسطينية.
وكانت موسكو، في يناير 2024، استضافت وفدًا يمنيًّا من جماعة أنصار الله (الحوثيين) لمناقشة قضية “أمن السفن في البحر الأحمر”، وتواترت تقارير حول عرض حوثي “ممر آمن” للسفن الروسية في البحر الأحمر وخليج عدن، الأمر الذي أطلق العنان للعديد من التقارير الغربية حول دعم روسي إيراني واسع النطاق للحوثيين.
والواقع، أن أغلب التقديرات الغربية تؤكد أن روسيا تتبني سياسية حذرة تسعى من خلالها إلى الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع إسرائيل، ولا ترى من مصلحتها نشوب حرب أوسع بين (إيران، وإسرائيل).
وبمعني آخر، لم تحد الشراكة العسكرية والسياسية الروسية الموسعة مع إيران، من تعاون موسكو المباشر مع إسرائيل، بل أنها شكلت رد فعل إسرائيل على الحرب في أوكرانيا، وألقت الضوء على بعض المصالح المشتركة بين البلدين في المنطقة؛ ذلك أنه منذ تدخلها العسكري، نسقت روسيا مع إسرائيل بشأن الضربات على أهداف إيرانية، وكذلك الجماعات المدعومة من طهران.
ووفقًا لخبراء غربيين، يتأثر هذا التنسيق بعدد من العوامل مثل: الروابط الديموغرافية القوية بين البلدين؛ حيث يتحدث حوالي 15% من الإسرائيليين اللغة الروسية، كما يتقاسم البلدان مصلحة الحفاظ على الوجود الإيراني الضعيف نسبيًّا في سوريا. وفي هذا السياق، يمكن فهم امتناع إسرائيل عن بيع تكنولوجيا الدفاع الصاروخي المعروف بالقبة الحديدة لأوكرانيا، وامتناعها عن فرض عقوبات على روسيا ارتباطًا بالحرب في أوكرانيا.
والخلاصة: هي أنه رغم الأضرار الجسيمة التي وقعت عليها في الداخل والخارج بسبب الحرب في أوكرانيا، تظل روسيا خصمًا مرنًا وقادرًا على تحدي الغرب عبر مجموعة واسعة من المجالات، بما فيها اقتصاد يقوم على موارد هائلة وقاعدة عسكرية وصناعية دفاعية قوية، وتسعى لإبراز مصالحها والدفاع عنها عالميًّا وتقويض قدرات الولايات المتحدة والغرب، مع عمل روسيا على تعويض تراجع علاقاتها مع الغرب من خلال توسيع روابطها مع (الصين، إيران، كوريا الشمالية، ودول الجنوب العالمي الرئيسة) وتعزيز إنتاجها الدفاعي وتقوية اقتصادها، فيما يمثل تحديًا كبيرًا للغرب ولشركاء واشنطن.
من ناحية أخرى، فإن علاقات روسيا المتجددة بدول الشرق الأوسط، خدمتها بشكل جيد، وتحتفظ موسكو بطموح كبير للعمل على الساحة العالمية وإظهار قوتها ونفوذها خارج الفضاء السوفيتي السابق، وهو ما نجحت في ترجمته في شكل وجود مستمر ومؤثر في الشرق الأوسط، خاصة في ضوء تبنيها سياسة واقعية مرنة، وغير أيدلوجية، تبدو فيها منفتحة على كل الأطراف بما فيها محور المقاومة المرتبط بإيران، بما تسببه من مشكلات أمنية هائلة لإسرائيل لا ترى موسكو أنها مسؤولة عنها. ومن غير المرجح، أن يؤدي أي انفراج غربي في العلاقات مع روسيا إلى وقف العلاقات المتنامية لدول المنطقة مع موسكو الحريصة على الاحتفاظ بكل أدوات الضغط على الولايات المتحدة وحلفائها. ويشار في ذلك إلى أنه في خضم التآكل المتعدد الأسباب للنظام الليبرالي الغربي، تظل روسيا لاعبًا محوريًّا، وقد نضجت رؤيتها للنظام العالمي على مدار العقود الثلاث الماضية، في وقت تبدو فيه الركائز الأساسية لنظام ما بعد الحرب الباردة غير مستقرة بالفعل، ومن المرجح أن تكون نتيجة الحرب في أوكرانيا بمثابة العامل الأكثر أهمية الذي يحدد النظام العالمي الجديد.