لم تكن مجرد جملة عابرة قالتها “أرينا سابالينكا” بطلة التنس البيلاروسية والمصنفة العالمية الأولى حاليًّا، حين تحدثت لصحافة أوروبا عن جمال مناطق طبيعية زارتها في السعودية ودعت الجميع لزيارتها، وأكدت نجمة التنس الأولى في العالم أنها فوجئت بما رأته- بعيدًا عن ملاعب التنس- حين سافرت للمشاركة في بطولة رابطة المحترفات التي أقيمت في السعودية مؤخرًا، التي فازت بها الأمريكية “كوكو جوف”، ولم تكن بطلة التنس العالمية الوحيدة التي فوجئت بما رأته قبل وفي أثناء وبعد البطولة، وما قالته سابالينكا وغيرها عن السعودية سبق أن قاله كثيرون جدًا في أوروبا والعالم عن( قطر، الإمارات، المغرب، مصر، الجزائر، الكويت، تونس، والبحرين) بعد المونديال وبطولات ودورات رياضية دولية كثيرة وناجحة، وأصبح من الممكن بعد كل ذلك التأكيد على أن أحد أهم نتائج الاستثمار الرياضي العربي كانت تغييرًا حقيقيًّا وجذريًّا لصورة العرب كما يراها العالم، وتكسير تلك القوالب القديمة التي رسمها الغرب للعرب منذ وقت طويل كشعوب تفتقد الحضارة والإنسانية والجمال وتميل للعنف والتطرف والإرهاب، وأدرك العرب مؤخرًا أنه ليس هناك ما هو أفضل من الرياضة واستثمارها لتكسير تلك القوالب؛ فالرياضة أصبحت منذ وقت طويل هي اللغة العالمية التي يتحدثها ويفهمها الجميع والوسيلة الأسرع والأصدق لمخاطبة الناس وإقناعهم بتغيير آرائهم وقناعاتهم وأحكامهم، والاستثمار الرياضي في العالم كله ليس فقط تنظيم واستضافة دورات وبطولات أو شراء أندية خارج الأرض والتعاقد مع نجوم كبار في مختلف الألعاب، إنما هو استخدام اقتصادي للرياضة لتحقيق مكاسب مباشرة وأخرى غير مباشرة.
وعلى الرغم من اختلاف قواعد وملامح وتفاصيل وبدايات الاستثمار الرياضي في مختلف البلدان العربية، إلا أن هناك قواسم مشتركة تسمح برؤية أشمل وأعمق للاستثمار العربي بشكل عام، الذي لم يبدأ بشكل حقيقي ومنظم إلا في السنين القليلة الماضية، وقبل هذه السنين كان الاستثمار الرياضي العربي مجرد محاولات فردية وليس نتيجة خطط منظمة وأهداف واضحة ومحددة، ثم كانت البداية الحقيقية التي استندت إلى محورين أساسيين: الأول، هو الاستثمار الرياضي الخارجي أي خارج الأراضي العربية، والذي تمثل في امتلاك أندية كروية ورعاية لأندية وملاعب وبطولات. والثاني: كان الاستثمار الرياضي الداخلي، وهو الاستثمار الأهم والأقوى والأكثر تأثيرًا ونجاحًا أيضًا. ورغم ذلك كان أي حديث عن الاستثمار الرياضي العربي لا يهتم إلا بالاستثمار الخارجي والتباهي بما امتلكه العرب رياضيًّا في أوروبا باعتباره اختصارًا للاستثمار الرياضي العربي ونجاحاته الحقيقية، ولم يكن ذلك صحيحًا. وعلى الرغم من قيمة وأهمية نجاحات حققتها استثمارات رياضية عربية خارج الأراضي العربية، إلا أن النجاح فوق الأرض العربية هو الذي يجب أن يبدأ به أي حديث الآن ومستقبلًا يخص الاستثمار الرياضي العربي.
وكانت البداية الحقيقية للاستثمار الرياضي العربي هي الرغبة في استضافة بطولات ودورات ومسابقات رياضية دولية وكبرى، وباتت هذه الرغبة هي الدافع للالتفات العربي للبنية التحتية في مختلف البلدان العربية التي أرادت ذلك، فقبل التقدم لاستضافة مثل هذه البطولات والدورات، كان لابد من امتلاك ملاعب وساحات ومنشآت رياضية تقام بمواصفات عالمية وأوليمبية؛ ولأن الاستضافة لن تقتصر فقط على هذه الملاعب والمنشآت الرياضية، كان لابد من إنشاء وتطوير مطارات وطرقات وفنادق ومراكز صحية وتوفير لوازم كثيرة وضرورية يحتاجها من سيأتون ليلعبوا أو للفرجة على من سيلعبون، وكان ذلك بداية حقيقية للاستثمار الرياضي العربي الذي لعبت به الرياضة أحد أهم وأجمل وظائفها لتغيير وتسهيل وتجميل حياة كثيرين معظمهم لا تربطه بالرياضة أي علاقة مباشرة بالرياضة نفسها؛ فالبطولات والدورات ستأتي وتُقام وتنتهي لكن سيبقى ملكًا للناس كل ما تم بناؤه وتطويره وتوفيره.
وبعد البناء والإنشاء والتطوير وتغيير البنية الأساسية، جاءت للأرضي العربية ومدنها بطولات ودورات رياضية مختلفة الألعاب والأشكال والأسماء، ومعها جاء كثيرون جدًا من أوروبا والعالم كله للمشاركة والفرجة على هذه البطولات والدورات الرياضية وألعابها ونجومها، واكتشف هؤلاء أكاذيب كثيرة تم إلصاقها بالعرب عن طريق إلحاح إعلامي سواء كانت أكاذيب تخص بشر وتاريخ أو أرض وجغرافيا، واكتشف الذين جاءت بهم الرياضة لبلاد العرب السلوك الحقيقي للعرب (الكرم، اللياقة والأخلاق، وحسن استقبال الغرباء) واكتشفوا أيضًا جمالًا حقيقيًّا في أرض العرب سواء على شواطئ الخليج أو البحرين (المتوسط، والأحمر) وبعد نجاح الاستثمار الرياضي العربي في تغيير واقع وحياة مدن ومجتمعات عربية كثيرة شعرت وسعدت بهذا التغيير، كان النجاح الثاني الظاهر والمؤكد هو تغيير تلك الصورة النمطية والتقليدية للعرب التي جرى ترويجها بإلحاح إعلامي سنينًا طويلة وكثيرة نتيجة ضغوط سياسية واقتصادية لا أول لها أو آخر، صورة لم يكن ممكنًا تغييرها بمؤتمرات هنا وهناك أو نشرات دعائية وإعلامية وإعلانية، لكن استطاعت الرياضة تغييرها بشكل حقيقي ودائم؛ لأن الرياضة طول الوقت وفي كل زوايا العالم كانت وستظل الوسيلة الأقرب للناس، واللغة الأسهل دومًا لمخاطبتهم وإقناعهم بتغيير أفكارهم وأحكامهم وانطباعاتهم.
وكان من أهم نتائج تغيير الصورة النمطية الخاطئة للعرب في عيون العالم هي الرواج السياحي من العالم لبلاد العرب، ففي تقرير لمنظمة السياحة العالمية عن 2023 أعده “زوراب بولوليكاشفيلى” الأمين العام للمنظمة، تبين أن البلدان العربية ليست فقط من أوائل البلدان التي استعادت حركة السياحة إليها للمعدلات والأرقام التي كانت قبل وباء كورونا، بل حققت بلدان العرب زيادة بلغت 122% عما كانت عليه في2019، وهو العام الذي سبق الوباء، وكانت الرياضة بالتأكيد أحد العوامل الأساسية التي أسهمت في تحقيق هذا الرواج السياحي؛ فالرياضة ببطولاتها ودوراتها ومسابقاتها المقامة على أراضٍ عربية جاءت بغرباء كثيرين معظمهم لم يكن يعنيه إلا متابعة اللعبة التي جاء من أجلها، وكثيرون منهم كانوا يزورون بلدانًا عربية لأول مرة، وفوجئوا بما رؤوه بعيدًا عن الرياضة وساحتها وملاعبها وميادينها، وأدركوا أن في هذه البلدان ما يستحق المجيء من أجله في رحلات سياحية بعدما جاؤوا أولًا بدوافع رياضية فقط. كما أنهم في أثناء إقاماتهم الأولى بدوافعها الرياضية، شاهدوا بأنفسهم نجاحًا عربيًّا حقيقيًّا في التنظيم والاستضافة والتنسيق، وشعروا بترحاب صادق وأمان دائم، فتحولت بلدان العرب إلى مقاصد سياحية لها جمالها الطبيعي وسحرها المؤكد وطابعها الخاص ومذاقها المختلف.
ولم تقتصر نجاحات الاستثمار الرياضي العربي الذي بدأ بالرغبة الجادة في استضافة البطولات والدورات الرياضية فقط على تغيير وتطوير البنية التحتية في معظم المجتمعات والمدن العربية، أو تغيير الصورة القديمة للعرب كما يراها العالم، إنما كانت هناك أيضًا نتائج أخرى لا تقل أهمية وجمالًا وضرورة تخص استثمار البشر؛ فكل البطولات الكبرى والدورات الرياضية التي نجح العرب في استضافتها مثلما احتاجت لملاعب ومنشآت، احتاجت أيضًا لمن ينجحون في تنظيمها وإدارتها، فكان استثمار البشر بعد استثمار الحجر، فالملاعب والمنشآت التي تم بناؤها بمقاييس عالمية حديثة أصبحت متاحة بعد انتهاء البطولات والدورات لأجيال جديدة تريد اللعب وتحلم بالانتصار، وربما لا ينتبه كثيرون إلى التغيير الرياضي الذي كان نتيجة هذه الملاعب والمنشآت بعد بدء الاستثمار الرياضي؛ فهناك أجيال رياضية عربية جديدة رأت بطلات وأبطال العالم يلعبون في بلادهم، وشعرت بالاعتزاز لأنهم أصبحوا يمارسون التدريب واللعب في نفس الملاعب التي استضافت البطلات والأبطال الكبار، وأدى ذلك لتطوير رياضي عربي حقيقي لا يمكن اختصاره فقط في فوز العرب بسبع ميداليات ذهبية في دورة باريس الأوليمبية الماضية كأول دورة أوليمبية يفوز فيها العرب بهذا العدد من ميداليات الذهب، أو بطولات عربية في ألعاب كثيرة لم يكن متوقعًا قبل سنوات أن ينافس العرب على كؤوسها وميداليتها، لكن الأهم كان إحساس عربي رياضي جديد بأنه ليس هناك مستحيل في أي لعبة وملعب، بات هناك طموح رياضي حقيقي وثقة لم تتوفر من قبل وقناعة كاملة بأن العرب لن يبقوا في الساحات الرياضية العالمية مجرد ضيوف ليس مطلوبًا منهم إلا التصفيق للغرباء حين يلعبون وينتصرون، إنما يستطيعون المنافسة والانتصار أيضًا.
ومثلما ساعد الاستثمار الرياضي العربي على تأسيس جيل عربي جديد من لاعبات ولاعبين قادرين على المنافسة والفوز في مختلف الألعاب والمسابقات، كان هناك في المقابل جيل عربي جديد نجح أيضًا في التنظيم والإدارة بعدما شارك وأسهم في استضافة بلاده للبطولات والدورات الرياضية الكبرى، وكانت البداية حين شاركت كثيرات وكثيرون من الخبراء والمسؤولين الأجانب والغرباء في تنظيم وإدارة البطولات والدورات الرياضية، ساعدوهم وتعلموا منهم واكتسبوا منهم المعرفة والثقة والخبرة وأصبحوا بعد ذلك مؤهلين لأن يديروا بأنفسهم أي بطولة أو دورة جديدة؛ ولأن استضافة وتنظيم البطولات والدورات الرياضية الكبرى مسألة معقدة وليست مقصورة على ألعاب ومسابقات فقط، فقد أصبح هؤلاء العرب الجدد مؤهلين للنجاح في مختلف مجالات العمل والحياة بعدما امتلكوا خبرة وثقافة التعامل مع مختلف الجنسيات والثقافات وخاضوا الكثير من الأزمات التي أكسبتهم شجاعة المواجهة وحسن التصرف مع أي موقف ومشكلة أيًّا كان نوعها وحجمها.
وإذا كانت هذه هي طبيعة ومقدمات ونتائج الاستثمار الرياضي العربي فوق الأرض العربية، فإن الاستثمار الرياضي العربي خارج الأرض العربية كانت له أيضًا مقدماته ونجاحاته، استثمار بدأ في الثمانينات بأول عقد رعاية عربية لكيان رياضي أوروبي حين قامت شركة طيران الخليج في1983 برعاية تشيلسي ليظهر اسمها فوق القمصان الزرقاء للنادي الإنجليزي الشهير، ثم أصبح “محمد الفايد” في1997 أول عربي يمتلك ناديًا كرويًّا في أوروبا هو نادي “فولهام الإنجليزي”، وتوالت بعد ذلك فصول الاستثمار الرياضي العربي الخارجي، وتعددت الرعايات العربية لمختلف المؤسسات والبطولات الرياضية والكروية، وزاد عدد الأندية الكروية التي امتلكها رجال ومؤسسات وصناديق استثمار عربية، وتزامن ذلك مع اتهام متكرر أصر عليه معظم إعلام الغرب، اتهام سابق التجهيز بأن العرب لا يستثمرون في الرياضة وينفقون الكثير جدًا من المال على بطولتها ومشروعاتها إلا فقط لغسل سمعة أجاد تكوينها نفس إعلام الغرب ومؤسساته، وأن العرب لا يريدون أكثر من ذلك بكل هذا الاستثمار والإنفاق المالي على الرياضة، ومن الممكن أن ذلك كان صحيحًا وواقعيًّا في الماضي وعند بدايات الاستثمار الرياضي العربي الحقيقي ثم تغيرت الأفكار والرؤى لتصبح استثمارات عربية رياضية حقيقية. ورغم هذا التغيير الحقيقي والواضح إلا أن ذلك الاتهام الغربي ظل قائمًا وبقى واقعًا اخترعه كثير من السماسرة الأوربيين لاستنزاف المزيد من المال العربي، ومع توالي السنين سقط هذا الاتهام تمامًا بعد نجاحات كروية كثيرة حققتها أندية كروية امتلكها العرب مثلما جرى لـ”مانشيستر سيتى” في إنجلترا، وباريس “سان جيرمان” في فرنسا، نجاحات أثبتت أن الاستثمار العربي الرياضي الخارجي كان يهدف ويسعى إلى ما هو أكبر وأهم من مجرد غسل سمعة أو تجميل صورة، إنما استثمار وفق كل قواعد ومعادلات الاقتصاد في كل زوايا العالم، وتزامن ذلك مع بدء ظهور نجوم كرة عرب تألقوا مع أندية أوروبا لتتغير صورة العرب تمامًا فلم يبقوا على هامش الكرة الأوروبية لكنهم أصبحوا يملكون بعض أشهر وأهم أنديتها، وأيضًا يملكون نجومًا تحبهم وتصفق لهم أوروبا والعالم كله.
ولا يعني ذلك كله أن الاستثمار الرياضي العربي كان مشوارًا سهلًا دون أزمات وعقبات أو كان ناجحًا في كل خطواته بدون خسائر وأخطاء، لكن النتيجة الإجمالية لهذا الاستثمار الرياضي كانت انتصارات للعرب، انتصارًا (سياسيًّا، اقتصاديًّا، إعلاميًّا، ورياضيًّا أيضًا) انتصارًا لم يتوقعه أحد حين بدأ العرب هذا الاستثمار وسط شكوك عالمية في قدرتهم على البدء وشكوك أكبر في قدرتهم على الاستمرار؛ ولأن الاستثمار أيًّا كان نوعه ومجاله هو في حقيقته خطوات تتابع دون توقف وتطوير يلاحق الزمن بتغيير قواعده وحساباته، سيكون الخطأ العربي الأكبر هو الاكتفاء بما تحقق حتى الآن ظنًّا بأنه نهاية المشوار وقمة النجاح، فالمشوار لا يزال طويلًا وشاقًا أيضًا، والعرب حين بدؤوا استثماراتهم الرياضية وبنوا منشآتهم وملاعبهم واستضافوا البطولات والدورات أنفقوا الكثير من المال، ولابد الآن من حسابات وأفكار جديدة يأتي معها الربح المالي الذي لا يزال بعيدًا بعض الشيء، صحيح أن الربح السياسي تحقق والربح الإعلامي أيضًا، لكن الربح الاقتصادي يبقى مهمًّا أيضًا، ممثلًا في عوائد وأرباح ومكاسب مالية تُضاف لبقية المكاسب الأخرى، وكذلك الربح الرياضي أيضًا، فليس من اللائق أن يمتلك العرب ملاعبًا ومنشآت رياضية اقتنع العالم كله بأنها من أفضل وأجمل ما يملكه العالم حاليًّا، وأن ينجحوا في تنظيم بطولات ودورات ويبهروا العالم بقدرتهم على الاستضافة والتنظيم ربما أفضل بكثير ممن سبقوهم قديمًا في هذا المجال، ثم لا يملكون بعد كل ذلك بطلات وأبطال رياضيين كثيرين في مختلف الألعاب، صحيح أن العائد الرياضي للاستثمار العربي بدأت تتحقق نتائجه وانتصرت بطلات وأبطال العرب في بطولات عالم ودورات أوليمبية، لكن لا يزال ممكنًا مضاعفة عدد البطلات والأبطال والانتصارات والميداليات، فلم يعد العرب يعرفون المستحيل رياضيًّا، فالذي كان مستحيلًا حين بدؤوا استثمارهم الرياضي (المحلي، والعالمي) ثبت مع الأيام والسنين وتصفيق العالم واحترامه أنه ليس مستحيلًا، وبالتأكيد سينجح العرب إن أكملوا الطريق بنفس الحماسة والإرادة والإصرار، وظلوا يواصلون استمرار ومضاعفة استثماراتهم الرياضية.