شكّل قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر في العام 1798 نافذة جديدة دعت المصريين إلى إعادة النظر في نمط الحياة التي كانوا يعيشونها، فقد ترك الفرنسيون أثرًا مهمًّا تمثل في السفر الموسوم بـ “وصف مصر” والذي ضم ثلاثة كتب عن الموسيقى المصرية وآلاتها الموسيقية عند المصريين القدماء والمصريين المحدثين، ولم يكد ينقضي القرن الثامن عشر حتى ظهر على سطح الحركة الفنية الموسيقية رجالٌ ذوو همم كان همهم انتشال هذه الموسيقى من موات غيبها وتأثيرات تركية زيفت طابعها وكادت تلقي بها إلى هلاك مقيم.
جهود الرواد.
مثّلت جهود الرواد من الموسيقيين المصريين، في أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، نقطة فارقة في مسيرة تطور الموسيقى العربية وإثرائها وإحياء قوالبها الغنائية، بل واستحداث قوالب جديدة والعودة بها إلى طابعها المصري والعربي في محاولة جادة لإزالة ما شابها من مؤثرات تركية وإغراق في التطريب على حساب التعبير، ومن هؤلاء الرواد: محمد عثمان، عبده الحامولي، الشيخ عبد الرحيم المسلوب، الشيخ أبو العلا محمد، الشيخ سلامة حجازي، والشيخ سيد درويش، وتلا هؤلاء: محمد عبد الوهاب، محمد القصبجي، الشيخ زكريا أحمد، ورياض السنباطي، وكان لكل منهم تأثيره الواضح في نمو وتطوير قوالب مثل (الدور، الموشح، الطقطوقة، المنولوج، والقصيدة). وإضافة لهؤلاء كانت هناك أصوات غنائية مهمة مثل: ألمظ، منيرة المهدية، أم كلثوم، فتحية أحمد، وكانت الطقطوقة هي الأساس الذي وصل بنا لقالب الدور المصري الذي يعد مبدعه الأول الشيخ “محمد عبد الرحيم المسلوب”، وهي القالب الذي قدم من خلاله سيد درويش جُل إنتاجه الغنائي؛ وذلك لمواصفاتها الفنية التي تتيح للملحن تقديم لحن قريب من فهم ووجدان المتلقي، ومن الناحية الأدبية تتيح تقديم أفكار تتنوع بين العاطفي والوطني والاجتماعي، ومن الأغنيات التي قدمها سيد درويش وتندرج تحت هذا القالب ما يعرف بأغاني الحرف والطوائف مثل: الصنايعية، الشيالين، والعمال، وكذلك الأغنيات ذات التوجه الوطني مثل: بلادي بلادي، قوم يا مصري، أهو ده اللي صار.
المسرح الغنائي فضاء التطور الموسيقي والغنائي.
بدأ المسرح الغنائي في مصر أواخر القرن التاسع عشر على يد الشيخ “أحمد أبو خليل القباني” (1903- 1842) الذي رحل مع إسكندر فرح من دمشق إلى الإسكندرية، وعلى يديه أخذت المسرحية شكلًا جديدًا؛ حيث كان القباني شاعرًا موسيقيًّا وأديبًّا وممثلًّا، وقدم رواياته المستوحاة من التاريخ العربي الإسلامي وقصص ألف ليلة وليلة على مسرح زيزينيا وقهوة الدانوب، وتميزت بالرقص الإيقاعي، وتناوب الغناء بين فصولها فرقة المطرب “عبده الحامولي” والمطربة “ألمظ”، واستمر نشاط القباني وفرقته في مصر 17 عامًا، وتوفي 1990 في دمشق.
سيد درويش وتطوير الموسيقى العربية.
بعد الشيخ أبو خليل القباني حمل رواد المسرح الغنائي الراية ومنهم سلامة حجازي، الذي كان يلقي قصائده بين فواصل العروض المسرحية، غير أن النقلة النوعية الكبيرة تمثلت فيما قدمه سيد درويش بعد انتقاله إلى القاهرة 1917، وقد خاض سيد درويش (1892-1923) غمار المسرح الغنائي فقدم حوالي 26 عملًا مسرحيًّا غنائيًّا لفرقته الخاصة مثل: شهرزاد، العشرة الطيبة، والبروكة، وللفرق المسرحية مثل: فرقة جورج أبيض، نجيب الريحاني، أولاد عكاشة، وفرقة منيرة المهدية.
ويُعد سيد دوريش زعيم المجددين في الموسيقى العربية، انتقل بها من التطريب إلى التعبير، بعد أن كان الغناء العربي غارقًا في المحسنات التطريبية مما يعرف بـ” العُرَب”، والتكرار الذي لا طائل من ورائه، وقد أثبت سيد درويش من خلال ما قدمه من صيغ غنائية تقليدية تمكنه من استيعاب وهضم مقامات الموسيقى العربية وإيقاعاتها المركبة والتمكن منها فقدم عشرة أدوار خالدة منها: أنا هويت وانتهيت، أنا عشقت، ضيعت مستقبل حياتي، كذلك قدم إسهامات مهمة في قالب الموشح مثل: منيتي عز اصطباري، صحت وجدًا يا ندامي، يا بهجة الروح، … إلخ، وتمثلت النقلة الكبيرة فيما قدمه من ألحان للمسرح الغنائي، الذي أتاح له التعبير عن أجواء درامية متنوعة خرجت عن عباءة الغناء الفردي فقدم غناءً ثنائيًّا وجماعيًّا، كما استفاد من استخدام فرقة موسيقية تضم بعض الآلات الموسيقية الغربية، ويعد ما قدمه سيد درويش من ألحان للطوائف والحرف فتحًا جديدًا في مجال الأغنية العربية، ناهيك عن الأغنية الوطنية التي كان فارسها الأول وعبر من خلالها عن قضايا الوطن والمواطن، ولذلك فقد مثلت وفاة سيد درويش ضربة قاسمة لازدهار المسرح الغنائي؛ حيث تقاعس الملحنون الكبار عن استكمال مسيرة المسرح الغنائي؛ وذلك لأسباب أهمها ظهور وسائط جديدة تمثلت في الأسطوانات والسينما والإذاعة.
ورغم التأثير السلبى للوسائط الجديدة على بعض القوالب الغنائية مثل: الموشح، والدور الغنائي الذي اختفى في العقد الثالث من القرن العشرين رغم قيمته الفنية الرفيعة، إلا أن الأشكال الغنائية الأخرى مثل: الطقطوقة، المنولوج، القصيدة، والدويتو، أخذت في التطور والازدهار بفعل الفيلم الغنائي وما قدمه: عبدالوهاب، ليلى مراد، أم كلثوم، فريد الأطرش، ومحمد فوزي، وقد حفظت الوسائط الجديدة المتمثلة في (الأسطوانات والإذاعة والسينما، وهندسة الصوت والإنترنت) الإبداع الموسيقي والغنائي العربي من الضياع، وأتاحت للمستمعين والباحثين والمهتمين التعرف على أعمال غنائية كانت مجهولة لفترة زمنية طويلة.
الأخوان رحباني والمسرح الغنائي.
تُعد تجربة الأخوين رحباني في المسرح الغنائي إضافة مهمة في مسيرة الإبداع الموسيقي العربي؛ حيث كانت مسرحيتهما الأولى في عام 1960 على مسرح بلعبك “موسم العز” من بطولة: صباح، ووديع الصافي، ونصري شمس الدين، ثم توالت أعمالهم المسرحية التي جاوزت العشرين، وقد لاقت هذه التجربة رواجًا كبيرًا وذاعت ألحانها في العالم العربي من خلال ألبومات موسيقية بصوت فيروز.
اسهامات جيل الوسط.
برزت أسماء مهمة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، أثرت في الموسيقى العربية أمثال: بليغ حمدي، الشيخ سيد مكاوي، محمد الموجي، وكمال الطويل. وفي لبنان: الأخوان رحباني، حليم الرومي، نقولا المني، سامي الصيداوي، زكي نصيف وفليمون وهبي، بجانب وجود أصوات قادرة ومتميزة على رأسها السيدة/ أم كلثوم، إضافة لأصوات نسائية مثل: فيروز، فايزة أحمد، نجاة الصغيرة، وردة الجزائرية، شادية، وصباح. وأصوات المغنيين الرجال أمثال: عبد الحليم حافظ، محمد قنديل، محمد رشدي، وديع الصافي، … وغيرهم.
جهود إعادة إنتاج التراث.
تمثلت هذه الجهود في محاولات اللجنة الموسيقية العليا برئاسة “أحمد شفيق أبو عوف” واهتمامها بجمع وتوثيق القوالب الغنائية التقليدية التي أنتجها الملحنون المصريون مثل (الموشح، الدور، والطقطوقة) في عشرينيات القرن العشرين، ونتج عن ذلك تدوين كثير من هذه الأعمال ونشرها في أجزاء متعددة.
وفي مجال المسرح الغنائي، تنبه القائمون على الثقافة المصرية في الخمسينيات إلى أهمية جمع وتوثيق تراث المسرح الغنائي في مصر في عشرينيات القرن العشرين وإعادة تقديمه برؤى جديدة، وتشكلت لجنة من كبار الموسيقيين لجمع ما تبقى من تراث المسرح الغنائي ممثلًا في المدونات الموسيقية والنصوص الأدبية، وما استقر في ذاكرة حفظة هذا التراث، واستمر عمل اللجنة أربعة عقود في محاولة لجمع تراث كل من: سلامة حجازي، داود حسني، كامل الخلعي، وسيد درويش، وتوقفت اللجنة دون أن يظهر عملها إلى النور، وبقي محفوظًا لدى المجلس الأعلى للثقافة، حتى تشكلت لجنة جديدة من أساتذة علوم الموسيقى في 2020؛ لفحص الوثائق والمدونات والنظر في كيفية الاستفادة منها، واستمر عمل اللجنة أكثر من عامين، وانتهت إلى نشر هذا التراث النادر في كتابين ضمَّا الوثائق والمستندات والمدونات الموسيقية التي توفرت لدى اللجنة، وهما متاحان للدارسين والفنانين والباحثين.
فرق الموسيقى العربية.
إحياءً للتراث الغنائي المصري أنشئت فرق للموسيقى العربية، تأسست أولاها “فرقة الموسيقى العربية” عام 1967 بجهود المايسترو/ عبد الحليم نويرة، والموسيقار/ أحمد شفيق أبو عوف، ويذكر الدكتور “زين نصار” أستاذ النقد الموسيقي أن إنشاء هذه الفرقة جاء بتوجيه من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إثر رسالة وجهتها لسيادته زوجات الدبلوماسيين المصريين في أوروبا، وتضمنت تحذيرًا من استيلاء الكيان الصهيوني على تراث الموسيقى المصرية، ومن ثم فقد تم إنشاء “فرقة الموسيقى العربية” تبعها إنشاء “فرقة أم كلثوم للموسيقى العربية” قيادة المايسترو/ حسين جنيد، و”فرقة التخت العربي” قيادة المايسترو/ يسري قطر، وفي العام 1989 وبعد افتتاح المبنى الجديد لدار الأوبرا المصرية أنشأت الدكتورة رتيبة الحفني “الفرقة القومية للموسيقى العربية” قيادة المايسترو/ سليم سحاب، وكان يأمل أن تقدم هذه الفرقة أعمالًا من بلاد عربية أخرى غير مصر؛ حيث قدم سليم سحاب بعض الأعمال من لبنان وتونس، غير أن التجربة لم تستمر وعادت الفرقة تقتصر في برامجها على الموسيقى المصرية، بل ولم تعد غالبًا تقدم الموسيقى التراثية بقوالبها الغنائية والموسيقية، ويعلل المايسترو/ سليم سحاب ذلك بعدم توافر المدونات الموسيقية.
وقد انتشر هذا النمط من الفرق في مؤسسات وزارة الثقافة مثل: الهيئة العامة لقصور الثقافة، والأندية والشركات، غير أنها لم تكن سوى تكرار للفرق الأم (فرقة الموسيقى العربية، وفرقة أم كلثوم)، ودون رؤية واضحة أو إضافة حقيقية لمجال الموسيقى المصرية التراثية.
وبرحيل المؤسسين الكبار (نويرة، وجنيد، وقطر)، افتقدت هذه الفرق البوصلة، وافتقرت برامجها إلى القوالب التراثية وباتت تنحصر في تقديم أعمال الخمسينيات والستينيات والتي أصبحت تسمى ” أغنية” مع إهمال يكاد يكون متعمدًا للقوالب التقليدية التي قدمها الرواد.
الموسيقى الآلية محاولة للازدهار.
رغم اعتماد الموسيقى العربية على الغناء تسللت الموسيقى الآلية إليها، وقدم جيل الرواد موسيقى خالصة تمثلت في النسج على منوال القوالب الآلية التي ورثناها عن الموسيقى التركية مثل (السماعي، واللونجا) إضافة إلى أعمال حملت أسماء مؤلفيها مثل: موسيقى “ذكرياتي” لمحمد القصبجي، ولونجا رياض السنباطي، ومقطوعات موسيقية لمحمد عبد الوهاب مثل: “عزيزة” و “بنت البلد”، و فريد الأطرش “موسيقى حبيب العمر” و “نجوم الليل”، إضافة إلى آخرين، حيث قدم المؤلفون الموسيقيون المصريون ما يطلق عليه “الموسيقى المصرية المتطورة”، وهي أعمال تحاكي الموسيقى الغربية الكلاسيكية مثل: السيمفونية، والقصيد السيمفوني، وظهرت هذه المدرسة على يد: يوسف جريس، حسن رشيد، وأبو بكر خيرت، تلاهم الجيل الثاني: عزيز الشوان، فؤاد الظاهري، علي إسماعيل، عطية شرارة، رفعت جرانة، وجمال عبد الرحيم. أما الجيل الثالث فمنهم: جمال سلامة، يوسف عزيز، راجح دواد، ومونا غنيم؛ حيث قدموا أعمالًا كلاسيكية مثل: الكونشرتو، استلهموا فيها جُملًا موسيقية شعبية وقدموا آلات الموسيقى العربية التقليدية والشعبية فنجد كونشرتو (الناي والعود والقانون والربابة)، ومن الموسيقيين العرب الذين أسهموا في هذا الاتجاه: سلفادور عرنيطة، صلحي الوادي، ومارسيل خليفة، نصير شمة، … وغيرهم.
وقد ساهمت الأعمال الدرامية في ازدهار الموسيقى الخالصة؛ حيث قدم كثير من المؤلفين الموسيقيين والملحنين إسهامات في هذا المجال ومن هؤلاء: علي إسماعيل، فؤاد الظاهري، راجح داود، عمار الشريعي، هاني شنودة، وتبرز على الساحة اليوم أسماء منهم: عمر خيرت، مودي الإمام، خالد حماد، هشام نزيه، عمرو إسماعيل، تامر كروان، ياسر عبد الرحمن، عماد الشاروني، محمود طلعت، أشرف محروس، … وغيرهم.
أوجه أخرى للتقديم.
ومن آليات التقديم الجديدة ما يعرف بـ (حفلات الهو لو غرام)، التي تتيح استعادة كبار المطربين والمطربات آليًّا، من خلال تقنيات متفوِّقة في المسارح الحديثة المجهّزة؛ حيث انتشرت حفلات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وغيرهما بشكل موسَّع في مصر ومعظم الدول العربية، ورغم الرواج الذي حققته هذه الحفلات فقد أثارت إشكاليات مرتبطة بحقوق الملكية والتربُّح المادي بين منظِّميها وورثة المطربين الذين يرون أن حفلات “الهو لو غرام” وتقنيات الذكاء الاصطناعي المستحدثة يترتب عليها تشويه الإبداع الأصيل، ويعدونه إساءة عظمى إلى عمالقة المطربين وتراثهم الرصين .
ومن آليات التقديم الجديدة أيضًا ما قدمه موسم الرياض من حفلات احتفت بالملحنين المصريين: الموجي، بليغ حمدي، ومحمد عبد الوهاب، واتسمت هذه الحفلات بالقيمة الفنية العالية من حيث البرامج والفرق الموسيقية والأصوات الغنائية من (مصر، والسعودية، ولبنان، وتونس).
ولازال مؤتمر ومهرجان الموسيقى العربية الذي يُعقد في دار الأوبرا المصرية يقدم حفلات تتنوع بين (التراثي، الحديث)، في حين يناقش المؤتمر العلمي قضايا الموسيقى في العالم العربي.
مقدمات الأغنيات إبداع آلي ثري.
تعد “مقدمات الأغنيات الطويلة” من الإسهامات المهمة التي قدمها ملحنون مثل: عبد الوهاب، السنباطي، فريد الأطرش، بليغ حمدي، محمد الموجي، لمطربين كبار مثل: أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، حيث لاقت استحسانًا وكرست لقبول الموسيقى الآلية لدى المستمعين، وقد تراجع هذا الاتجاه برحيل هذه الأسماء وسيطرة الأغنية القصيرة على دولاب إنتاج الموسيقى في العالم العربي.
السبعينيات رحيل العمالقة وبداية الانحدار.
شهدت السبعينيات والثمانينيات رحيل أسماء مهمة في عالم الموسيقى والغناء العربي مثل: السيدة/ أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، والموسيقار/ علي إسماعيل، وعاصي الرحباني، … وغيرهم، وكان لذلك أبلغ الأثر في فراغ الساحة الفنية وبروز أجواء وتيارات جديدة قدمت جديدًا مغايرًا لما قدمه الرواد؛ حيث سادت الأغنية الجماهيرية التي اعتمدت على الآلات الإلكترونية الغربية مما أفقد الموسيقى العربية سماتها المعروفة وبدا أن الأغنية العربية انحرفت عن مسار المتعة السمعية إلى الرقص والأغنية المصورة، وأسرف ملحنو جيل الثمانينيات وما تلاها في استنزاف قالب الطقطوقة نزولًا على رغبة المطربين وشركات الإنتاج ضاربين عرض الحائط بمنجزات الجيل الرائد فلم يقدموا مقدمات موسيقية ولم يحيوا القوالب الغنائية التقليدية، وماتت أو تكاد صيغ (الموشح والدور والقصيدة والمنولوج الدرامي).
الفرق الغنائية.
شهد النصف الثاني من القرن العشرين وجود فرق غنائية اقتفت طريقة وأسلوب الفرق الغربية في هذه الفترة الزمنية حيث كانوا يستخدمون آلات الموسيقى الغربية ويغنون باللغات الأجنبية، وقدمت هذه الفرق حفلاتها في الأندية والفنادق، ويشير أعضاء هذه الفرق إلى ازدهارها رغم وجود الأسماء الكبيرة مثل: أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وقد خرج من هذه الفرق عازفون عملوا مع أم كلثوم و عبد الحليم حافظ مثل: مجدي الحسيني “على آلة الأورج، وعمر خورشيد على الجيتار، ومن هذه الفرق: فرقة صواريخ السماء Skyrockets، فرقة The comets، وفرقة الأطباء الأربعة.
ونجد كذلك فرقًا أخرى تغني باللغة العربية وتقدم لونًا جديدًا من الغناء مثل: فرقة الثلاثي المرح، وفرقة ثلاثي النغم، وقد تعاون معهم شعراء وملحنون كبار.
وفي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي برزت فرق غنائية تغني باللهجة المصرية مثل: فرقة “الجيتس” سمير حبيب، فرقة “النهار” محمد نوح، فرقة “المصريين” هاني شنودة، فرقة “الحب والسلام” نبيل البقلي، فرقة “طيبة” حسين ومودي الإمام، فرقة “الأصدقاء” عمار الشريعي، فرقة “الفور إم” عزت أبو عوف، فرقة “الجذور” منير الوسيمي، فرقة عمرو سليم، فرقة “جليانا” عادل عمر وحميد الشاعري، وهناك تجارب أخرى رأى أصحابها أنها تقدم غناءً موازيًا مختلفًا مثل: فرقة “الأنغام الذهبية” عبد الحميد توفيق زكي، وتجربة الشيخ إمام مع الشاعر أحمد فؤاد نجم، والشعراء (نجيب شهاب الدين، وزين العابدين فؤاد).
وقد مثلت هذه الفرق الغنائية إضافة جديدة ونفسًا جديدًا رغم ما يراه البعض من سلبية تأثيرها لابتعادها عن طابع الموسيقى العربية باستخدامهم الآلات الغربية وتقديمهم ما عرف بـ “الفرانكو أراب”.
وقد أسهمت الفرق الجماعية في اكتشاف أصوات غنائية شابة مثل: علاء عبد الخالق، حنان ومنى عبد الغني في فرقة” الأصدقاء” التي كوَّنها عمار الشريعي، وفي فرقة “جليانا” قدم حميد الشاعري أصواتًا جيدة مثل: جمال عراقي، ويحيى عراقي، ولكن للأسف لم تستمر هذه الفرق.
الوصول إلى العالمية – الحلم الوهم.
يردد الكثيرون من المغنيين أنهم يحلمون بالوصول للعالمية، فيقصدون كتابة إعلانات ألبوماتهم باللغة الإنجليزية وكأنهم ينتجونها لأمة أخرى، وينزعون إلى إشراك فنانين وفنانات أجانب في أغانيهم، ومثال ذلك: ما قدمه عمرو دياب في أغنيته “حبيبي يا نور العين”، وما قدمه حكيم مع المغنية البورتريكية “أولجا تانون” في أغنيته ” آه يا قلبي”، أضف إلى ذلك تجارب محمد منير، الذي استعان فيها بعازفين أجانب لخلق طابع جديد لأغنياته.
وهكذا تدور الأغنية العربية في فلك الأغنية “الجماهيرية- التجارية” التي روجت لها شركات الإنتاج المهتمة بالمكسب المادي دون اعتبار للقيمة الفنية، وهو ما كرس للإنتاج النمطي وأفقد الإبداع الموسيقي العربي سمات مهمة مثل (الثراء، والتنوع، والأصالة)، وسبب قطيعة في الذوق السمعي الجمالي بين الأجيال، بل قد لا نجاوز الحقيقة إذ قلنا إن ثمة إفسادًا متعمدًا طال الذوق العام منذ ثمانينيات القرن الماضي باستثناء تجارب محدودة لأسماء معينة.
الأصوات الجديدة لا تقدم جديدًا.
شهدت الساحة الغنائية العربية في العقود الثلاث الأخيرة ظهور أصواتًا موهوبة كان يُنتظر منها أن تقدم مشروعًا فنيًّا يضيف إلى نهر الإبداع الغنائي العربي، غير أن النتائج كانت مخيبة للآمال وسقط معظمهم في فخ الغناء القديم ولم يبذلوا جهدًا كبيرًا لتأكيد بصمتهم الشخصية، وكأنهم آثروا الاستسهال وغدا الغناء بالنسبة لهم مجرد تقديم أغنيات الكبار، ساعدهم على ذلك شركات الترفيه ومهرجانات الاجترار، ولم تمد لهم مؤسسات الإنتاج يد العون لانتشالهم من هذه الورطة المستمرة لتخطي حالة الجمود السائدة لتقديم وجه حداثي يرسخ وجودنا في القرن الحادي والعشرين.
وثمة أسباب نراها معوقة لحركة التقدم والحداثة في واقعنا الموسيقي الراهن منها:
أولًا: المؤسسات الفنية والأكاديمية.
لم تلقَ المؤسسات الفنية والأكاديمية بالًا للإنتاج الموسيقي العربي المعاصر، وانغلقت على تقديم ودراسة الموسيقى التراثية مما عمَّق الفجوة بين الأجيال الجديدة من الدارسين وبين واقعهم المهني المعاش، وقد يرى البعض أن هذه المعاهد والكليات منوطة بدراسة المستقر والمتفق عليه، غير أنه من الضروري التواصل بين القديم والحديث لإبداع موسيقي جديد له جذوره الأصيلة مستفيدًا من التطور التكنولوجي في الكمبيوتر وتطبيقات الذكاء الاصطناعي والتدوين الموسيقي والتسجيلات الصوتية.
ومن المؤسف غياب المقاربات الفكرية والفلسفية عن مؤسسات التعليم الموسيقي، والمؤسسات الأكاديمية المنوطة بالدرس (السسيولوجي، والفلسفي، والتاريخي)، وكأننا لم نتصالح بعد مع الفنون الجميلة ولم ندرك دورها في ترقية الذوق العام وتربية الوجدان الجمعي.
ومن المؤسف تخلي مؤسسات الإذاعة والتلفزيون الوطنية عن دورها في أعمال غنائية وموسيقية جديدة، وهو ما أتاح لشركات الإنتاج تقديم ما يحقق لها الكسب المادي دون مرجعية ثقافية تحرص على الحفاظ على الهُوية الموسيقية العربية وتستكمل مسيرة الرواد الذين تركوا تراثًا يجب الحفاظ عليه والبناء فوقه.
ثانيًا: النقد الموسيقي آلية غائبة.
يحول غياب النقد الموسيقي دون وجود جدل خلاق بين منتجي الموسيقى بكافة مشاربهم وأدوارهم وبين المتلقي الذي يسير على غير هدى وربما دون بصيرة في ظل انقطاع التفاعل بين الأجيال وهيمنة مؤسسات الإنتاج والترويج التي يعنيها تحقيق المنافع والعوائد الربحية دون اهتمام بدور الموسيقى اجتماعيًّا وجماليًّا ووجدانيًّا، وهو ما أدى إلى انهيار القيم الأخلاقية والجمالية وتفشي ما يعرف بظاهرة المهرجانات.
ثالثًا: الموسيقى البديلة- الأغنية البديلة.
ويقدم أصحاب هذا التيار أنفسهم باعتبارهم مشروع جديد مغاير ومتمرد على الخطاب الموسيقي العربي السائد، وينشد تجاوز المحلي والعبور إلى خطاب موسيقي عالمي، ولعل تجارب “موسيقى الراي” الشاب خالد، ورفاقه في الجزائر، … وغيرهم في المغرب العربي، وما برز في مصر بعد يناير 2011 تيارًا جديدًا، غير أن هذه التيارات لم يتأكد حضورها في المشهد بقوة.
ختامًا.
ومع ذلك ثمة جهود لموسيقيين عرب في بلاد عربية عديدة؛ حيث يقدمون تجارب مستلهمة من ثقافتهم الشعبية، وهو اتجاه محمود يؤسس للحفاظ على الهوية والتراث الوطني، إضافة إلى تجارب جديدة قُدمت في إطار مؤتمر الموسيقى العربية الثاني والثلاثين في دار الأوبرا المصرية أكتوبر 2024، اعتمادًا على فكرة التأثير والتأثر بين الموسيقى العربية وموسيقى العالم، ومحاولة توليد موسيقى عربية جديدة باستخدام الحاسب الآلي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي.
وهكذا يغص المشهد الموسيقي العربي الراهن بكثير من التخبط والاضطراب وهو حال لا ينفصل عن واقعنا المعيش؛ حيث تعاني الموسيقى العربية مخاض التحولات بين سندان القديم ورحى الجديد في رحلة البحث عن مسارات جديدة تبرز هويتها دون الذوبان في أتون العولمة ومتاهات الحداثة، آملين أن تستعيد موسيقانا العربية المتنوعة والثرية عافيتها وتخطُّ مسارًا موفقًّا لمرحلة جديدة من التطور والإبداع.