بدأ نضال رواد النهضة العربية مطلع القرن التاسع عشر واستمر حتى الآن، مطلع الحادي والعشرين، دونما عائد يذكر، ومن ثم استمرت النهضة لدينا مجرد أفكار تنتسب إلى مفكرين توزعوا على تيارات مختلفة، لكنها لم تصبح بناءً راسخًا في واقعنا أو عصرًا ممتدًا في تاريخنا له بدايات ونهايات. نعم امتلكنا خطابًا نهضويًّا لكننا لم نمتلك عصر نهضة حقيقيًّا نشير إليه، تداولنا دعوات للإصلاح الديني ولكننا لم نمتلك أبدًا عصرًا إصلاحيًّا، تجادلنا حول العقلانية ولكن دون بلوغ العقلانية، خصوصًا التجريبية، راجت بيننا دعوات للعلمانية لكن لم ترقِ أي من دولنا لمستوى الحكم المدني، وأخيرًا لاكت ألسنتنا مصطلح التنوير لكن من دون أن نعيش عصرًا تنويريًّا، ولذا فإننا لم نتجاوز القضايا الفكرية التي أثارها هؤلاء الرواد منذ القرنين، فالعقلانية التي شغلتهم لا تزال همنا، والعلمانية التي أرهقتهم لا نزال نخشى منها، والوحدة القومية التي راودتهم يومًا صارت محض أوهامنا، أما الديمقراطية التي مارسوها زمنًا ولو قصيرًا فباتت فريضتنا الغائبة، بل إن مواقفنا اليوم إزاء كثير من القضايا العملية تبدو أكثر رجعية عما كانت قبل قرن كامل، فمن كان يتصور حينما بُنيت مدرسة الفنون الجميلة أوائل القرن العشرين أن يأتي من يحرم الرسم والنحت في مطلع الحادي والعشرين، ومن كان يتخيل في ستينيات القرن الماضي أن يعود لباس المرأة هاجسًا مؤرقًا في الربع الأول من القرن الحالي، وبعد أن كان بعض زوجات شيوخ الأزهر يرتدين الزي المحتشم دون غطاء رأس كعموم المصريات، أصبح غطاء الوجه الذي يطمس الشخصية الإنسانية برمتها (النقاب) يجد أنصارًا يدافعون عنه، ناهيك عن فوائد البنوك التي لا يزال بعضنا يصمها بالربوية ويدعو لأنظمة ادخار بديلة غالبا ما تفضي إلى كوارث من قبيل شركات توظيف الأموال. وعلى المنوال نفسه يثور الجدل حول الفنون السمعية والبصرية كالأغاني والموسيقى، التي بات البعض يراها رجسًا من عمل الشيطان، وغير ذلك من قضايا عملية كانت محسومة، لكنها عادت مجددًا لتكشف عن مدى ترددنا الحضاري.
فكر نهضوي بلا عصر نهضة عربي.
كانت النهضة الأوروبية بمثابة ظاهرة تلقائية في التاريخ الغربي، امتدت بين القرنين (الرابع عشر، والسادس عشر) ترافقت النهضة مع حركة الكشوف الجغرافية التي مثلت قطيعة مع صورة الغرب الذهنية عن العالم القديم بحدوده المألوفة، وساهمت في انطلاقه نحو العصر الحديث الذي ارتبط (اسميًّا) ببزوغ العالم الجديد في الأمريكتين؛ فالإنسان الغربي إذا تمكن من تحطيم حدود الجغرافيا العالمية شعر بالقدرة على تحطيم قيود العصور الوسطى التي ارتبطت بتركيبة (اجتماعية، اقتصادية، سياسية، وعلمية) راكدة، مسكونة بالخرافة ومحكومة بالاستبداد، تنازع الهيمنة عليها الملوك الأقوياء ونبلاء الإقطاع والكنيسة الكاثوليكية، تحت غطاء الحق الإلهي المقدس في حكم الشعوب. ولَّدت الكشوف الجغرافية في العقل الغربي الحديث نوعًا من الثقة، وحدًا من الجرأة بثت فيه روح الاكتشاف والمبادرة: اكتشاف الأفكار، المعارف، والتجارب المنثورة في ثنايا التاريخ، الذي جرى تحطيم صورته الميتافيزيقية المتعالية وسردياته الغامضة (الكبرى، والصغرى) مع تحطيم أستار الجغرافيا الحاضنة له، الأمر الذي مكَّن الوعي الأوروبي من طرح أسئلة جديدة تمامًا بل ثورية على تاريخه، وأتاح له مساءلة أنماط بنائه الاجتماعي، وتنظيمه السياسي، ووعيه الموروث، إنها الأسئلة التي غذَّت قدرته على كسر سياجات الكهنوت الديني وإطلاق حركة الإصلاح البروتستانتي، التي أفضت بدورها إلى ميلاد الدولة القومية وتدشين مسار العلمانية، ومن ثم إلى قصر الدين على المجال الروحي، وانبلاج عصر التنوير فالحداثة.
وفي المقابل، لا يمكن لأحد أن يدعي استقلالية حركة النهضة العربية، التي انطلقت في ظل الحكم العثماني الطويل والبليد، بعد أن كان قد تم تجفيف منابع الحيوية المجتمعية سواء على مستوى النشاط الفكري أو حتى على صعيد المهن العملية والحرف اليدوية، ومن ثم تلاشت الدوافع الداخلية للتغيير، فلم تصدر محاولات نهوضنا عن حركة ذاتية ضمن تجربة تاريخية تتطور بثقة، بل جاءت في سياق دفاعي حكمه الخوف والرغبة في اللحاق بالغرب؛ حدث ذلك لأن العرب لم يشاركوا في الكشوف الجغرافية إلا بقدر المشاهدة عن بُعد وربما دون اهتمام؛ ولأنهم أيضًا ظلُّوا بعيدين عن الثورة العلمية التي أعادت تنظيم وصياغة طرائق التفكير في ظواهر الطبيعة وفي بنية المجتمع القائم. ومن جماع العجز عن تحقيق القطيعة الجغرافية مع صورة المكان القديم، وكذلك القطيعة المعرفية مع أنساق الفكر التقليدي، سواء النقلي الصوري أو الخرافي الأسطوري، بقي الوعي العربي عاجزًا عن إنجاز قطيعة تاريخية كلية مع المعمار الفكري للعصر الوسيط، أسيرًا للرؤية التقليدية للوجود حتى القرن التاسع عشر على الأقل، بما تنطوي عليه تلك الرؤية من أشكال ممارسة السلطة، وتنظيم المجتمع، وإدارة المجال العام.
أفضى ذلك الواقع إلى إحساس عميق بالتردد لدى رواد الفكر العربي، حتى أبرزهم فعلى سبيل المثال: كان “رفاعة الطهطاوي” رائدَ هذا الفكر في مصر، يقرظ كثيرًا مشروع محمد على باشا للتحديث السلطوي المنفتح على الحضارة الأوروبية، والذي لم يكن يخشى سيطرة الغرب قدر انشغاله باللحاق به. وفي رؤية ثاقبة لمعطيات التطور الإنساني، يعلن ثقته في العقل الإنساني وقدرته على التحسين والتقبيح قائلًا في موقف معتزلي واضح: “إن الله قد أكرم الإنسان وزينه بالعقل الذي يميز بين الحسن والقبيح، والضار والنافع، والخطأ والصواب، وجعل سبحانه وتعالى الإنسان المتصف بالقريحة الذكية والملكة القوية، موفقًا لتحصيل العلم واستفادته واستنباطه” (رفاعة الطهطاوي، الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، ص400). وامتدادًا لهذا الموقف يمنح ثقته، دون تحفظ لـ(الأسباب) التي توجب عنده وجود(المسببات) وهو يسمى هذه الأسباب “النواميس الطبيعية التي وجدت قبل الشرائع والأنبياء، وهدت البشرية أزمانًا بواسطة الحكماء، وقامت على أسسها حضارات قدماء مصر والعراق وفارس واليونان، ثم جاءت الأنبياء والرسل والشرائع بما لا يخرج عن هذه النواميس الطبيعية” (نفسه، ص479).
لكن هذا لم يكن إلا وجهًا واحدًا من جانبي الصورة، أما الوجه الآخر منها فكان مترددًا بل محافظًا تجاه حرية الإرادة الإنسانية؛ إذ سرعان ما تراجع الطهطاوي إلى موقف أشعري عندما تحدث عن الفعل الصادر من الإنسان، مؤكدًا على أنه ليس فاعلًا له “إن الفعل لله حقيقة، ولغيره مجازًا” وأن “قسمة الحظوظ قد تمت في سابق الأزل” وأنه “لا تبديل ولا تغيير في ذلك” (نفسه، الجزء الأول، ص324، 396). وكذلك أبدى الطهطاوي تراجعًا عن شعوره بالثقة في العقل الإنساني؛ إذ يقول: “ليس لنا أن نعتمد على ما يحسنه العقل أو يقبحه إلا إذا ورد الشرع بتحسينه أو تقبيحه، فالعدل- مثلًا- قد حسَّنه الشرع والطبع، وإن كان تحسين النواميس الطبيعية لا يُعتد به إلا إذا قرَّره الشرع”. وأنه “لا عبرة بالنفوس القاصرة الذين حكَّموا عقولهم، بما اكتسبوه من الخواطر التي ركنوا إليها، تحسينًا وتقبيحًا” (نفسه، الجزء الثاني: 477، 387). لا يكشف الطهطاوي هنا عن تناقض بسيط يمكن أن نؤاخذه شخصيًّا عليه، بل عن تناقض عميق يشي بالطابع الأساسي لفكر النهضة العربي كله.
هذا التناقض نجده ولكن صورة أقل حدة، يكاد يأخذ صورة التردد لدى الإمام/ محمدعبده، الذي وصل بالفكر النهضوي إلى ذروته المنهجية بنهاية القرن التاسع عشر، مؤكدًا على أن ثمة أصولًا ثلاث من خمس يقوم عليها الإسلام، تسهم في شق مجرى عميق للعقلانية: الأصل الأول هو النظر العقلي لتحصيل الإيمان. والأصل الثاني هو البعد عن التكفير، فإذا صدر قول من قائل يتحمل الكفر من مئة وجه ويتحمل الإيمان من وجه واحد حُمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر. أما الأصل الثالث فهو تقديم العقل على ظاهر الشرع، فالنص لا يمكنه أن يتعارض مع العقل، فإذا ما تبدى تناقضٌ كان بالضرورة “ظاهريًّا”، يفرض تحكيم العقل فيه، ليس لأن ثمة خطأ في النص ولكن لأن فهمه قد استغلق على الذهن، ومن ثم وجب التأويل بحسب قواعد اللغة العربية، حتى لا نقع في آفة التلوين. (الإسلام دين العلم والمدنية، ص130).
لكن الرجل استمر يفهم دور العقل كأداة استدلال على حقيقة قائمة وكامنة، تنتظر الاكتشاف فقط، مصدرها إلهي بالطبع، وليس باعتباره منتجًا لمعرفة جديدة، حقائق أصلية عن الطبيعة والعالم مصدرها الإنسان لا النص المقدس، وهي سمة كل تفكير ديني كلامي، يرى للحقيقة مصدرًا واحدًا، يمكن تأويله، ولكن دون الخروج من فلكه وإلا صرنا أمام تفكير فلسفي خالص. وفي كتابه (رسالةالتوحيد) يتحرز الإمام من التفكير في ذات الخالق؛ لأنه “طلب للاكتناه، ممتنع على العقل البشري لانقطاع النسبة بين الوجودين”. ومن ثم يصل إلى نوع من التسليم العقلاني قائلًا: “فالذي يوجبه علينا الإيمان هو أن نعلم أنه موجود لا يشبه الكائنات، أزلي أبدي حي عالم مريد قادر متفرد في وجوب وجوده، وفي كمال صفاته وفي صنع خلقه، وأنه متكلم سميع بصير، وما يتبع ذلك من الصفات التي جاء الشرع بإطلاق أسمائها عليه” (ص55، 56).
هذا النمط العقلاني يمكن وصفه بالتوفيقي، ويسبق العقلانية التجريبية، بما هي شكيَّة وتحليلية، تدور حول العالم الطبيعي وتنبع من أفق إنساني، والأغلب أن يكون خطوة على طريقها، ولعل هذا ما جرى في التجربة الغربية بالذات، فعقلانية الإمام التوفيقية تشبه في أحد وجوهها عقلانية ديكارت المثالية؛ فالمعرفة لدى ديكارت لا تقوم إلا على الأفكار الواضحة والمتميزة، ومصدرها الأفكار الفطرية، التي تراوح لديه بين بديهيات الرياضيات وقوانين الفكر والقضايا الواضحة بذاتها كمفهوم العلية؛ ولأن ديكارت مفتون بالبديهيات الرياضية، فقد جعل اليقين الرياضي معيارًا للصدق المعرفي. تبدأ المعرفة بأكثر الحقائق وضوحًا وبساطة، والتي لا يمكن الشك فيها، ثم التقدم منها خطوة خطوة على طريق البرهان نحو أعقد الحقائق، هكذا يفهم العقل القضايا بطريقة حدسية واضحة مثلما يفهم بديهيات الهندسة. والحدس لدى ديكارت يتعلق بالذهن الصافي، فهو نظرة من نظرات العقل بلغت من الوضوح مبلغًا يزول معه كل شك، وقد رأي ديكارت “أن الكون المادي جامدٌ، ليس بوسعه إخبارنا بشيء عن الله، وأن الشيء الحي الوحيد هو النفس التي تفكر، وعلينا البحث عن اليقين القاطع داخلها؛ ولأن من المحال لكائن محدود أن يكون قد أدرك فكرة الكمال من خلال جهوده الخاصة، فالاستنتاج المنطقي هو أن فكرة الكمال وضعتها داخلي طبيعة أكثر كمالًا مما عليه طبيعتي، يوجد داخلها جميع أنواع الكمال التي يمكنني تكوين فكرة عنها، إنها الله”. (تأملات في الفلسفة الأولى، ص124، 125).
خطاب عقلاني من دون عصر تنويري.
لم يتصور ديكارت إمكانية المعرفة إلا انطلاقًا من وجود الله وتأسيسًا على وجوده، ولذا كان الشك الديكارتي شكًا تكتيكيًّا لتأكيد يقين قائم وليس شكًا فلسفيًّا للبحث عن حقيقة مفقودة، ولعل هذا الوجه هو جوهر تشابهه مع الإمام، والذي جعل منه فيلسوفًا مثاليًّا، يبدأ العقل عنده بمسلمات، ولكن مع تغيير في مضمون تلك المسلمات من العقائد الإيمانية الدينية إلى البديهيات الرياضية، ولكن عقلانية الإمام تتفوق على ديكارت من وجه آخر، وهو عدم ادعاء القدرة على البرهنة على وجود الله، أو حتى معرفة كنهه. يبدو الإمام هنا أقرب إلى موقف كانط النقدي الذي اعترف بعجز العقل عن تقديم أي برهان تجريبي على وجود الله، بفعل عجزه عن معرفة الشيء في ذاته، واكتفاءه بمعرفة الظواهر، والتي تشبه هنا صفات الله لدى الإمام، وكلا الموقفين أكثر عقلانية من ديكارت، الذي زعم أن فكرة الله واضحة لديه بمثل وضوح قاعدة هندسية: “إن مجموع زوايا المثلث يساوى قائمتين، وإن الله موجود، هما قضيتان متعادلتان في اليقين” (نفسه، ص25).
هكذا كان موقف الإمام أكثر عقلانية من ديكارت، لكنه كان أقل عقلانية من كانط؛ فالأخير طور موقفه اللاأدري من الله إلى المبدأ النظري القائل بـ (ثنائية الحقيقة)، أي وجود حقيقتين أصليتين (دينية، وعقلية) تمتلك كلتاهما مشروعيتها الذاتية، وتنشد مجالًا مختلفًا عن مجال الأخرى، وهو موقف لم يبلغه الإمام، رغم أن ابن رشد كان قد سبقه إليه سيرًا على الطريق الأرسطي، وهو الموقف الذي يمثل مكمن تفوق ابن رشد الفلسفي على الإمام، وعلى المعتزلة، وسائر المتكلمين الذين اكتفوا بمحاولة تفتيح أفق النص القرآني إلى أبعد مدى ممكن عبر التأويل ولكن دون الخروج عن فضائه، بحثًا عن حقيقة أصلية موازية. اليوم، نعلم أن التشابه بين عقلانية الإمام وعقلانية ديكارت، بل تفوق الإمام الجزئي على ديكارت، إنما يتناقض مع المآل الذي آلت إليه العقلانيتان (الغربية، والعربية) فيما بعدهما؛ فالأولى: انطلقت من المثالية الديكارتية نحو العلم التجريبي. أما الثانية: فلم تزل تدور حول نفسها منذ القرن وربع القرن، والسر يكمن في السياق التاريخي المحيط بكلتيهما، الذي أكمل الأولى وقمع الثانية.
لقد تبدت حركة العقل الغربي نحو الحداثة وكأنها رحلة سير في أرض بِكر، تمثل فيها الفلسفات المثالية الذاتية، والمثالية التجريبية/ النقدية، والوضعية المادية ما يشبه (حركة كشوف عقلية)، تتوازى مع حركة الكشوف الجغرافية، أنتجت وعيًا جديدًا بالكون وفي القلب منه العالم الطبيعي، ولذا دار جدل الفكر الغربي حول مفهوم الحقيقة، وتشكلت جل تياراته عبر تبنيها لأحد المذاهب الأساسية في نظرية المعرفة، والموقف الذي كانت تتخذه في مقاربة الثنائيات الجدلية الأصلية على منوال: العقل والإيمان، العلم والدين… إلخ. وفي هذا السياق، تبلور تيار تنويري راديكالي معادي للدين بالضرورة، وآخر معتدل لا يعاند الدين ولا يفترض الإلحاد شرطًا للعقلانية، وقد تشابكا هذان التياران وعبرا عن نفسهما في تقاليد ثقافية محددة فمثلًا، مال التنوير الإنجليزي إلى الحكمة والاعتدال، ولم يجرِ التصريح بالإلحاد إلا في حالات نادرة، وهو الملمح نفسه لدى ربيبه (التنوير الأمريكي) الذي مال إلى التأليه الطبيعي، والتسامح الديني، والدمج بين النجاح الدنيوي والتدين العملي. أما التنوير الفرنسي: فغلبت عليه تيمة الشك؛ حيث جرى تفكيك صورة الإله المسيحي والاكتفاء بالتأليه الطبيعي أحيانًا، والتصريح بالإلحاد وإنكار فكرة الإله أحيانًا أخرى. أما التنوير الألماني: فشهد مراوحة شديدة بين التنوير المعتدل في القرن الثامن عشر، وبين التنوير المادي الذي أنكر الإله وألَّهَ الإنسان في التاسع عشر.
وفي المقابل، لم يتوفر للعقل العربي سواء الحديث أو المعاصر طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين، وما انسرب حتى الآن من قبضة القرن الحادي والعشرين، فرصة لإنتاج تصوراته عن الواقع بشكل حر وعلى مهل، بل أنتجها في مواجهة ضغوط شديدة أفرزها تقليدان صوريان، كلاهما غريب جوهريًّا عن واقعه وما يزخر به من مشكلات: التقليد الأول يتمثل في الموروث الذاتي القديم، الذي غذَّى وألهم النهضة الحضارية الأولى، وقد استمرت قرونًا طوال، وتركت فينا بصمات نفسية عميقة ليس أقلها الشعور بالمجد الغابر وما يتولد عنه من اعتزاز بالنفس وتمسك بالهوية. والتقليد الثاني: هو الثقافة الغربية الحديثة، التي تحولت إلى مرجعية أساسية للثقافة الإنسانية كلها منذ عصر التنوير، فأخذنا ننقل عنها ونحتكم إليها منذ نحو القرنين، حتى إن تيارًا أساسيًّا لدينا قد تبناها بالكلية، واعتبرها مصدرًا وحيدًا لإلهامنا، إيمانًا منه بجدارتها المطلقة.
في ظل الضغط القادم من هذين المصدرين، ظل التنوير العربي مشروعًا مقموعًا وإشكاليًّا؛ مقموعًا لأنه لم يتجسد في تجارب منجزة بل فقط في خطابات نظرية لدى بعض مفكرينا، وتجارب خجولة ومحاولات متعثرة لدى بعض مجتمعاتنا ولفترات زمنية قصيرة سرعان ما تم النكوص عنها، وإشكاليًّا لأنه حتى عندما تبلورت خطاباته الفكرية في تيارات مختلفة لم يحدث ذلك التبلور في سياق الجدل مع مفهوم الحقيقة ذاتها، أي عبر التساؤل عن حدود المعرفة (مطلقة، أم نسبية)، وعن مصادر المعرفة (العلم والتجربة، أم النص والكتاب المقدس)، بل إن ذلك التبلور جاء من خلال التفكير في قضية الهوية، أي في سياق العلاقة مع الغرب؛ فعلى عكس النهضة العربية الأولى، حيث كانت الثقافة الإسلامية حية ورائدة، تطرح على نفسها مشكلات عالمها وواقعها، باتت الثقافة العربية في نهضتها الثانية، التي تلت الاحتلال العثماني فالأوروبي، تنظر إلى مفهوم الحقيقة باعتباره الحداثة، وإلى الحداثة باعتبارها الغرب، فبات الموقف من الحقيقة هو عينه الموقف من الغرب؛ فأن تكون تنويريًّا راديكاليًّا يعني إنك تحابي الغرب إلى درجة الذوبان فيه، تقبل بحضوره الطاغي دون شروط (تغريبيًّا)، وأن تكون تنويريًّا معتدلًا يعني أن تقبل بالجدل معه، أن تقبله بشروط، بغية التوفيق بين حداثته وأصالتك. أما رفض الغرب كليًّا فيعني أنك خارج إطار التنوير، سلفيًّا رجعيًّا تتخلى عن الحداثة مقابل الحفاظ على الأصالة. هكذا، وبدلًا من أن يكون لدينا تيار تنويري راديكالي، وآخر نقدي، حسب نمط العقلانية السائد، بات لدينا تيار تغريبي، وآخر توفيقي وثالث سلفي حسب تصور الهوية الغالب، ولذا دار جدلنا الفكري في فلك ثنائيات مستعارة عكس الجدل الثقافي الغربي الذي دار حول ثنائيات أصلية.
وعلى سبيل المثال، يمكن أن نقارن هنا بين الثنائيات التي أسس لها كانط (رمز التنوير الأوروبي المنجز)، وبين ثنائيات زكي نجيب محمود (رمز التنوير العربي الإشكالي)؛ قارب كانط مفهوم الحقيقة مباشرة من خلال نزعته “النقدية” عبر ثنائيات: الاستدلال المنطقي والاستقراء التجريبي، الشيء في ذاته وعالم الظواهر، الطبيعة وما بعد الطبيعة، أما زكي نجيب محمود، فقارب الغرب نفسه وليس الحقيقة مباشرة، من خلال نزعته “التوفيقية” عبر ثنائيات: التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة، العرب والغرب. ولهذا نجح كانط في توجيه الفكر الغربي نحو عقلانية ليست مادية بالضرورة، وأخفق زكي نجيب محمود في توجيه الفكر العربي نحو حداثة ليست متغربة بالضرورة.
دعوات للإصلاح الديني دون عصر إصلاحي.
دعا الإمام/ محمد عبده، في نهاية القرن التاسع عشر، إلى إصلاح ديني إسلامي، مثلما دعا القس المسيحي مارتن لوثر إلى إصلاح ديني مسيحي مطلع القرن السادس عشر. لم تكن دعوة الإمام المصري في السياق العربي أقل عمقًا من دعوة المصلح الألماني في السياق الأوروبي، بل كانت أكثر طموحًا منها، كان دافع لوثر الأساسي هو صراعه الشخصي مع البابا، وهاجسه إصلاح البابوية، وحلمه الأكبر منعها من الاتِّجار بقضية الخلاص، وبيع صكوك الغفران، لكنه على الصعيد العقدي ظل يدور في فلك مفهوم الخلاص التقليدي، عبر الإيمان لا الأعمال؛ فالتبرير لديه استمر كما كان لدى القديس بولس، نعمة يمنحها الله لمن شاء من المؤمنين، وليس بالعمل الصالح، ولا بالإرادة المنفردة، حتى إن لوثر ومن بعده من المصلحين البروتستانتيين الكبار خصوصًا (جون كالفن، وزوينجلي)، لم يبلغوا الأفق التحرري الذي بلغه المذهب الإنساني، خصوصًا لدى الهولندي “إيراسموس” قبلهم بنصف قرن.
أما الإمام فقدم تأويلًا جديدًا لرسالة التوحيد، يبعث الطاقة الثورية الكامنة في المفاهيم القرآنية حول: الألوهية، والنبوة، والإنسانية. فالألوهية قوة خلق سامية، تتسم بالتنزيه، فلا توثين ولا تجسيد، وتتصف بالقدرة والعلم والإرادة. والنبوة تخلو من شوائب القداسة، تؤكد على إنسانية الرسول، الذي لا يملك أية طبيعة مفارقة، وليس له على المسلم سوى سلطة التبليغ، والتمييز واضح وضروري بين عاداته الشخصية غير الملزمة، وسننه التشريعية الملزمة. والإنسان كائن حر مريد، فيه قبس من روحه، هو مناط استخلافه في الأرض. رأى الأمام أن إحياء تلك المفاهيم القرآنية التي جرى طمسها تحت ركام الاستبداد والقهر والخرافة، يكفي لتوفير ممكنات العقلانية والحرية، كرافعتين للتقدم الحضاري والتمدن الإنساني.
لكن فيما أثمرت دعوة لوثر، ظلت دعوة عبده قاحلة، والسر في السياق الحضاري الذي وردت فيه الدعوتان؛ لقد تحولت دعوة لوثر إلى حركة دينية واسعة، أفضت إلى تشكيل دول قومية علمانية، حيث تلقفها ودعَّمها الأمراء الألمان والباحثون آنذاك عن طريق بناء كنائس وطنية، تستقل عن البابوية؛ كي تبرر لهم الاستقلال بكياناتهم السياسية الوليدة عن الإمبراطورية الرومانية، كما اغتنت بأفكار فلاسفة العقد الاجتماعي، الذين نزعوا عن السلطة قدسية الحق الإلهي، وأسسوا لشرعيتها في مجرد تعاقد دنيوي بين بشر متكافئين، بدافع مصلحي هو الخروج من حالة الطبيعة الهمجية إلى أفق مجتمع متمدين، يلتصق أعضاؤه معًا بصمغ الإرادة الحرة، التي يحرسها قانون عادل بدلًا من صمغ القوة العارية التي يمارسها بشر همجيون، إنه الطريق الذي سار عليه (توماس هوبز، جون لوك، وجان جاك روسو) مع فارق يذكر في مستوى التحرر لدى كل منهم؛ حيث ظلت علمانية هوبز متصالحة مع الاستبداد السياسي، تنحاز للملك على حساب الكنيسة والمواطنين. فيما راوح روسو بين الشمولية والديمقراطية، بفعل مفهومه المراوغ عن الإرادة العامة وطرائق تجسيدها. أما جون لوك فكرس للحكم المدني والعلمانية الليبرالية، التي مثلت ولا تزال الأساس المتين لشتى أشكال الديمقراطية التمثيلية.
أما دعوة عبده، فانتكست بفعل الجمود المهيمن على التاريخ العربي، فما إن رحل مطلع القرن العشرين 1905، إلا وانقسم خلفاؤه وأتباعه حول فكره الإصلاحي بين تيارين: التيار الأول، كان استمرارًا له، ممثلًافي: أحمد لطفي السيد، عباس العقاد، وبالأساس في الشيخ/ علي عبد الرازق، ذلك الشيخ المستنير الذي كتب مؤلفه الشهير “الإسلام وأصول الحكم” في 1925، أي بعد وضع دستور 1923 بعامين، وتشكيل أول حكومة وفدية بعام واحد، وفي مناخ أتلفته رغبة الملك فؤاد في استيراد الخلافة بعد سقوطها في إسطنبول، مارس الرجل إزاء فكرة الخلافة منهجًا تاريخيًّا نقديًّا، نفى بمقتضاه مشروعيتها الدينية، وحررها من المسحة القدسية، مؤكدًا على أنها مجرد شكل ضمن أشكال الحكم المتعاقبة في تاريخ الإسلام. يقول الشيخ: “لم نجد فيما مر بنا من مباحث العلماء الذين زعموا أن إقامة الإمام فرض من حاول أن يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم، ولعمري لو كان في الكتاب دليل واحد لما تردد العلماء في التنويه والإشادة به”. ويضيف جازمًا: “ليس القرآن وحده هو الذي أهمل تلك الخلافة ولم يتصد لها، بل السنة كالقرآن أيضًا، قد تركتها ولم تتعرض لها”. بل يصل بجرأة استدلاله، واستعراضه لمراحل صعود الخلافة وتدهورها، إلى تقرير أنها عقد يحصل بالمبايعة من أهل الحل والعقد لمن اختاروه إمامًا للأمة بعد التشاور بينهم، تبعًا لمصلحة الأمة، ما يعني أصلها الاجتماعي ومرجعيتها الدنيوية. انطلقت تيارات فكرية رجعية لتفترس الرجل على النحو المعروف، تتهمه بالعلمانية، رغم أنه لم يصرح بهذا المصطلح، وإن اقترب منه حتى كاد يلمسه، والحق إننا نرى في الاتهام سبقًا نقرظ الرجل عليه، خصوصًا وأن فهمه للعلمانية اقتصر على علمنة السلطة، وعلى الحياد الديني لنظام الحكم ومؤسسات الدولة، وعلى تنظيم العلاقة الأفقية بين المواطنين على أساس الدستور والقانون، أي على العلمنة السياسية المعتدلة وليست العلمنة الوجودية، التي تقول بعلمنة الأخلاق مع السلطة، وتبدي رفضًا للقيم الروحية، وفهمًا ماديًّا للوجود.
انتهت المعركة حول الكتاب بالمنع، وحرمان مؤلفه من وظيفته إلى حين (فيما يشبه الحرمان الكنسي للمهرطقين المسيحيين في العصور الوسطى وحتى بداية العصر الحديث). والحقيقة أن المعركة كشفت عن هشاشة الممارسة الليبرالية، الناجمة عن هشاشة القاعدة الاجتماعية – الاقتصادية بفعل الافتقار إلى المكون العلمي التكنولوجي والتخلف الهيكلي في بنية المجتمع المصري؛ إذ لم تكن هناك حاضنة ثقافية حقيقة أو كتلة مجتمعية واسعة قادرة على أن تشكل رأيًا عامًّا خارج السلطة والأحزاب يحمي الحرية الفكرية لعلي عبد الرازق أو لطه حسين في معركته حول كتاب “في الشعر الجاهلي” أو غيرهما. فمع غياب طبقة وسطى عريضة، تشكل سياجًا عريضًا يشبه الغضاريف والعضلات بين عظام السلطة الصلب، ودماء الجماهير الرخوة، تظل العلاقة بين المثقف منتج الفكر، وبين الحكم صاحب السلطة، هي العلاقة نفسها بين الفرعون والكاهن في الزمن القديم، أو بين الفقيه (الشاعر)، وبين السلطان (الأمير) في العصر الوسيط. علاقة تحدها العصا من ناحية والجزرة من الأخرى، فليبرر الفقيه من وحي القرآن وينشد الشاعر من وحي الخيال بغية الحصول على الجزرة، وإلا فهي العصا. والنتيجة أن مفكرًا أو كاتبًا، لم يستطع الاستقلال عن شبكة السلطة والثروة من حوله اللهم إلا إذا كان من الزاهدين، وهم بالقطع قليلون، وحتى هؤلاء ممن لا يجذبهم العطاء فإن العصا تخيفهم، خاصة في ظل وجود قانون ازدراء الأديان وما يشبهه في كل عصور الإسلام، والمحامين الجاهزين لرفع قضايا الحسبة، وكذلك الفقهاء الجاهزين بفتاوى تشي بالخروج عن أصول الشرع الحنيف، وهنا تفتح أبواب الزنازين، وربما المقابر نفسها فيما لو تطوع موتور عقلي بتنفيذ حكم الشرع، الذي أفتى به أحد علماء السلف أو حتى أمراء الإرهاب، على نحو ما كان ولا يزال.
أما التيار الثاني: فكان بمثابة انقلاب عليه، أفضى إلى تراجع إسلامه الحضاري التمدني أمام زحف الإسلام السياسي، وذلك عبر حلقتين متتابعتين: في الحلقة الأولى أعاد محمد رشيد رضا تأويل الإمام على نحو طمس مبدأه التنويري القائل بأولوية العقل على النص. اعتبر الشيخ السلفي نفسه أمينًا على مرجعية الرواد الإسلامية، فأعاد تأسيسها على أكثر قواعدها محافظة والتزامًا بالتقليد السني “إسلام أهل السنة والجماعة”، الذي نظر إلى الإسلام كمعطى جوهري ثابت المعنى، لا يقبل الاختلاف أو التعدد، ولا يخضع لمقتضيات النزعة التاريخية؛ إذ يكفي أن نعود إليه كي ننهض دونما حاجة لإضافة عناصر غريبة عنه فإما أن نأخذه كله أو نرفضه كله. بعد أن كان الرجل في حياة الإمام يتحدث عن نمط من “السلفية المحدثة” تصوره باعتباره جهدًا تركيبيًّا بين مستجدات العصور الحديثة وقيمها التي توجه حضارتها وبين الأصالة العقدية المتمثلة في “السلفية التاريخية”، التي تشكلت خلال عصور الإسلام الممتدة، خصوصًا بين القرن الثاني والقرن الرابع الهجريين، على أيدي جمهرة من الفقهاء والمحدثين، ثم استؤنفت واكتملت في القرن الثامن الهجري مع ابن تيمية.
وفي الحلقة الثانية قام حسن البنا، مستلهمًا كتاب رضا عن (الخلافة) 1922م، الذي أمعن في تقريظ الجامعة الإسلامية، بتحويل السلفية العلمية إلى حركية، بإنشاء جماعة الإخوان كتدشين حركي لإسلام حزبي يدعي مركزية الدولة في الشريعة، سرعان ما تصاعد مع سيد قطب وأبي الأعلى المودودي إلى إسلام جهادي مسلح يستلهم مفهوم “الحاكمية”. ومن ثم أخذت الجغرافيا العربية التي نحتها إسلام حضاري متمدن، تواجه العواصف العاتية لإسلام سياسي ظلامي يتقاتل أربابه حول المذهب والطائفة طلبًا للسلطة، لم يفقد الإمام خلفاء معاصرون جددوا دعوته بوسائل مختلفة وفي أوقات متفرقة، لكن الواقع السياسي طالما انحاز ضدهم، ودعم بسوء تقدير أو سوء نية، مشروع الإسلام السياسي، الأمر الذي أحبط، ولا يزال يعوق، انبلاج عصر إصلاحي رغم كل الشعارات المرفوعة والخطابات الهائمة.