2024العدد 200عروض كتب

الحرب الباردة الجديدة:الولايات المتحدة وروسيا والصين من كوسوفو إلى أوكرانيا

أطلق غزو روسيا لأوكرانيا، على نحو مفاجئ، فيضانًا من التعليقات على شكل العلاقات الدولية بطول خط الشقاق الجيوسياسي بين الشرق والغرب، وهو فيضان لا يزال متدفقًا، وقد هيمنت بالطبع على هذه التعليقات الإشارة إلى حرب باردة جديدة.

وإنها لمفارقة مدهشة، في وقت يشهد بلوغ العداوة بين روسيا والغرب الجيوسياسي ذروته، تعادل أكثر لحظات الحرب الباردة إثارة للقلق، فالعديد من المراقبين راحوا يعلنون عن حرب باردة جديدة.

وبالنسبة للكتاب فهو مقسم إلى قسمين: القسم الأول منه، يتحدث عن نشأة الحرب الباردة، ويبدأ الحديث في هذا الموضوع بالولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث تقوم خيارات وزارة الدفاع الأمريكية على سيناريوهات تحدد الأعداء الفاعلين الذين يتعين أو يتلاءم معهم إستراتيجيتها العسكرية أو بمعنى أصح من يعمل لهم حساب في أجندتهم الدفاعية، وذلك ضمن التقليد الأمريكي المتمثل في التحليل الذي يفترض أسوأ الحالات، ومن هنا جاء السيناريو الأقصى للحرب الباردة المتمثل في خوض حرب مزدوجـــــــــة، أي حرب كبرى ضد الاتحاد السوفيتي بالتزامن مع حرب محدودة في شرق آسيا بوجه خاص ضد (الصين أو كوريا أو فيتنام). ومن هنا أيضًا، جاء بالسيناريو الرسمي الوارد في إعادة النظر الشاملة والتجربة في خوض حربين محدودتين أو نزاعين إقليميين كبيرين يجري شنُّهما على نحوٍ متزامن ضد (كوريا الشمالية أو إيران أو العراق)، غير أن الواقع هو أن القدرة العسكرية التي تمتلكها الولايات المتحدة حاليًّا تبدو غير متناسبة على الإطلاق مع هذا السيناريو الأخير.

إذًا ما هو السيناريو الذي تستند إليه خيارات واشنطن العسكرية؟ هاجس بعض النقاد الأمريكيين يشير إلى أن بوسعهم الإجابة عن هذا السؤال بالإشارة إلى تصور شائع حاليًّا عن العالم، يقوم على الثالوث الاقتصادي المكون من (الولايات المتحدة، ألمانيا، واليابان) فهاجس واشنطن من أن تعمل قوة البلدين الاقتصادية منافسًا للولايات المتحدة، وقد يشكل امتدادًا عسكريًّا، هذا وتستند عادة الصياغات المختلفة لهذه الأطروحة إلى مشروع النص التوجيهي الشهير المعروف باسم “دليل التخطيط الدفاعي” الذي أعده البنتاجون زمن جورج بوش، والذي جرى تسريب أجزاء منه إلى الصحافة في مارس 1992، وهذا المشروع دعا إلى تثبيت البلاد المتقدمة صناعيًّا ليس فقط عن محاولة منافسة الولايات المتحدة، ولكن حتى عن الطموح إلى لعب دور عالمي أو إقليمي أكبر.

هذه الصياغة أغضبت حلفاء أمريكا، واعتبروها أنها تتسم باللاعقلانية، وتحول دون تمتعها بمصداقية كاملة.

وعلى كل لم يحدث أي شيء يعكر صفو العلاقات بين (الولايات المتحدة واليابان وألمانيــــــــــــــا، أو الاتحاد الأوروبي) على نحو يؤكد مخاوف واشنطن المزعومة من أي زيادة في دورها العسكري، بل على النقيض من ذلك.

وبقول الكاتب أنه من أجل صياغة عقلانية لإستراتيجية الولايات المتحدة في السيطرة على العالم، لا يوجد سوى عدوين معلنين للهيمنة الأمريكية، وحجمهما الاقتصادي يجعلهما في موضع المقارنة مع الولايات المتحدة، هذان المنافسان ستكون المواجهة العسكرية معهما بكل تأكيد أكبر من مجرد لعبة حرب بالذخيرة الحية مثلما كانت الحروب السابقة مثل: حرب الخليج مثــلًا، وهذان العدوان المحتملان هما بالطبع (روسيا، والصين)، وكل منهما قوة هائلة في حد ذاتها.

ويشير أيضًا أنه، في حين أن الروابط بين (الولايات المتحدة، أوروبا، واليابان) تزداد قوة بالرغم من بعض التوترات، فإن القوتين العظميين الأخريين (روسيا، والصين) فينتابهما ارتياب متزايد إزاء نوايا الولايات المتحدة الأبعد أجلًا، وهما تشعران أيضًا بأنه لا يجري التعامل معها كقوتين عظميين، ويشاورهما أيضًا القلق بشأن محيطهما:-

  • روسيا بشأن بلدان الخارج القريب (بلدان الاتحاد السوفيتي السابق) الذي يسكنه 25 مليون من ذوي الهُوية الإثنية الروسية.
  • الصين بشأن المناطق التي تعتبرها جزءًا من الأراضي الواقعة تحت سيادتها مثل: تايوان، وهونج كونج.

فكلاهما يودان تجنب النزاع خشية أن يعيق التنمية الاقتصادية؛ ولذا فقد غضوا البصر عن مراقبة الولايات المتحدة لهما (سياسيًّا، عسكريًّا، وأيضًا اقتصاديًّا) بشكل مباشر خلال هذا العقد أو حتى العقد المقبل.

أما القسم الثاني من الكتاب فعنوانه: كيف تطورت الحرب الباردة الجديدة.

فيبدأ الكاتب حديثه في هذا الجزء عن روسيا وشنها الحرب على أوكرانيا في 24 فبراير عام 2022، بعد ثلاثة عشر عامًا تقريبًا من حرب كوسوفو، فظلت روسيا تحشد جنودًا وقوات لغزو محتمل وفي أي وقت لأوكرانيا، فهذه الأمور كانت واضحة للعيان والسؤال هنا، كيف تم التفاعل مع ذلك التأهب والحشد وذلك نحو الغزو؟ فبوتين لا يستطيع أن يتراجع دون إنجاز يستطيع الإشارة إليه كحلٍ وسط معقول، وهذا بالضبط ما فهمه بعض قادة الناتو في محاولاتهم تجنب الحرب، لكن إدارة بايدن لم تكن مستعدة للإنصات، وعلاوة على ذلك استبعد جو بايدن إمكانية جعل الصين تضغط على روسيا لصالح الحفاظ على السلام العالمي، وهو ما فيه مصلحتها الذاتية الاقتصادية.

وعلى الرغم مما سبق، فيقول الكاتب إنه لا يمكن إعفاء بوتين من مسؤولية قراره غزو أوكرانيا، وهذا عن طريق تحميل واشنطن نفسها المسؤولية بالإشارة لاتجاهها إلى خلق الظروف التي أدت إلى تصرفات فلاديمير بوتين، وهي لا تقلل من تداعيات قرار غزو أوكرانيا.

ثم يتناول الكاتب بعد ذلك فكر بوتين؛ حيث أشار إلى أنه يشعر بالحرية في التصرف على الساحة الدولية وفقًا لما اعتبره من مصالح روسيا، بما أن القوى الغربية بينت له مرارًا وتكرارًا أن من يملك القوة يملك الحق في نظرها، وأن معارضتها لتصرفات القوى الأخرى باسم الحق ليست سوى حالة صارخة من ازدواجية المعايير، (أفغانستان، العراق، ليبيا، وكوسوفو) كلها أمثلة على أفعال أحادية الجانب قامت بها الولايات المتحدة وحلفاؤها، سيظل يُشار إليها كلما أُثير تساؤل عن إجراءات أحادية الجانب اتخذتها روسيا، وقد كان بالتأكيد يقف على أرضية صلبة في إجرائه هذه المقارنة، حتى إن كان الخطأ لا يعالج إلا بالخطأ.

هذا وقد كشف بوتين إصابته بحالة من الإحباط وشعوره بالإهانة إلى حد ما؛ حيث كان يرغب في إجراء محادثات حول تسوية محتملة لعلاقات أوكرانيا مع كلٍّ من (الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأوراسي) لكن لم يرغب أحد في الاستماع إليه، وكان ردهم على بوتين هذا ليس من شأنكم، وكان هذا هو أحد التفاسير، الذي قدمه لموقفه العدائي تجاه أوكرانيا، فضلًا عن التفسير المعتاد لضم شبه جزيرة القرم باسم “الحق في تقرير المصير” مع التذرع بمثال كوسوفو.

ثم يسلط الكاتب بعد ذلك الضوء على التدخل الروسي في سوريا؛ حيث يسهل فهم حسابات بوتين عندما أمر قواته بالتدخل المباشر في سوريا، كانت روسيا سابقًا تواجه عقوبات غربية فرضت في أعقاب غزوها لشبه جزيرة القرم وتدخلها اللاحق في دونياس. وفي هذا الوقت، كان صعود تنظيم الدولة الإسلامية في: العراق، الشام، وفي سوريا “داعش” الذي سُمي بعد ذلك بالدولة الإسلامية، وانتشاره في عمق العراق في صيف 2014، وكان نتيجة لذلك هو تدفق اللاجئين من تلك الدول إلى أوروبا الغربية في صيف 2015، لا سيما في ألمانيا التي تستقبل أكثر من مليون لجوء في العام الواحد، بالإضافة إلى أن المملكة العربية السعودية لا تزال تضغط لإبقاء أسعار النفط منخفضة مما فاقم تأثير العقوبات على روسيا. في الوقت نفسه، كان نظام بشار الأسد مدعومًا حتى ذلك الحين بتدخل مباشر من إيران ومعاونيها الإقليميين، مما يظهر علامات تعثر في مواجهة المعارضة المسلحة المدعومة بشكل أساسي من تركيا، وهذا في حين أن إيران أبرمت مع واشنطن وحلفائها الغربيين الاتفاقات النووية المعروفة باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة”؛ لذا كانت روسيا في ذلك الحين في وضع لا يمكنها من تقديم المزيد من الدعم لنظام الأسد.

أما الآن، فإن روسيا تعتبر أكبر حليف عسكري لسوريا في الشرق الأوسط؛ فسوريا هي الدولة العربية والمؤسسة الوحيدة التي تحوز فيها موسكو على منشآت عسكرية تشمل قاعدة بحرية؛ لذلك كانت لروسيا مصلحة واضحة في منع سقوط نظام الأسد، وبالتالي توسيع حدودها العسكرية في البلاد. علاوة على ذلك، كان بوتين يتعاطف بشكل متزايد مع الأسد من أول الربيع العربــــــي.

أما بالنسبة للصين، العنصر الثالث في ” الثالوث الإستراتيجي” والسؤال هنا حول التعاون الصيني الروسي ما إذا كان سيستمر في بيئة جيوسياسية سريعة التغيير، إن دعم الصين لروسيا يعتبر معارضة لحلف الناتو، فمساعدة الصين لروسيا من التهرب من العقوبات الاقتصادية التي تواجهها إذا قررت غزو أوكرانيا واجب عليها أمام دعم روسيا للصين في معارضتها لتحالف AuKuS شيء، ودعمها للصين في حالة نشوب حرب في نزاع بحر الصين الجنوبي أو صدام مع الهند، التي تقيم موسكو معها علاقات ودية، شيئًا آخر.

في الواقع، عندما بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا تضاعفت علامات الإحراج على الجانب الصيني؛ لذا امتنع عن إدانة العدوان، فظهر بعض التفهم لما لدى روسيا من مخاوف أمنية فيما يتعلق بحلف الناتو، فإنها أيضًا لم تؤيده، وبالتأكيد لم تشارك الصين في فرض عقوبات على روسيا.

 فالعقوبات المعلنة من الصين وسياستها القسرية تتحدى مصالح الولايات المتحدة وأمنها، تستخدم الصين مجموعة واسعة من الأدوات (السياسية، الاقتصادية، والعسكرية) لزيادة تأثيرها العالمي ونشر قوتها، بينما تلتزم الكتمان بشأن إستراتيجيتها ونواياها وبناء قوتها العسكرية.

فتسعى الصين أيضًا إلى التحكم بالقطاعات: التكنولوجية، الصناعية، الرئيسة، البنية التحتية الحيوية، المواد الإستراتيجية، وسلاسل التوريد، وهي تستخدم قوتها الاقتصادية لخلق التبعيات الإستراتيجية وتعزيز نفوذها، وتسعى جاهدة لتقويض النظام الدولي، بما في ذلك المجالات (الفضائية، الإلكترونية، والبحرية). وعلى ذلك، فتعميق الشراكة الإستراتيجية بين (الصين، وروسيا) ومحاولاتها للتحكم في النظام الدولي، أصبح خطرًا يهدد الهيمنة الأمريكية.

ثم يضيف الكاتب أنه في الآونة الأخيرة وبالتحديد منذ عام 2019، كان موقف الناتو بالنسبة للقضايا المتعلقة بالصين هو تجنب اتخاذ مواقف ضدها بالنظر إلى المصالح المتبادلة أحيانًا للدول الأعضاء، التي تنجم أساسًا عن الاختلاف في علاقاتها التجارية والاقتصادية مع الصين، وعن تقييماتهم المختلفة للدرجة التي يجب أن يظل بها الحلف مركزًا على التهديدات التي تواجه الأمن الأوروبي من جانب روسيا هناك سببان رئيسان لظهور الناتو، وكأنه يطور الآن إستراتيجية شاملة خاصة بالصين: أولًا، تحاول الولايات المتحدة منذ عدة سنوات إقناع الحلفاء بالتحدث بصوت واحد ضد السياسات الصينية التي تعتقد أنها تهدد مصالح الحلف أو تماسكه. ثانيًا: زاد سلوك الصين الدولي من صعوبة مقاومة الحجة الأمريكية، ويشمل هذا السلوك استخدام الصين للإكراه الاقتصادي تجاه بلدان أخرى، ولا سيما تلك الموجودة في أوروبا، فضلًا عن التعتيم على نشأة كوفيد 19، والحملة الدبلوماسية العدوانية التي تستخدمها لدحض الاقتصادات الدولية حول هذا الموضــــوع، وإجراءات بسط نفوذها في بحر الصين الجنوبي، وضد هونج كونج، وعلى طول حدودها المتنازع عليها مع الهند، وقدراتها المتنامية في مجال الأسلحة النووية وبرنامجها الطموح للتحديث العسكري، وتعاونها العسكري مع روسيا.

لكن هذا لم يغير من كون رد فعل واشنطن ذاته على سلوك الصين الدولي كان دائمًا من النوع الذي يؤدي إلى السيناريو الأسود، وهو تبادل الأفعال؛ لذا فقد دفعت الولايات المتحدة وما زالت تدفع العلاقات العالمية في أسوأ اتجاه ممكن، في وقت يجب أن يركز فيه العالم على مواجهة أكبر التهديدات التي واجهتها البشرية على الإطلاق باستثناء احتمال حرب نووية فانية، ألا وهي تغير المناخ والأوبئة، وكذلك العواقب الاجتماعية والاقتصادية للأزمات الاقتصادية العالمية المرتبطة بهذه التهديدات.

وفي النهاية، هناك تحذيرات من حرب باردة جديدة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا عـــــــــام 2022؛ حيث أكد الكاتب “جلبير الأشقر” في كتابه هذا أن الحرب الباردة لم تنته مع انهيار الاتحاد السوفيتي، إنما اتخذت أشكالًا جديدة في القرن الجديد، فسعي الولايات المتحدة إلى ترسيخ هيمنتها العالمية في العقد الأخير من القرن الماضي على حساب روسيا والصين، قد دفع هاتين الدولتين إلى التقارب وأدى إلى إعادة إطلاق الحرب الباردة بصيغة جديدة وتداعيات كارثية.

والسؤال هنا، كيف وصلنا إلى هذه الحالة؟ هل كان ذلك محتمًا؟ هل يكتب الاستعداد الدائم للحرب لدى القوى العالمية العظمى قصة القرن الحادي والعشرين؟

اظهر المزيد

عماد الدين حلمي عبدالفتاح

الأمانة العامة لجامعة الدول العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى