2021العدد 186ملف إقليمي

التجاذبات الإسرائيلية الخليجية مع إيران وتأثيراتها على فرص انفتاح الولايات المتحدة عليها

مقدمة:

يُرجع كتَّاب كُثُر حالة انعدام الثقة والعداء الشديد بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران إلى عام 1953 م، عندما قامت الحكومتان (البريطانية والأمريكية) بترتيب انقلاب ضد رئيس الوزراء الإيراني آنذاك “محمد مصدق”؛ لأسباب جيوسياسة، وكانت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 م بمثابة نقطة تحول في تاريخ العلاقات بين البلدين، إذ أدى اقتحام إيرانيين السفارة الأمريكية في طهران أواخر عام 1979 م واحتجاز موظفيها كرهائن _إلى قيام الرئيس الأسبق “كارتر” بقطع العلاقات الدبلوماسية في إبريل 1980 م، وتكثيف محاولاته لتغيير النظام الجديد والتي كان قد بدأها قبل أزمة الرهائن، ومحاولة تثبيت أركان حكم الشاه المنهار، وسرعان ما تصادمت المصالح (الأمريكية-الإيرانية) في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وتشير وثائق أمريكية رُفعت عنها السّرية مؤخرًا إلى أنَّ كارتر ناشد الشاه قمع الثورة بالقوة المسلحة، وحرّض قادة المؤسسة العسكرية على إنقاذ النظام الملكي، إلَّا أنَّ الشاه رفض الدعوة إلى حمل السلاح كما طلب كارتر.

وقد ظلَّت مسألة تغيير النظام في طهران بمثابة هدف في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي منذ ذلك الحين وحتى الآن، حيث يتم تقديم إيران كتهديد جَدي في الخطاب الرسمي والوثائق الاستراتيجية الأمريكية، ويعتقد دانيل بنجامين الذي عمل كمنسق لمكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية الأمريكية في الفترة من عام 2009 م إلى 2012 ،و”ستيفن سيمون” أستاذ العلاقات الدولية وعضو مجلس الأمن القومي في إدارتي”كلينتون وأوباما” _أن العداء الأمريكي لإيران تعمق مع النفوذ المتزايد للمسيحيين الإنجيليين داخل الحزب الجمهوري، وتصاعد دعمهم لإسرائيل. وعلى الجانب الأخر، جعل النظام الديني في طهران من معاداة الأمريكيين عنصرًا أساسيًّا في أيديولوجيته وخطابه العام.

وكان نزاع إيران مع الولايات المتحدة والقوى النووية الأخرى حول ملفها النووي، قد تفجر عام 2002 م، عندما كشف عن قيام حكومة إيران ببناء مفاعلين نوويين في “ناتانز” و “أراك”، وهو ما لم تكن طهران قد أبلغت به الوكالة الدولية للطاقة الذرية بموجب التزاماتها كدولة طرف في معاهدة منع الانتشار النووي، وقادت الولايات المتحدة مفاوضات متعددة الأطراف انتهت بتوقيع اتفاق مع إيران في يوليو 2015 م، رحب به المجتمع الدولي بصفةٍ عامة، ولقى ردود فعل غاضبة ورفض من بعض دول الخليج وإسرائيل، وذلك قبل أن تنسحب إدارة ترامب منه في مايو 2018 م، وتسعى إدارة بايدن إلى العودة إليه الآن.

أولًا: موقف إسرائيل ودول الخليج من الصفقة النووية الإيرانية عام 2015 م.

بدأت عمليات التفاوض مع إيران عام 2003 م، وشهدت شدًّا وجذبًا وفترات توقف وضغوطًا عديدة مُورست على طهران، شملت عقوبات اقتصادية وتجارية إلى أن تم بالفعل توقيع الاتفاق في 14 يوليو 2015 م في فيينا بين مجموعة دول الــ((1+5الدول الخمس النووية- الأعضاء الدائمة في مجلس الأمن وألمانيا- والاتحاد الأوروبي من ناحية وإيران من ناحية أخرى، وعُرفت الصفقة باسم (خطة العمل المشتركة الشاملة)، والتي وصفها الرئيس الأمريكي الأسبق “باراك أوباما” بالصفقة التاريخية وبأنَّها نجاح كبير للدبلوماسية الدولية أمكن بموجبها تجنب الحرب.

 ورغم أنَّ الصفقة فَرضت قيودًا على برنامج إيران النووي تتجاوز تلك التي تتطلبها معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، والتي هي وكل دول المنطقة الأخرى أطراف فيها باستثناء إسرائيل، إلَّا أنَّ حصول طهران على الحق في التخصيب بموجب الصفقة بنسبة منخفضة هي 3.67% كحد أقصى، نُظر إليه على أنَّه مكسبٌ كبير، مقابل التزامها بوضع برنامجها النووي بأكمله تحت نظام خاص للرقابة والتفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومزايا أخرى في سابقة، هي الأولى من نوعها لدولة غير معترف بها كدولة نووية.

وكان هذا الحق في التخصيب الذي احتفظت به إيران-وما يزال- السبب الرئيس وراء الانتقادات الحادة التي وجهها نتنياهو واليمين الأمريكي المحافظ الداعم لإسرائيل للصفقة، بالرغم من حقيقة أنَّ الفقرة العاملة 27 من قرار مجلس الأمن 2231 الصادر في 20 يوليو 2019 م الذي أقر الصفقة، أكَّدت أنَّ هذه الأخيرة لا ترسي أي سوابق لأي دولة أخرى، أو تقر مبادئ جديدة للقانون الدولي، أو الحقوق والالتزامات التي تضمنتها معاهدة عدم الانتشار النووي، أو أيّة وثائق أخرى ذات صلة، بما في ذلك المبادئ والممارسات المعترف بها دوليًا.

وقد قصدت مجموعة الــ(5+1) بذلك توجيه رسالة واضحة للدول الأخرى غير النووية – خاصةً دول الخليج والمنطقة بصفةٍ عامة – بأنَّ اعتراف الصفقة لإيران بتخصيب اليورانيوم، أو أيّة مكاسب أخرى حصلت عليها بموجبها، لا تُشكّل سابقة لأي دولة في هذا الشأن، وأنَّ معاهدة عدم الانتشار النووي لا تعطي مثل هذه الحقوق لأية دولة.

وكانت المفاوضات التي قادت إلى توقيع الاتفاق قد اقتصرت فقط على المسألة النووية، ولم يكن المقصود من أيّ من أطرافها حل المشكلات الأخرى العديدة التي تعرقل المصالحة بين الولايات المتحدة وإيران، واُعتبر توقيع الاتفاق بمثابة تحول في السياسة الخارجية الأمريكية في عهد أوباما، الذي تبنى منذ البداية مقاربة متعددة الأطراف وتحول موقف بلاده من التمسك بالحظر الكامل للتخصيب على إيران إلى حظر القدرات النووية للاستخدام العسكري.

وقد اعتبرت إسرائيل الصفقة بمثابة نقطة مؤلمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ، وخروجًا على الشراكة الأمنية العميقة والدائمة بين البلدين وهدفهما المشترك المتمثل في منع إيران من تملك السلاح النووي، وقد أبقت الولايات المتحدة المحادثات مع إيران سرًّا عن إسرائيل عام 2012 م، واتخذ نتنياهو موقفًا متحديًّا علنًا ضد سياسة أوباما في هذا الشأن، مدعومًا في ذلك بالمحافظين وأصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة على أمل وقف الصفقة أو تجميدها.

أمَّا بالنسبة لموقف دول الخليج: فقد عارضت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ومعهما إسرائيل، الصفقة علنًا، وكانت الدولتان قد قدمتا نصيحة ضد معالجة الملف النووي بمعزل عن القضايا الإقليمية والصواريخ الباليستية، إلَّا أنَّ نصيحتهما لم تلقَ آذانًا صاغية. ومن جانبها عارضت إسرائيل توسيع جدول أعمال المفاوضات إلى ما هو أبعد من الملف النووي، خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى تبني واشنطن حل وسط في الملف النووي مقابل تنازلات في القضايا الإقليمية.

ثانيًا: التحول في الموقف الأمريكي في عهد إدارة ترامب وتداعياته الإقليمية:

في مايو 2018 م انسحب ترامب من اتفاق 2015 م، وأعاد فرض العقوبات التي كانت قد رُفعت بموجب الاتفاق، وبدأ في سياسة الحصار الاقتصادي المسماة (أقصى ضغط)،  وذكر ترامب أنَّ الهدف من سياسته هذه هو ضمان شل قدرة إيران على إنتاج سلاح نووي، بينما أعلن مستشاره للأمن القومي آنذاك “جون بولتون”: أنَّ الهدف هو تغيير النظام”.

ولقد فاجأت إيران المراقبين باحترامها إلى حدٍ كبير- التزاماتها بموجب الاتفاق رغم انسحاب الولايات المتحدة منه- ولم تبدأ في خرقها إلَّا في يوليو 2019 م على عدة مراحل على أمل أن يؤدي ذلك إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي للعمل على تحييد العقوبات التي فرضتها واشنطن، وعندما ضاعفت واشنطن ضغطها الأقصى معلنة توقفها عن إصدار استثناءات لدول أخرى لشراء النفط الإيراني، شعرت طهران أنَّ الانتظار حتى انتهاء ولاية ترامب سيكلفها الكثير، وبالتالي قامت بتغيير قواعد اللعبة من خلال اللجوء لأفضل أدواتها للضغط على واشنطن وفرض أعباء عليها وعلى حلفائها الإقليميين، وهما: برنامجها النووي، واستعدادها للمخاطرة عبر وكلائها في المنطقة، وهي الأدوات التي تُقدّر إيران صعوبة تعامل واشنطن معها. وفي هذا السياق صعَّدت إيران تدريجيًّا انتهاكاتها النووية بينما كانت تُهاجم القوات الأمريكية وشركاء الولايات المتحدة في المنطقة من خلال وسائل تقليدية وقابلة للإنكار، ومن أبرز ذلك دعمها لقوات الحوثيين في اليمن، حيث بدأت هجمات شبه يومية بصواريخ متطورة وطائرات بدون طيار ضد البنية التحتية الحيوية في المملكة العربية السعودية.

ومن المهم الإشارة إلى أنَّ سياسة الرئيس الأمريكي السابق لقيت ترحيبًا من كل من (إسرائيل والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة)، وذلك على خلاف أطراف الصفقة بما فيهم الحلفاء الأوروبيين الذين سعوا إلى إنقاذها قدر الإمكان بالتعاون مع روسيا والصين.

وهناك ما يشبه الإجماع بين المحللين في الولايات المتحدة على أنَّ الانسحاب الأمريكي من الصفقة، والذي تم بضغط إسرائيلي على إدارة ترامب، قد وفَّر فرصة لإيران؛ لتسريع استكمال برنامجها والاقتراب كثيرًا من العتبة النووية العسكرية.

ومن المنظور الإيراني: خدمت سياسة (أقصى ضغط) الأهداف الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية من حيث أنَّ العقوبات والمزيد منها عمّقت حالة العداء بين الولايات المتحدة وإيران وأدامتها.

ثالثًا: سياسة إدارة بايدن تجاه إيران ومواقف إسرائيل ودول الخليج منها:

انتقد الرئيس بايدن وأركان إدارته سياسة ترامب بشأن إيران، مشيرًا إلى أنَّها عزلت الولايات المتحدة وقرَّبت إيران كثيرًا من القنبلة النووية، وتسبَّبت في تصعيد خطير في المنطقة، وأكَّد بايدن التزام إدارته بعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق، شريطة أن تعود إيران إلى الامتثال الكامل لالتزاماتها.

وقد بدأت منذ إبريل الماضي مباحثات في فيينا فيما بين مجموعةالـ(1+5) في إطار )اللجنة المشتركة للاتفاق النووي( _ التي تشارك فيها مجموعة الـ(4+1) وإيران وكذلك الولايات المتحدة التي رفضت إيران التفاوض معها مباشرة من أجل التوصل إلى حل يتيح عودة واشنطن وطهران إلى الالتزام ببنوده. ووفقًا لتصريحات نائب وزير الخارجية الإيراني “عباس عراقجي” رئيس فريق التفاوض الإيراني في فيينا لوسائل الإعلام المحلية في أول مايو الجاري اتفق على رفع الجزاءات عن معظم الأفراد وعلى قطاعات الطاقة وصناعة السيارات والتمويل والمصارف والموانئ، وأنَّ المفاوضات جارية بشأن باقي الجزاءات التي فرضت منذ يناير 2016 م، وهو التاريخ الذي دخل فيه الاتفاق حيز النفاذ، ولم تصدر تأكيدات من الأطراف الأخرى التي بدت حذرة خاصةً الولايات المتحدة التي أبرزت وسائل إعلامها تصريحات لبايدن وأركان إدارته بأنَّ الطريق ما يزال طويلًا للتوصل إلى صفقة متكاملة وتتحدث تقارير أمريكية عن عقبات رئيسة أمام العودة السريعة لواشنطن إلى الاتفاق أبرزها: الانقسام داخل الإدارة ذاتها، ودعوة مجموعات من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لمواصلة الضغط على إيران، ومعارضة رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ العودة للاتفاق بصيغته الحالية.                    في الوقت ذاته تواجه الإدارة مجموعة واسعة من التحديَّات الداخلية، مما يفرض عليها الاهتمام برأي الكونجرس الذي تحتاجه من أجل الدفع بأجندتها، ويخشى فريق بايدن من أن يستنفذ مثل هذا الجهد رأس مال سياسي هائل يضع الديمقراطيين في موقف صعب في الانتخابات الرئاسية عام 2024 م.

وقد سعت إدارة بايدن إلى طمأنة إسرائيل وإقناعها بعدم اتخاذ إجراءات أحادية للتصعيد مع إيران، وتجنب أي خطوات مفاجئة من قبل الطرفين قد تقود إلى أزمة خطيرة تفسدالمباحثات.                                                                            وأعلنت الإدارة عن قيام وفد أمريكي ضم مسؤولين كبار من وزارتي الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي بجولة عربية شملت (القاهرة وعمان والرياض وأبو ظبي)؛ لاطلاع مسؤوليها على تطورات الموقف والتشاور بشأن الرؤية الأمريكية للعودة إلى الاتفاق.

وتشير تقديرات عديدة إلى أنَّ المقاربة الأمريكية للأزمة ستكون قاصرة على الملف النووي كأولوية – تمامًا- كما كان الحال مع إدارة أوباما، وكان وزير الخارجية الإيراني ، في مقال مفصَّل له في دورية الشؤون الخارجية الأمريكية في فبراير الماضي ، قد عرض موقف بلاده ومطالبها من مسألة عودة واشنطن إلى الملف النووي، مؤكدًا – ضمن مسائل أخرى – أنَّ إيران مستعدة لمناقشة القضايا الإقليمية ولكن مع بلدان المنطقة فقط دون أي تدخل خارجي.

ومن جانبها، ما تزال ترى إسرائيل ، كما كان موقفها في مفاوضات 2015 م ، أنَّ الأولوية يجب أن تكون لمنع إيران من تملّك أسلحة نووية، وفصل هذه القضية عن القضايا ذات “الأولوية الثانوية” مثل سلوك طهران الإقليمي وأنشطة وكلائها في الشرق الأوسط.

رابعًا: الآثار المحتملة لتجاذبات إسرائيل ودول الخليج تجاه طهران على مستقبل العلاقات الأمريكية الإيرانية:

تشير تقديرات أمريكية عديدة إلى أنَّ سياسات إيران تجاه إسرائيل في كل من (العراق وسوريا ولبنان وأفغانستان… وأماكن أخرى) تسير في اتجاه مضاد للخطط والمصالح الأمريكية، وأنَّ مساعي طهران النووية تُشكّل جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية أوسع نطاقًا؛ لكسب القوة والنفوذ في مواجهة الخصوم.

ومع ذلك هناك اعتراف أمريكي واسع بأنَّ الصفقة النووية مع إيران عام 2015 م – والتي تسعى إدارة بايدن إلى العودة إليها – تؤشر لتحولٍ كبير في السياسة الأمريكية تجاه إيران، وأنَّ ضغوط إسرائيل ودول الخليج على واشنطن ارتباطًا بذلك قد بلغت نهايتها، فمنذ البداية لم تكن لجهود إسرائيل للتأثير في سياسة إدارة أوباما حيال إيران حظوظًا كبيرة، كما لم تنجح سياسات الرئيس السابق “ترامب” في حدوث أي تحول في الموقف، ووصلت إدارة بايدن إلى أنَّ السبيل الوحيد لمنع استمرار التصعيد غير المجدي مع إيران هو العودة إلى الاتفاق النووي، ولا يبدو أنَّ العمليات الإسرائيلية التي تستهدف نسف العملية الدبلوماسية ستكون لديها فرصة للتأثير على موقف واشنطن في هذا الشأن.

ومن الناحية العملية: يصعب القول بأنَّ هناك تحالفًأ إسرائيليًّا سعوديًّا إماراتيًّا للضغط على إدارة بايدن، فالسعودية لديها مشاكلها مع هذه الإدارة، بينما تتبني الإمارات سياسة خارجية تجاه إيران تقوم على التشدد العلني وفي الوقت ذاته الإبقاء على قنوات حوار خلف أبواب مغلقة، ويبدو أنَّ الرياض قد بدأت في تبني هذه المقاربة حيث كشفت مؤخرًا عن اتصالات سعودية / إيرانية برعاية عراقية، ولا تفضل الرياض وأبو ظبي تصعيدًا مع إيران يمكن أن يؤدي إلى حرب ستكونان هما أول من يعاني منها.

والواقع أنَّ انعدام الثقة التاريخي والمواجهة المستمرة بين إيران والولايات المتحدة- بجانب العامل الإسرائيلي- قد جعل من الصعب الحديث عن علاقات دبلوماسية طبيعية بين واشنطن وطهران. في الوقت ذاته هناك تفاهمًا مشتركًا من الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) بأنَّ مهاجمة إيران ليست فكرة جيدة، واختلف ترامب عن أسلافه في نجاحه في خلق محور (خليجي/ إسرائيلي) ينظر إلى إيران كعدو مشترك رغم التباينات في مواقف الجانبين على النحو السابق الإشارة إليه، بل إنَّ كل دول الخليج الستة لا تنظر إلى إيران نفس النظرة.

ويستبعد بعض الكُتَّاب الأمريكيين إمكانية حدوث تغيير جذري في إيران، وأنَّه وإن كان النظام هناك يحتاج إلى الولايات المتحدة كخصم أيديولوجي له وجزء لا يتجزأ من هوية الجمهورية الإسلامية إلَّا أنَّ واشنطن في حاجة إلى التعاون معه متى كان ذلك ممكنًا؛ بسبب ما يقوم به من أنشطة وسياسات تمس الأمن القومي الأمريكي، وأيضًا التصدي لهذا النظام واحتوائه بمساعدة الدول الحليفة متي كان ذلك ضروريًا.

وفي هذا السياق يعتقد بعض الكُتَّاب الأمريكيين أنَّ عداء ترامب الشامل تجاه إيران يُعد استثناءًا على قاعدة اتَّبعها الرؤساء السابقون للولايات المتحدة؛ ذلك أنَّه منذ الثورة الإسلامية كانت للإدارات الأمريكية المتعاقبة علاقة متناقضة مع إيران، ففي العلن غالبًا ما اتخذ هؤلاء خطًا متشددًا تجاهها، غير أنَّه في السر سعت الإدارات المختلفة إلى اتّباع مقاربة أكثر واقعية، وبالتالي يعتقد هؤلاء الكُتَّاب أن لدى الولايات المتحدة مصلحة ملحة في إيجاد طريقة للتعامل مع إيران – تمامًا مثلما سعت مرارًا وتكرارًا إلى القيام بذلك مع الاتحاد السوفيتي خلال فترة الحرب الباردة، ويقدر هؤلاء أنَّه يجب أن تسعى الولايات المتحدة لاكتساب بعض النفوذ على السياسة الخارجية الإيرانية، وهو ما يستوجب فتح قناة اتصال بين المؤسسة العسكرية في البلدين بهدف مبدئي هو منع الاشتباكات العرضية ثم الانتقال إلى مناقشات سياسية على أعلى مستوى بشأن مجالات التعاون المحتمل، وأن تتوج الاتصالات في نهاية المطاف بالتطبيع الدبلوماسي وفتح سفارات البلدين.

من ناحية أخرى: يشير هؤلاء إلى أنَّه يجب على دول مجلس التعاون الخليجي أن تعمل مع الإدارة الجديدة والدول الأخرى الأطراف في الاتفاق بشكلٍ بناء؛ لضمان أن يكون الدور الإقليمي لإيران جزءًا أساسيًّا من مناقشات أوسع نطاقًا، وأن هذا الدور لا يعني الإصرار على تقليص نفوذ إيران في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، ذلك أن مقاربة المعادلة الصفرية تجاه إيران قد فشلت، وبالتالي تحتاج دول المجلس إلى تطوير نهج يحدد بموجبه مصالحها وأولوياتها والاعتراف بأنَّ لإيران أيضًا مصالح مشروعة في بعض دول المنطقة تتراوح ما بين الأمن (العراق) والاقتصاد (سوريا) والمصالح الدينية والثقافية (العراق وسوريا ولبنان).

الخلاصة

هي أنَّه وإن كان الملف النووي بمثابة جزء لا يتجزأ من الاستراتيجية الإيرانية الرامية إلى فرض الهيمنة وتعظيم النفوذ واستدامة النظام الحاكم- إلَّا أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية باتت مقتنعة – بعد أكثر من أربعين عامًا من محاولات تغيير النظام في طهران ومحاصرته- أنَّها لا تستطيع أن تخلق واقعًا خاصًا بها في إيران، وهناك تفاهمًا مشتركًا بين الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) بتجنب الدخول في مواجهة عسكرية مع إيران، ورغم أنَّه لا يمكن مقارنة القوة العسكرية الإيرانية بنظيرتها الأمريكية الهائلة إلَّا أنَّ النظام الإيراني نجح في تطوير استراتيجية عسكرية تقوم على الاعتماد على الذات عسكريًا وتوفير أمنها الخاص دون دعم أجنبي؛ وبسبب عقود من الجزاءات تعلمت إيران الاقتصاد في نفقاتها العسكرية وتطوير تكنولوجيات عسكرية محلية، واضطرت إلى الاعتماد على استراتيجية حرب غير متكافئة تقوم على تصعيد انتهاكاتها للاتفاق النووي من ناحية واستعدادها للمخاطرة عبر وكلائها في المنطقة من خلال وسائل تقليدية وقابلة للإنكار من ناحية أخرى، وهي الأدوات التي تقدّر إيران صعوبة تعامل واشنطن معها.

من ناحية أخرى يصعب القول بأنَّ هناك تحالفًا إسرائيليًّا سعوديًا إماراتيًّا للضغط على إدارة بايدن في تعاملها مع إيران، حيث تختلف أولويات كل طرف وأسلوب تعامله مع النظام الإيراني، وما يهم إسرائيل في المقام الأول هو الملف النووي كقضية استراتيجية رئيسة ومصالحها الأمنية والتصرف بشكلٍ مستقل بعيدًا عن مشاكل الإقليم.

هذا وتؤكد تقديرات أمريكية عديدة أنَّ الصيغة الأمثل للتعامل مع إيران هي احتوائها والتصدي لها والتواصل معها في آنٍ واحد، متى كان ذلك ممكنًا، وذلك على غرار الأسلوب الذي اتبعته الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفيتي السابق مرارًا وتكرارًا.

اظهر المزيد

د.عزت سعد

سفير مصر السابق في موسكو ومدير المجلس المصري للشئون الخارجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى