2020أدوار الدول الكبري فى المنطقةالعدد 181

غياب الموقف الأوروبي في المشهد العربي

مسارات متعثّرة

في ضوء تراجع كوني لأي دور سياسي فاعل للمجموعات الإقليمية المنتظمة تحت تسميات عدة (جامعة، اتحاد، مجموعة..)، وعلى الرغم من أن المشروع الأوروبي تميّز منذ انطلاقته عما يوازيه من مشاريع أخرى بنسبة عالية من النجاح في رسم سياسات موحدة في المجالات كافة، تعتبر الفترة الحالية هي فترة تراجع بامتياز يكاد يصل إلى درجة الجمود في سياسات الاتحاد الأوروبي الخارجية بعد أن كان لها شيء من النجاح في عقود مضت. ويتبلور هذا التراجع أو الغياب أو التقهقر خصوصا في كل المجالات المتعلقة بقضايا وأزمات وكوارث المنطقة العربية.

وفي سعيه إلى تأطير وتفعيل علاقاته الخارجية مع الدول المحيطة به، سبق أن طوّر الاتحاد الأوروبي سياسات متنوعة التسميات والأهداف والمسارات تنظم علاقاته مع هذه الدول وذلك عبر مجموعة من المبادرات منذ عشية حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973 والأزمة النفطية.  وفي بادرة عملية صارت حديث الساعة في زمنها، خرجت اتفاقية برشلونة التي سُميّت بـ “الشراكة الأورو ـ متوسطية” والتي أقرها الاتحاد الأوروبي في سنة 1995. ضمّت هذه الاتفاقية في البداية دول الاتحاد إضافة الى 10 دول متوسطية عربية في غالبها. وقد سعى الاتحاد الأوروبي من خلال هذا المسار، إلى تعزيز العلاقات بين دول الاتحاد من جهة مع هذه الدول المتوسطية غير العضوة في الاتحاد من جهة أخرى، وذلك في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، مع قسم هام متعلق بدعم المجتمعات المدنية في دول الجنوب.

وبعد تعثّر مسار برشلونة لأسباب عدة أهمها التفافه على وجوب حل مسألة الصراع العربي ـ الإسرائيلي بشكل عادل بسبب العجز الواضح على إيجاد حل، قام الأوروبيون بتطوير مشروع “سياسة الجوار” والذي تم إقراره من قبل مجلس أوروبا في لقاء ستوكهولم سنة 2001. وهذه السياسة تهدف إلى تأطير وتحسين العلاقات مع الدول التي تقع شرق وجنوب المجال الجغرافي للاتحاد الأوروبي والتي لن يكون لها مجال الانضمام للاتحاد في المدى المنظور. تنظم هذه الاتفاقية العلاقات في المجالات السياسية والاقتصادية وأيضا، يتم التركيز من خلالها على التعاون الأمني ومسألة الحد من الهجرة غير الشرعية. وفي النقطتين الأخيرتين، تطور ملحوظ عن اتفاقية برشلونة بحيث استعيض عن مسألة حقوق الإنسان والمجتمع المدني بالتركيز على المسائل الأمنية والبحث عن استقرار لا يمكن تقدير الأثمان التي تدفعها المجتمعات لكي يتحقق.

“سياسة الجوار” انبثقت بدايةً عن رغبة الاتحاد الأوروبي في الالتفاف على مطالبات عدة دول مجاورة له جغرافيا بالانضمام إليه وفق نظام العضوية الكاملة كتركيا مثلاً. ومن خلال هذه السياسة الالتفافية، استطاع الاتحاد الأوروبي أن يُنجِز بعض التقدم في مجال التعاون الاقتصادي والعلمي والثقافي. وقد سبق لسياسة توسيع العضوية وضم بلدان من شرق أوروبا لم تستكمل بناء التجربة الديمقراطية فيها، أن أدّت إلى إيذاء واضح لمجمل نشاطات الاتحاد الداخلية كما أنها أثرت سلبا على مواقف الاتحاد الأوروبي في مجال العلاقات الخارجية وخصوصا، مع الدول العربية. ومن جهة أخرى، فرص تعزيز التعاون مع دول الجنوب.

على الرغم من الاستثمارات البشرية والمالية الضخمة نسبيا التي خصّصها وأنفقها الاتحاد الأوروبي، بكافة مؤسساته، في سبيل إنجاح هذه المسارات المتنوعة، إلا أن النتائج الفعلية، والتي تنعكس على العلاقات بين دول الاتحاد ودول المنطقة العربية، فقد كانت متواضعة ومحبطة. وقد أدى ذلك إلى اعتماد مؤسسات الاتحاد الأوروبي على سياسة المفاوضات الثنائية مع كل دولة على حدة. هذه المفاوضات أتاحت الفرصة إلى إقرار مشاريع تعاون ثنائية تجاوزت كل المسارات المتعددة الأطراف وجعلت مواقف دول الجنوب ضعيفة وغير قادرة على التفاوض لتحسين شروط هذا التعاون.

قضايا العرب الداخلية والإقليمية والدولية

قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي

في إطار العلاقات العربية الأوروبية، ومنذ عقود، برز وبوضوح الدور القيادي لكل من فرنسا وألمانيا في سياسات الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أن لبريطانيا، العضو السابق في الاتحاد، تراثا عريقا هي الأخرى من التأثير على السياسات الأوروبية في المنطقة العربية، لما يحمله الإرث الاستعماري والانتدابي لهذه الدولة من وزن، إلا أن فرنسا وألمانيا استطاعتا أن تشكلا الثقل الأكبر نسبيا في رسم سياسات الاتحاد الأوروبي في هذه المنطقة. وبالتأكيد، فإن التركيز على دور هاتين الدولتين لا يمكن له أن يُغفل أدوار الدول الأخرى وخصوصا تلك المطلة مباشرة على البحر المتوسط كإسبانيا وإيطاليا. وتبقى نسب التأثير لهذه الأدوار متفاوتة ومتباينة ومتغيرة.

وبعد أن انقضت فترة التمايز النسبي بين سياسات الغرب الأوروبي عن سياسات الغرب الأميركي، خصوصا في ظل فترة الجنرال شارل ديغول والتي أسست لاستقلالية فرنسية متميّزة، بدا وكأن الأمر اليومي الأميركي فيما يتعلق بإدارة العلاقات مع الدول العربية قد صار معمّما على مختلف الدول الغربية. ولا يجوز بالتأكيد التعميم في هذه الملاحظة لا على المستوى الزمني ولا على المستوى الجغرافي. ويمكن القول بأن التميّز والتمايز عن سياسات أميركا كانا يعتمدان في الغالب على شخصية القادة الأوربيين أكثر منه اعتمادا على استقلالية سياسات الاتحاد الأوروبي نفسها، خصوصا عندما نتيقن من حجم المبادلات التجارية وسيطرة رؤوس أموال أميركية على كثير من الشركات متعددة الجنسيات والمصارف والمؤسسات المالية التي تؤثر بقوة في الاقتصاديات الأوروبية.

وتعتبر القضية الفلسطينية هي أساس إدارة العلاقات الأوروبية مع العالم العربي لأسباب متعددة. أهمها، المسؤولية المباشرة لدول أوروبية بعينها في ترسيخ إنشاء دولة إسرائيل على أراضي الشعب الفلسطيني. وهذه المسؤولية تتمثّل بالإرث التاريخي الثقيل المرتبط بالهولوكوست. كما أن الحرب الأولى التي تلت نكبة العرب والفلسطينيين سنة 1948، والتي قادتها العصابات الصهيونية المؤسسة لدولة إسرائيل، حظيت برضا أوروبي شامل. كما أن العدوان على مصر الذي جرى سنة 1956 وسمّاه العرب بالعدوان الثلاثي، تميّز هو أيضا بانغماس مباشر لجيشي دولتين أوروبيتين في الاعتداء على دولة عربية إلى جانب الكيان الإسرائيلي حديث النشوء.

التراكمات التاريخية إذا، والشعور بحجم الجريمة التاريخية، تم استغلالها بشكل شيطاني واستطاعت إسرائيل أن تُحيّد نسبيا السياسات الأوروبية تجاه قضية فلسطين. فلا مسألة الاستيطان المستمر لأراضي الفلسطينيين على الرغم من أنف عشرات القرارات الدولية، ولا الاعتداءات العسكرية المتكررة على المناطق الفلسطينية والدول العربية، ولا السياسات غير الإنسانية التي تعتمدها إسرائيل في المجالات البيئية، ولا التوسّع المستمر على حساب ما تبقى من أراضٍ يسكنها الفلسطينيون، ولا انتهاك مبادئ القانون الدولي الناظمة لاحتلال أراضي الغير، ولا عديد لا حصر له من السياسات العنصرية المثبتة والموثّقة التي تمارسها إسرائيل، استطاعت كلها أو جزء منها في أن تؤثّر على مواقف أوروبا الرسمية المعلنة كما غير المعلنة، والمؤيدة بشكل مستمر وقوي لدولة إسرائيل.

ومهما حفل الخطاب السياسي الرسمي، أوروبيا ممثلاً بالاتحاد، أو فرديا ممثلاً بتصريحات الخارجيات الأوروبية، بعبارات التعاطف مع حقوق الشعب الفلسطيني واستنكار الانتهاكات المستمرة الممارسة بحقه من قبل الدولة الإسرائيلية وبنبذ سياسات الاستيطان وقضم الأراضي، إلا أن السياسات العامة والخاصة التي تحكم علاقات هذه الدول مع إسرائيل لم تتأثر البتة وبدا واضحا بأن مصالح إسرائيل في نظر صانعي القرار الأوروبي تتعدى بقرون وبأميال ضوئية مصالح شعب تمارس بحقه سياسات استعمارية وعنصرية موصوفة وموثّقة بدقة قلّ نظيرها.

وآخر ما حرر في هذا المجال، الخطاب الهلامي وشديد الغموض الذي برز مع إعلان الإدارة الأميركية لصفعة العصر والتي من خلالها يقوم المتطرفان الشعبويان دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو بإطلاق رصاصة الرحمة الأخيرة على ملف القضية الفلسطينية. ويمكن اعتبار تصريحات المسؤولين الفرنسيين الخجولة، كما البريطانيين المؤيدة، كما الألمان المحايدة، نماذج واضحة عن غياب جذري لأي موقف إنساني يحترم المعايير القانونية الدولية التي طالما نادت بضرورة احترامها وبتطبيقها هذه الدول.

إن ضعف الموقف الأوروبي والذي تجسّد في سياسات متناقضة مع التصريحات الوردية التي طالما زيّنت بها الخارجيات الأوروبية بياناتها بخصوص حقوق الشعب الفلسطيني وإدانة الاستيطان، أصبح مؤشرا على تبعية إرادية كحالة بريطانيا قبل انسحابها هذه السنة، أو لا إرادية نسبيا كما هي حال فرنسا، للمواقف الأميركية التي أضحت أكثر إفصاحا عن تحالفها العميق مع السياسات الإسرائيلية وخلعت “قناع الحياء” الذي حاولت مجمل الإدارات السابقة على ترامب أن تحتفظ به فيما يخص المسألة الفلسطينية. كما من المفيد ملاحظة تأثير مواقف الدول حديثة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كما تلك الموجودة في شرقي القارة. فدول كالمجر ورومانيا وبولونيا، وهي التي كانت في معسكر الاتحاد السوفييتي لعقود، والتي تأثرت كثيرا وسلبا بالادعاءات التي حفل بها خطاب أنظمتها السابقة بمساندة القضية الفلسطينية، صار لديها بعد التحرر من الهيمنة السوفييتية وبعد الانهيار الكامل للاتحاد السوفييتي وبعد بروز الأحزاب شديدة الليبرالية وحتى اليمينية المتطرفة في قصورها الحكومية، ميل واضح للتبعية العمياء للسياسة الأميركية وخصوصا فيما يرتبط بالمسألة الفلسطينية. وقد أثّرت هذه المواقف في السياسات السرية أو المعلنة لجهاز العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي.

موقف الاتحاد الأوروبي من الحركات الاحتجاجية في الدول العربية

عشية اندلاع الحركات الاحتجاجية في المنطقة العربية سنة 2010، وهي المستمرة دون انقطاع يُذكر حتى يومنا هذا، كانت مؤسسات الاتحاد الأوروبي على أنواعها تتعامل مع الحكومات القائمة في العواصم العربية كافة بدرجة من التفهم الشريك لمجمل سياسات هذه الدول غير الديمقراطية والمفعمة بفساد متمأسس. وقد شكّلت ثنائية محاربة الإرهاب والحد من تدفق المهجرين أو منعه تماما، عماد إقرار مبادئ هذا التفهم والتفاهم.

وقد طور صُنّاع القرار الأوروبيون بموازاة هذه الثنائية خطاب “عقلاني” يستند في عمق منطقه على ضرورة الحفاظ على المصالح الأمنية لدول الاتحاد والتي تم ربط حمايتها بعملية تعزيز حالة الاستقرار في دول الجنوب، ومهما كان هذا الاستقرار معتمدا على فقدان الحريات وقمع التعبير وتأميم المشهد العام وتعزيز الفساد البنيوي. لقد شكّل هذا الاستقرار الأمني والبشري الوهمي أولوية لدى الاتحاد الأوروبي. وانطلاقا من السعي إلى الحفاظ عليه، فقد ابتعدت مؤسسات الاتحاد عن دعم أي مسار إصلاحي جذري باستثناء الإجراءات الإصلاحية الوهمية أو التجميلية التي بادرت بها بعض حكومات المنطقة.

وللتذكير، ففي بداية الاحتجاجات الشعبية التونسية، عرضت وزيرة الدفاع الفرنسية حينذاك، تزويد قوات الشرطة المكافحة للمظاهرات، بمعدات وتقنيات حديثة تساعدها على تشذيب أساليب القمع دون إيقاع ضحايا. وقد نالت هذه الوزيرة بتصريحها “الوقح” هذا ميدالية الغباء السياسي الأوروبي الأكثر فجاجة.

وبعد النجاح النسبي للثورة التونسية، تراجعت الدول الأوروبية عن مواقفها المتفرجة في أحسن الأحوال والداعمة للطغاة في أسوأ الأحوال، وانخرطت في رسم سياسات دعم عملية التغيير في هذه الدولة من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي وترجمة سياسات التنمية المستدامة. كما برز أكثر فأكثر خطاب رسمي أوروبي يُشجّع الدول العربية على إجراء إصلاحات جذرية تمسّ الجانب السياسي أساسا من خلال دمقرطة الحياة السياسية وتعزيز التعددية والشفافية في المسارات الانتخابية. ومن خلال بعض المؤسسات الأوروبية غير الحكومية، والحاصلة على دعم مالي أوروبي كبير، دعمت أوروبا مؤسسات المجتمع المدني في بعض البلدان العربية. وجل هذه المؤسسات نشط وينشط في حقل نشر الثقافة الديمقراطية. ومع استمرار السياسات الحكومية الأوروبية المتمسك بدعم الأنظمة القائمة، إلا أن دعم المجتمعات المدنية بدا وكأنه صيغة للتعويض عن الموقف السيء المؤيد للاستبداد دون تغيير هذ الموقف أو تعديله.

وفي الحالة السورية، يبقى الموقف الأوروبي هو الأكثر تخبطا وهلامية. فمن جهة، دعم الخطاب الرسمي الأوروبي ضرورة التغيير وطالب ببيانات متعددة من نظام الحكم في دمشق بأن يقبل ببيان جنيف ونقاطه الستة التي تنص على تغيير تدريجي لنظام الحكم في سبيل وقف أعمال العنف والتي حوّلت ثورة شعبية سلمية إلى مقتلة فتحت أبواب البلاد على مصراعيها لكل أنواع التدخلات الإقليمية والدولية.

ومن جهة أخرى، تم تسجيل عجز هائل في اتخاذ أي إجراء يساهم في تعزيز فرص إيقاف العنف ووقف تهجير مئات الآلاف من السوريين الذين توجهوا أساسا على دور الجوار، ولكن جزءا لا يمكن إهمال حجمه، تجاوز المليون، توجه إلى دول الاتحاد الأوروبي. وتستمر المقتلة بشراكة دولية وإقليمية، كما يستمر الصمت الدولي والإقليمي، وتستغل بعض القوى الإقليمية والدولية المأساة لتسوية ملفات عدة كانت معلّقة فيما بينها لا علاقة لها لا بالعرب ولا بمصالح الدول العربية، كما أنها مسيئة لمستقبل التعايش بكافة صوره في هذه المنطقة.

سياسة خارجية أوروبية موحّدة؟

صار من البديهي إذا، والحال كهذه، أن يتم النظر إلى مجمل عملية إدارة السياسة الخارجية الأوروبية بريبة شديدة الواقعية. ومن المؤكد بأن هذه الريبة لن تنحصر فقط في إطار المواقف والسياسات المرتبطة بالمنطقة العربية وقضاياها. فقد تم تسجيل سياسات أوروبية مختلفة وتكاد أحيانا أن تكون متناقضة فيما يخص ملفات أخرى كتلك التي تتعلق باحتلال موسكو لجزيرة القرم الأوكرانية، وحيث حاولت بعض الدول الأوروبية القريبة من الكرملين كالمجر أن تتميّز عن سياسة الإدانة التي توصّل إليها الاتحاد الأوروبي. وتبين الخلاف بوضوح أيضا فيما يتعلق ببعض الملفات التي تنظم العلاقات مع بعض دول أميركا اللاتينية كفنزويلا تشافيز ومن بعده مادورو. وعموما، تكتفي إدارة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي بإصدار بعض البيانات الخجولة والتي ترتبط بقضايا أساسية وهامة حفاظا على الإجماع اللازم لإقرارها. ويصح القول، دون أية مبالغة تذكر، بأنه لا توجد سياسة أوروبية موحدة فيما يخص علاقات القارة العجوز الخارجية. ويمكن القول بأن هناك 27 سياسة خارجية أوروبية بعدد أعضاء الاتحاد بعد بريكست التاج الملكي.

العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي موحدة فقط فيما يتعلق بالملفات المرتبطة بالمصالح الاقتصادية المتقاربة بين دول الاتحاد. وبالتالي، فمن الملحوظ بأن البعثات الدبلوماسية للاتحاد تركّز جلّ نشاطاتها في تعزيز التعاون المحصور بالسياسات الزراعية أو بالتصنيع أو بمكافحة الفساد أو بالتنمية المستدامة أو بالصيد البحري أو حتى بحقوق الإنسان، دون أن يجعلها هذا كله تقترب من القضايا الإقليمية الشائكة والسياسات الناظمة لعلاقات الدول الأخرى مع دول الاتحاد. وتترك هذه الملفات “السيادية” في أيدي وزرات خارجية كل دولة على حدة.

ويبدو أن هذا الوضع القائم طبيعيا ومتجانسا مع تنوّع الأنظمة السياسية الموجودة في الدول الأوروبية. فمنها من يميل نحو اليمين ومنها ما هو يقترب من اليسار المعتدل، ومنها أكثر فأكثر من هو يميل تطرفا نحو اليمين وبالتالي تحكم سياساته الخارجية رؤى مختلفة تماما عن رؤى المشروع الأوروبي الذي وضع أسسه روبير شومان. كما أن غياب السياسات الموحدة في الطرف المقابل، يجعل الدول التي تتعامل مع الاتحاد الأوروبي في موقف ضعيف لا يسمح لها أن تطالب دول الاتحاد بأن يكون موقفها موحدا وواضحا وصريحا ومؤيدا لحقوق تعتبر هذه الدول أنها شرعية لشعوبها. فالدول العربية مثلا تتناقض في مواقفها من قضايا أساسية أهمها القضية الفلسطينية، حيث يدعو البعض إلى التعامل مع صفقة العصر الترامبية بواقعية. وبعضها الآخر يتشدد في موقف ليرخي في مواقف، وبالتالي تضيع المواقف ويبقى الغموض هو سيد المبادرات. وينجم عن هذا كله عزوف الاتحاد الأوروبي على أخذ الموقف العربي بجدية في أي ملف كان. فأمامه مجموعة متنوعة من الأنظمة التي يسود غالبيتها غياب الديمقراطية، وعلاقات هذه الدول بعضها ببعض تعاني منذ عقود من تخلخل بنيوي وتشرذم مرضي. كما أن التركيز يتم من قبل هذه الدول على العم سام وإرضاء سياساته أو التعامل معها سلبا أو إيجابا والابتعاد حتما عن أية مراهنة على أي دور أوروبي ربما يمكن التأثير به إن وجدت الإرادة وإن تضافرت الجهود والمواقف.

خاتمة

مع صعود الشعبوية في التعبير السياسي وفي التصريحات المرتبطة بالأوضاع الأوروبية الداخلية اقتصاديا وسياسيا، صار من الصعب التمييز بينها من جهة والشعبوية الترامبية التي يمكن لها أن تؤدي إلى تجديد انتخاب دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة الأميركية في نهاية هذا العام، من جهة أخرى. فالتناغم الشعبوي الذي يُركّز على التخويف من الأجانب وربط مسألة الهجرة لأسباب اقتصادية أو سياسية بالإرهاب وتنمية المشاعر المعادية لدين بعينه في صفوف الناخبين صار خبزا يوميا لمختلف الأحزاب المهيمنة على الموقع الأول أوروبيا. ولا تُميّز. الشعبوية بين اليمين وبين اليسار على عكس ما يرغب بعض علماء السياسة من فرضه كارتباط يميني بالشعبوية ويبرؤون بالتالي اليسار من الميل نحو الشعبوية.

سياسات أوروبا الخارجية المنفردة كما المجتمعة ليست تابعة بالمعنى الوظيفي للسياسات الخارجية للإدارة الأميركية. لكنها بالمقابل، وبسبب عجزها الوظيفي وهلامية مواقفها وشعبوية جُلّ خطاب قادة الدول التي تمثلها، تقترب بشكل ميكانيكي وربما لا إرادي من السياسة الأميركية مما يدفع البعض للظن بتبعية ما في هذا المجال.

اظهر المزيد

د. سلام الكواكبي

باحــث سوري في العلوم السياسية - فرنسا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى