2022العدد 189دراسات

صراع الأرحام عالميًّا .. التحدي والاستجابة 

من الأخبار غير السارة بالنسبة للأوساط الرسمية  والشعبية الأمريكية، التي كشف عنها  مكتب الإحصاء الفيدرالي في ديسمبر2021، أن ” النمو السكاني في البلاد سجل أدنى مستوى له منذ تأسيس الدولة، خلال العام الأول من جائحة كوفيد 19 “. ومما رصدته البيانات بالخصوص أن الفترة من يوليو 2020 إلى يوليو 2021 شهدت نموًا سكانيًّا بمعدل 0.1% ، الذي يعني زيادة السكان بنحو 392665 نسمة، علمًا بأن هذا الرقم لم يقلّ  في الولايات المتحدة عن المليون سنويًّا منذ العام 1937 .  

في السياق ذاته، ورد أن الولايات المتحدة  كانت قبل خمسين عامًا، ضمن الدول المتقدمة التي يزيد معدل الخصوبة فيها عن 2.1 طفل لكل امرأة أثناء ذروة طاقتها الإنجابية، بما يكفي  لكل جيل كي يحل محل سابقه في قوة العمل والإنتاج وأداء بقية الوظائف، لكنه انخفض منذ العام 2019  إلى 1.6، بحيث اقترب جدًا من المتوسط الأوروبي المنخفض بدوره، الذي يراوح حول 1.53.  

يقينًا كان لتداعيات الوباء اللعين وتوابعه بعض التأثيرات في إثارة واستشعار ضائقة الإحلال السكاني لدى المجتمعات الغربية، ومن ذلك: ارتباك الأحوال الاقتصادية، وتأخير عمليات الحمل، وحصد أرواح مئات الآلاف من السكان. وبالإضافة لهذه المستجدات التي لحقت بهذه  المجتمعات كافة، فقد عانت الولايات المتحدة  بخاصة من ضعف التغذية السكَّانية الخارجية جراء انكماش مستوى الهجرة، غير أن مسار الخط البياني للزيادة والنقصان السكَّانيين في هذه المجتمعات ينفي منطقية إلقاء اللوم على الجائحة وحدها؛ فقبل هبوطها على رؤوسهم في العام 2020، كان الأوروبيون يجأرون بالشكوى من ضمور معدلات خصوبة نسائهم، حتى قيل أنهن في عداء مع الإنجاب. نتأكد من هذه الحقيقة، حين نعلم من أرقام العام 2019 أن هذه المعدلات لم ترقَ إطلاقًا في عموم القارة العجوز إلى المتوسط العالمي البالغ 2.55، ولا كانت كافية للوفاء بالزيادة المطلوبة لتجنب متوالية انخفاض عدد السكان عمومًا، التي يقدرها الخبراء بـ 2.1 ، وكان أعلاها في فرنسا 1.86، وأدناها في مالطا (1.1).  

عطفًا على هذا المشهد، فقد أمسينا بصدد واحد من التحديات  العابرة  لمجتمعات عالم الغرب كافة، وليس بلا مغزى في إطار هذه الحقيقة، تلاقي المعنيين هناك على أسباب الأزمة وعلى  كيفية مواجهتها.. فعلى صعيد الأسباب، يُشار إلى  انخفاض حجوم الأسر وعدد المواليد، وارتفاع سن الزواج و تأخير سن  الحمل والإنجاب، والعزوف عن الزواج كليًّا لدى بعض القطاعات بسبب التأفف من زيادة نفقات المعيشة أو التركيز على الحياة العملية والترقي العلمي والوظيفي، وارتفاع معدلات الشيخوخة، والتلوث البيئي، وتفشي الأمراض المرتبطة  بالسمنة وسوء التغذية وأنماط الوجبات السريعة.  

وعن التصدي للأزمة أو التخفيف من غلوائها، تتداول اقتراحات من قبيل  إطالة عطلة الأمومة والأبوة، وتوفير خدمة رعاية الأطفال  وحضانتهم المجانية، ومنح محفزات مالية للأسر كبيرة العدد . حتى أن الحكومة الفنلندية رصدت منذ العام 2013 مبلغ عشرة آلاف يورو تمنح عن كل مولود جديد، والتوسع في حقوق العمل ومنها تقنين التقاعد المبكر للسيدات  وتمديد سن التقاعد للرجال،  وتقديم منحة سكن مجزية  للمقبلين على الزواج. 

والأمر كذلك، فإن معظم الحلول المطروحة تدور في فلك الإجراءات والسياسات الداخلية، التي تتراوح بين المبادرات القانونية والحقوقية المشجعة لاتجاه الإنجاب ورفع معدلات الخصوبة، وبين تحريك البنى القيمية والثقافة المجتمعية في الاتجاه ذاته. وهي خطوات إما أنها فشلت بالفعل في أداء أهدافها، وإما أنها لن تؤتي أُكلها في أفضل الأحوال إلا في الأجل الطويل.  

يشهد بهذه النتيجة المتشائمة تقرير صدر في ديسمبر 2021 عن مركز التنمية العالمي في واشنطن، جاء فيه أن ” القارة الأوروبية- بما فيها بريطانيا- سوف تعاني في العام 2050 من نقص في الأيدي العاملة يقدر بحوالي 95 مليون شخص، وذلك مقارنة بالعام 2015، وسيفاقم من هذا الوضع الضاغط على شريحة السكان القادرين على العطاء وتشغيل دواليب الاقتصاد بالكفاءة اللازمة، تمتُّع الأوروبيين بأعمار ممتدة وزيادة اعتمادهم على التأمينات والمعاشات والرعاية الاجتماعية والصحية “. ويغلق هذا التقرير باب الأمل أمام الباحثين عن حلول لهذه الوضعية من داخل الرحاب الأوروبية ، إذ يشير إلى أن ” محاولات  زيادة المواليد قد فشلت، وليس ثمة قبول مجتمعي لرفع سن التقاعد .. كما أن نظم الذكاء الصناعي والتشغيل بالروبوتات لن يقلل الطلب على الوظائف، ولن يمكنه سد الفجوة بين العرض الشحيح للعمالة والطلب الواسع عليها”.  

   هنا  تبرز عبرة التصور الأكثر جذرية والأسرع إنجازًا، والمفترض أنه  ينتمي لحوزة العلاقات الدولية الخارجية  وتبادل المصالح مع مجتمعات الوفرة السكانية، وقوامه إعادة صياغة سياسات الهجرة والمهاجرين. وحول هذا ” الحل السحري”، يقول التقرير الأمريكي إنه  عند وصول العام 2050، حين يكون الشح السكاني في عالم الشمال المتقدم على ما أشرنا، سيكون عدد الأفارقة في سن العمل والإنتاج، بين العشرين والرابعة والستين، قد بلغ زهاء 1.3 مليار نسمة. ويَعزَى هذا الرقم الكبير إلى انفلات  معدل خصوبة المرأة الأفريقية  بمتوسطات  قياسية، كان أعلاها طبقًا لبيانات العام 2017 في النيجر 6.8 ، وأدناها في جنوب أفريقيا 2.4 . وعليه ،  سيبدو المشهد على جانبي المتوسط في منتصف القرن  كما يلي:  مجتمعات في الشمال تعيش على صفيح  سكاني اقتصادي ساخن، مقابل جيران أفارقة في الجنوب يئِنُّون من تخمة الشريحة السكانية في أعمار العمل والإنتاج .  

للإنصاف، فإن بعض الدوائر الدولية ذات الصلة، تبدو سباقة في الدعوة لهذا الحل والتعريف بطبيعته  ومزاياه العالمية، ومن ذلك ما صرح به “جون ويلموث” مدير قسم السكان في إدارة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية  بالأمم المتحدة في سبتمبر 2019: “إن تسهيل هجرة الناس وتنقلهم بشكلٍ آمن ومنتظم ومسؤول، سوف يسهم كثيرًا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة لكل من بلدان المنشأ والمقصد”.  

يومًا تلو الآخر تتعزز الدلائل على استحسان هذه الدعوة. الرئيس الأمريكي جو بايدن، لم ينتظر أن تتفاقم الأزمة السكانية إلى طور الكارثة، فتحدث في صيف العام 2021 عن ضرورة تعديل قوانين الهجرة  لصالح تجنيس ” أولئك الحالمين ، الذين دخلوا الولايات المتحدة مع والديهم وأطفالهم بوسائل غير قانونية، ويرونها وطنهم الوحيد ” . ولم يغفل سيد البيت الأبيض الإشادة بالمهاجرين كونهم ” يقاتلون في الخطوط الأمامية ضد الوباء”. بهذه المداخلة الاستثنائية، يكون بايدن قد كرر، بالصيغة ذاتها تقريبًا، ماورد في التوقيت ذاته على ألسنة بعض شركائه  في العواصم الغربية.  

والحق أن المسؤولين الأوروبيين أظهروا حساسية أكبر مقارنة بنظرائهم الأمريكيين إزاء ضرورة التعجيل بالاستجابة لتحدي العجز السكاني، متعللين بسياق زمن الوباء . ومن ذلك، أن السلطات الفرنسية سمحت في أكتوبر 2021  بمنح الجنسية الفرنسية لأكثر من 12 ألفًا من الأجانب المتقدمين بطلبات بهذا الخصوص في العام 2020. وجاء في تبرير هذه الخطوة الاستثنائية أنها تأتي  ” كبادرة شكر لهؤلاء الذين عملوا في الخطوط الأمامية لمكافحة كوفيد 19، لقد كانوا هناك من أجل الوطن ويستحقون أن يرد الوطن لهم الجميل” . والمدهش في هذا الاطار،  أن هذه السلطات لم تتمكن من تغطية السبب الأساسي لعملية التجنيس- المتعلق باستشعار النقص السكاني بغض النظر عن طارئ الوباء- ذلك حين رجحت التطرق قريبًا لتجنيس العاملين الأجانب في قطاعات أخرى، غير المنتسبين لمهنة الطب، مثل: عمال النظافة والمربيات والمشرفين على الرعاية المنزلية.  

وعلى المنوال ذاته، كانت الحكومة الكندية، التي لم يزد معدل الخصوبة السكانية لديها للعام 2019 عن 1.47، قد  اتخذت إجراءات لتجنيس شرائح من المهاجرين واللاجئين والمقيمين الأجانب، وفق شروط أكثر يسرًا من تلك الفرنسية. وكم يبدو لافتًا أن  تبادر دولة التاج البريطاني- الشهيرة أوروبيًّا وعالميًّا بشدة الاعتزاز بالنوازع القومية- إلى التخفيف من قيود محاذيرها التقليدية المفروضة على استقبال المهاجرين واللاجئين؛ لتعويض النقص في الأيدي العاملة . ونفهم من ثناء لندن على دور هؤلاء الوافدين في التغلب مثلًا على أزمة العجز في قطاع النقل والسائقين، التي تجلت في النصف الثاني من العام 2021_ أنه ربما لا يطول الوقت قبل أن تتواضع الحكومة البريطانية، وتسمح ليس فقط بتسهيل سبل دخول المهاجرين واللاجئين، وإنما أيضًا بتجنيس بعضهم أسوة بما فعل شركاؤها الحضاريون.  

على هذا النحو، يمكن للمتابعين عن كثب ملاحظة كيف أبدى الأوروبيون شيئًا من الهرولة  لمقاومة  الجفاف السكاني وهزال خصوبة نسائهم، قياسًا بالتثاقل الأمريكي في هذا الإطار. وقد يَعزى هذا التفاوت إلى خضوع الأمريكيين لفكرة أنهم مجتمع من المهاجرين، وأن دولتهم تمثل الملاذ المفضل لتقاطر المتحرقين من مختلف أرجاء عوالم الجنوب إلى حياة أفضل. الأمر الذي شغل الدولة الأمريكية  بعيدًا عن التحولات السكانية السلبية الزاحفة  بين يديها، ووفقا لهذه الفرضية ، يصح الاعتقاد بأن عوارض كوفيد 19 بتوابعه وتبعاته،  وفي طليعتها مقتل أكثر من 600 ألف أمريكي  بالتزامن مع نقص مروع في عدد المواليد الجدد _ كانت من عوامل إفاقة الولايات المتحدة وصحوتها تجاه هذه التحولات.  

رب مجادل هنا بأن وعي الأوروبيين بالأزمة السكانية يعود إلى أكثر من عقدين، وأن زمن الوباء مارس فقط دور المعمق لهذا الوعي، ومع ذلك فإن مجتمعاتهم مازالت تشهد مناظرات ونقاشات لا تخلوا من مواقف سلبية إزاء الهجرة والمهاجرين .. بمعنى أن إدراك الحاجة للمهاجرين  يتوازى ويتواكب مع  هاجس التخوف منهم، وصولًا في بعض الأحايين إلى إغلاق  الأبواب  والنوافذ في وجوههم ومطاردتهم أو حتى  طردهم.. فكيف نفسر هذا التناقض ؟!. الإجابة اليسيرة على تساؤل من هذا القبيل، أن الإجماع على موقف مجتمعي موحد من هذه المسألة ينتمي للمستحيلات، إذ سيظل هناك دومًا على الصعيدين (القومي والقاري) من يلتزمون جانب التطرف ضد الأجانب، ولاسيما الوافدون منهم من عوالم الجنوب.  

أما الإجابة الأبعد غورًا، ولعلها الأكثر خبثًا، أن التعنت الذي يغلف مواقف بعض القوى الأوروبية  إزاء المهاجرين، وبخاصة غير الشرعيين منهم،لا يستند إلى دوافع أو قناعات  حقيقية؛ كل ما في الأمر أن هذه القوى تضمر استغلال ظروف هؤلاء المعذبين، بما يؤدي إلى ليِّ أعناقهم لشروط تعتصرهم وتقلل كلفة تشغيلهم، أو إدماجهم ، في صلب الأسواق الأوروبية. ويندرج تحت هذه النيات  اللئيمة الإفراط في عمليات انتقاء واصطفاء العناصر الغضة والفتية، فضلًا عن المتميزين علميًّا وتقنيًّا والقابلين للتكيف السريع مع المجتمعات المستقبلة. وإذا أحسنا الظن فقد نذهب إلى أن الأوروبيين، العارفين بأبعاد العُسر السكاني  في دولهم أو في قارتهم، لا يرفضون  من حيث المبدأ استضافة المهاجرين، أو حتى تجنيسهم وتوطينهم بمقادير وحيثيات محسوبة، لكنهم ينشدون تنظيم الهجرة وما يرتبط بها من شؤون، وعدم إيداعها وتوابعها نهبًا للعشوائية.  

في كل حال، توحي  القراءة  العامة (البانورامية) لسياسات الأوروبيين ومقارباتهم للمسألة السكانية عمومًا، بأنهم كانوا، ولعلهم ما يزالون، أميل إلى الحسابات المادية الجافة، التي تنشغل أكثر  بالموائمات والإحداثيات المرتبطة بتأثيرات تفشي العجز السكاني واضمحلال الخصوبة_ على  ديمومة حالة الرخاء الاقتصادي وصيانة المكانة التكنولوجية الرفيعة التي بلغوها بين الأمم. ووفقا لهذا المنظور، يتجلى الفارق مع تقديرات الأمريكيين الأكثر شمولية، التي تهتم  بانعكاسات الحيوية السكانية على موقع دولتهم، واحتمالات احتفاظها بسمة التربع على قمة النظام الدولي في غمار وجود منافسين أقوياء ، قدامى أو تقليديين مثل روسيا ، وصاعدين بثبات كالصين .  

نود القول بأن المقاربة الأمريكية للقضية السكانية تضع عينها على دور العنصر البشري، ليس فقط ضمن مصادر القوة الشاملة للدولة، وإنما أيضًا كمسوغ  للاحتفاظ بمكانة الدولة الأعظم على ظهر الكوكب كما يراها فقه العلاقات الدولية. ومن المعلوم أن هذا الفقه يضع هذا العنصر في مكانة القلب من المصادر الأخرى، كــ(المساحة والموقع الجغرافيين، والموارد الطبيعية، والقدرات الاقتصادية و التكنولوجية، والطاقات العسكرية، والفعاليات الثقافية، وحرفية العمل المؤسساتي ، والاستقرار السياسي، والحالة المعنوية للشعب …وغيرها). والواقع أن تبصر الوزن الحقيقي لعدد السكان بين هذه المصادر يقتضي الاستطراد إلى تفصيلات كثيرة، لكن المتفق عليه أن هذا العدد  من حيث الكم  ومحتوياته ومواصفاته من حيث الكيف، هو العامل الأكثر بروزًا لمعرفة القوة البشرية للدولة، وأن فقدان التوازن بين عدد المواليد وعدد الوفيات- بما يؤدي إلى نقصان الحجم الكلي للسكان، لدرجة تؤثر سلبًا على استغلال الموارد وزعزعة أحوال العمالة والإنتاج- يضعف قوة الدولة ولا يبشر بخير بالنسبة لموضعها على سلم المكانة والتأثير الدوليين.  

المؤكد أن العقل الإستراتيجي الأمريكي  يدرك جيدًا هذه الأوليات الفقهية، ويتفهم عواقب ما قد يعتريها من عوارض سلبية. ومما يؤشر لذلك بإيجاز موحٍ حديث للرئيس بايدن ذكر فيه حرفيًّا ” فيما يتعلق بالمنافسة على التقدم في القرن الحادي والعشرين، نحن نحتاج إلى نظام للهجرة يعكس قيمنا وعلينا أن نصلح نظام الهجرة إلينا”. عبارة كهذه توحي بأن الرجل، ومن ورائه فيالق الإستراتيجيين الأمريكيين، يعرفون ما للفتوة  السكانية من دور فارق ضمن مكونات القوة الشاملة  للولايات المتحدة  .. ولا نبالغ كثيرًا إذا ما تصورنا أن واشنطن  سوف تمضي قدمًا في طريق  تفعيل هذه الرؤية الرئاسية تجاه  الهجرة والمهاجرين، باعتبارها وسيلة ناجعة وعاجلة لمواجهة القوى المنافسة.  

على ذكر المنافسة والمنافسين، هناك ما يشبه الإجماع  بين خبراء الشؤون الدولية وفقهائها على أن الصين هي المرشحة الأقوى والأكثر حضورًا ، كطرف ثانٍ في حرب باردة جديدة مقابل الولايات المتحدة ، في الأجلين (المنظور والمتوسط ). ومع الدفع بهذا التقدير إلى درجة اليقين تقريبًا، إلا أن أصحابه يجمعون أيضًا على أن هذه الحرب ستبقى باردة وستشمل بالأساس المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسة .. وعلى هذا النحو سيكون  العامل البشري السكاني فاعلًا قويًّا، بالنظر لدوره في هذه المجالات ونحوها. والمدهش، ولعلها المفارقة  بهذا الخصوص، أن المنافس الصيني- بحجمه السكاني البالغ زهاء أربعة أمثال نظيره الأمريكي، ويكاد يفوق الكتلة السكانية لكل من أوروبا والولايات المتحدة معًا- بات يشكو من استفحال الشيخوخة وانحدار معدل الخصوبة ، وبالتداعي صعوبة الإحلال السكاني بين الأجيال. تمامًا كما هو الحال تقريبًا في عالم الغرب!. ولا يقل عن ذلك مدعاة للاستغراب، بلوغ هذه الشكوى حد التخلي منذ العام 2015 عن سياسة الطفل الواحد لكل أسرة، التي سُنَّت عام 1979، بل ومناقشة اللجوء إلى محفزات لزيادة معدلات الخصوبة والمواليد، تذكرنا بإجراءات النموذج الغربي، الأوروبي منه بخاصة، كتمديد إجازة الأمومة والتشجيع على إنجاب الطفل الثاني بمنح نقدية مباشرة أو بإعفاءات ضريبية، حتى أن بعض الوجلين الحكوميين من الهشاشة النوعية للصينيين وتحولهم إلى مجتمع من المسنين، راحوا يطالبون ” برفع القيود كليًّا عن عدد الأطفال المسموح بإنجابهم، من أجل صين قوية في الحاضر والمستقبل، بعد انخفاض معدل الخصوبة منذ العام 2017 إلى  1.41 ” .  

وعلى غرار الحالتين (الغربية والصينية)، يمكن القول باطمئنان أن المعطيات السكانية لدى القطب الروسي تخلوا مما يشرح صدر المسؤولين. وإذا كان الرئيس الأمريكي “بايدن”  أفصح عن امتعاضه من ظاهرة القصور السكاني في بلاده، فإن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”  سبقه في  التعبير عن الامتعاض والقلق  من الظاهرة ذاتها؛ إذ  صرح أمام البرلمان في يناير2020  ما موجزه أن “معدل الخصوبة  المتدني  لدينا والبالغ  1.5 في العام 2019، يمثل تحديًّا تاريخيًّا، فمصيرنا متوقف على ما سيصبح عليه عددنا في المستقبل “. ومن ساعته، أعلن الرجل عن تدابير مشجعة على الإنجاب، ودعم الشباب ليبدؤوا حياتهم العائلية والإنجاب في أعمار مواتية، وتقديم منح للعائلات كبيرة العدد، بما في ذلك جعل الطعام مجانيًّا في المدارس.    

مؤدَّى هذه المعطيات، أن المعالجات الموصولة بمستقبل التفاعلات السكانية في تضاعيف الأقطاب  العظمى، التي تتدافع بالمناكب لاعتلاء  قمة النظام الدولي، تميل جميعها تقريبًا إلى التشاؤم، ولا ندري ما إن كانت هذه الأقطاب تسر أم تزيد شقوتها ومخاوفها، حين تعلم أن تراجع معدلات الخصوبة- وهي أم العلل في بعث هذا التشاؤم – حقيقة مستقبلية عالمية، وليست قصرًا على مجتمعاتها!. هذا ما يتوقعه، مثلًا معهد القياسات الصحية والتقييم بجامعة واشنطن إذ يدفع في تقرير أصدره في يوليو 2020 بأن: ” معدل الخصوبة تناقص عالميًّا خلال المئة عام الأخيرة إلى النصف تقريبًا .. وإذا ما بقي هذا المعدل على حاله راهنًا، فإنه بحلول العام 2100 ، سوف ينهار عدد السكان في 23 دولة، كـ(اليابان،  والصين، وإيطاليا، وإسبانيا، وكوريا الجنوبية، وتايلاند، والبرتغال)، إلى النصف ” .  

هذا الاستشراف المروع لا ينطبق على القارة الأفريقية، فهي بزعم الخبراء ستكون- وبالذات شقها جنوبي الصحراء- ضمن الناجين من العجز، بعدد يتجاوز الثلاثة مليارات نسمة. ومع استمرار تيار هجرة الأفارقة، والترحيب القسري بمهاجريها، سيصبح سكان العديد من الدول من أصول أفريقية. وعليه، يتحتم على دول العالم النظر بجدية إلى محاربة النوازع العنصرية ضد الأفارقة وغيرهم. ترى هل يريد هؤلاء القوم القول بأن  إفريقيا هي “سلة سكان العالم”،  وأن “الحل الإفريقي” للمعضلة السكانية العالمية  هو الملاذ الأكثر واقعية وأمنًا؟.. ربما .      

اظهر المزيد

د. محمد خالد الأزعر

كـاتب وأكــاديمي فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى