2019العدد 179ملف عربي

الانتفاضات العربية بين التحيز العرقي والقبلي والتنافس على السلطة

عندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية العربية وانتقلت من بلد إلى آخر، اختلف الناس والمحللون في تسميتها، بين ثورة، وربيع، وانقلاب، وانتفاضة، وصحوة …وذهب البعض إلى التشاؤم بإطلاق “خريف” و”شتاء” على تلك الاحتجاجات عندما يذكر اسمها.

لم يكن مثل هذا الاختلاف حول التسمية مصادفة أو غير ذي أهمية، لأن هذه الاحتجاجات كانت بلا قيادة، وكانت بلا برامج سياسية واضحة سوى” الشعب يريد إسقاط النظام”، أو يريد “تنحي الرئيس”، أو “حريات وديمقراطية”… وكانت المشاركة في هذه الاحتجاجات من مختلف أطياف المجتمع، بحيث لم يتمكن أي طرف أو أي جهة حزبية، أو سياسية، من الادعاء بأنها هي من صنعت هذا التحول ، أو بأنها هي من أسقط الرئيس. ولهذا السبب عندما انتقلت هذه القوى إلى مرحلة بناء السلطة الجديدة وقعت في الاختلاف حول حجم ما ستحصل عليه من مواقع ونفوذ، ووقعت في الاختلاف حول هوية النظام الجديد، وحول مصادر التشريع في هذا النظام، وحول علاقاته الإقليمية والدولية. وذلك كله يعود إلى غياب القوة الكبيرة والمؤثرة التي قادت هذا التغيير وانتقلت به إلى المرحلة الجديدة.

ساهمت طريقة التغيير التي حصلت فيها عملية الانتقال إلى الوضع الجديد في هذا الالتباس في توصيف تلك الاحتجاجات وما جرى بعدها. فلم يكن واضحا على سبيل المثال إلى أي حد لعبت القوى العسكرية دورًا في تنحية الرئيس بعدما بلغت الاحتجاجات في الشارع حدا غير مسبوق في كل من تونس ومصر. في حين كان الأمر أكثر وضوحا في السودان،” فبعد منتصف ليل الحادي عشر من نيسان/ أبريل نسقت قيادة القوى الأربعة: القوات المسلحة، والأمن والمخابرات، والدعم السريع، وقوات الشرطة مواقفها وقررت تنحية الرئيس السوداني عن السلطة وإبلاغه بأن السلطة انتقلت لمجلس عسكري انتقالي”([1]). وكذلك لم يكن محسوما نجاح الاحتجاجات في ليبيا لولا التدخل الخارجي العسكري الذي أطاح بالرئيس الليبي معمر القذافي بعد تعمد قتله بالقصف المباشر من إحدى طائرات الأطلسي. ولم يكن مؤكدا اندلاع “الثورة” في سوريا لولا التدخل الخارجي نفسه الذي جعل من سوريا ساحة مفتوحة لجذب “التطرف الإسلامي” من شتى أنحاء العالم، و بؤرة صراع إقليمي ودولي، غابت معه الأبعاد الداخلية للأزمة السورية.

هكذا ترافقت الاحتجاجات أثناء حصولها، مع حالة من الالتباس حملتها قوى التغيير معها إلى المرحلة التي أعقبت “سقوط الرئيس”.

وها هو السودان يكاد يكرر اليوم تجربة تلك الاحتجاجات، وما نجم عنها من مشكلات واضطرابات سياسية وأمنية واجتماعية. فالخلاف بين المجلس العسكري وبين “قوى الحرية والتغيير” المدنية،، يؤكد هذا الالتباس الذي أشرنا إليه في مرحلة ما بعد “سقوط الرئيس”. فالقوى المدنية السودانية هي مجموعة من المنظمات والأحزاب والنقابات والمهنيين، أصرت أن تكون هي صاحبة السلطة، قبل أن تنتقل إلى الموافقة على الشراكة مع القيادات العسكرية التي تعتبر نفسها هي من أطاح بالبشير وليس الحراك المدني. وبعد مرور بضعة أشهر على تنحية البشير، استمر الخلاف قائما بين “قوى الحرية والتغيير” التي تتكون من 17 حزبا معارضا وبين المجلس العسكري، حول المدة الزمنية للفترة الانتقالية، وحول الإعلان الدستوري، والميثاق السياسي للمرحلة المقبلة، وحول نسبة مشاركة كل طرف في الهيئات الانتقالية، وكيفية اختيار رئيس الوزراء، وحول طبيعة الجمهورية هل تكون رئاسية أم لا([2]). وعندما توصل الطرفان إلى اتفاق “أعلنت أحزاب وتنظيمات في “قوى الحرية والتغيير” رفضها للاتفاق السياسي الموقع بين المجلس العسكري وبعض أطراف التحالف المعارض.

يعكس ما سبق من مواقف متناقضة تجاه الاتفاق مع المجلس العسكري ما أشرنا إليه من غياب التفاهم بين القوى المختلفة في الحركة الاحتجاجية حول المرحلة الانتقالية التي ستمتد نحو 40 شهرا. ما يثير المخاوف من وقوع السودان في ما شهدته دول أخرى من عدم استقرار، ومن انقسامات سياسية ومجتمعية، خاصة بين قوى الاحتجاج نفسها. ومن غير المعلوم، في ظل هذا التنافس المحموم على السلطة، كيف سيتم الانتقال الهادئ والآمن إلى مرحلة بناء السلطة الجديدة التي لم يحصل التوافق بين الأطراف السودانية على دستورها، وعلى أنظمتها وقوانينها الاقتصادية والاجتماعية، خاصة بعد إعلان المجلس العسكري إحباط “محاولة انقلابية” خامسة في البلاد، وأن مدبّر تلك المحاولة هو صاحب أعلى رتبة عسكرية في الجيش([3]). وعلى الرغم من “الإعلان الدستوري” الذي تم التوقيع عليه في 4/8/2019 ، ثم إعلان “الوثيقة الدستورية” في 17/8/2019 لا تزال المخاوف قائمة من كيفية إدارة مشكلات البلاد المعقدة في هذه المرحلة الانتقالية بين القوى المدنية والعسكرية .

وما يجري في تونس، وهي التجربة الأولى في تلك الاحتجاجات، من خلاف حول طبيعة النظام السياسي، وحول الدستور، وحول نفوذ “النهضة” وحزب “نداء تونس” والأحزاب الأخرى القومية، والليبرالية، والمدنية والنقابية، يفسر بدوره لماذا لم تصل تونس إلى بر الأمان والوضوح السياسي والاجتماعي بعد مضي أكثر من ثمان سنوات على انتقالها إلى مرحلة بناء السلطة الجديدة.

لقد بلغ عدد الأحزاب التي تم الترخيص لها بعد الثورة في تونس أكثر من مئة حزب من الاتجاهات السياسية كافة الإسلامية وغير الإسلامية. منها على سبيل المثال: حركة الإصلاح والعدالة الاجتماعية، حركة البعث بتونس، حركة الجمهورية الثانية، حركة شباب تونس الأحرار، حركة الشعب، حركة النهضة، حركة الوحدة الشعبية، حركة الوحدويين الأحرار، الحركة الوحدوية الديمقراطية، الحركة الوطنية للعدالة والتنمية، الحرية من أجل العدالة والتنمية، الحرية والتنمية، حزب الأحرار التونسي، الحزب الاشتراكي اليساري، حزب تونس الخضراء، وعشرات الأحزاب الأخرى… حتى أن السلطات التونسية منحت ترخيصا” قانونيا” لتأسيس أول حزب سلفي يحمل اسم “حزب جبهة الإصلاح” ليرتفع بذلك عدد الأحزاب في تونس بعد التغيير إلى أكثر من 118 حزبا”([4]).

وعلى الرغم من التفاوت في شعبية هذه الأحزاب وفي قدرتها على الاستمرار وعلى الفوز بمقاعد نيابية أو وزارية، إلا أن هذا التعدد الحزبي يعكس حجم الاختناق الذي كان يعيشه المجتمع التونسي من جهة، ويعكس من جهة ثانية، حجم الخلافات والصراعات السياسية التي ستشهدها تونس بعد سنوات على سقوط نظام بن علي. و كانت حركة النهضة تعتقد بأنها ستكون هي صاحبة اليد العليا في الحكم بعد فوز الإخوان بالرئاسة في مصر، قبل أن تغير استراتيجيتها وتقبل بالمشاركة مع قوى سياسية أخرى غير إسلامية في إدارة البلاد. لكن حتى هذه الشراكة لم تؤد إلى حل مشكلات تونس الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.

 لقد تراجع الاستقرار المجتمعي في معظم دول “الربيع العربي”، وقد اختلفت نسبة هذا التراجع بين بلد وآخر، تبعا” لطبيعة المواجهة والصراع بين الأطراف المختلفة في هذه الدول. كما تراجعت إلى حد كبير عوامل الوحدة الوطنية ومقومات المواطنة لتحل محلها مشاعر وولاءات المذهب والطائفة والمنطقة والقبيلة والعشيرة. وإذا كان لهذه الانتماءات بعد” طبيعي” في المجتمعات العربية، إلا أن هذه الانتماءات تحولت بعد” الربيع العربي” إلى مخاطر جديّة على وحدة المجتمعات والكيانات العربية. هكذا تحولت العشائر، والقبائل، والمذاهب في كل من ليبيا وسوريا والعراق إلى مشاريع للتنافس وللتصادم في ما بينها من جهة، وإلى أهداف للقوى الإقليمية التي تريد التدخل والتأثير في الصراع الدائر والمعقد في هذه البلدان من جهة ثانية.

كانت العشائر والقبائل والأقليات العرقية بعاداتها وثقافتها وتقاليدها جزءًا طبيعيا من النسيج الاجتماعي العربي عموما”، وفي بلاد الشام خصوصا” . وتمتد صلات وقرابات بعض العشائر بين سوريا والعراق ، كما نجد عشائر أخرى تتشارك في الوقت نفسه المذهبين السني والشيعي . إلا أن التفكك الذي أصاب مجتمعات ما بعد “سقوط الرئيس” وزيادة فرص التدخل الخارجي، فاقم من الصراع على السلطة بين المكونات العرقية والحزبية والعشائرية ، ومن محاولات الاستقواء بالقوى الخارجية في الوقت نفسه.

كانت السياسات التنموية لمعظم السلطات والحكومات قبل الاحتجاجات الشعبية سياسات غير متوازنة، بحيث كانت العاصمة هي التي تحصل عادة على الاهتمام والخدمات كافة، في حين كان نصيب الأرياف والمدن الأخرى الإهمال أو التهميش. وكانت هذه السلطات متشددة في التضييق على الحريات السياسية والإعلامية… وبما أن المجتمعات العربية هي مجتمعات متنوعة دينيا وقبائليا ومذهبيا وعشائريا، فقد تحول التهميش في كثير من الأحيان إلى تهميش عشائري، أو عرقي، أو مذهبي كما كان الحال في ليبيا، أو في العراق على سبيل المثال.

ولا تزال الأديان والمذاهب والأعراق تمثل عناصر أساسية في تكوين الهوية، وهي انتماءات في كثير من الأحيان تكون عابرة للحدود ومخترقة لفضاءات الدول الجغرافية والسياسية مشكلة مع حركة انتقال البشر والأفكار “فضاءات عابرة للجنسية”. وهي انتماءات رأينا كيف وظفت في الحشد للحرب الأهلية السورية، وفي العراق، وقبل ذلك في أفغانستان والشيشان وفي البوسنة والهرسك، وفي مواقع كثيرة من المنطقة العربية والإسلامية. وهي في الواقع فضاءات باتت شاملة للعالم بأسره، ولا يمكن حصرها في منطقتنا العربية دون غيرها..”([5]).

عندما سقط النظام العراقي بالتدخل الخارجي بعدما عجزت القوى الداخلية عن تحقيق هذا التغيير، اعتبرت القوى العشائرية والمذهبية وحتى الدينية أن الفرصة باتت سانحة لتحقيق المطالب والحضور القوي والمتوازن الذي افتقدته طوال عقود مع النظام السابق. بحيث سيكون هذا الحضور العشائري والقبلي والمذهبي، والتنافس بين هذه المكونات في المجتمع العراقي السمة الأبرز لما سيواجهه العراق بعد الإطاحة بالنظام السابق . وسيتحول العراق بعد عام 2003 إلى حلبة من التنافس والصراع بين الهويات المذهبية (السنة والشيعة) والقومية (الأكراد) على المصالح والنفوذ وحجم التمثيل في المواقع والمؤسسات السياسية والوزارية والنيابية المختلفة. وصولاً إلى تغيير اسم الدولة العراقية إلى “جمهورية العراق” فقط من دون أي إضافة (عربية أو اشتراكية…) وباتت اللغة الكردية لغة رسمية معتمدة في البلاد إلى جانب اللغة العربية. وباتت كردستان مشروعا انفصاليا يهدد وحدة العراق، وكذلك فعلت “داعش” بعد احتلالها الموصل وإعلان دولة الخلافة المزعومة.

 لقد سقط النظام المركزي الذي خنق التعدد المذهبي والعرقي، وتحول العراق إلى ساحة داخلية مفتوحة للصراع بين هذه الهويات، وإلى ساحة خارجية للتدخل تارة لدعم هذه الهويات، وطورا لمنع استعادة العراق دوره الإستراتيجي المركزي في المنطقة.

في ظل هذا المناخ الإقليمي من استعادة الهويات المختلفة بعد حركة الاحتجاجات وبعد سقوط النظام، تحرك أمازيغ تونس لتشكيل حزب سياسي تحت اسم “آكال”، ليكون الحاضنة السياسية للأمازيغية، التي ظهرت كحركة ثقافية ناشطة بعيد الثورة التونسية.

 وعلى الرغم من أن عددهم يقدر بنحو 500 ألف، يبحث أمازيغ تونس اليوم الانتقال من الانتماء الثقافي إلى الانضواء في حزب سياسي، بعدما رأى هؤلاء عدم الاكتفاء بالعمل الثقافي، وتنظيم المهرجانات والعمل على صيانة وحماية الآثار الأمازيغية”.

وبرأي أحد قيادات هذه الحركة أن “إهمال السلطات التونسية لفئة أصيلة من الشعب التونسي دفعتنا إلى خوض التجربة السياسية، محركها وتصوراتها مبنية على العمق الأمازيغي، وستعمل على تغيير الدستور والقوانين التي كرست التفرقة بين التونسيين على أساس اللغة والدين، وهمشت جزءا مهما من الشعب ومواطنين لهم حقوق وواجبات في هذا البلد”([6]).

ومن المعلوم أن الأمازيغ لا يتواجدون في تونس فقط، بل لهم امتدادهم في كل من المغرب والجزائر، كما أن هذه الحركة تحظى منذ سنوات باهتمام ثقافي ولغوي، وسياسي خارجي من دول مثل فرنسا، ما يمكن أن يهيئ الظروف في ظل أوضاع مضطربة وانتقالية في المغرب العربي، للمطالبة بالاستقلال، أسوة بتلك النزعات القومية والمذهبية التي تشتعل في أكثر من منطقة وفي أكثر من بلد عربي. وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من احتمالات تقسيم قد تتعرض لها بلاد المغرب العربي.

ليس الوضع في ليبيا أفضل حالاً. فالانقسام الذي تشهده البلاد حاليا بين مناطق وقبائل، والصراع الدموي المستمر منذ سنوات على السلطة بعد سقوط القذافي، بين عسكريين ومدنيين بخلفيات قبائلية ومناطقية، وبدعم خارجي لكلا الفريقين (قوات اللواء حفتر، وقوات حكومة السراج)، يكشف ذلك التفكك الذي تركته الانتفاضات والثورات على المجتمع الذي لم يكن جاهزا أو مهيئا لهذا التغيير الذي لعبت فيه القوى الخارجية دورا رئيسا. وها هي ليبيا اليوم تعيش أسوأ حالات “ما بعد الإطاحة بالرئيس”، في حين يستمر تدفق النفط وتستمر الشركات الأجنبية الفرنسية والإيطالية بنقله وتصديره والاستفادة منه([7]).

باتت ليبيا بعد “الثورة” مهددة بالتقسيم، إلى ثلاثة أقاليم، طرابلس في الغرب، وبرقة في الشرق، وفزان في الجنوب، في ظل انهيار الدولة، وتوزع السلطة، والأوضاع الهشة، والتدخلات الخارجية. وتلعب النزعات القبلية والمناطقية أدوارًا انقسامية عنيفة، بسبب تركيبتها الإثنية والاجتماعية، في هذا الصراع على السلطة بعد الفراغ الذي حصل إثر سقوط النظام.

لقد بدأ الانقسام القبلي مباشرة بعد «الثورة» في ليبيا، إثر اجتماع طرابلس الحاشد لممثلي القبائل المساندة للدولة والنظام، الذي ردت عليه مجموعات أخرى مساندة لـ «الثورة»، بسلسلة من الاجتماعات واللقاءات القبلية، صدرت عنها بيانات سياسية مضادة.

وظهرت بعد «الثورة» مطالب مناطقية اقتصادية وثقافية، اتخذ أغلبها الهوية القبلية. وظهرت بعد انحلال مؤسسات الجيش الوطني، ميليشيات مسلحة في المدن والقرى عرفت بانتماءاتها القبلية والعشائرية. وانتشرت ظاهرة الثأر السياسي والعنف العسكري الذي تحول إلى عملية شبيهة باستعادة للثأر القبلي القديم، بين بعض المناطق والمجموعات.

وعلى غرار تونس ها هي الأقليات من الطوارق وغيرهم من البربر وقبيلة توبو في ليبيا تشدد على حقها بأوسع مشاركة في اتخاذ القرارات، وتهدد أحيانا باستخدام القوة، إذا استمر حرمانها من حقها. وتسعى حركة احتجاجية في شرق ليبيا إلى فصل إقليمها عن بقية ليبيا، وهي تتحدى الحكومة عن طريق محاصرة عدد من موانئ النفط([8]).

وتعكس الخريطة السياسية وتقاطعاتها القبلية التي يتكون منها المشهد السياسي الليبي، حجم الصراع الدموي المعقد على السلطة الذي حوّل ليبيا إلى ساحة حرب مفتوحة بين الأطراف الداخلية، ومنعها، إلى مدى غير معلوم، من بناء دولة أو سلطة ما بعد سقوط النظام([9]).

ساهم في هذه التناقضات السياسية والقبلية في ليبيا الصراعات بين الدول الغربية على النفط الليبي، خاصة من إيطاليا وفرنسا، التي تعتبر مقدرات ليبيا وثرواتها جزءًا أساسيًا من مصالحها السياسية والاقتصادية . “وقد أفرزت التوجهات الجديدة لكل من فرنسا وإيطاليا تجاه ليبيا ما بعد القذافي تنافسا حقيقيا بين البلدين للسيطرة على ثروات البلاد تحت ذرائع مختلفة، وقد بدا ذلك واضحا من خلال استخدام الأساليب السياسية والعسكرية كافة. هذا التنافس أدى إلى تغذية التناقضات وإشاعة الفوضى والتفرقة بين مكونات المجتمع الليبي، وجعل ليبيا ساحة صراع لقوى إقليمية ودولية ، وهو ما أضفى المزيد من التعقيد والتشابك على مجمل المشهد الصراعي في البلاد …”([10]).

قدمت سوريا نموذجا آخر لطبيعة الصراعات المتعددة بين الأطراف المشاركة في “الثورة” المفترضة على النظام. كانت التجربة السورية نموذجا غريبا وغير مسبوق، مقارنة مع ما حصل في دول عربية أخرى، لجهة أعداد الجماعات والقوى والتنظيمات المسلحة غير السورية التي شاركت في تلك “الثورة”، والتي سفكت دماء بعضها، وتقاتلت في ما بينها من أجل السيطرة على هذه المدينة السورية أو تلك، أو من أجل مبايعة الخليفة و”الدولة الإسلامية”. وتلقى هؤلاء الدعم بالمال والسلاح من قوى إقليمية ودولية لكنهم انشغلوا بصراعاتهم الدموية، ولم يتمكنوا من إسقاط النظام. كما فشلت المعارضة السياسية التي انضوت في هيئات مختلفة، في أن تكون البديل المقنع عن النظام بسبب تبعيتها لقوى إقليمية ودولية، وبسبب تشتتها وتنافسها على النفوذ بين قوى إسلامية وغير إسلامية.

أدى صراع المجموعات المسلحة في ما بينها وتكفير بعضها البعض والتنافس على السلطة وموارد النفط والثروة والتجارة إلى فشل هذه المجموعات في تقديم النموذج التغييري الذي تدعيه بديلاً عن النظام السوري. كما ساهمت الجرائم التي ارتكبتها هذه المجموعات وعلى رأسها داعش والنصرة وأحرار الشام، وعشرات المجموعات الأخرى، بذريعة التكفير، وعدم مبايعة “دولة الخلافة” في تهديد الاستقرار المجتمعي بعدما تعرض السوريون بسبب انتماءاتهم الدينية والمذهبية لمذابح جماعية، وللتهجير، ولمصادرة ممتلكاتهم وأموالهم.

في ظل هذه الفوضى، تحول العامل الكردي في سوريا إلى تهديد جديد لوحدة سوريا. وقد ساهمت الولايات المتحدة في دعم هذا التهديد بعدما وقفت علانية إلى جانب الأكراد ومنعت طردهم من المناطق التي سيطروا عليها. كما تحوّل هذا العامل إلى أحد أهم معوقات الحل السياسي في سوريا ، وإلى أحد أهم مبررات التدخل العسكري التركي، وإلى بقاء القوات الأميركية والأجنبية على الأراضي السورية([11]).

وها هي سوريا اليوم، وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي أحرزه النظام في استعادة الجزء الأكبر من أراضيه التي كانت تحت سيطرة داعش والجماعات الأخرى، لا تزال غير قادرة على الانتقال إلى الحل السياسي. وسيكون على سوريا، بالإضافة إلى مشروع إعادة الإعمار الذي يحتاج إلى جهود وأموال طائلة، أن تواجه مشروع إعادة اللحمة المجتمعية التي ساهمت المجموعات المسلحة في تصدعها بسبب سياسات التكفير والتهجير التي مارستها ضد أتباع المذاهب والأديان على اختلافها.

ثمة مأزق في عمليات التغيير التي حصلت في البلدان العربية. لقد بدأت حركة الاحتجاجات من دون قيادة، ومن دون برامج، ومن دون رؤية واضحة لكيفية التعامل مع الاختلافات الدينية والعرقية والمذهبية، ومن دون وضوح في كيفية التعامل مع الجيش الذي يحكم هذه البلاد منذ نصف قرن إلى اليوم. لذا لم يكن مفاجئا أن نشهد صراعا على السلطة بعد سقوط الرئيس، وأن تطول المرحلة الانتقالية، من دون الوصول إلى بر الأمان السياسي والاقتصادي.

تعيش مجتمعات ما بعد “الربيع” حالة من القلق، ومن اللايقين. وقد هددت الفوضى والتدخلات الخارجية وحدة المجتمعات ووحدة الأرض. وقد أتاحت هذه الفوضى للجماعات العرقية والقبلية أن ترفع الصوت، للمناداة بالانفصال والاستقلال .

لا شك أن وضع ما بعد الثورات يختلف من بلد عربي إلى آخر، من حيث الفوضى أو الفشل أو التنافس والصراع على السلطة . لكننا وبكل تأكيد لا نستطيع أن نشير إلى أي بلد ونقول انظروا إلى النموذج الناجح الذي أتت به ثورات الربيع العربي، أو انظروا إلى بركات وخيرات التدخل الخارجي التي عمت البلاد التي حصل فيها مثل هذا التدخل. ثمة أزمة في مشروع التغيير في العالم العربي. كانت هذه الأزمة تختصر في السابق بانسداد أفق التغير، أما اليوم فإنها أزمة ما بعد التغيير المفتوحة على الاحتمالات كافة.


([1]) أسامة الأشقر، الثورة السودانية الخلفيات والتداعيات، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، نيسان/أبريل 2019 ص 6

([2]) جريدة الأخبار، بيروت/15/7/2019

([3]) جريدة الأخبار، بيروت 26/7/2019

([4]) جريدة الأخبار، بيروت 12/5/2012

([5]) باقر النجار، الهوية وصراعات الإقليم في الخليج العربي، مجلة  المستقبل العربي، عدد484 السنة 42، 2019 ص 125

([6]) جريدة العربي الجديد5/أيار 2019

([7]) القبس الدولي31 ديسمبر 2016

([8]) DW دوتشية فيله 17/10/2013

([9]) موقع لبنان 24 (24/5/2019 )

([10]) محمد عبد الحفيظ الشيخ ، التنافس الفرنسي-الإيطالي وتداعياته على ليبيا، مجلة  المستقبل العربي، عدد484، السنة 42، حزيران/يونيو/2019 ص 145

([11]) ما هي الجماعات التي تقاتل إلى جانب تركيا في عفرين؟  BBC عربي 25/1/2018

اظهر المزيد

د. طلال العتريسي

استاذ علم الاجتماع ، الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى