2021العدد 188ملف ثقافي

التنوير العربي في مَرايا التنوير الغربي

أنتج العقل الغربي جُلَّ تصوراته الحديثة في مسعاه إلى تعقُّل الوجود حوله، فبدت حركته كرحلة سير في أرضٍ بِكر، تمثل فيها التيارات الفلسفية: المثالية والنقدية والمادية، والمناهج العلمية: التجريبية والوضعية والميكانيكية ما يشبه “حركة كشوف عقلية” أنتجت وعيًا جديدًا يتوازى مع حركة الكشوف الجغرافية التي أنتجت عالمًا جديدًا، في المقابل لم يتوفر للعقل العربي الحديث فرصة إنتاج تصوراته عن الواقع في فضاءٍ متسع، وإنما في ساحة مزدحمة بتقليدين أساسيين: الأول ذاتي، يتمثل في الموروث الثقافي القديم، وليد النهضة الإسلامية الأولى التي تجاوز التاريخ أبنيتها ومرتكزاتها. والثاني غربي، يتمثل في تجربة الحداثة وليدة النهضة الأوروبية، والتي باتت مرجعًا للثقافة المعاصرة. وقد أَفضى ذلك إلى تبعية مزدوجة للعقل العربي الذي أخذ يتحرك في فَلك ثنائيات “مستعارة” لا تقيم علاقتها مع مفهوم الحقيقة/العقل مباشرة، بل عبر الوسيط الغربي، وذلك من قبيل (التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة)، الأمر الذي أدى إلى تعقيد عملية التحديث.

من البنية التوفيقية إلى النزعة التلفيقية

يبقى الفكر النهضوي توفيقيًّا بالتعريف، يبتغي النهوض بأمة لديها تراث عريق تتجذر فيه، وحاضر بائس يضغط عليها، وعالم زاخر بالوعود ترغب في اللحاق به، ما يفرض عليها الجمع بين مكونات ثقافية تنتمي لأزمنة مختلفة، وإذا كان ديكارت قد مثَّل نقطة انطلاق الفكر الغربي الحديث بثنائيته المضمنة في الكوجيتو (الفكر – الامتداد)، والتي نزعت إلى التوفيق بين العقل والإيمان المسيحي، فقد احتل الإمام محمد عبده الموقع نفسه في الفكر العربي بصياغته الثورية للعلاقة بين (العقل والنص)، والتي أكد فيها على أن النص لا يمكن أن يتناقض مع العقل، فإذا ما تبدَّى تناقضًا كان بالضرورة “ظاهريًّا”، يفرض تحكيم العقل فيه، ليس لأن ثمة خطأ في النص ولكن لأن فهمه قد استغلق على الذهن، ومن ثم وجب التأويل بحسب قواعد اللغة العربية، حتى لا نقع في آفة التلوين؛ ومن ثَم لا تبدو مركزية العقل استعلاءً على النص أو رفضًا له، بل وسيلة فهم يتم من خلالها تجاوز ظاهره إلى باطنه، والولوج إلى قلب الحكمة منه. لقد اعتمد الإمام العقل أصلًا، لكنه ظل عقلًا توفيقيًّا، يعمل كأداة استدلال على الحقيقة القائمة / الإلهية، دون سعي لإنتاج حقيقة جديدة / إنسانية، وهي سِمة كل تفكير ديني كلامي، يرى للحقيقة مصدرًا واحدًا، يمكن تأويله، ولكن دون الخروج من فلكه، وإلا كنا أمام تفكير فلسفي خالص.

 وكما تشققت الثنائية الديكارتية بعد رحيله بين اتجاهين: مثالي مفرط ومادي مستغلق، فقد انشطرت عقلانية الإمام التوفيقية بعد رحيله إلي تيارين: التغريبي برموزه من العلمويين، الذين تحركوا نحو عقلانية مادية أكثر جذرية، فحسموا اختيارهم لصالح العقل دون النص. والسلفي برموزه المحافظين، الذين نالوا من عقلانيته التوفيقية وانتصروا للنص على حساب العقل، وهكذا اندفع الفكر العربي إلى حافة الاستقطاب. وكما قَيض لـ”كانط” أن يلعب الدور الحاسم في تجسير الهُوة بين المثاليين والماديين داخل الفكر الغربي، قيض لزكى نجيب محمود أن يلعب الدور نفسه في الفكر العربي، حيث أعاد بناء ثنائية الإمام بعد أن كادت الريح العلموية أن تبددها، والعاصفة السلفية أن تهددها، واضعًا لها في قالب توفيقي هو “الأصالة والمعاصرة”. لكن يتعين علينا ملاحظة فارق مهم بين الثنائيات التي أسس لها كانط من خلال نزعته النقدية والتي دارت حول مفهوم الحقيقة مباشرة من قبيل: (الاستدلال المنطقي والاستقراء التجريبي، الشيء في ذاته وعالم الظواهر، الطبيعة وما بعد الطبيعة)، وبين الثنائيات التي أسس لها زكي نجيب من خلال نزعته التوفيقية والتي دارت حول مفهوم الهوية من قبيل: (التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة)، لهذا نجح الموقف النقدي في تخليص الفكر الغربي من مأزق الإلحاد دون التخلي عن العقلانية، وأخفق الموقف التوفيقي في تجنيب الفكر العربي مأزق الأصالة من دون التخلي عن الحداثة.

 كان المفترض أن يقترب الموقف التوفيقي في الفكر العربي تدريجيًّا من الموقف النقدي في الفكر الأوروبي بعد كل ما استهلكه من مشروعات فكرية قيمة نهض بها مفكرون كبار من طراز( محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وعبدالله العروي، وحسن حنفي، ونصر أبو زيد، وعبد الإله بلقزيز، ونصيف نصار، وجابر عصفور، وجابر الأنصاري …وغيرهم)، غير أن ذلك لم يحدث بل انحرفت النزعة التوفيقية باضطراد إلى “تلفيقية” جسدتها المراوغة الملحوظة بين الأبنية ووظائفها العملية، بين المؤسسات وأدوارها الحقيقية، فهناك دائمًا البرلمان لكنه لا يشرع، وهناك المركز البحثي الذي لا ينتج علمًا بالطبيعة أو معرفة بالمجتمع.. إلخ . ثمة دافع سياسي مؤكد لهذا الانحراف وتلك المراوغة يتمثل في الفجوة الكامنة بين طبيعة السلطة العربية التقليدية حتى النخاع، وبين الشكل الحداثي الذي تمت استعارته، بين الخطاب الإيديولوجي الذي أطلقته حول التنمية والديمقراطية والعدالة، وبين المسارات العملية التي سلكتها نحو الاستبداد والظلم، اللهم فيما نَدُر، خصوصًا وقد جسد التيار التوفيقي صيغة ثقافية مرنة استوعبت تجارب عربية عديدة متناقضة سياسيًّا على منوال التجربة الناصرية في مصر والبعثية في العراق وفي سوريا وأغلب الدول التي اعتبرت نفسها تقدمية في ظل حركة المد القومي كالجزائر وتونس، بل كانت هذه الصيغة هي المعتمدة من دول وُصفت بالرجعية آنذاك_ خصوصًا المغرب والأردن؛ لأن هذا الوصف ربما انطبق على الموقف السياسي من المتنافسين في الحرب الباردة، وليس على المرجعية الفكرية لهذه التجارب الوطنية، المتشابهة في نزوعها إلى تمثُّل الحداثة الغربية من داخل مرجعية أخلاقية تحتذي المبادئ العليا للشريعة الإسلامية تصالحت حولها المجتمعات العربية، ونصَّت عليها دساتير أغلب دولها، صراحةً أو ضمنًا.

 لكن ثمة جذر ثقافي لهذا الانحراف يتمدد في تربة الخيال السلبي، الذي أشاعته ثنائية “الأصالة – المعاصرة” حول قضية التجديد رغم ما توافر لها من جاذبية لُغوية ورشاقة لفظية خلبتا لب كثيرين، بينهم كاتب هذه السطور منذ كان صبيًا يافعًا. فالنظرة المدققة إليها تكشف كيف وضعت الذات العربية في علاقة سلبية بالزمن، إذ ينطوي مفهوم الأصالة على بعدين متداخلين: أولهما حقيقي، يصنع الشعور الثقافي، ينصرف إلى المكونات الأساسية للهوية الثقافية من قبيل (العقيدة الدينية، واللغة، والتجربة المشتركة… إلخ) .

أما الثاني: فمتوهم، يصوغ اللاشعور الثقافي الماضوي، إذ يشير إلى قوالب حياة وأنماط عيش تعكس البيئة التي تشكلت فيها مكونات الهُوية للمرة الأولى. ومن ثم يكاد مفهوم الأصالة يمثل طرفًا في معادلة طرفها الآخر هو (الخصوصية + الزمن)، المفترض أن المكونات الجوهرية في الهوية هي محور تكوين الخصوصية فلا يمكن التخلي عنها، وأن القوالب المحيطة بها عرَضية لا يجب التوقف عندها طالما شكَّلت قيدًا يعوق تجددها وهو الفَهم الذي يسود عندما تكون الذات الحضارية يقظةً وناهضة، لديها من الثقة بالنفس ما يجعلها قادرة على إدراك المكونات الجوهرية المؤسسة لها، وعلى التفاعل مع المعطيات المحيطة بها. أما في المراحل التاريخية التي تشهد أُفولًا وتراجعًا فالأغلب أن تفقد الذات ثقتها بنفسها ويختلط عليها الأمر بين الجواهر والأعراض، بين مكونات هُويتها وبين قوالب تشكيلها، ليزداد حذرها من الجديد الذي يمت لذات حضارية أخرى، تتصور أن اقتباسه سوف يُفضي إلى الذوبان فيها والتبعية لها.

هكذا باتت الأشكال والقوالب التاريخية التي صُبَّت فيها الذات العربية في عصر النبوة، ثم عصر التدوين (يمتد بين منتصف القرنين الثاني والثالث الهجريين) مستودع الأصالة الكاملة، وباتت لحظة تشكيلها “فوق تاريخية”، ولم تعد خصوصيتها الحقيقية/ مكوناتها الجوهرية، طرفًا في ثنائية تتجادل مع طرفها الآخر (الذات الغربية المعاصرة)، بل طرفًا في ثلاثية تجمعها مع صورتها القديمة، حاضنة الأصالة، ومع الغرب المعاصر حاضن الحداثة؛ ليزداد شعورها بالاغتراب وينتهي بها الأمر للوقوع في أسر التلفيق.

 يقتضي الخروج من أسر الحالة التلفيقية وما تُفضي إليه من نزعات سلفية وأصولية استعادة هويتنا من براثن الزمن، بالتأكيد على مكوناتها الأساسية وليس على لحظة تكوينها؛ ليصبح حضورها رهنًا باستلهام ثوابتها، وليس استعادة القوالب التاريخية التي أحاطت بلحظة تدشينها، فنصبح أمام “ذاتنا” التي تعكس تكويننا لا “ماضينا”، وتتحرر هويتنا من مفهوم الأصالة والخيال الماضوي الساكن فيه لترتبط بمفهوم “الكينونة” وثوابته الجوهرية. هنا يمكننا تحقيق الفصل بين عقيدة التوحيد المطلق المحررة للذات الإنسانية، وبين التأويلات الكلامية التي تجعلها عقيدة جبرية -خصوصًا لدى الجهمية والأشعرية، بين مبادئ الشريعة المتجذرة في النص القرآني وبين الفقه المتغير حسب البيئة، بين السلوك الأخلاقي المحتشم وبين أشكال اللباس البدائي كالنقاب. ومن ثم ندعو إلى التخلي عن الثنائية التوفيقية “الأصالة – المعاصرة” وتبني الثنائية النقدية الأساسية التي تدور حول مفهوم الحقيقة، أي “الدين – العلم” أو “العقل – الإيمان”، يعني الإيمان هنا كل المنظومات الرمزية التي شكلت الذات العربية الراهنة بكل ما اكتسبته عبر تاريخها من سمات جوهرية، بعيدًا عن القوالب الشكلية المرتبطة بالزمن، ويعني العقل كل ما هو موضوعي وجوهري وعام في عالمنا يمت بصلة إلى التجربة الإنسانية المشتركة.

 تعمل هذه الصياغة النقدية كآلية ذهنية لتسهيل عملية التكامل بين القيم الجوهرية الكامنة في ذاتنا والقائمة في عالمنا، كونها قادرة على أن تفصل بين الشكل والمضمون، بين الطقوس والقيم، الثوابت والمتغيرات، وأن تعزل القوالب(الطقوس والمتغيرات)؛ لأنها تاريخية تعكس لحظة التشكيل، وتُبقي على الجواهر(القيم والثوابت)؛ لأنها تكوينية تصنع الهوية. إنه الانتقال الضروري الذي يحرر مشروع التنوير العربي من ضغوط العلاقة مع الغرب، ويضعه في علاقة مباشرة مع العقل، ينقذه من النزعة التلفيقية ويقربه من الروح النقدية كي لا يستمر أسيرًا في كهف الصراع بين ثنائيات متناقضة وساكنة تتعارك فيما بينها من خلف خطوط قتال محصنة، عاجزًا عن الولوج إلى فضاء الجدل مع الحقيقة مباشرة؛ حيث تتفاعل الأفكار مع الوقائع، والمفاهيم مع الظواهر على نحو مباشر.

من الاحتجاج الرومانسي إلى التمرد الأصولي      

 نتصور أن لكل صيرورة فكرية ارتدادات محتملة في الاتجاهات العكسية تشبه ارتدادات الأجسام المادية، التي ينظمها قانون الحركة لدى نيوتن، والقائل بأن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، فالإمعان في العقلنة قد يستدعي نقيضها الخرافي أو السحري، والإمعان في العلمنة قد يستدعي نقيضها الديني أو الأصولي، وكلاهما معًا بمثابة وجهين لحركة الاستنارة. غير أن تعديلًا مهمًا يبدو لنا ضروريًّا على قانون نيوتن الفيزيائي لحركة الأجسام ليناسب ما نتصوره قانونًا لحركة الفكر، فكلما كانت صيرورة العقلانية أكثرَ عمقًا وجذرية، كان ارتدادها في الاتجاه العكسي أقل سرعة وعنفًا، على عكس حركة الأجسام المادية، فمثلًا، عندما تكون مسيرة العقلانية طويلة وشاملة وعميقة، تنبع من قلب المجتمعات وتتغلغل فيها ولا تقتصر فقط على نخبة الفكر أو الحكم، تتوارى احتمالات رفضها وتقل حدة الاحتجاج ضدها، ويصبح رد الفعل عليها أكثر سلاسة. وهكذا العلمانية، عندما تكون معتدلة ونابعة من تاريخ المجتمع نفسه، ليست مُقحَمَة عليه من خارجه أو راديكالية تتعالى على قيمه الروحية أو تتعمد الصدام معها، فالأغلب ألَّا تثير توترات مجتمعية كبيرة، والعكس أيضًا صحيح، ولعل هذا يفسر لنا لماذا لم تشهد المجتمعات الأوروبية في أعقاب حركة التنوير موجات أصولية عنيفة؛ احتجاجًا على خيار العقلنة والعلمنة من الأصل، كما جرى في العالم العربي، بل فقط نزعات رومانسية تعكس احتجاجًا هادئًا على الإفراط في كلتيهما، توالت في موجات أربعة أساسية:

 جاءت الأولى: في منتصف القرن الثامن عشر- ذروة عصر العقل- وقد اتخذت صورة فلسفية وُلدت من رحم “جان جاك روسو” وكتابه الرائد حول “أصل التفاوت”، الذي مجَّد فيه حالة الطبيعة، وذمَّ المِلْكية الخاصة التي أفسدت العالم وغذَّت الشر وعدم المساواة.

وجاءت الثانية: حوالي منتصف القرن التاسع عشر في مواجهة القبضة الخانقة للثورة الصناعية وآلامها الكبيرة المصاحبة للانتقال من حياة الريف والمزرعة ذي الطابع الجمعي إلى حياة المدينة والمصنع التي تستوجب الاستقلال والفردية، تخطت الرومانسية حيز الفلسفة إلى الفنون والآداب-خصوصًا لدى الشعراء والفنانين الألمان والأدباء الإنجليز الكبار كـ”بايرون وألفريد تنيسون” في قصيدته (للذكرى) 1850م، و”توماس إليوت” في صيحته المدوية (الأرض الخراب)، وأخيرًا “تشارلز ديكنز” في (أوقات عصيبة) 1854م، التي صورت المدينة الصناعية الجديدة باعتبارها الجحيم الأرضي المدمر للأخلاق الإنسانية وللنزعة الفردية.

أما الثالثة: فاستمرت بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في موازاة مسيرة الحداثة الفائقة، وتصاعد التصورات المتشائمة حول نهاية الدين وموت الإله، وقد شهد الغرب- خصوصًا أوروبا خلالها- عمليات بحث عن روحانية هادئة تعوض ما فقدته منها تحت وطأة العقلانية الزاحفة، وهو ما وجدته في ديانات الطبيعية الآسيوية -خصوصًا في البوذية- بما لها من رهافة أخلاقية تدعو إلى التسامي، ومنابع إشراقية ذات منحى صوفي، ولكن مع تحرر شبه تام من مفهوم المؤسسة الدينية ذي البنية البطريركية، فضلًا عن التحرر شبه التام من مفهوم الإله التوحيدي، الذي يحوز الكمال ويتمتع بالقدرة على الخلق، والسيطرة على المصائر، والتحكم في طرق الخلاص- كان الأوروبيون يذهبون فيما يشبه رحلات الحج إلى البلدان الآسيوية، خصوصًا أولئك القادرين ماليًّا أو أصحاب الحساسية المرهفة من الكتاب والشعراء؛ لتعلم طقوس تلك الديانات وبالأخص البوذية ورياضتها العريقة في تهذيب الجسد والسيطرة على الروح من قبيل )النيرفانا واليوجا(، قبل أن يتم بناء مراكز تعليم لتلك الرياضة الروحية في المدن الأوروبية الكبرى؛ بحثًا عن السلوى من ضغوط الحداثة وإخفاقاتها، ودمار الحروب وعبثيتها، وعن شعور شفاف بالوجود الإنساني يخلو من الادعاءات الكبرى بامتلاك الحقيقة المطلقة.

 أما الرابعة والأخيرة: فتتمثل في انتفاضة الشباب عام 1968م، التي جرت في سياق البحث عن روحانية بديلة لما كان سائدًا آنذاك من أيديولوجيات علموية اتخذت شكلًا نسقيًّا ذا طابع حتمي أو شمولي خصوصًا النزعتين: (الوضعية بتطرفها العقلاني، والماركسية بحتميتها التاريخية)، ولا يمكن فهمها إلا باعتبارها نوعًا من التمرد السيكولوجي على التيار السائد في المجتمعات الأوروبية عبر عن نفسه في امتناع هؤلاء الشباب عن الدراسة في جامعات بلدانهم، والخدمة العسكرية في جيوشها، ودعوتهم إلى مجتمع بديل أكثر إنسانية، وبالذات في فرنسا حيث كانت النواة الصلبة ممثلة في حركة الطلاب.

نعم كان هناك أسباب مباشرة ومعلنة للانتفاض تتمثل في رفض الأشكال العديدة للهيمنة الفئوية التي مارستها جماعات مختلفة على أخرى، سواء جيليه من قبل الآباء، الذين تورطوا في الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من حرب باردة أو حروب بالوكالة، على جيل الأبناء الذين رفضوا الاشتراك فيها، أو جندرية من الذكور على النساء، الأمر الذي أطلق النزعة النسوية من عقالها لتصبح فلسفة كاملة بعد عقد واحد من الزمان، لا يزال حضورها ينمو في عالم القرن الحادي والعشرين، أو عرقية من البيض على الملونين خصوصًا الزنوج، تأثرًا بحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة التي كانت ملهمًا ضمنيًّا لتلك الانتفاضة، لكن يبقى السبب الأهم هو الجوع للروحانية في عصر بدت فيه العلمانية أقرب إلى ديانة إنسانية، فلم يكن هؤلاء الشباب يرفضون العقلانية ذاتها بل أشكالها المتطرفة التي اتخذت شكل أرثوذكسيات حديثة تطلب من جموع البشر عبادتها، فالمزاج العلموي المهيمن على الحداثة كاد أن يجعل من العلم أيديولوجية كاملة، تنطوي على تفسير شامل للوجود وليس فقط رؤية علمية للطبيعة والواقع، ومن ثم رفض أي أسلوب آخر (ديني / غيبي / روحي) للوصول إلى الحقائق المتسامية، ومن ثم نبعت الحاجة إلى تدين جديد، روحانية لا تنطوي على عقيدة كلية أو بُنى سلطوية تتأسس حولها، ولذا اتخذت هذه الحركات شكلًا رومانسيًّا واتسمت ببراءة ظاهرة وانتهت بسرعة فائقة، ربما لم تترك أثرًا سياسيًّا كبيرًا ولم تغير اتجاهات مجتمعاتها جذريًّا، وإن تركت بصمة في ضميرها خصوصًا لدى اليسار الثقافي ومدرسة “فرانكفورت”.

 في المقابل، وعلى الجانب العربي، استمر التنوير مشروعًا فكريًّا أكثر منه تجربة حية، حيث العقلانية هشة، قائمة فقط داخل الكليات الجامعية والأسوار الأكاديمية وأحيانًا في قلب النظم البيروقراطية، لكنها غائبة عن الفضاء الواسع للحياة اليومية، كما ظلت العلمانية هشة ومستوردة، بل مفهومًا محرمًا من الأساس لدى الوعي السلفي المتجذر في قلب المجتمعات، حتى لو جرت محاولات لفرضها من أعلى خصوصًا في بلد كتونس. في سياق كهذا نجحت الصيغة “التوفيقية” في حمل بعض أشعة الاستنارة إلى المجتمعات العربية، لكن ما إن وقعت هزيمة يونيو 1967م، إلا وكشفت كم كانت مسيرة الاستنارة هشة ومقحمة على مجتمعات تقليدية، لا تزال البذرة الأصولية تسكن في رحمها، لقد أفضت الهزيمة إلى انكسار شوكة النظام الناصري الحداثي أو السلطوي في مصر، وإلى حصار تيار الفكر القومي الذي جسد النزعة التوفيقية سياسيًّا، فتراجعت رموزه وتداعى رأسماله الثقافي والمنصات الإعلامية التي تتحدث باسمه وتدافع عنه، أمام تصاعد رموز ورأسمال ومنصات الوعي السلفي؛ لتبدأ سلسلة تداعيات أفضت في النهاية إلى بروز نمط التدين السياسي.

من التدين السياسي إلى الإلحاد السوقي

 وُلد الإلحاد في سياق الجدل الممتد بطول التاريخ تقريبًا حول وجود وماهية الكائن القدسي الأسمى الذي طُرحت في ظله وفي مواجهته الأسئلة الوجودية الكبرى من قبيل: (أصل الخلق، وجذور الشر، وجدوى الخير، ومصير الإنسان، ومغزى الحياة، ومعنى الموت، وما بعد الموت.. إلخ ). اختلفت ظاهرة الإلحاد عبر العصور سواءٌ من حيث عمقها بين التأليه واللا أدرية والشك والإنكار، أو من حيث انتشارها من كونها موقف أفرادًا مارقين على السائد والمألوف من المعتقدات، يختبئون في كهوف مظلمة حتى لا تراهم أعين الناس أو تمتد إليهم أيدي الكهنة والحكام، إلى كونها رؤية تيارات وجماعات تصدر عنها كتابات وتروج لها قنوات ويدور حولها مناظرات علنية توقفنا سلفًا عند الإلحاد الغربي في سياق تجربة تنوير مُنجزة، مدى صدقه في تفسير العالم وتبرير الوجود لدى تيار فكري يعيش داخل ثقافة بلغت من العقلنة نقطة ذروة، ونتوقف هنا عند ظواهر إلحاد عربي تعبر عن نفسها بطرائق مرتبكة تتسق ومشروع تنوير غير مُنجز، ومن ثم يمكننا التمييز بين نمطين أساسيين للتعبير عن الموقف الإلحادي:

 النمط الأول: هو الإلحاد الفلسفي الذي عرفته الثقافة الأوروبية الحديثة في صيرورة تحولها من التقليد إلى الحداثة انعكاسًا لفائض عقلانية، وتجسيدًا لنزعات مادية. لقد تحدى فيورباخ الإيمان المسيحي كما تحداه (فرويد، وماركس ونيتشه، ودوركهايم ودهولباخ… إلخ)، أنكر هؤلاء الأديان التاريخية وشككوا في وجود الإله، ولكن إنكارهم جسد موقفًا معرفيًّا مسؤولًا، تدفعه الرغبة في تخليص البشرية مما يعتبرونه أوهامًا تعطِّل العقل، وتقيِّد الحرية، أفنوا في بلورته جُلَّ أعمارهم، وأعادوا في سياقه تأمل التاريخ البشري، وأنتجوا في ظلِّه نظريات اتَّسم أغلبها بالعمق في تفسير العديد من الظواهر الإنسانية سواء النفسية كالأحلام لدى فرويد، أو الاقتصادية – الاجتماعية لدى ماركس، أو الاجتماعية – الدينية لدى إميل دوركهايم. بل إن تفسير فرويد لمفهوم الإلوهية بالنظرية السسيولوجية عن “قتل الأب”، رغم أنها لا تصلح في تصورنا لفهم الظاهرة الأساسية، التي صِيغت لتفسيرها، فإنها أضاءت لنا عشرات الظواهر الإنسانية، ومنها على سبيل المثال (الصراع بين الأجيال)، عندما يسعى اللاحق للاستحواذ على ثمار شجرة زرعها السابق، أو الحلول محله، رغم ما قدمه السابق للاحق من دعم في لحظة البداية.

 هكذا كان الطريق إلى الإلحاد الفلسفي مفروشًا بكل أنواع المعارف التي تضئ الظواهر الإنسانية المعقدة، حصَّلها مفكرون وفلاسفة ومارسها أغلبهم بأعلى درجات الحس الأخلاقي. بل إن كثيرًا من الملحدين العاديين الذين لا علاقة لهم بإنتاج النظريات والأفكار اُضطِّروا إلى تثقيف أنفسهم؛ لتبرير موقفهم الذي اتخذوه ربما لدوافع نفسية أو فطرية، ومن ثم اكتسبوا القدرة على تفهم شعور المؤمنين، الأمر الذي نتج عنه ظواهر لافتة من قبيل الملحد المهذب والإيجابي، الذي لا يتوانى عن التضامن مع الآخرين أيًّا كانت انتماءاتهم، احترامًا للروح الإنساني الذي يسكن في أعماقهم، في مقابل المتدين الجهول والمتعصب والهمجي أحيانًا، الذي قد لا يتورع عن إيذاء المختلفين عنه عَقَديًّا أو مذهبيًّا.

 تفسيرنا لذلك التناقض أن الملحد الخلوق ينظر إلى العالم من منظور الخير الكوني العام، ومن داخل شعوره بالواجب والمسؤولية الإنسانية، ورغم أن هذا المنظور نما في ضمير البشرية بنمو الديانات العالمية- خصوصًا التوحيدية، وتمددها على حساب الوثنيات المحدودة، فإنه سرعان ما ارتبط بفلسفة التنوير؛ ليجري استبدال الأساس الديني للواجب المشترك بين جماعة المؤمنين إزاء الإله الذي يعبدون بأساس علماني حديث يتسع لجميع البشر، ويشعر مع الأفراد المستنيرين بالمسؤولية الإنسانية عن المجتمع البشري قاطبةً تجاوزًا لحدود دولهم وأممهم.

 أما النمط الثاني: فهو الإلحاد السوقي الذي يفتقر القائلون به للشعور بالمسؤولية الإنسانية، إلى حد الاستمتاع أحيانًا بالتعاطي الساخر مع مفهوم الألوهية أو الدين وفقهائه أو رجاله أو حتى عموم المتدينين، حتى أنهم يُعوِّلون على الغرابة وينتهجون طريق الاستفزاز في التعبير عن مواقفهم لزيادة جرعة السخرية. لا يكترث أرباب هذا النمط الإلحادي بتأمل مواقفهم ولا يجتهدون كثيرًا في تبريرها، أو يبحثون لها عن منطق، ربما يضعون مقدمات صحيحة لكنهم لا يصبرون على الوصول بالبرهان إلى نتائجه المستقيمة، وفي الأغلب ينتمي هؤلاء إلى المرحلة العمرية الأصغر، الذين لم يبذلوا بعدُ جهدًا معرفيًّا يذكر في تأمل الموقف الإنساني المعقد. مشكلة هذا النوع من الإلحاد أنه عدواني بقدر ما هو استعلائي، فالملحد الفلسفي لا يسرع إلى إعلان إلحاده، ولا يفاخر به، حتى أن بعض من ذكرنا أسماءهم سلفًا، اللهم سوى نيتشه، لم يعرِّفوا أنفسهم كملحدين أصلًا، بل وصفهم بذلك مؤرخو الثقافة الذين أتوا بعدهم. أما الملحد السوقي فغالبًا ما يَسرُع إلى إعلان إلحاده، حيث لا غاية واضحة له سوى الاستعلاء على جموع المؤمنين، باعتبارهم ذلك القطيع الذي يحسن التفرد في مواجهته، كمحاولة للبحث عن هوية متميزة، أو تحقيقًا للشهرة والذيوع. ولعل هذا يذكرنا بمرحلة المراهقة لدى كثير من الناس، وهي مرحلة معروفة بالميل المبالغ فيه إلى تأكيد الذات، ولو عبر ممارسات عبثية غالبًا ما يندمون عليها بعد النضوج، ومن ضمنها عادة التدخين، تقليدًا للأب وتمردًا ليس فقط على سلطته التي يرونها قمعية بل أيضًا على طفولتهم التي يرغبون في تخطيها، لكنهم سرعان ما يحنون إليها حينما يقض الشيب مضاجعهم.

يمكن الادعاء هنا بأن الثقافة العربية المعاصرة تكاد تخلو من تيار إلحاد فلسفي يتجذر في نظرية المعرفة ويسعى للإجابة على الأسئلة الوجودية الكبرى؛ فلأن تيارات الاستنارة العربية تبلورت على قاعدة الهوية لا المعرفة- في مرآة الغرب لا العقل- فقد نمت ظواهر الإلحاد أحيانًا بدافع التقليد والادعاء، واتخذت شكل حلقات عشوائية راجت خصوصًا بعد عاصفة الربيع العربي وتغذت على نمط التدين الاحتجاجي، وهنا تكمن المفارقة، فبينما نتج الإلحاد الغربي عن فائق عقلانية تغذت منه النزعات المادية، نجد أن الجزء الأكبر من الإلحاد العربي نتاج نقص عقلانية، يتغذى- ضمن روافد عديدة- على تلك الفجوة التي لابد وأن الكثيرين قد لاحظوا وجودها بين المثل العليا التي يدعو إليها الإسلام كدين، وبين الوقائع المزرية التي أنتجها تيار الإسلام السياسي إبان فترة حكمه أو صراعه مع الآخرين على السلطة، عندما اختزل الإسلام في إيديولوجية تبرر مواقفه متوسلًا كل السلوكيات الذميمة كـ(الكذب والنفاق والتقية)، أو الممارسات المفزعة لتيار الإسلام الجهادي في مواجهة خصومه من حكام ودول ومجتمعات يعتبرها كافرة. بالقطع نالت تلك الفجوة من درجة انسجام الناس مع إيمانهم، فنمت شكوك البعض، وتحول بعض الشكاك إلى ملحدين، وازدادت شجاعة الجميع في التعبير عن أنفسهم بل مالوا إلى الاستعراض عكس نزوعهم السابق إلى الاختباء، فأنشؤوا دوائر اتصال علنية عبر الشبكة العنكبوتية يمارسون من خلالها الدعوة إلى أفكارهم وهنا باتوا ظاهرة مثيرة للإعلام وحافزة للجدل، تواردت معها الأخبار قبل سنوات عن مشروع قانون اقترحه أحد نواب البرلمان المصري لملاحقة الملحدين دفاعًا عن الإسلام.

 من جانبنا نرفض هذا القانون، ونطالب بالتسامح مع الإلحاد كموقف فكري، يتكرس لصاحبه الحق في الحياة والتفكير والتعبير دون افتئات على حريته أو بغي على دمه وماله، طالما عبر عن موقفه بإنسانية ومسؤولية، انسجامًا مع روح الشريعة السامية، ومنطق النص القرآني القائل: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيِّ”، والتي تمثل في اعتقادنا البيان الشاهق عن حرية العقيدة في الإسلام، الذي يتوجب تفسير باقي الآيات القرآنية ذات الصلة به في ضوء منطقه، أما جميع الأحاديث المنقولة التي تدور في فلك مفهوم الردة، ناهيك عن الاجتهادات الفقهية التي تتحدث عن حكم الردة أو تفسره فلا يجب الاعتداد بها، كونها لا تصمد أمام حجية القرآن الكريم نفسه، ولا تتناسب مع روح العصر وقوامها الأساسي حرية الضمير التي نراها جوهرًا لعقيدة التوحيد، لا يعني ذلك محاباتنا لتلك الظاهرة بل يعني تقليلًا من شأنها، ومحاولة لاستيعابها من دون صخب عالٍ أو ضجيج كبير؛ تقليلًا منها لأن الاعتراف بها لن يُفضي إلى ذيوعها، فالملحد جوهريًّا لن يؤمن بالله تحت ضغط العقاب القانوني بل سيتحول إلى باطني منافق، ملحد كامن أخطر على الإسلام من الملحد الصريح مثلما أن المسلم المتطرف أخطر على الإسلام من ملحد إنساني عاقل- واستيعابها لأن ذلك يمثل نقطة متقدمة في مسار تحرير الضمير المسلم، تحقق الأمان النفسي لجُل مكونات الاجتماع العربي، وتزيد من قدراتها على التسامح فيما بينها وتعفيها من خوض الصراعات العبثية. أما محاولات فرض تصورات طهرانية من قبل المؤسسات الدينية، عبر قوانين عقابية، فيفضي إلى استبداد ديني يغذي الاستبداد السياسي ويزداد في ظله التعصب والتطرف بما يسئ في النهاية إلى صورة الإسلام العقدي والحضاري.

يفرض ذلك الاعتراف على المؤسسات الدينية في العالم العربي الاكتفاء بالدور التعليمي والإفتائي ابتعادًا عن أي طابع كهنوتي، والتوقف عن تشجع متطوعي الحسبة على ملاحقة المجتهدين في قضايا الفكر خصوصًا ما يدور منها في فَلك تجديد الخطاب / العقل الديني، مع احتفاظها بالحق في الجدل مع منتجهم الفكري بهدف إنارة الرأي العام حولها؛ كي يتبين خياراته إزاءها ويختار مواقفه منها، كما يفرض على مؤسساتنا التعليمية تربية أطفالنا على التفكير النقدي بالقدر الذي يجعل مجتمعاتنا قادرة على التعاطي مع شتى أطياف الفكر بأدواتها الذاتية، من خلال رفع الكارت الأصفر في وجوه الملحدين السوقيين والمتدينين المتعصبين معًا، على نحو ينزع يدمر قنوات تواصلهم مع جماهيرهم، وربما يعيدهم إلى جادة الاعتدال، بدلًا من الإفراط في رفع الكارت الأحمر من قبل السلطات القضائية، دفعًا بهم إلى السجون أو الهجرة، ما يقلل من فرص الجدل الفكري لصالح استقطاب مجتمعي، تنطلق في سياقه طلقات مدافع من خلف خطوط نار ملتهبة بين جانبين يرى كل منهما أن لا حياة إلا على جثة الآخر، الأمر الذي يزيد كثيرًا- دون مبرر حقيقي- من حجم العبء المُلقى على كاهل الوضع البشري.

اظهر المزيد

صلاح سالم

كــاتب ومفــكر بجريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى