2019العدد 179ملف دولى

صراع سياسي وإيديولوجي أم مصالح وتحالفات؟.

لم تطل فترة احتفال العالم بنهاية الحرب الباردة لأكثر من عقد ونيف، آنذاك ظهرت بعض النظريات التي أعلنت موت الأيديولوجيات أو انهزامها في مواجهة الليبرالية التي باتت تمثل ليس نهاية التاريخ البشري وحسب، بل وصفة للتقدم البشري والخروج من مأزق الصراعات التي سيطرت على التاريخ البشري وتاريخ العلاقات بين الأمم والشعوب، وولوج عتبة الأمن والاستقرار والرخاء.

لكن العالم، وعلى عكس ما تم الترويج له، لم يدخل جنة الديمقراطية والرخاء، بل أصبح عالما وحيد القطبية، تحكمه وتتحكّم به دولة واحدة، الولايات المتحدة الأمريكية، التي راحت تخوض الصراعات وتوزع الاتهامات وتصنف الدول والشعوب، بين مارقة وغير مارقة. وما أن رتبت روسيا أوضاعها الداخلية، واستشعرت ببعض القوّة تدب في أوصالها، حتى أعلن رئيسها فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن 10 فبراير/ شباط 2007 ثورته على هذا الوضع، ومطالبته بعالم متعدد الأقطاب يكون لروسيا فيه دور تقريري، لتلي هذه الدعوة جولة من السياسات الروسية العدوانية تجاه جورجيا وفصل إقليمي ” أوسيتيا” و”أبخازيا” وصولاً إلى احتلالها جزيرة القرم في أوكرانيا وتدخلها في سورية لتحقيق مصالح جيوسياسية.

في ذات الوقت كان العالم يشهد ما يسمى بالنهوض الصيني، الذي بدأ على شكل إغراق أسواق العالم بمنتجات رخيصة وتشكيل كتلة رأسمالية ضخمة في إطار توليفة من الحكم المركزي للحزب الشيوعي الصيني وسياسات رأسمالية في الإنتاج والتجارة، ومثل أي قوّة صاعدة في ظل نظام متشكّل وتقاسمت أطرافه مناطق السيطرة، بدأت الصين في توسعة مجالها الحيوي في بحر الصين الجنوبي على حساب الدول الأضعف عسكريا، ثم أخذت تغزو أسواق العالم ومنابع ثرواته، بما يحقق لها مكانة مهمة في النظام الدولي.

عملت هذه السياسات مجتمعة، والتي انطلقت من حسابات مصلحية صرفة، إلى إعادة مناخات الحرب الباردة، فبين الولايات المتحدة الأمريكية التي تصرّ على انفرادها بالهيمنة على العالم وتحاول إخضاع منافسيها بالعقوبات الاقتصادية، وبين روسيا والصين اللتين سلكتا طريق ضرب المصالح الأمريكية، وغالبا في المناطق الخطأ، عبر الاستقواء على الدول والشعوب المجاورة، عاد العالم إلى حالة الصراع والتنافس، لكن بصيغة جديدة لم تعد الأيديولوجيا عنصرا مهيمنا فيها، وعادت أجواء الحرب الباردة، لتغلّف العلاقة بين أميركا وروسيا والصين من جديد، وهي العلاقة التي يصبغها تنافس استراتيجي ساخن على المستويات كافة. فروسيا العائدة لفرض نفسها كقوة عظمى مؤثرة وفاعلة إقليميا ودوليا، تهدف لتأمين مصالحها وأمنها القومي، بينما ترفض الولايات المتحدة الأمريكية أن تزاحمها أي من القوى الدولية، وتنظر بعين الريبة للعودة الروسية التي تهدد بكسر الهيمنة الأمريكية. وأدى سعي روسيا لتأمين مصالحها على عجل بعودة الحرب الباردة، حيث صارت العلاقات بينهما «في أدنى مستوياتها» كما وصفها الرئيس بوتين.

إن التوتّر بين الجانبين ليس من قبيل الخلافات العابرة، وإنما تناقضات جوهرية وهيكلية، يصعب تجاوزها في المدى المنظور، وتعبر ثلاثة محاور رئيسة، عن تلك التناقضات، وتمثل مسرحا للمواجهة بين البلدين، وهي (التنافس الاستراتيجي وصراع المكانة بين واشنطن وموسكو، والتناقض بشأن القضايا الإقليمية، والتنافس في سوق الطاقة العالمية) وتخشى أميركا الطموحات الروسية في مناطق استراتيجية، والعودة إلى لعب دور مؤثر على الساحة الدولية، بينما في المقابل هناك قلق من النشاط الأميركي في مناطق النفوذ الروسي بذريعة الترويج للديمقراطية بآليات مختلفة قد تصل إلى تغيير الأنظمة الحاكمة بالقوة .

نهاية الزمن الأيديولوجي.

تمتعت الأيديولوجيا بفترة مزدهرة، حيث حكمت لنحو 52 عاما، منذ العام 1939، الذي بدأت فيه الحرب العالمية الثانية، ومثل الحرب الباردة، كانت الحرب العالمية الثانية حرب أيديولوجيا -الليبرالية الديمقراطية، والشيوعية، والفاشية، والتحرر الوطني .

وكانت الحرب الباردة مواجهة سياسية وإيديولوجية وأحيانا عسكرية بشكل غير مباشر، دارت أحداثها خلال 1947-1991 بين أكبر قوتين في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وكان من مظاهرها انقسام العالم إلى معسكرين: شيوعي يتزعمه الاتحاد السوفيتي وليبرالي تتزعمه الولايات المتحدة.

كان الاتحاد السوفيتي ينظر إلى نفسه على أنه طليعة الثورة العالمية، وكان ذلك بمثابة الغاية التي تبرر الوسيلة. واعتقدت الولايات المتحدة بالمثل بأنها نور ليبرالي فريد يهدي الأمم التي تعهدت بالدفاع عن حرية كل فرد.

لكن الشيء نفسه لم يعد يمكن أن يقال اليوم عن أي منهما. وفي الحقيقة، لا يمكن أن يقال إن أيا من بلدان العالم الرئيسية يمتلك أيديولوجيا تحفز أفعاله أو تبررها. لم تعد روسيا والصين تسعيان إلى الثورة العالمية بعد الآن. وتسعى إلى تحقيق مصالحها في مناطقها العازلة، بينما تسعى الصين إلى تحقيق مصالحها الوطنية في مياهها الساحلية، ويعتقد حتى أكثر الناس حماسة للاتحاد الأوروبي أنه سيترتب على بروكسل -عند نقطة معينة- أن تهتم بشؤونها الخاصة.

لا حاجة للأيديولوجيا في زمن العولمة.

لقد تغيّر العالم بسرعة نحو مزيد من العولمة، وقد يتسبب في نهاية الديمقراطية الليبرالية بعد سقوط الشيوعية، ليس بسبب الصين الناشئة، ضد القوى الغربية، والهند و “الوكلاء” ولكن بسبب الذكاء الاصطناعي، وقوة البيانات، كما أن قضايا التلوث والاحتباس الحراري، جعلت البشر يحتاجون إلى إنشاء نظام عالمي جديد لا وجود له اليوم من أجل مواجهة تلك التحديات.

ولا شك في أن ظاهرة العولمة، أي ازدياد درجة التشابك والتفاعل بين الأمم، قد ساعدت على نمو النزعة الاستهلاكية وانتشارها في مختلف الدول، كما ساعدت على إضعاف التمسك من جانب أي أمة أو أي طائفة في داخل أي أمة، بفلسفة أو نظرة للحياة تتعارض مع نظرة الأمم الأخرى.

وليس ثمة صراع أيديولوجي كبير وشيك؛ وما من ستار حديدي جديد يوشك على أن ينسدل على أي من قارات العالم. وهناك قوة عالمية مهيمنة وطبقة ثانية من القوى الصاعدة والهابطة على حد سواء، والتي تريد الحد من هيمنة الولايات المتحدة، لكنها غير قوية بما يكفي لتحقيق هذه الغاية، ويخلق ذلك خلافات. وثمة ميل إلى العودة والحنين إلى حقبة الحرب الباردة لمحاولة فهم هذه الخلافات، وهو ما يشكل مناظرة خاطئة. ثمة نظير أكثر دقة هو حقبة النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كان ذلك وقتا لتنافس القوى العظمى الصاعدة؛ وقتا عندما كانت العلاقات بين الدول تدور حول المصالح الوطنية، وليس حول الاعتقاد بالصلاح الذاتي الأيديولوجي.

صراع المصالح: ظواهر في السياسة العالمية.

أدى أفول الأيديولوجيا إلى بروز ظواهر سياسية، على مستوى العلاقات والتحالفات بين القوى الدولية، وولادة أنماط من العلاقات والتحالفات، لم يجد الفكر السياسي توصيفا دقيقا لها، ربما لكونها تحالفات متحركة وغير ثابتة، وربما لأنها وقتية وغير دائمة، وهذا ناتج بدرجة كبيرة عن الفرق بين التقييم الأيديولوجي للصراعات وتفسيرها وكيفية التعاطي معها، من منطلقات جامدة وثابتة، وانتقال العالم إلى نمط الصراع المصلحي الذي يمكن حصر أسبابه وفهمها والسيطرة عليها وإيجاد المخارج المعقولة لها عبر تحقيق الحد الأدنى من توازن المصالح.

وعلى ضوء هذا التغيير بات من الممكن مشاهدة أنماط جديدة من التحالفات، وأشكال من السياسات تتناقض بشكل جوهري مع ما اختزنه العقل السياسي المعاصر من مدركات وخبرة في تحليل الظواهر السياسية وتبويبها.

تحالفات مصلحية متداخلة

تتميز الصراعات المصلحية في عالم اليوم بتداخلاتها الهائلة وتشابكاتها المعقدة، بما يفتح المجال لبناء تحالفات غير معلنة أحيانا، وتحالفات يمكن وصفها ب” القطاعية”، أي تحالف بين أطراف محدّدة في قطاع أو مجال معين، رغم التناقضات العلنية في سياساتها العامة وتوجهاتها الكبرى، وثمة شواهد على هذا الأمر، لعل أهمها:

التحالف الأميركي- الروسي ضد الاتحاد الأوروبي.

لا ترتبط روسيا والولايات المتحدة الأمريكية بأي تحالفات مهيكلة ومؤطرة، بسبب الصراع الحاد بينهما على مدار حقب طويلة من التاريخ المعاصر وتناقض مصالحهما راهنا، وعلى العكس من ذلك، ثمة روابط تحالفية تجمع أوروبا بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو تحالف امتد منذ بدايات القرن العشرين وحتى اللحظة، وقد توّج هذا التحالف بالحلف العسكري الشهير” حلف الناتو” الذي تأسس لحماية أوروبا من الأطماع السوفيتية وبهدف الحفاظ على أمنها واستقلالها.

غير أنه مع وصول إدارة ترامب للسلطة، بدأت التوجهات الأمريكية تنحرف باتجاه ضرب أهم ركائز الأمن والاستقرار الأوروبي، عبر تشجيع تفكيك الاتحاد الأوروبي وتحطيم مؤسساته وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الوحدة الأوروبية، وتفضّل الولايات المتحدة الأمريكية التعامل مع الدول الأوروبية كل على حدة وليس منظمة إقليمية واحدة. وتبدو إدارة الرئيس ترامب مقتنعة بأن تكتل الأوروبيين داخل اتحادهم سيجعلهم أكثر قوة في مفاوضاتهم التجارية والاقتصادية، عكس ما سيكون عليه الحال لو جرى التفاوض مع كل دولة لوحدها.

ولم يخفِ الرئيس الأميركي، ترامب، انتقاداته للاتحاد الأوروبي عندما دعم القرار البريطاني بالخروج منه، متحدثا عن أن دولاً أخرى ستتخذ المسلك ذاته. ويعدّ توتر العلاقة بين أمريكا والاتحاد الأوروبي بالشكل الحالي غير مسبوق، إذ طالما كانت واشنطن ترى أن مصلحتها هي في أوروبا موحدة وقوية، أولاً لمواجهة الاتحاد السوفييتي سابقا في الحرب الباردة، ثم لأجل مشاركة قيم الديمقراطية والتعاون التجاري بعد انهيار جدار برلين.

ولم يقف الاتحاد الأوروبي صامتا أمام محاولات ترامب دفعه للانهيار، فقد وجه دونالد توسك، رئيس المجلس الأوروبي، رسالة إلى رؤساء حكومات ودول الاتحاد يقول فيها إن “أمريكا ترامب باتت في مستوى دولتي روسيا والصين وحركة الإسلام الراديكالي”. وكتب توسك أنه للمرة الأولى في تاريخ الاتحاد الأوروبي، هناك قوى خارجية متعددة تحمل نسقا معاديا لهذه المنظمة القارية.

ويتحالف ترامب بذلك مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يعتقد أن الاتحاد الأوروبي يشكل خطرا جيوسياسيا على النظام السياسي الروسي، كما يؤثر على المجال الحيوي لروسيا، عبر انضمام الدول التي كانت تدور في الفلك الروسي للاتحاد الأوروبي، فقيم الديمقراطية والانتخابات الحرّة والشفافية تشكّل خطرا على نظام الحكم الروسي الذي لم يزل بأساليب أقل ما يقال عنها أنها غير ديمقراطية، عبر سيطرة نخب سياسية واقتصادية على ثروات البلاد ومحاربة كل معارضة لها.

ويشجع ترامب وبوتين قوى يمينية متطرفة في أوروبا للصعود إلى سدة الحكم واستلام السلطة، والمعلوم أن هذه القوى ترفض الوحدة الأوروبية وتدعو إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي وإلغاء مؤسساته والعودة إلى الدولة القومية، وقد ثبت أن بوتين لا يكتفي بالدعوة لتفكيك الاتحاد الأوروبي ونقد القيم الأوروبية، لكنه يتورط في تقديم دعم مالي للأحزاب اليمينية المتطرفة، في النمسا والمجر وفرنسا، كما تلقت الأحزاب اليمينية دعما سياسيا من إدارة ترامب، عبر مستشاره السابق، ستيف بانون، في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة.

التحالف الأوربي -الروسي ضد أميركا في مجالات المال والغاز.

رغم الخلافات الهائلة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، وخاصة في المستويات السياسية والعسكرية، غير أن ذلك لم يمنع الطرفين من التعاون والتحالف لحماية مصالحهما المشتركة في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث اتفق الطرفان على تشكيل مجموعة عمل لتقليص حصة الدولار في ميزان المدفوعات بينهما والانتقال إلى الروبل واليورو، ما ينذر بحرب عملات في ذروة النزاع التجاري.

وبرّر الطرفان توجههما هذا انطلاقا من إدراكهما أهمية استخدام العملات الوطنية في تجارة الطاقة بهدف تقليل المخاطر التي قد يتعرض لها قطاعا الأعمال في روسيا والاتحاد الأوروبي، وحسب بيانات المركزي الروسي، فإن حصة التعاملات بالروبل في تجارة روسيا مع الاتحاد الأوروبي تبلغ 8.3 بالمائة فقط، فيما تشكل حصة اليورو 34.3 بالمائة أما الحصة الأكبر فتعود للدولار 54 بالمائة. ويرجع ذلك بشكل أساسي كون إمدادات النفط والغاز يتم احتسابها بالدولار.

غير أن تضارب المصالح الأوروبية- الأمريكية ظهر بشكل جلي في معارضة أميركا لمشروع خط أنابيب الغاز الألماني-الروسي “نورد ستريم 2” بذريعة أن هذا الخط  يمكن أن يزيد من تعرض أوروبا لعمليات ابتزاز روسية في مجال الطاقة، وأن تبعية الاتحاد الأوروبي للغاز الروسي، تنطوي على مخاطر لأوروبا والغرب بشكل عام.

واعتبرت وزارة الخارجية الأمريكية، عبر رسالة وجهها سفراؤها في برلين ريتشارد جرينيل ونظيراه في الدنمارك وبروكسل، كارلا ساندس وجوردون سوندلاند “أن نورد ستريم 2 يمد بشيء أكبر من مجرد غاز روسي. فستنتشر قوة روسيا وتأثيرها عبر بحر البلطيق وتصل حتى أوروبا”، موضحين أن خط أنابيب الغاز سوف يُمكن روسيا من مواصلة تقويض سيادة أوكرانيا واستقرارها، وحذروا أيضا من” إمكانية تمويل مصانع التضليل الموجهة ضد المؤسسات الديمقراطية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من خلال الإيرادات التي تقدر بمليارات من أوروبا”.

وفي يوليو/تموز الماضي لـ 2018، وعلى هامش لقاء مع الأمين العام لحلف الشمال الأطلسي “الناتو”، صعّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب من نبرة هجومه على ألمانيا بشكل غير مسبوق، حين وصف العاصمة الفعلية لأوروبا بأنها “أسيرة لروسيا”، مدعيا أنها تحصل على نسبة 60-70% من احتياجاتها من الطاقة من روسيا، ومُنَوِّهًا أنه “من غير المناسب أن تدفع الولايات المتحدة مقابل الدفاع عن أوروبا في مواجهة روسيا، في حين أن ألمانيا، أكبر اقتصادات أوروبا، تنخرط في صفقات الغاز مع موسكو” .

لا شك أن الدافع الأساسي للهجوم الأميركي على الغاز الروسي، يرجع إلى رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في زيادة مبيعاتها في أوروبا من الغاز الطبيعي المسال، الذي يلقب باسم “غاز الحرية”، بعد أن تحولت إلى أكبر منتجي الغاز في العالم وبات لديها فوائض هائلة، لكن المشكلة أن توريد الغاز لأوروبا من أميركا يتم عبر صهاريج تعبر الأطلسي، بعكس الغاز الروسي الذي يصل إلى أوروبا من خلال شبكة خطوط أنابيب تم وضعها منذ عقود وبسعر أقل بكثير.

وترفض ألمانيا الخضوع للطلب الأميركي، بناء على اعتبارات مصلحية وطنية صرفة ولا تلتفت كثيرا لقضية العقوبات التي تفرضها أميركا على المؤسسات الروسية، حيث تشدّد وزارة الاقتصاد الألمانية على أنها تعارض فرض العقوبات خارج أراضي الدولة، كما ترى أن العلاقة الروسية تمتثل للقانون الوطني والأوروبي.

السياسات الصينية الإمبريالية في أفريقيا.

طالما دعمت جمهورية الصين الشعبية الدول الإفريقية منذ تولي الحزب الشيوعي الصيني السلطة عام 1949. وفي عهد ماو، دعمت الصين حركات التحرر الإفريقية في محاولة لتعزيز الماوية وموازنة النفوذ السوفيتي والأمريكي. وفي معظم أنحاء إفريقيا اليوم، تعتبر الصين القوة الإمبريالية.

لا تستهدف الصين بوجودها في إفريقيا في الوقت الحالي تعزيز الماوية، بل تستهدف السيطرة على مواردها وشعبها وإمكاناتها، وقد غيَّرت الصين المشهد الاقتصادي الإفريقي في القرن العشرين تغييرا جذريا، بدءا من بناء السكك الحديدية في كينيا، ومرورا ببناء الطرق في المناطق الريفية في إثيوبيا، ووصولاً إلى إدارة المناجم في الكونغو.

غير أنَّ الصين تتعامل مع أفريقيا بذات الأسلوب الذي تعاملت به الإمبريالية الاستعمارية، من حيث تركيزها على تبعية الدول التي تستثمر بها، ونهب مواردها الأولية وثرواتها، دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى حصول تنمية حقيقية مستدامة.

 وتكافح الدول الإفريقية لسداد قروضها للصين، التي تتفاخر بأنها لا تضع شروطا سياسية مقابل استثماراتها، كما لا تتدخل في الشؤون السياسية لتلك البلاد، لكن الإشكالية أن الصين تشترط على الدول الأفريقية أن يتم سداد الديون عبر رهن أصولها الإستراتيجية، موانئ ومطارات ومناجم المعادن، وعلى سبيل المثال قد تستولي الصين على ميناء مومباسا، في كينيا، نتيجة الاقتراض الضخم من جانب الحكومة.

وتواصل الصين مدح إسهامها في إنشاء البنيات التحتية في بلدان أفريقيا. تشكل هذه البنيات التحتية بوجه خاص فرصة تستغلها نخب بلدان أفريقيا للإثراء ولا تناسب بالضرورة حاجات السكان الاقتصادية والاجتماعية، خاصة عندما يتعلق الأمر ببناء ملاعب أو قصور مؤتمرات أو قصور رئاسية كما الحال في بوروندي أو موريتانيا أو السودان أو موزمبيق. لكن هذه الاستثمارات تثقل بشكل كبير ديون بلدان أفريقيا. وفي الواقع، في معظم الحالات، تصبح مضمونة بأصول البلدان، التي قد تكون المناجم أو الموانئ أو المنتجات المعدنية أو الامتيازات النفطية.

وقد حذّر بعض رجال الساسة والاقتصاد في أفريقيا من خطر الإمبريالية الصينية على مستقبل أوروبا وكتب مدير البنك المركزي النيجيري في صحيفة فاينانشيال تايمز إن «أفريقيا بإرادتها الحرة والمطلقة تسلم نفسها لاستعمار جديد». وخرج أيضا جاكوب زوما رئيس جمهورية جنوب أفريقيا، خلال زيارة له في بكين، ليقول أمام الرئيس الصيني السابق إن التجارة بين الصين وأفريقيا يجب أن تكون متوازنة «وكما تعرف يا سيادة الرئيس، هذا النمط من التجارة لا يمكن أن يدوم في الأجل الطويل».

ويعتبر أكول نيوك دوك، مستشار سياسة دولية من جنوب السودان، “أن إفريقيا على أعتاب حقبة جديدة في تاريخها ونهضتها. فهذه القارة التي تحرَّرت من براثن الاستعمار ومن بعده الإمبريالية الجديدة لديها الفرصة لتصبح مركزا للقوة الاقتصادية، من أجل توفير الرخاء لسكانها المتزايدين، لكنها للأسف تواجه في الوقت الحاضر خطرا جديدا: الإمبريالية الصينية، أي خطر الوقوع تحت سيطرة الصين إلى حدٍّ كبير، من خلال الاستثمار الاقتصادي والقروض الصينية. 

ويرى الكثيرون في إفريقيا وخصوصًا جنوب صحرائها -بعد سلسلة أحداث- أن نظرة المؤسسات الصينية تجاه إفريقيا لم تخلُ من العنصرية, والكبريائية التي يشكون منها في علاقاتهم مع الغرب؛ رغم “الصداقة العميقة”، والتعاون الاستثماري بين الصين وإفريقيا.

وعلى الرغم من الاتهامات, والتكهنات بإعاقة الدول الإفريقية بالديون والاستيلاء على سيادتها ومواردها وأسواقها المحلية, إلا أن الصين تنكر بشدة ممارستها لكل ما سبق، وتجادل بدلاً من ذلك بأن “كرمها” يوضِّح التزامها بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية في العالم.

المصالح أولاً.. وأخيراً.

هل انتهى، بسقوط الأيديولوجيا، زمن التلاعب بالعقول؟، من المفترض أن كل شيء بات مكشوفا، ولم تعد تلك القشور، التي طالما اعتمدت الإستراتيجيات الكبرى تغليف سياساتها وأهدافها بها، قادرة على أداء ذات الدور، لقد قالها كبار إستراتيجيو العالم، إنه الاقتصاد يا … إنها المصالح التي تتشكّل على أساسها التحالفات وتبنى على وقعها الإستراتيجيات، وتخضع، أعتى القيم، لاشتراطاتها ومتطلباتها.

اظهر المزيد

غازي دحمان

كــاتب ســـوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى