2019العدد 180ملف ثقافي

تحولات الفانتازيا في الأدب العربي

من نافل القول أن نؤكد على أن الكاتب أو الأديب أو المسرحي، المجهول أو المعلوم، الرسمي وغير الرسمي، الشاب أو الكهل، المرأة أو الرجل، يلجأ كل منهم إلى أشكال غير مألوفة في إنشاء النص الأدبي، وذلك لأسباب عديدة، أولها إيجاد وسائل معاصرة وممتعة ومفهومة للجمهور الموجه إليه ذلك النص، كما أن هناك أشكالا تحايلية للأدب يكتبها الأدباء تحت وطأة ملابسات وظروف شبه ديكتاتورية، أو ديكتاتورية، فيلجأ الأديب إلى الإغماض أو الرمز، أو استخدام الأسطورة والمجاز والأقنعة التاريخية إلخ، وهذه النصوص انتشرت بشكل مكثف على مدى التاريخ الثقافي المكتوب أو الشفاهي، السردي أو الشعري، المقروء مثل الرواية أو القصيدة، أو المسموع مثل المسرح.

ومن هنا نستطيع أن ندرج ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، ورسالة الغفران، وحي بن يقظان، على سبيل المثال تحت مسمى “الفانتازيا”، أي تلك النصوص التي أرسلها كتّابها ومنشئوها في أشكال غير مألوفة أو خيالية، أو صادمة للواقع بشتى الطرق، ولكنها تثير الإعجاب والمتعة بدرجات مختلفة، حسب اختلاف الزمان والمكان والمتلقي، وكذلك تأتي الصياغات المختلفة لتلك النصوص، وفقا لدرجات التلقي المتاحة في مختلف البيئات والأزمنة، ولذلك تظل تلك النصوص مثيرة لأشكال من الجدل الفني والمعرفي والرقابي، حيث إن بعض النصوص تثير حفيظة السلطات المتنوعة، فنعرف أن اتهامات طالت أبا العلاء المعري _على سبيل المثال_، ووصفته بالزندقة، وليس سرا أن كتاب ألف ليلة وليلة، تعرضت للمنع والقمع والمصادرة في مصر منذ سنوات عديدة، كما أن بعض كتابات المتصوفة تعرضت لذلك المنع والمصادرة، لما يشوب تلك الكتابات _من وجهة نظر المتشددين_ من خروج عن السياقات المألوفة في التفسير الديني، وهذا الخروج الفني، لا تحتمله العقليات الكلاسيكية.

وبالطبع هناك ما يسمى بالتلاقح المعرفي، أو التأثير والتأثر الفكري أو الأدبي أو الفني أو الثقافي بشكل عام، وليس غريبا أن الأمم في صعودها تكون قادرة على استيعاب ثقافات أمم أخرى، وتعيد إنتاج صناعة وإبداع تلك الثقافات الواردة، حتى تصبح جزءا خاصا من نسيج ثقافتها، ولا يوجد أي غبار على ذلك، وهذا ما حدث بصدد ثقافتنا العربية، حيث استطاع الغرب أن يستلهم تراثنا العربي والإسلامي بشكل حر، دون أدنى احتجاجات من الرقابات العديدة، السياسية أو الدينية أو الأخلاقية، مثلما يحدث لدينا، رغم أن التراث الإنساني ملك لجميع البشر من كتّاب ومبدعين ومتلقين دون أدنى تمييز، ومن حق أي أحد تحويل ذلك التراث كما يرى في أشكال فنية أو بحثية مفيدة، ويكتب فاروق خورشيد قائلا : “أديب العصر وريث تراثه العربي لا شك، ولكنه وارث بحكم الحق المشروع للأديب الإنساني كله، ولا تستطيع قوة أن تنكر أن الإنسان العربي المعاصر وإن كان مدينا بجذوره لماضيه العربي، إلا أنه اليوم يعيش كل معطيات الحضارة الإنسانية بسماتها الغربية وأدواتها الغربية أيضا”([1]).

ورغم أن الخيال في جموحه المتعدد، تتنوع صوره حسب الزمان والمكان، إلا أن جوهره يظل واحدا، وهناك نوازع أو أسباب مشتركة لوجوده وإنشائه وصبه في أشكال مختلفة، تلك الأشكال التي تصبح شعرا أو قصصا قصيرة أو روايات أو مسرحا، أو حتى كتابات تشبه ذلك، حسب المواهب وظروف وملابسات التلقي التي تساعد على نمو وتطوير نوع على حساب أنواع أخرى، وأحيانا يستعين منشئ النص بشخصيات تاريخية،  ليس لتقديم سيرة غيرية أو فنية لتلك الشخصيات، بل للتعبير عن وجهة نظر معينة في إشكالية ما، مثلما كانت شخصية ابن خلدون عالم الاجتماع الشهير محورا لأعمال فنية عديدة، ولم تكن تلك النصوص مشغولة بسرد حياة وملابسات تاريخ نشأة وتطور ابن خلدون في حد ذاتها، بقدر ما كان التناول مشغولا بقضية المثقف والسلطة، ففي رواية “رجل في القاهرة”([2]) لأحمد رشدي صالح، ينتصر صالح لابن خلدون، ويتناول الفترة التي قضاها في القاهرة، هربا من كافة المطاردات التي كانت تحاصره في شتى الأماكن، بينما ذهب سعد الله ونوس في مسرحيته “منمنمات تاريخية”([3]) إلى إدانة ابن خلدون عبر سرد سلسلة أحداث وملابسات عديدة تؤكد وجهة نظره، ولم تكن تلك الملابسات التي يطرحها سعدالله مجرد إدانة لابن خلدون، بقدر ما كان يريد طرح مجموعة إشكاليات وأسئلة وقضايا على الواقع المعاصر، ليس بطريقة الإسقاط الميكانيكي، ولكن عبر تضفير علاقة فنية بين الماضي والحاضر، ويكتب عبد الرحمن منيف : “(منمنمات تاريخية) مسرحية هامة بأكثر من معنى، إذ بالإضافة لاختيارها مرحلة تاريخية بالغة الدلالة ، فإنها تختار حدثا بارزا : غزو التتار للمنطقة، وتختار طيفا واسعا من الشخصيات والمواقف لتطرح من خلالها مجموعة من الأسئلة الهامة، الدقيقة والحارقة، لتدخلنا ، في النتيجة ، في صراع مع أنفسنا، مع ما حولنا ، لعل التأمل والتساؤل يصلان بنا إلى بداية الطريق”([4]).

وفي بناء سعد الله للمسرحية، استعان بشخصيات تاريخية حقيقية ومعروفة، وعلى رأسهم الشخصية الرئيسية العلامة ابن خلدون، صاحب الكتاب العمدة “المقدمة”، وبعض الشخصيات التي عايشت ابن خلدون واشتبكت معه مثل عز الدين آزادار، والشيخ برهان الدين التاذلي ، والشيخ الشرائجي وغيرهم،  ولكن سعدالله لم يكن معنيا باستدعاء تلك الشخصيات الواقعية، لكي يسرد الجانب الواقعي والتاريخي الببليوغرافي لها، والذي يشير إلى التأريخ الواضح والصريح، بقدر ما كان يدير جدلا واسعا، حتى يشتبك مع قضايا العصر وإشكالياته، دون أن يقع في شرك الإسقاط الساذج، والمعطّل لطاقات الخيال الجامحة، ومن ثم ترك لذلك الخيال كل الأبواب مفتوحة، حتى يستطع أن يجسّد أفكاره وقراءاته الخاصة للأحداث التاريخية، ومن ثم جاءت المسرحية عملا فانتازيا بامتياز، وكذلك سارت رواية “العلّامة”([5]) للمغربي سالم بن حميش على ذلك المنوال، وإن كان حميش أظهر انحيازا واضحا لابن خلدون، مع إضفاء قدر كبير من الشاعرية على هذه الشخصية المحيرة تاريخيا.

ولم تكن الشخصيات والأحداث التاريخية فقط هي الإطار الوحيد لإنشاء الفانتازيا، ولكن تم استخدام الحيوان والطير في ذلك المجال، وكان كتاب “كليلة ودمنة” شاهدا حيّا وفاعلا على مدى التاريخ، وهو الكتاب الذي ألفه عبد الله بن المقفع، وقد دار حوار تاريخي طويل: هل قام ابن المقفع بترجمة هذا الكتاب عن اللغة الهندية، أم كتبه وألفه بالعربية مباشرة، والسائل هنا يعتقد أن حكايات الكتاب يأتي نسبها إلى الهنود، ومن ثم فلابد أن يكون الكتاب مترجما عن اللغة الفهلوية، وهناك من ينسب الكتاب إلى العربية، فهذا هو عبد اللطيف حمزة يقول : “..والواقع أنني مع الذين يميلون إلى تكون قصص كليلة ودمنة من القصص الشعبي الإسلامي لا الهندي، وكنت من الذين يشكون في أنه وجد قبل ابن المقفع مصنف بهذا الاسم ..”([6])

وإذا كان عبد اللطيف حمزة قد أورد ظنه في بدايات بحثه، إلا أنه قد ساوره الشك فيما بعد، وذكر أن هناك في التاريخ الذي سبق حياة ابن المقفع، وقعت مثل هذه الحكايات في مجتمعات أخرى، ويكفي أن ابن المقفع فتح المجال أمام العرب بإنشاء أو ترجمة مثل هذه القصص، وذكر في نسبتها إلى آخر، فيقول: “ولكن مهما قيل إن القصة وجدت قبل ابن المقفع ، فلا شك في أنه كان أول الذين فتحوا للناس بابها، ولا شك أنه أسبق الكُتّاب إلى الإكثار من قولها، ولا شك أيضا في أن هذه القصص الهندية المعروفة تركت أثرها في الخيال، كما تركت من قبل أثرها في الخيال الفارسي”([7]).

ولا بد أن تدور في رأس القارئ لهذا الأثر العظيم، لماذا يلجأ منشئ هذا الكتاب إلى استدعاء الحيوان لكي يضع على لسانه كل تلك الحكايات المثيرة، والتي تتحدث عن العدل والحرية بأشكال عديدة، ولا بد أن يكون ابن المقفع الذى اضطهدته السلطة اضطهادا بينا، قد وضع في حسابه أن استعانته بهذا الشكل الفانتازي سيكون منجاة من العقاب المؤكد، ومن ثم تميزت حكايات الكتاب بالدعابة والحكمة وما غيرها، رغم أن مقاصده لم تكن كذلك، وهنا يكتب د محمد رجب النجار قائلا في غاية الكتاب ووظائفه: “في أربعة أبواب كاملة على الأقل_هي بإجماع الباحثين من تأليف ابن المقفع_ قدم بها كتابه، ليؤكد أن الكتاب ذو غايات سياسية محضة، لا تعليمية أو أخلاقية فحسب (كما خرافات أيسوب Aesop”s Fables مثلا) وإنما تحريضية في المقام الأول، وأنه دعوة صريحة للمثقفين_ من فلاسفة وحكماء وعلماء ورجال دين_ للالتزام بواجبهم الأدبي في مواجهة أو ترشيد السلطة الباطشة والأنظمة الحاكمة المستبدة، فضلا عن القيام بدورهم التنويري في المجتمع”([8]).

ولم تتوقف عملية استخدام الفانتازيا والبناءات المتخيلة عند كلية ودمنة فحسب، بل ظلّت الأجيال تتناقل تلك الاستخدامات حتى عصرنا الحديث، فكتب الفلسطيني الدكتور إسحق موسى الحسيني كتابا ممتعا للغاية عنوانه “مذكرات دجاجة”، وبالطبع لم يقتصر أمر تلك المذكرات على أحداث تخص دجاجة، بقدر ما كانت تلك المذكرات شاهدا على عصر كامل، وقدّم له الدكتور طه حسين قائلا : “هذه دجاجة عاقلة جد عاقلة، ماذا أقول! بل هي دجاجة مفلسفة تدرس شؤون الاجتماع في كثير من التعمق وتدبر الرأي، فتصل إلى استكشاف بعض الأدواء الاجتماعية وتصف له الدواء.. وكذلك كشفت لنا هذه الدجاجة عن نظراء يشاركوننا في لذاتنا وآلامنا وفي محاسننا وعيوبنا، وهى في ذلك تشبه تلك الحيوانات التي تحدثت في كليلة ودمنة منذ قرون”([9]).

ومن دواعي البناء الفانتازي أن يرسل الكاتب مادته دون أي إشارة للغرابة أو طاقة الخيال المعبأة في النص، الكاتب يرسل ويكتب ويبدع دون أن يصف كتابته، ولكنه يضعها في سياقات شبه مألوفة، وهذا يبدو عندما يتحدث عن دجاجته التي عاشت معه في بيته، ووقعت بينه وبينها ألفة مطلقة، ومحبة عارمة، وكان يطعمها بيديه، ويرقب حياتها يوما بعد يوم، وهو لم يزعم أكثر من أنه يترجم ما تقوله، ولم يقل لنا بأنه أحد ورثة سيدنا سليمان، بل أرسل قوله دون تلك الإشارة التقريرية الواضحة والصريحة، “فأنا _في الواقع_ أترجم لك ما أوحت به إلىّ، أما عنصر الخيال فيها فضئيل، وهو لا يعدو أن يكون تعليقا على هامش الحياة أو تحليقا في عالم المثل” ([10]).

وفي ظني أن الحسيني يكتب هذه المقدمة القصيرة، لكى يتفادى أي مشادات سياسية تثار بعد ذلك حول الحوارات التي جاءت في الكتاب، على غرار كتّاب الرواية الذين يكتبون في مقدمة رواياتهم بأن أي تشابه يقع بين أسماء وأحداث في الرواية، وبين الواقع، ليس مقصودا على الإطلاق، وأستطيع أن أمعن في الظن أن الكاتب كتب هذه المقدمة لهذا الغرض، ولكنها _أي المقدمة_ ساهمت، وربما دون أن يقصد الكاتب في تعميق الجانب الفانتازي في الكتابة، فزعم أن كل ما ورد في الكتاب ما هو إلا حديث الدجاجة الذى لا دور له سوى ترجمته ونقله، وهذه كما أسلفنا لعبة فانتازية متخيلة لتناول الواقع، ومن بديهيات الفانتازيا “تناول الواقع بشكل غير مألوف”.

ومن المدهش والمثير أن يختلف الكاتب الأردني غالب هلسا مع الدكتور طه حسين عندما ذهب لمقارنة “مذكرات دجاجة” بكتاب “كليلة ودمنة”، وانتهى _طه حسين_ أن الحسيني سار على خطى ابن المقفع، ولكن هلسا اعتبر أن المقارنة بين الكتابين غير موفقة، وما التشابه بين الكتابين سوى تشابه سطحي، وأقرّ هلسا بأن كلا الكتابين يتحدثان بلسان الحيوان، ويخرجان من الأحداث بحكمة ما “..ولكن الفروق بين البناء الأسطوري والبناء الواقعي، أن عظمة كتاب مثل كليلة ودمنة، تكمن في احتفاظه بذلك الحس الأسطوري بالعام، وبأنسنته (omimisom) وطغيان ذلك العالم النباتي_ الحيواني على حكاياته، إنه يعيدنا إلى طفولتنا_ أرسخ التجارب في وجداننا_ في حين أن مذكرات دجاجة يقترب كثيرا_ من البناء الروائي ، وما عالمه الحيواني إلا قناع”([11]).

لم يأت الخلاف بين غالب هلسا وطه حسين إلا حول تصنيف الكتابين، من حيث النوع، ولكن الغرض الذي جاء في مذكرات دجاجة، لم يختلف كثيرا عن الغرض الذي أرادته كليلة ودمنة، وبالتأكيد هناك إقرار بأن أثرا ما تركته كليلة ودمنة على مذكرات تلك الدجاجة، وكذلك فالأبعاد الفانتازية قائمة في الكتابين بشكل واضح، والكتابان يعالجان موضوعات وقضايا الواقع على ألسنة الحيوانات والطيور، وهذا هو القاسم المشترك بين الكتابين.

ومن المدهش أن تأتي رواية أخرى قلبت العالم قلبا، وترجمت هذه الرواية إلى عدد كبير من اللغات، ووزعت في طبعتها الأولى ما يربو على مليون نسخة، أقصد رواية “مزرعة الحيوانات” لجورج أورويل، وهو الاسم المستعار الذي اشتهر به المؤلف والكاتب أريك بلير، والذي ولد في الهند عام 1903، وبدأ حياته العملية أو الوظيفية ضابطا في الوحدات الهندية الإمبراطورية، وقضى بعض فترات خدمته بين عامي 1922و1928 في بورما، وكتب مجموعة قصص وروايات لم تلفت له النظر في البداية، ولكن بعد صدور روايته “مزرعة الحيوانات” 1945، ورغم أن الرواية تدور في عالم الحيوانات، إلا أن تفسيرها السياسي، كتب لها ولكاتبها شهرة مدويّة، واختلفت فيها التفسيرات أيما اختلاف، فهي تهاجم النظام الشمولي في شتى صوره، وهي رواية مكثفة في طرح الأفكار التي تدين ذلك النظام المتفشي في العالم، وبشكل خاص في الاتحاد السوفيتي، والذي كان يرى ويكتب أورويل في يومياته، بأن ذلك النظام انتهى وحكم عليه بالإعدام من نهاية عقد العشرينات، بعد تفشي الخلافات، وتضارب الصراعات، وملخص الرواية “..تطرد حيوانات إحدى المزارع صاحبها، وتستولي عليها وتديرها بنفسها!، وتنجح التجربة تماما، رغم الواقع غير السعيد المتمثل في أنه لا بد من أن يحل شخص ما محل صاحب المزرعة المخلوع، وتنتقل القيادة آليا تقريبا إلى الخنازير، التي تتمتع بمستوى ذكاء أعلى من بقية الحيوانات إلى مستوى ذكائها، ومن هذا الواقع يتبع التطور الرئيسي للقصة، ويأتي الفصل الأخير بتغير مثير يتضح، بمجرد وقوعه، أنه كان حتميا منذ البداية” ([12]).

وجدير بالذكر أن الرواية غارقة في تعميق وتوسيع إطار الفانتازيا، الاستعانة المفرطة أو الكلية على وصف أو تشريع الواقع السياسي الإنساني، تلك الفانتازيا التي تعمل بشكل يبدو مجردا، ولكنها تغوص بكليتها في أعتى القضايا المطروحة على الواقع العالمي، وهي لم تأت من فراغ، بل هناك أشكال عديدة من تراث الشعوب في استخدام الحيوان للتدليل على حياة الإنسان، وكما أسلفنا أن ذلك نوع من الحيل الفنية الفانتازية للإمتاع أولا، وللهروب من المواجهة المباشرة ثانيا، وبالتأكيد هناك مساحات واسعة يمكن الاستعانة بها في عالم الحيوان، للتدليل على عالم الإنسان، إنها الفانتازيا في أعلى صورها، “هي أمثولة تنتمي إلى كوميديا الأفكار وتستمد أساليبها من سويفت وديكنز، وتعتمد على حدة الذهن اللماح ونفاذ البصيرة والمبالغة الميلودرامية التهكمية لا على البناء المحكم أو تصوير الشخصيات الحيّة “([13]).

واتخذت فانتازيا “مزرعة الحيوانات” كنموذج بعيد المدى _فيما بعد_ في وصف النظم الشمولية التي تكاثرت وتفشّت في العالم، الاشتراكي أو الرأسمالي على حد سواء، وربما كان الإغراق في الفانتازيا المكثّفة قادرا على التعامل مع شتى تطورات الواقع فيما بعد عالم 1945، ولم يتوقف جورج أورويل عن تطوير استعانته بالفانتازيا، فكتب لنا روايته الأخرى “1984”، تلك الرواية التي جاءت امتدادا لمزرعة الحيوانات، رغم اختلاف التقنيات وأدوات التناول، فمزرعة الحيوانات كانت تدين الماضي الفاشي بكل صوره، إلا أن (1984) كانت تستشرف الخراب الذي سيحلّ بالعالم فيما هو قادم، مع العلم أن تلك الرواية كتبت ونشرت عام 1948، وظلّت ككابوس يخيم على البشرية طوال تلك العقود السابقة حتى الآن.

ولا نستطيع أن نترك مجال الاستعانة بالطيور والحيوانات دون أن ندرج رواية “روح محبات” للكاتب المصري فؤاد قنديل، وهي رواية شديدة الفانتازية، ليس في محاولة أنسنة الديك، بل في تطور ذلك الديك إلى مدارج عليا من الهيمنة والبطش في القرية التي عاش فيها، هذا الديك الذي بدا لبطل الرواية “رشوان” حال عودته من إحدى الجنازات، وقد وجد الديك يماثله في الطول، ويقف في بيته كأنه هو الحارس الأصلي للبيت، وشعر رشوان في البداية بالبهجة لذلك المشهد، وانتعش، حتى ظنّ أن ذلك الديك سوف يعوضه عن فقده لثلاثين دجاجة وديك كانوا هدية من حماته، فراح يربت على ظهر الديك أمام زوجته “محبات”.

وظل الديك ينمو ويثير الشغب بين المارة والأطفال في القرية، ويحاولون مشاكسته، وكان الديك يهاجمهم وكأنه كائن لا يمت لعالم الطير بصلة في قوته ورعونته، ويصفه قنديل قائلا: “..عاد الديك يتمشى بهدوء، يرفع ساقيه باعتزاز كما يرفعها الجمل، ثم تحط مخالبه برقة وحنان على الأرض، أشعة الشمس تسقط على ظهره فتتجلى روعة الريش وتداخل ألوانه في سيمفونية من الجمال بديعة”([14]).

وتتطور سيرة الديك في القرية، ذلك الديك الذي بدأت حياته بداية طيبة مثل حلم، إلا أنها انتهت إلى ما يشبه الكابوس، حيث إن ذلك الديك بدت عليه علامات الاعتزاز بالنفس، ثم الشراسة ومهاجمة البشر في الشوارع، وصارت هناك علاقة مشتبكة ومضطردة بين جسد الديك وروحه وسلوكه في وقت واحد، فكلما اكتسب جسد الديك قوة، زادت غطرسة روحه، واشتدت رعونته في سلوكه مع الناس، للدرجة التي راح يطارد النساء كرجل كامل الذكورة، مما أثار الأزواج في القرية، وبدأوا يغارون على زوجاتهم منه، ولم يعد أحد يقدر على التخلص من ذلك الديك الذي يزداد يوما بعد يوم قوة وشراسة ورعونة، حتى يأتي يوم ويطير الديك عاليا، ليظل محلقا في سماء القرية، ويبث الرعب في سكان القرية، وهم غير آمنين من هجمات الديك التي من الممكن أن تحدث في أي وقت.

ويكتب دكتور جلال أمين : “على الرغم من أن الرواية يمكن أن يعتبرها بعض القراء مجرد حكاية مسلية، غريبة ولكنها مشوقة، لا شك عندي في أنها رواية فلسفية، إنني لا أبني هذا الرأي فقط على غرابة العلاقة التي تقوم عليها الرواية: علاقة لحب وعشق، بما في ذلك العلاقة الجنسية، بين امرأة وديك جميل تملكه، بل وبين هذا الديك نفسه وبين عدد كبير من نساء وفتيات القرية، مما يوحي بأن المؤلف يرمي إلى معانٍ أخرى غير المعاني الظاهرة([15]).

ونالت هذه الرواية تقريظا واسعا، ومناقشات مثمرة، وكتب الناقد الدكتور علي الراعي كلمة لافتة على غلافها :”هذه الرواية ترسم فانتازية للقرية المصرية، بطلها ديك نما وكبر بشكل غير عادى حتى أصبح ظاهرة تدفع القرية كلها إلى مصائر غريبة ومثيرة، ويستخدم فؤاد قنديل أسلوبين متمايزين يحملان معا خطر التناقض، هما الأسلوب الواقعي وأسلوب اللامعقول، غير أنه بيد قادرة يقبض على الخيطين المتنافرين فيجدلهما بلا نفور ، مقررا في حكمة أن يترك المستوى الواقعي للشخوص التي لا تعنيه ماضيا في إثر مشروعه الكاريكاتيري للنفاذ إلى روح الحياة والإنسان”([16]).

ولا تنتهي منظومة استخدام الحيوانات في الكتابات الفانتازية، فكان للشعر نصيب وافر في ذلك، وكتب أحمد شوقي قصيدته الشهيرة التي جاء فيها:

“برز الثعلب يوما     …      في ثياب الماكرينا

ومشى في الأرض   …  يهدى  ويسب الماكرينا

ويقول الحمد لله      …            رب العالمينا

يا عباد الله توبوا      …       فهو كهف التائبينا…”  إلخ

ولا تحتاج القصيدة إلى أي تفسير، فهي واضحة تماما، وأشيع بشأنها أن أحمد شوقي كتبها في هجاء جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت وتكونت عام 1928، ولكنني أستبعد ذلك لأسباب فنية، حيث إن عام 1928 لم تكن الجماعة قد انتشرت، ولم تكن ملامحها قد اتضحت، ولكننا نرجح أن الشاعر كتبها في كل هؤلاء الذين يرتزقون من خلف الفتاوى التي يطلقونها في الحياة السياسية والاجتماعية والدينية، وفي الوقت نفسه يخفون أغراضا أخرى غير مضمون الفتاوى التي يطلقونها، ولكن القصيدة انتشرت انتشارا سريعا ومدويا، وهي تستدعي طوال هذا التاريخ السابق، للتدليل على هؤلاء الذين يخفون أغراضا غير سوية، لدعاوى تبدو نقية.

وجدير بالذكر أن يشغل كلب رواية كاملة للكاتب خيري شلبي، وهي رواية “الشطار”، كما أن يحيى الطاهر عبد الله كتب قصة طويلة عنوانها “حكاية على لسان كلب”، ومن المدهش أن الكاتب يختار اسما للكلب هو :”محظوظ”، ومن الممتع أن يحكي الكلب قصة هذا الاسم الذي حكته له أمه، إذ أنها ولدت جروين وجروين وجروين، وكان هذا الكلب أحد الجروين، وكانت الأم وجرواها يعيشون في بيت رجل شديد القسوة، وأشار على زوجته بأن تقتني أحد الجراء، وكان هو هذا الجرو المحظوظ، بينما راح صاحب البيت يرمي إخوته للجوع والبرد والمطر والحيوانات المفترسة.

ويظل الكلب يحكي قصصا صغيرة جدا، تلك القصص التي تتشابك وتتقاطع مع قصص البشر، ولا يسردها هنا الكاتب لكي يمتع القارئ فحسب، بل لكي يصل بفكرته إلى درجة الأمثولة، أو الحكاية العجائبية والفانتازية، فنجد الكلب “محظوظ” عندما يأتي لصاحب البيت بعض الزوار أو الضيوف، يشاهد معهم كلبة جميلة اسمها “لولو”، وتشتاق نفسه إليها : “قلت: ليت أمي في مثل جمال لولو

رد أبي : الطبيعة هي التي أهدت لولو شكلها الجميل.. يا جاهل..”([17]).

وتظل حكايات الكلب تترى، حكاية تلو حكاية، ولا تتوقف عند رغبات محظوظ الجامحة فقط، بل تتناول الحكايات وصف المدينة، والصراعات التي تنشأ بين الناس على اختلاف طبقاتهم وهيئاتهم ووظائفهم وأجناسهم، وهنا من الممكن أن تتاح مساحات من الحياة الاجتماعية، ربما لا تتاح للبشر، كما أن أدوات الفانتازيا تعمل بكامل قواها الفنية، فالكلب اسمه “محظوظ”، مثلما يتسمى البشر بمسرور ومسعود وغير ذلك، ومحظوظ هذا يخوض في حكايات تلامس عوالم المجتمع التحتية والعليا، ومن ثم تكون المتعة شبه كاملة، خاصة أن الحكي والسرد يبتعدان عن أسلوب الوعظ المباشر، والذي تناسبه مجالات البحث والدراسات الاجتماعية والأخلاقية، أما الإبداع فله مجالات أخرى، خاصة عوالم الفانتازية التي لا تنتهي أمثلتها ونماذجها التي تتكثف يوما بعد يوم، والذي يعتبرها واحد من الآباء الكبار لقصص وقصائد الفانتازيا بأنها تكاد تكون متقاطعة مع الواقع في أعلى وأكثر صوره فداحة.


([1])فاروق خورشيد، هموم كاتب العصر، ص 59، دار الشروق، القاهرة، 981

([2])أحمد رشدي صالح، رجل في القاهرة، رواية، سلسلة كتب للجميع، 1957

([3])سعد الله ونوس ، منمنمات تاريخية، مسرحية، دار الهلال 1994

([4])عبد الرحمن منيف، ابن خلدون وصورته في “منمنمات تاريخية”، مجلة الطريق، ص130 شباط فبراير 1996

([5])سالم بن حميش، رواية “العلّامة”، دار الآداب، بيروت، 1997

([6])عبد اللطيف حمزة، ابن المقفع، مطابع أحمد الصاوي محمد ص 265 سنة 1937

([7])المرجع السابق ص323

([8])الدكتور محمد رجب النجار،  كليلة ودمنة تأليفا لا ترجمة، ص33، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة الدراسات الشعبية، القاهرة، 2008

([9])الدكتور إسحق موسى الحسيني، مذكرات دجاجة، ص7، دار المعارف، سلسلة قرأ، 1943

([10])المصدر السابق ص9

([11])د. إسحق موسى الحسيني، مذكرات دجاجة، الطبعة الرابعة، ص6، الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين 1981

([12])جون موليه، زيارة جديدة لمزرعة الحيوانات، ترجمة خليل كلفت، مجلة القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، أكتوبر 1994، ص 18

([13])ابراهيم فتحي، كابوس جورج أورويل يخيم على العراق، ص 70، مجلة الهلال، يونيه 2003

([14])فؤاد قنديل، رواية روح محبات، ص15، المركز المصري العربي، القاهرة 1997

([15])دكتور جلال أمين، عن فؤاد قنديل وروايته الرائعة، جريدة الشروق، 14 يوليو 2015

([16])غلاف رواية محبات، مصدر سابق

([17])يحيى الطاهر عبد الله، الأعمال الكاملة، ص 326و327، دار المستقبل العربي القاهرة، الطبعة الثانية 1994

اظهر المزيد

شعبان يوسف

كــاتب وبــاحث مصــري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى