2020العدد 182ملف دولى

“تصاعد دور الصين كنموذج لاحتواء وباء كورونا المستجد”

أصاب فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) الحياة البشرية بشلل غير مسبوق، جراء تدابير الإغلاق والإجراءات الإحترازية الإستثنائية التي اتخذتها الدول في هذا الشأن، وما يزال هذا الوباء مستمرا في حصد أرواح مئات الآلاف من الأشخاص وإصابة الملايين حول العالم. وفي ظل عدم اكتشاف لقاح أو علاج حتى الآن، تظل الوقاية السبيل الأمثل والوحيد لوقف انتشار العدوى، وفي هذا الإطار ضربت جمهورية الصين الشعبية مثالاً يُحتذى به في جهود الوقاية من الوباء والسيطرة عليه، وأبانت عن كفاءة عالية في إدارة الأزمة من خلال الإجراءات الصارمة التي طبقتها في عموم البلاد وفي مقاطعة “هوبي” وحاضرتها “ووهان” على وجه الخصوص، ما مكن هذا البلد العملاق_ذو المليار وأربعمائة مليون نسمة_من تفادي كارثة حقيقية وتحقيق الانتصار في أخطر معركة واجهته منذ تأسيسه في عام 1949.

ومع انتشار فيروس كورونا المستجد في مختلف بلدان المعمورة، وإعلان منظمة الصحة العالمية، بتاريخ 11 مارس 2020، أنه جائحة عالمية، بادرت الصين إلى تقديم الدعم والمساعدة للدول المتضررة، وإسداء مشورتها إليها، ما جعلها تحظى بتقدير حكومات تلك الدول وشعوبها، هذا في الوقت الذي انزوى فيه دور القوة الأعظم عن قيادة الجهود الدولية في التصدي للموجة الأولى لهذا الوباء. وفي ضوء ذلك ذهب كبار المفكرين بأن عالم ما بعد “كورونا” لن يكون كما قبله، لاسيما في ظل ما خلفته هذه الجائحة من تداعيات اقتصادية واجتماعية كارثية، الأمر الذي  يزيد من حالة عدم اليقين حول مستقبل النظام الدولي، وقد ذهب بعض المحللين إلى توقع سطوع نجم الصين بأسرع مما كان متوقعاً، وبأن”كورونا” سوف تعجل بصعودها لتحظى بمكانة متقدمة في “نظام دولي جديد” بدأت هذه الجائحة في رسم معالمه الأولية.

وهكذا فإن موضوع تصاعد دور الصين كنموذج لاحتواء وباء كورونا المستجد يحظى باهتمام كبير على مستوى العالم، فكيف نجحت الصين في الوقاية من هذا الوباء والسيطرة عليه داخلياً؟ وماهي أبرز الجهود التي قامت بها لتعزيز التعاون الدولي لمواجهة الوباء؟ وإلى أي حد ينعكس ذلك على مستقبل دور الصين ومكانتها في النظام الدولي في مرحلة ما بعد “كورونا”؟

أولاً: جهود الصين للسيطرة على وباء كورونا المستجد والحد من تداعياته داخلياً:

 منذ ظهوره أواخر ديسمبر 2019 في مدينة ووهان، اتخذت السلطات الصينية إجراءات صارمة للوقاية من وباء كورونا المستجد والسيطرة عليه، وأصدرت قرارات اقتصادية هامة لحماية اقتصاد البلاد خلال تلك الفترة الحرجة، كما شهدت البلاد تعبئة عامة لكافة الجهات المعنية وحشد كل الطاقات من أجل التصدي لهذا الوباء. وقد شهدت ووهان إعلان حالة طوارئ صحية في 23 يناير 2020، حيث تم فرض قيود غير مسبوقة على حركة المرور، ووقف جميع رحلات الطيران والقطارات وإغلاق الأماكن العامة، وطُلب من السكان البقاء في منازلهم، وفُرضت رقابة صارمة على الأسواق، وأُغلقت المدارس والجامعات، مع متابعة الدراسة والعمل عن بعد، كما تم إغلاق المؤسسات السياحية والترفيهية، وغير ذلك من الإجراءات لمنع تفشي العدوى.

وعلى مشارف ووهان، قامت السلطات الصينية بعمل خارق تمثل في بناء مستشفيين ميدانيين ضخمين خلال أيام معدودة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المصابين، كما قامت ببناء وتجديد نحو 86 مستشفى في المدينة، وإنشاء 11 مستشفى مؤقتاً للعزل الصحي، ووصل إجمالي عدد الأسرة إلى أكثر من 60 ألف سرير. وقد توجه ما يزيد عن 42 ألف من الأطباء والعاملين في مجال الصحة من مختلف أنحاء الصين إلى مقاطعة “هوبي”، وركزت السلطات الصحية جهودها على السيطرة على العدوى وفق خطة يتم تحديثها باستمرار. وقد مكّنت تلك الإجراءات من تغيير مسار انتشار الوباء ومنعت عشرات الآلاف من الإصابات في عموم البلاد، وفقا لما أكدته منظمة الصحة العالمية، التي أعرب مديرها العام عن إعجابه لما تحقق في الصين مؤكدا أن ذلك ما كان ليحدث لولا الالتزام القوي من الحكومة والتعاون الكبير من الشعب الصيني.

وتجدر الإشارة إلى أن السلطات الصينية استخدمت بشكل واسع التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي في إجراءات التوعية والمراقبة والتتبع والفحص والعزل الصحي، بما في ذلك استخدام الكاميرات والربوتات والطائرات المسيرة ووسائل التواصل الاجتماعي ،لاسيما تطبيق ويتشات. وعملت كذلك على تكثيف جهود البحث العلمي بغية تطوير لقاح للفيروس، وفي هذا الصدد أعطت وزارة العلوم والتكنولوجيا الصينية الموافقة على إجراء التجارب السريرية على ثلاثة لقاحات، كما تبنت بروتوكولات علاجية للفيروس تجمع بين الطب الصيني التقليدي والطب الغربي.

وعلى صعيد الإجراءات الاقتصادية والمالية، تم اتخاذ عدة قرارات لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، كما أرصد بنك الشعب الصيني (البنك المركزي الصيني) حوالي 173 مليار دولار لجهود محاربة الفيروس، وقام بتخفيض سعر الفائدة على القروض الموجهة للمؤسسات المالية. وفي هذا الإطار أعلن الرئيس الصيني أن أثر المرض على التنمية الاقتصادية والاجتماعية مؤقت، ويُمكن السيطرة عليه عموما، موضحاً أن أساسات النمو الاقتصادي الصيني باقية على حالها دون تغيير، كما أكد على أن الاقتصاد الصيني يتمتع بمرونة قوية ومساحة واسعة للطلب المحلي وقاعدة صناعية متينة، ووجه بتنفيذ خطة الاستقرار ذات ست نقاط هي: استقرار التوظيف، الاستقرار المالي، استقرار التجارة الخارجية، استقرار رأس المال الأجنبي، استقرار الاستثمار، واستقرار التوقعات، مشيرا إلى أن مكافحة الفيروس ليست معركة في مجال الصحة فحسب وإنما هي معركة تشمل الاقتصاد أيضا. وقد أثنى صندوق النقد الدولي على الإجراءات الاقتصادية والمالية التي اتخذتها الصين للتخفيف من آثار وباء كورونا.

هذا وتجدر الإشارة أيضا إلى أن الصين شهدت تعبئة عامة غير مسبوقة للمجتمع بأسره، من قيادة وحكومة وجيش وقوات أمنية وأطقم طبية وأعضاء الحزب الشيوعي الصيني وكذلك القطاع الخاص والمواطنين، من أجل التصدي للوباء، وأُعلن عن إعطاء الأولوية لحماية صحة وسلامة الشعب مع تنسيق جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وخلال زيارته لمدينة ووهان بتاريخ 10 مارس 2020، قال الرئيس الصيني:إن جهود الوقاية من فيروس كورونا الجديد (كوفيد-19) والسيطرة عليه بمثابة اختبار لنظام الحوكمة في الصين، داعياً أعضاء الحزب الشيوعي الصيني إلى تحمل مسؤولياتهم وتنفيذ تدابير الوقاية بشكل شامل وسليم. وقد شكلت التعبئة الوطنية والاستجابة الشعبية أحد مفاتيح التقدم المهم الذي أحرزته الصين في مكافحة الوباء، وكان ذلك محل إشادة من منظمة الصحة العالمية.

وهكذا كان نجاح الصين تاريخياً في إدارة أزمة كورونا على الصعيد الوطني، وقد وصف تقرير صادر عن اللجنة المشتركة بين الصين ومنظمة الصحة العالمية (أواخر شهر فبراير 2020) ذلك بالقول:”أن الصين أطلقت ربما أكثر جهود احتواء المرض طموحاً وسرعةً وحزماً في التاريخ”. وبفضل تلك الجهود تمكنت البلاد من اكتساب خبرة كبيرة ستعمل على تقاسمها فيما بعد مع دول العالم.

ثانياً: جهود الصين لتعزيز التضامن الدولي من أجل مواجهة وباء كورونا المستجد:

على الرغم من أن الصين لم تحظ بتضامن بعض الأطراف الدولية معها أثناء انتشار فيروس كورونا في ووهان، إلا أنها بادرت – مع تفشي الوباء حول العالم- إلى تعزيز التعاون الدولي لمكافحته، ولم يكن ذلك مجرد إعلانات أوبيانات بل انعكس في دعم عملي، من خلال تقديم المساعدات الطبية والخبرة لأكثر من 150 دولة ومنظمة دولية حول العالم، وفق ما ذكرت لجنة الصحة الوطنية الصينية، كما اقترح البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية إنشاء مرفق مخصص لتعافي مصابي كوفيد-19 برأسمال أولي قدره 5 مليارات دولار أمريكي. وقد أكدت الصين على موقفها المبدئي بشأن تعزيز التعاون الدولي لمكافحة الوباء، وعلى التنسيق مع منظمة الصحة العالمية، وتقاسم خبراتها مع الأطراف الدولية والإقليمية الأخرى.

  1. التأكيد على مبدأ التضامن والتعاون الدولي لمكافحة الوباء: أجرت القيادة والحكومة الصينية اتصالات مع العديد من قادة وحكومات الدول المتضررة من وباء كورونا، وأكدت على أهمية تعزيز التضامن والتعاون الدولي في هذا الشأن، وعلى التزام الصين بالنظام متعدد الأطراف في العلاقات الدولية، كما شددت على أهمية تبني  فكرة بناء “مجتمع المستقبل المشترك للبشرية.” وفي هذا الإطار أوضح الرئيس الصيني أن “التضامن والتعاون هما السلاح الأقوى ضد المرض..وأنه على المجتمع الدولي أن يتّحد للرد على المرض بشكل جماعي، وحماية البيت المشترك للبشرية، كما حثّ الرئيس “شي جين بينغ”، في اتصال هاتفي مع الأمين العام للأمم المتحدة (بتاريخ 12/3/2020)، المجتمع الدولي على التحرك بشكل عاجل والقيام بتعاون دولي فعال في الوقاية والسيطرة المشتركة على المرض، وقال:إن الصين مستعدة لمشاركة خبراتها وتقديم المساعدة للدول الأخرى وإجراء البحث والتطوير المشترك للأدوية واللقاحات.

وفي كلمته أمام القمة الافتراضية الاستثنائية لقادة مجموعة الـ20 (بتاريخ 26/3/2020) طرح الرئيس الصيني مبادرة ذات أربع نقاط، تتمثل في: خوض المعركة العالمية الحاسمة ضد الوباء بكل حزم، وإجراء التعاون الدولي الفعال في الوقاية والسيطرة، والدعم الكامل لدور المنظمات الدولية، وتنسيق السياسات الاقتصادية الكلية الدولية. كما أشار إلى أن “تعزيز التعاون الدولي في مكافحة الوباء فرصة مهمة لتوظيف دورنا كدولة كبيرة ومسؤولة والدفع بإقامة مجتمع المستقبل المشترك للبشرية.”

  • تقديم الدعم والمساعدة الطبية للدول المتضررة: مقابل التضامن والدعم الذي تلقّته الصين خلال معركتها ضد كورونا، من عدد من الدول الشريكة والصديقة ومن بينها الدول العربية، لم تتوانَ “بكين” في رد الجميل لتلك الدول، بل وبادرت إلى تقديم يد العون حتى للدول التي لم تتضامن معها أثناء أزمتها، بما في ذلك دولاً عظمى. هذا في الوقت الذي تخلى عن بعض الدول أقرب حلفائها وأوثق شركائها.

وقد جاءت الإمدادات الطبية الصينية:إما استجابة لطلبات من الدول المتضررة من الوباء أو في شكل مساعدات ممنوحة من الجانب الصيني، وشملت ملايين الأقنعة الواقية وآلاف أجهزة اختبار الكشف عن الإصابة بكوفيد-19، ومقاييس الحرارة، وأجهزة التنفس الاصطناعي . كما شمل الدعم الصيني أيضا إرسال أطقم طبية وخبراء متخصصين في مجال الفيروسات والأمراض المعدية وأمراض الجهاز التنفسي والعناية المركزة والطب الصيني التقليدي، بالإضافة إلى تبادل الخبرات والمعلومات الفنية والتدريب على سبل الوقاية والسيطرة والتشخيص والعلاج. وقد تم توجيه تلك المساعدات إلى الدول في مختلف القارات، بما في ذلك الدول النامية والدول المتقدمة. وأكدت الصين في هذا الصدد على رفضها تسييس المرض، وعلى دعمها لدور وجهود الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية في هذا الشأن.

  • التنسيق مع منظمة الصحة العالمية: أعلنت الصين أنها تعاونت بشكل وثيق مع منظمة الصحة العالمية وأنها تبرعت بـ 20 مليون دولار للمنظمة، كما قامت بنشر معلومات حول التسلسل الجيني للفيروس وتقديم تحديثات عن تفشي المرض، وتقاسُم الخبرات مع المنظمة فيما يتعلق بجهود السيطرة على المرض وعلاجه. وقد أعرب الرئيس الصيني عن تقديره ودعمه للجهود التي يبذلها مدير عام منظمة الصحة العالمية، وللدور الفعال الذي تلعبه المنظمة في المكافحة العالمية للمرض. وفي السياق ذاته، أشار وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” إلى أن دعم المنظمة يعني دعم التعدديّة ودعم الأمم المتحدة أيضا، وأكد على مواصلة حماية وضعها وتشجيعها على القيام بدورها المستحق في التعاون الدولي ضد المرض.
  • التشاور والتعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين: بادرت الصين إلى إجراء التعاون الإقليمي والدولي وتبادل الخبرات في مجال الوقاية من الوباء ومكافحته، وفي هذا الصدد أعلنت وزارة الخارجية الصينية أنه، لغاية يوم 12 إبريل 2020، “عقدت الصين 83 اجتماعا افتراضيا بين الخبراء الطبيين من 153 دولة لتبادل الآراء حول كيفية مواجهة الوباء وهزيمته بشكل فعال”. ويمكن أن نشير على سبيل المثال إلى الإجتماعات الافتراضية التي عُقدت في هذا الشأن مع بعض المنظمات الإقليمية “كرابطة أسيان”، والاتحاد الإفريقي، وجامعة الدول العربية، فخلال الاجتماعات الوزارية مع رابطة آسيان ، وآسيان+3 (الصين واليابان وجمهورية كوريا)، تم الاتفاق على تعزيز التعاون لاحتواء تفشي الوباء والحفاظ على التعاون الاقتصادي والتجاري. وقد أعلنت الصين أنها تقاسمت مع الدول الأخرى ما في جعبتها من الخبرات حول الوقاية والسيطرة والتشخيص والعلاج من الوباء، وأنشأت مركزا إلكترونيا لمعلومات الوقاية والسيطرة مفتوحا لجميع الدول.

وعلى صعيد التعاون مع الإتحاد الإفريقي، أعلنت الحكومة الصينية أنها قدمت مساعدات طبية للإتحاد الإفريقي وجميع الدول الإفريقية التي لديها علاقات دبلوماسية مع الصين، كما أرسلت فرقاً طبية إلى عدد من الدول الإفريقية. وفي هذا الصدد أكد الرئيس الصيني أن الصين على استعداد لمواصلة الدعم للدول الإفريقية، وتسريع بناء المركز الإفريقي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها، وتعزيز التعاون الصيني-الإفريقي في الصحة العامة، مشيرا إلى أن الخبراء من الجانبين عقدوا اجتماعات عبر الفيديو عدة مرات، وأن الكثير من الشركات والمؤسسات غير الحكومية الصينية أرسلت أيضا إمدادات خاصة بمكافحة المرض إلى إفريقيا.

وفيما يتعلق بالتعاون بين الصين وجامعة الدول العربية بشأن مكافحة وباء كورونا المستجد، فقد أعربت الدول العربية عن تضامنها مع الصين، منذ الإعلان عن تفشي الوباء في ووهان، وقامت بإرسال مساعدات إليها، كما وجّه معالي السيد أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية رسالة إلى وزير الخارجية الصيني للإعراب عن تضامن الجامعة العربية مع الصين في هذه المحنة، وأصدر مجلس وزراء الصحة العرب في اجتماع الدورة (53) للمجلس بيانا أعرب فيه عن التضامن العربي مع الصين، كما أكد على ذلك أيضا مجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزارء الخارجية في دورته العادية (153). وفي أعقاب انتشار الوباء في الدول العربية، بادرت الصين إلى تقديم إمدادات طبية وإرسال أطباء وخبراء في مجال مكافحة الأمراض المعدية إلى عدد من الدول العربية، كما حرصت على تعزيز تعاونها مع جامعة الدول العربية في مجال تبادل الخبرات والمعلومات، حيث تم عقد اجتماعين عبر تقنية الفيديو بين الخبراء من الجانبين، تم خلالهما عرض التجربة الصينية في مكافحة الفيروس وكيفية الاستفادة منها، بما في ذلك الوقاية من الوباء وطرق علاجه . 

ومما تقدم وعلى الرغم من أهمية التعاون الدولي في التخفيف من كارثة كورونا، إلا أن البعض  يرى أن المقاربة الواقعية تكشف أن حل هذه الأزمة يتم وطنيا بالأساس، وقد قدمت الصين في هذا السياق دروسا مستفادة، من خلال نجاح تجربتها في مواجهة الوباء.

ثالثاً: مستقبل دور الصين ومكانتها في النظام الدولي في مرحلة ما بعد “كورونا”:

لم يكن بزوغ مكانة الصين على الساحة الدولية مرتبطاً بـ “كورونا”، فقد بدأ صعودها السلمي يتعزز قبل نحو أربعة عقود، أي منذ تطبيقها لسياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978، غير أن دور الصين في النظام الدولي شهد نشاطاً ملحوظاً خلال العقد الأخير، وتحديداً منذ تولي الرئيس الحالي “شي جين بينغ” الحكم، وإعلانه عن أفكار جديدة تم اعتمادها في دستور جمهورية الصين الشعبية، مما أعطى دفعة قوية لنظام الإشتراكية ذات الخصائص الصينية، هذا بالتزامن مع إطلاق مبادرة “الحزام والطريق” عام 2013، وكذلك الإعلان عن فكرة إقامة “مجتمع المستقبل المشترك للبشرية”.

ولئن كان من المبكر معرفة “التداعيات الجيوسياسية” لوباء كورونا فإن هذه الأزمة أطلقت العنان لعوامل التغيير القوية ذات التأثير الجيوسياسي ، وقد تؤدي إلى إعادة تشكيل النظام العالمي مثل ما حدث أثناء أزمة السويس عام 1956 حيث أدى فشل بريطانيا في إدارة الأزمة في ذلك الوقت إلى فقدان زعامتها العالمية لصالح الولايات المتحدة الأمريكية . اليوم يطرح التساؤل حول مستقبل النظام الدولي في مرحلة ما بعد “كورونا”، وشكل العلاقات بين الدول الكبرى، ولاسيما بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، والتي يتوقع أن تدفع بها “كورونا” إلى مرحلة أكثر تعقيدا وصعوبة، فقد جاءت هذه الأزمة في وقت تشهد فيه العلاقات بين البلدين تأزماً على خلفية الإتهامات الموجهة للصين بشأن أحداث هونج كونج، ووضع المسلمين الويغور في شينجيانغ، وتايوان، والتطورات في بحر الصين الجنوبي، بالإضافة إلى الخلافات التجارية بين البلدين.

ويدور الجدل بقوة حالياً بين واشنطن وبكين حول مصدر فيروس كورونا المستجد، حيث تصر الإدارة الأمريكية على تسميته بـ “الفيروس الصيني” وتقول بأن منشأه مختبر بيولوجي في ووهان وأن لديها أدلّة على ذلك، كما تتهم الصين (والحزب الشيوعي الصيني) بالوقوف وراء تفشي فيروس كورونا في العالم، لأنها لم تعلن بشفافية عن الفيروس عند بداية ظهوره في ووهان، وتؤكد على ضرورة محاسبة الصين، ومطالبتها بتعويضات عن الخسائر الناجمة عن الوباء، بل والتلويح بقطع العلاقات الأمريكية معها. كما تتهم منظمة الصحة العالمية بالتواطؤ مع الصين، وهددت بمعاقبتها بقطع التمويل عنها. أما بكين فترفض تلك الإتهامات وتدينها وتعارضها بشدة، وتعتبرها مجرد أكاذيب هدفها التغطية على فشل جهود احتواء الوباء داخل الولايات المتحدة، وتقول بأن ظهور الفيروس في الصين لا يعني أن مصدره الصين، وأن نشأة الفيروس لا تزال غير محددة، وتستند بكين في ذلك إلى بيانات منظمة الصحة العالمية التي تفيد بأن الفيروسات ليس لها حدودا، ولا تميز بين الأعراق، كما أكدت المنظمة على أن استراتيجية الصين نجحت في تغيير مسار الوباء ومنعت مئات الآلاف من الإصابات. وقد كان الخلاف بين البلدين حول هذه النقطة بالذات سبباً في فشل مجلس الأمن في اتخاذ قرار بشأن التضامن الدولي لمكافحة فيروس كورونا المستجد خلال اجتماعه الذي عقد بتاريخ 9 أبريل 2020.

 وتجدر الإشارة إلى أن روسيا دافعت عن الصين في مواجهة الإتهامات الأمريكية وقالت الخارجية الروسية بأنه لا يمكن السماح بفتح تحقيق حول مسؤولية الصين عن انتشار الفيروس، أما الاتحاد الأوروبي الذي واجه الوباء بانقسام في الداخل وعجز في الخارج، فيقف العديد من أعضائه على الحياد إزاء التصعيد الأمريكي الصيني، ربما بسبب اعتمادهم الكبير على الصين في استيراد اللوازم الطبية لمكافحة وباء كورونا.

يعتبر البعض أن السؤال حول أصل فيروس كورونا المستجد ومَن المسؤول عن ظهوره وانتشاره كوباء سؤالٌ سيغير العالم؛ كونه أصبح يرتبط بأهداف سياسية واستراتيجية ضخمة، فبالإضافة إلى الدواعي الإنتخابية للإدارة الأمريكية، هناك هدف استراتيجي وهو استخدام الحملة ضد الصين لضرب نموذجها وإعاقة صعودها الدولى،  وأنه من المهم كشف الداخل الصينى، وتحديد أوجه القصور فيه، والضغط لتغييره كي يتماشى مع المعايير الغربية” . هذا يدفعنا إلى طرح التساؤل حول مدى القدرة على كشف الداخل الصيني، ذلك أن الصين تعتبر من القُوى الدولية الكُبرى كما أنها تنظر بحساسية شديدة إلى مبادئ المساواة في السيادة، والاحترام المتبادل، ولن تقبل بأي مساس بما تعتبره شأناً من شؤونها الداخلية.

وفي ضوء حالة الاستقطاب الشديد حاليا بين القوة المهيمنة والقوة الصاعدة، فهل دخل النظام الدولي الحالي بالفعل مرحلة “الصدام المحتمل”؟ الواقع أن التصعيد الأمريكي الصيني قد يتحول إلى مواجهة مفتوحة على جميع السيناريوهات بين البلدين لاسيما في ظل تزايد الاعتقاد في واشنطن بأن الصين هي “أكبر تهديد جيوسياسي للولايات المتحدة”، وكذلك تصاعد الشعور في بكين بتنامي موجة العداء للصين عالمياً. إنه وضع ينذر باندلاع حرب باردة جديدة، حربٌ تنطلق من الاختلاف الحضاري والقيمي بين الصين والولايات المتحدة، وتحتدم حول التنافس العلمي والتكنولوجي، فهي تختلف عن الحرب الباردة السابقة، كونها تستهدف مجالات جديدة للنفوذ:اقتصادية وعلمية وتكنولوجية وصحية .

وقد انقسم المحللون فيما يتعلق بصعود دور الصين في مرحلة ما بعد “كورونا” إلى قسمين:

أولاً: يرى البعض أن معطيات الواقع الحالية لا تؤيد احتمال صعود سريع للصين يجعلها تحل محل الولايات المتحدة، أو تتحول إلى قطب فاعل كما الولايات المتحدة. ويستدلّون على ذلك بأن الصين رغم تقدمها الصناعي والتقني إلا أنها لم تصل بعد إلى مرحلة الابتكار المتفوق. وأن عدد العلماء الصينيين الذين فازوا بجوائز نوبل فى مجال العلوم (طب وكيمياء وفيزياء) قليل جدا بالمقارنة مع نظرائهم من اليابان وألمانيا وبريطانيا وأمريكا، كما أن اللغة الصينية لا تشهد انتشاراً في العالم بنفس قدر انتشار اللغة الإنجليزية، ويرون كذلك أن إقدام الصين على توسيع نفوذها السياسي في العالم أمر مُكلِّف لها مالياً وعسكرياً. ويخلص مؤيدو هذا الرأي إلى أن الولايات المتحدة تتمتع بمزايا جيوسياسية سوف تستمر، وبالمقابل فإن الصين لا تزال بعيدة عن الولايات المتحدة “عسكريا” ولديها نزاعات إقليمية. وبالتالي فإن وباء كورونا لن يغير النظام العالمي الحالي الذي يصب في صالح واشنطن.

ثانياً: يرى البعض الآخر أن مكانة الصين كقوة دولية عظمى سوف تتعزز في مرحلة ما بعد كورونا، ويستدلّون على ذلك بدور الصين الرائد خلال هذه الأزمة على الصعيدين الداخلي والدولي، والذي فاق دور أي دولة أخرى. فالمساعدات الصينية تعد أمرا حيويا في محاربة الوباء، وبات من الضروري مواصلة التعاون معها في تبادل الخبرات والمعلومات الطبية، كما أن الصين صارت مصنعا ضخما للمنتجات والمواد الطبية التي يعتمد عليها العالم أجمع، وبإمكانها تنويع وتوسيع إنتاجها بطريقة تعجز عنها معظم دول العالم الأخرى. ويتحدث مؤيدو هذا الرأي عن “زعامة الصين المبكرة” وعن تفوقها المذهل في إدارة أزمة فيروس كورونا. ونجاحها في التحول من بلد موبوء إلى مُنقِذ للعالم. وبالتالي فإن الصين ستتمسّك بهذه الفرصة التي أُتيحت لها، لتعزيز نفوذها العالمي. وقد ساعدها على ذلك تراجع دور الولايات المتحدة خلال أزمة كورونا عن قيادة الجهود الدولية لمكافحة الوباء، ويعتبرون أن هذه الأزمة أفقدت واشنطن الكثير من وضعها وسمعتها ودورها وقوتها الناعمة وطاقتها. ويخلص هؤلاء المحللون إلى نتيجة مفادها أن أمريكا ما بعد كورونا حتماً لن تكون كسابقها، ويعتقدون أنه سينتج عن هذه الأزمة عالم جديد في المرحلة المقبلة، ولن تظل الولايات المتحدة متربعة على رأس الهرم، لاسيما أن الصين وروسيا قد قامتا بملء كثير من مربعات النفوذ الاستراتيجي العالمي.

خاتمة:

لاشك أن الركود الاقتصادي العالمي الناجم عن “كورونا” سوف يترك أثره السلبي على جميع الدول_بما فيها الصين_،ويبقى السؤال حول مدى قدرة الدول على تحقيق العودة السريعة للانتعاش الاقتصادي في مرحلة ما بعد كورونا، وقد يكون أحد التحديات أمام الاقتصاد الصيني على المدى القريب هو أن عددا من الدول سوف تلجأ_على الأرجح_إلى تنويع سلاسل التوريد وتقليل الاعتماد الصناعي على الصين، ومع ذلك يمكن القول أن الصين تستطيع أن تخرج من أزمة كورونا بأقل الخسائر، إن لم تكن أكثر الدول استفادة منها، فقد تمكنت من أن تخلق من هذه الأزمة فرصة جديدة اقتصادياً وجيوسياسياً، وذلك من خلال زيادة صادراتها من الإمدادات الطبية والتي بلغت 1.43 مليار دولار خلال شهر واحد (مارس 2020)، وكذلك لجهة تعزيز دورها في جهود التضامن الدولي لمكافحة اللوباء، هذا فضلاً عن سعيها إلى إرساء نمط جديد للعلاقات الدولية، وإصلاح نظام الحَوْكَمَة العالمية، وطرح مفاهيم جديدة في مقدمتها مفهوم “إقامة مجتمع المستقبل المشترك للبشرية.”

اظهر المزيد

د.محمد بن صديق

وزير مفوض بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية ومدير إدارة آسيا وأستراليا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى