يرجع صدور القانون الأمريكي الذي يقضي بنقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب للقدس إلى العام 1995 .. لكن كل الرؤساء الأمريكيين الذين توالوا لاحقًا على البيت الأبيض، أرجؤوا تنفيذه نزولاً عند المصالح العليا للبلاد التي “.. قد تتعرض لأضرار جسيمة في حال العمل به ..”. وكان تجديد هذا التأجيل بشكلٍ روتيني كل ستة أشهر، خطوة تتوافق مع الضمانات الممنوحة للجانب الفلسطيني للانخراط في عملية السلام، وفقًا لمبادئ مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط عام 1991، وصيغة أوسلو عام 1993 .. ومؤداها عدم الإقرار الأمريكي بأي خطوة أحادية الجانب من طرفي الصراع، الإسرائيليين والفلسطينيين، تتخذ إزاء مستقبل القدس ووضعيتها تحت الاحتلال؛ التي ستكون إحدى قضايا الوضع النهائي للتسوية بين الطرفين.
على مدار العقدين المنقضيين قبل وصول إدارة الرئيس دونالد ترامب، ظلت التفاعلات الفلسطينية الأمريكية، والعربية الأمريكية إلى حد بعيد، تراوح في التعاطي مع قضية القدس في إطار هذه القناعات .. فلا واشنطن نفذت قانونها إزاء المدينة، ولا تخلت عن ضماناتها بهذا الخصوص، ولا قبلت بالسياسات الإسرائيلية الساعية إلى تهويدها وإغراقها بالمستوطنات والمستوطنين. ومن جانبه، لم يتخل المفاوض الفلسطيني عن طموحه في احتمال اعتدال السياسة الأمريكية واقترابها أكثر من حقوقه. وظهر ذلك في سياسات حسن النية التي أبداها في مضمار التفاوض وتجاوبه لغير مرة مع نداء واشنطن بعدم الخروج عن هذا المضمار، بعد تجديد تأكيداتها للمبادئ الحاكمة للتسوية، كالأرض مقابل السلام وحل الدولتين، ولما ورد في رسائل الطمأنة للجانب الفلسطيني.
وحده الرئيس ترامب خرج عن هذه الرتابة الأمريكية وكسر كل ما يرتبط بها من تقاليد، حين أعلن في 6/12/2017، تفعيل الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل ووجه وزارة الخارجية لنقل سفارة بلاده إليها .. وأكد أنه بذلك “… إنما يفي بوعد فشل أسلافه في الوفاء به ..”.
بهذه الخطوة، تأكد للمعنيين في جهات الدنيا الأربع بمسار القضية الفلسطينية صحة ما قيل بين يدي حملة ترامب الانتخابية، ثم غداة نجاحه في الوصول إلى الحكم مستعينًا ومحاطًا بنخبة مقربة ومتنفذة من المسؤولين الموقنين بالصهيونية، بأنه لن يكون كسابقيه من الرؤساء في البيت الأبيض .. لقد تأكد أن ميوله اليمينية المتطرفة وقناعاته الفكرية المجبولة بشيء من كراهية العرب والمسلمين؛ التي توشى بها خطابه الانتخابي، ووعوده بدعم إسرائيل بلا حدود، وفتوره إزاء حل الدولتين الأكثر تداولاً في أفق التسوية الفلسطينية، ستتحول إلى سياسات عملية وليست مجرد لغو دعائي لاجتذاب الناخبين اليهود وأشياعهم.
وليس صحيحًا ما يقال عن أن القرار الأمريكي قد اتخذ جراء رعونة ترامب وأطواره الغريبة، أو قلة درايته بأبعاد الصراع الدامي في فلسطين التاريخية وما لمصير القدس من تداعيات على الحرب والسلام في محيطها المباشر وعلى الصعيد الإقليمي. كونه قادمًا إلى عالم السياسة والعلاقات الدولية من عالم المال والأعمال. الأقرب للصواب أن القرار صدر عن حسابات لردود الأفعال وتخطيط مؤسساتي مسبق وواعٍ ضمن استراتيجية لتطبيق خطة إقليمية أشمل، أطلق عليها البعض “صفقة القرن”. تجلى ذلك في الدفاع المستميت عن القرار من قبل مستويات صناعة السياسة الأمريكية، داخل أروقة الأمم المتحدة وخارجها .. وصولاً إلى تهديدات صدرت عن ترامب نفسه ونائبه مايك بينس وسفيرته لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي وسواهم، بمعاقبة كل من يعترض على هذه الخطوة .. رغم أن ذلك كان يعني فقدان واشنطن لكل مظاهر اللياقة في العلاقات الدولية، مع الحلفاء المقربين كالقوى الأوروبية والخصوم على حدٍ سواء .. أولئك الذين رفضوا الانصياع للقرار وأعلنوا التزامهم بالمواثيق والاتفاقات والمبادئ والقرارات الدولية الموصولة بوضع القدس، ضمن حل الدولتين.
v v v
قبل القرار الأمريكي، لم تلق نخب الحكم والسياسة في إسرائيل بالاً لأي قيود ومحددات حقوقية قانونية أو سياسية، معاكسة لسياساتها تجاه القدس. وموجزها السعي الحثيث لتهويدها وابتلاعها بضمها “موحدة” بالكامل إلى حوزتها، والتضييق على أصحابها الفلسطينيين من المسلمين والمسيحيين وتطبيق قوانينها عليهم، والتعدي على حرماتهم ومقدساتهم وطليعتها المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة، ومطاردة مؤسساتهم وإفقارهم والاستيلاء على ممتلكاتهم، وإطلاق أيدي الاستيطان والمستوطنين فيها.
ولكن قرار ترامب ورهطه زاد طين هذه السياسات بحرًا .. إذ منح الصهاينة التوراتيين الموصوفين باليمينية والتطرف والتشدد، بقيادة حزب الليكود وزعيمه بنيامين نتنياهو، والقوى والأحزاب الدينية والاستيطانية المشاركة في الحكم وخارجه، دماءً جديدة ووسع مجال الحركة أمامهم تجاه زهرة المدائن. وكان من تداعيات هذا المتغير والمحفز الأمريكي الجديد أن اتخذ الإسرائيليون عددًا من القرارات التشريعية والتنفيذية، بهدف الضغط أكثر فأكثر على أعصاب المدينة ومنها بلا حصر:
- قرار مركز حزب الليكود الحاكم بفرض القوانين والسيادة الإسرائيلية على كل مناطق الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها المنطقة (ج) الخاضعة بالكامل لسيطرة إسرائيل. ومن شأن ذلك إعطاء شرعية قانونية وسياسية لتفوق السكان اليهود على الفلسطينيين أو قوننة سياسة الأبارتيد.
- · صدور قانون عن الكنيست الإسرائيلي، يحظر التنازل عن أي جزء من القدس الموحدة إلا بموافقة أغلبية لا تقل عن 80% من عدد النواب، وهذا معدل يكاد يكون مستحيلاً في الحياة البرلمانية الإسرائيلية. وقد حدد القانون في أحد بنوده أنه يسري على منطقة نفوذ المدينة التي تحددها بلدية الاحتلال، وهذا يؤدي إلى إمكانية فصل الضواحي التابعة للمدينة وتضم أكثر من 150 ألف فلسطيني، أي إخراج ما يعادل نصف سكان القدس من العرب.
- · قرار عن حزب الليكود الحاكم بالعمل على سن قانون بضم منطقة غور الأردن.
- · موافقة الكنيست في قراءة تمهيدية على مشروع قانون يسمح بتنفيذ عقوبة الإعدام على من يقومون بعمليات مسلحة ضد إسرائيليين، ويمنع احتمال تخفيف هذا الحكم.
- · شروع بلدية الاحتلال في مصادرة أراض يملكها فلسطينيون، لأجل إقامة جسر يربط حائط البراق بقرية سلوان، وهي من ضواحي القدس، ووضعه تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة.
- · قرار بفرض الضرائب على العقارات التابعة للكنائس المسيحية في القدس.
- · مناقشة الكنيست لسن قانون يلزم الحكومة بتطبيق القوانين الإسرائيلية بالكامل على المستوطنات في الضفة المحتلة، ويمنح الشرطة الصلاحيات لملاحقة الأجانب غير الشرعيين، في إشارة إلى العمال الفلسطينيين الذين يعملون هناك بدون تصاريح. وفي هذه الحالة يزول أي فرق بين الوجود الإسرائيلي في الضفة وبينه في الداخل الإسرائيلي المحتل منذ 1948.
من جماع هذه القوانين والإجراءات، وتسارع وتيرة اقتحامات المستوطنين للحرم القدسي وزيادتها، أصبحت إسرائيل تتجه عمليًا إلى تطبيق المفهوم الأمريكي الجديد، الذي ينظر للقدس كمدينة إسرائيلية محررة وليست محتلة ضمن المناطق التي ينطبق عليها مفهوم الاحتلال منذ عام 1967، أو ينطبق عليها عملية التسوية والمفاوضات مع الجانب الفلسطيني .. لقد ظهر وكأن إسرائيل تسعى لطرق الحديد ساخنًا، لأجل استغلال التوجه الأمريكي واستثماره وتحويل مخططاتها ونياتها تجاه القدس إلى واقع عملي ملموس.
وأغلب الظن أن المشرع الإسرائيلي، بهذه القرارات الأحادية وتطبيقاتها، إنما استهدى بالتراث الصهيوني الإسرائيلي في فرض سياسة الأمر الواقع، التي لطالما عمل بها .. وموجزها خلق الحقائق على الأرض وتكريسها ثم الادعاء باستحالة النكوص عنها أو المساومة عليها. وذلك بعد القراءة المستفيضة للبيئات الفلسطينية والإقليمية والعربية والدولية، واستطلاع ردود الأفعال المحتملة ومدى إمكانية استيعاب هذه الردود. حدث ذلك لغير مرة في إطار قضايا وجزئيات فارقة في مسار القضية الفلسطينية .. ومن ذلك على سبيل المثال: التمدد باحتلال زهاء 22% من مساحة فلسطين التاريخية زيادةً عما خصصه قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين عام 1947. والتوسع الاستيطاني في الضفة المحتلة بما فيها القدس الشرقية، ثم الحديث عن مبادلة هذه الأراضي بأخرى في أحسن الفروض. والتمسك بالتفاوض المباشر مع كل طرف عربي على حدة وسيلة وحيدة للتوصل إلى “تسويات” لصالحها بالنظر إلى موازين القوى المختلة مع هذه الأطراف المغردة وحدها. ورفض الاستظلال بالمرجعيات القانونية وقرارات التنظيم الدولي ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، وعزلها عمليًا عن أي سياق تفاوضي مع أي طرف عربي، بما في ذلك الطرف الفلسطيني.
نجاح إسرائيل في هذه النماذج ونحوها، أغراها بعدم التخلي عن نهج فرض الأمر الواقع، حتى في المراحل التي كان فيها الدعم الأمريكي يجري بشكلٍ انسيابي، ضمن ما عرف بالعلاقة الخاصة بين الطرفين، وكانت واشنطن حريصة إلى حدٍ ما على عدم قطع شعرة معاوية مع العرب والفلسطينيين. لكن تخلي إدارة ترامب عن هذه “الشعرة”، بتبني الموقف الإسرائيلي تجاه مصير القدس، أكثر أبعاد القضية الفلسطينية حساسية، فتح الباب على مصراعيه أمام صانع القرار في تل أبيب، كي يمضي قدمًا في اجتراح حقائق جديدة ضمن هذا النهج.
بشهادة بعض الإسرائيليين أنفسهم، انتصرت إدارة ترامب للخطاب الصهيوني بلا زيادة أو نقصان. وعلاوة على دفوع ترامب نفسه، ذهب نائبه مايك بنس في كلمته أمام الكنيست الإسرائيلي في 24/1/2018 إلى “.. ما يشبه التبشير بقدوم المسيح سريعًا ووقوع يوم القيامة بحسب الرواية الصهيونية .. وأوضح التزام واشنطن بنظرية الحقوق الدينية والتاريخية لليهود في (أرض إسرائيل)، وكأن الفلسطينيين لم يوجدوا في أي يوم .. وهو في ذلك فضل الواقع على الخيال، وجعل أبطال الاستيطان وضم يهودا والسامرة يحتفلون بأجمل ساعاتهم”.
هذه الأجواء الأمريكية المحمومة بالصهيونية والمتصهينين ولاهوتهم، سمحت لنخب الحكم والسياسة في تل أبيب، الموصوفين باليمينية والتطرف السياسي والديني، بأن يتخذوا خطواتهم وقراراتهم المذكورة، وبأن يهرب رئيس الوزراء الإسرائيلي من مساءلته داخليًا على جرائم تتعلق بالفساد المالي. وكان من اللافت أن قوى المعارضة الإسرائيلية من “دعاة السلام” والتسوية والخوف على أفول حل الدولتين لصالح الدولة الواحدة؛ التي يغرق فيها اليهود في الأغلبية السكانية الفلسطينية، ويزول الطابع اليهودي الإسرائيلي، هذه القوى انخرطت في حمأة ما حسبته خلاصًا للقدس وحلاً صهيونيًا أخيرًا لمصيرها، وصفقت للخطاب الأمريكي وتظهيره لهذا الحل. غير أن الغلو في الضغط على الحالة الفلسطينية، بقرارات ضم المستوطنات وتطبيق القوانين الإسرائيلية في الضفة، ساقت بعض القوى والمسؤولين في هذه المعارضة إلى نصح حكومتهم بالتريث، وذهبت زهافا غلؤون، زعيمة حزب ميرتس (اليساري!) إلى القول بأن ما يجري في الأراضي الفلسطينية هو نظام فصل عنصري (أبارتيد).
v v v
لم يخب حدس الفلسطينيين، الذين تصوروا بأن استتباع إدارة الرئيس ترامب للرؤى الصهيونية الإسرائيلية حول القدس، سيمثل عاملاً محفزًا بقوة للسياسات الإسرائيلية الهادفة لتهويد القدس وبقية مفردات القضية الفلسطينية.
وبهذا الخصوص، لم يقصر صانع القرار الفلسطيني في إدانة القرارات الإسرائيلية، مثلما فعل مع القرار الأمريكي. وإجمالاً اعتبرت السلطة الفلسطينية، على لسان الرئيس محمود عباس، أن كل هذه القرارات إنما اعتمدت على الدعم الأمريكي الكامل، وأنها تصرفات تتعمد قتل فرص السلام، وتسعى بشكلٍ منظم إلى توطيد نظام الفصل العنصري في فلسطين التاريخية. ولذلك فنحن “.. بصدد اتخاذ قرارات نواجه بها السياسات الإسرائيلية، بما في ذلك الذهاب إلى المحاكم الدولية، والانضمام للمنظمات الدولية، واللجوء للوسائل الكفيلة بحماية الشعب الفلسطيني، ومساءلة إسرائيل السلطة القائمة بالاحتلال، على انتهاكاتها الجسيمة للقانون الدولي، وإعادة النظر في الاتفاقات الموقعة معه.”.
والحق أن القرار الأمريكي بشأن القدس بدا وكأنه باغت مدرسة التفاوض الفلسطينية. ظهر ذلك تمامًا في بعض تعليقات الرئيس الفلسطيني التي ذكر فيها، أن الفلسطينيين انتظروا أن يفصح الرئيس ترامب عن صفقة القرن. لكن وبشكلٍ منصف لحقوقهم، فإذا به يوجه إليهم صفعة القرن. لكن عنصر المفاجأة هذا لا ينطبق على المنظور الفلسطيني للتوابع الإسرائيلية لهذه المباغتة.
في كل حال، جاءت هذه الخطوات الأمريكية والإسرائيلية في توقيت فلسطيني بالغ السلبية والحرج، لجهة افتقاد الوحدة الوطنية واستمرار حالة الانقسام والقطيعة بين أقطاب النظام السياسي، والتقدم البطيء، إن لم يكن الفشل الظاهر، في ملف المصالحة الداخلية، على الرغم من الجهود المبذولة على هذا الصعيد، برعاية مصرية مكثفة. ثم إن هذه الخطوات والقرارات تزامنت مع إلحاح ذكرى عدد من المناسبات الموصولة بالمحطات الأكثر تأثيرًا في المسار التاريخي للقضية الفلسطينية، وفي مقدمتها مئوية تصريح أو وعد بلفور الذي صدر عام 1917. وهكذا، فإنه في الوقت الذي كان الفلسطينيون يطالبون فيه بريطانيا المستعمر السابق لبلادهم، بالاعتذار عن فعلتها والتكفير عنها، بالاعتراف بدولتهم، وهو ما ينبغي على عالم الغرب برمته فعله، جاء قرار ترامب، كي يثير في خواطرهم ديمومة الظلامة التي أوقعهم فيها هذا الغرب، حتى إنهم راحوا يتحدثون عن وقوعهم بين وعدين، بلفور وترامب، وليس وعدًا واحدًا فقط.
على نحو ما جرت عليه العادة، كان رد الفعل الفلسطيني حاضرًا وسريعًا. وقبل أن يطالب البعض بهجران الوساطة الأمريكية وعملية التسوية السلمية بالكامل، وإعادة رص الصفوف الوطنية خلف انتفاضة فلسطينية في وجه الجميع، كانت الاحتجاجات الشعبية بالتظاهر العارم على خطوط التماس مع الإسرائيليين، تجتاح القدس وبقية أنحاء الضفة وغزة .. بما خلف ضحايا من الشهداء والجرحى والمعتقلين. لكن هذا التعبير لم يتطور أو يتصاعد على نحو أو وتيرة يذكران بزمن الانتفاضتين الكبريين في نهاية ثمانينات القرن الماضي وبداية القرن الحالي. وذلك بالنظر إلى اختلاف المحددات المحيطة على أكثر من صعيد.
والملاحظ هو إجماع كافة ألوان الطيف السياسي الفلسطيني على “الكفر” بالدور الأمريكي في عملية التسوية، لافتقاده الحياد والموضوعية، وغروب الأمل في حدوث التوازن المطلوب لهكذا دور؛ لاسيما في ظل إدارة ترامب ورهطه في البيت الأبيض. وينطبق الإجماع ذاته على الموقف من الجانب الإسرائيلي. لكن ذلك لا يحول دون الاعتقاد بتلصص شيء من الارتباك، فيما يتعلق بالخطوات التالية لمثل هذه القطيعة مع كلٍ من تل أبيب وواشنطن والمسار المتعثر للتسوية على حدٍ سواء.
على سبيل المثال، الجانب الفلسطيني محق عندما يشيح بوجهه عن الوساطة الأمريكية .. غير أنه يواجه صعوباتٍ جمة لدى محاولة العثور على الطرف الثالث البديل. وقد تجلت هذه الصعوبة حين طرحت خيارات من قبيل: تفعيل الدور الأوروبي، أو توسيع الرباعية الدولية المكونة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، لتضم أطرافًا فاعلة أخرى كالبرازيل والصين والهند واليابان وجنوب أفريقيا وجامعة الدول العربية .. فهذه الأطراف نصحت جميعها بأنها يمكن أن تساهم في عملية التسوية، لكنها ليست بديلاً من واشنطن .. وهو ما يوافق عليه الفلسطينيون، لكنهم لا يملكون إقناع الطرفين الأمريكي والإسرائيلي به.
وعندما تفكر السلطة الفلسطينية جديًا في فض اتفاقات أوسلو وتوابعها ووقف التنسيق الأمني، وغير الأمني، مع إسرائيل، والانضمام إلى الأمم المتحدة بعضوية كاملة .. فإنها مطالبة كما يقال بالإجابة عن أسئلة كثيرة .. مثل كيفية التوفيق بين وجودها في الأرض المحتلة والسيطرة الإسرائيلية المطبقة هناك ؟.. ومن هو الطرف الذي بوسعه استضافة الحركة الوطنية الفلسطينية، إذا ما أغارت إسرائيل على مؤسسات السلطة وضيقت عليها الخناق ؟. وكيف ستمارس السلطة عملية البناء المتوالية لمؤسسات الدولة العتيدة، وتتابع أحوال الشعب الفلسطيني عن كثب فيما السيف الإسرائيلي مسلط على رقاب الجميع، سلطةً وشعبًا ؟.
وليس من السهل على السلطة الفلسطينية، ولا حتى القوى والفصائل داخل السلطة وخارجها، تبني انتفاضة شاملة ضد إسرائيل، على اعتبار أن عملاً كهذا سوف يستدعي مواجهة مع الإرهاب الإسرائيلي العنيف، وهو ما تفضله إسرائيل كونه يجر الفلسطينيين إلى الميدان الذي تجيد إسرائيل لغته، ميدان العنف المسلح المفتوح والمغطى بالدعم السياسي وغير السياسي من الجانب الأمريكي. مواجهة كهذه ربما انتهت بهدم كثير مما بناه الفلسطينيون على طريق الدولة.
بين يدي هذا المشهد، بكل تعقيداته، التزمت السياسة الفلسطينية بكثيرٍ من الحذر وعدم الاندفاع العاطفي، وأعلنت عن مواجهة تحدي القرارات الأمريكية والإسرائيلية بخطواتٍ محسوبة، لخصتها قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي انعقد في رام الله في منتصف كانون الثاني (يناير) 2018 .. وتضمنت “.. العمل على إسقاط القرار الأمريكي بشأن القدس ورفض الرعاية الأمريكية لعملية السلام. ورفض أي مشروعات للتسوية تخالف قرارات الشرعية الدولية؛ وتكليف اللجنة التنفيذية للمنظمة بتعليق الاعتراف بإسرائيل إلى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود 1967 وإلغاء قرار ضم القدس الشرقية ووقف الاستيطان؛ ورفض الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية؛ والعمل على توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وإحالة ملفات القضية الفلسطينية وجرائم إسرائيل للمحكمة الجنائية الدولية؛ والعمل على تفعيل القرارات العربية والإسلامية بقطع العلاقات مع أي دولة تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل؛ والتنسيق لأجل عقد مؤتمر دولي كامل الصلاحيات للاضطلاع بعملية السلام، وإدانة التهديد الأمريكي بوقف الالتزام بتمويل الأونروا.”.
من الواضح أن بعض هذه القرارات كان للتنفيذ العاجل، مثل قطع الاتصالات مع الوسطاء الأمريكيين والتمسك برفض يهودية إسرائيل .. وبعضها للتنفيذ الآجل وجس النبض، مثل سحب الاعتراف بإسرائيل وعقد مؤتمر دولي للسلام، وإعداد الخطط لفك الارتباط وتحديد العلاقات الأمنية والتحرر من الاتفاقات الاقتصادية مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي. وإجمالاً لم تعلن السلطة الفلسطينية خروجها عن مسار التسوية السياسية وإن أظهرت تحرقها لمزيدٍ من تدويل هذا المسار وعدم إيداعه رهينة للتحالف الأمريكي الإسرائيلي، ورغبتها في حصار إسرائيل ومعاقبتها على انتهاك الشرعية الدولية ذات الصلة بحقوق الشعب الفلسطيني عمومًا، وحرصها على ضبط حركة الشارع الفلسطيني لئلا تبطش إسرائيل به وبالمكتسبات الوطنية، مستغلةً حالة العجز والارتباك وعدم الاستقرار الداخلي الآخذة بناصية العالمين العربي والإسلامي، فضلاً عن مراوحة المصالحة الفلسطينية الداخلية في مكانها.
v v v
حين أعلن القرار الأمريكي والقرارات الإسرائيلية اللاحقة؛ المهددة لمصير القدس فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا، لم يكن النظام العربي في أفضل حالاته. فالمشاحنات الباردة والساخنة داخل بعض دول النظام وفيما بين هذه الدول، كانت السمة السائدة .. بل وطالت هذه المشاحنات العلاقات بين دول الخليج العربية بشكلٍ استثنائي مثير لا سابقة له. وعلى خلفية هذه البيئة، الحاضنة جدلاً للفلسطينيين والظهير القومي لحقوقهم الوطنية، لا يصح الاعتقاد بأن إدارة ترامب قد اتخذت قرارها عن هوج أو هوس .. والأقرب للمنطق هو أن قرار ترامب، والقرارات الإسرائيلية، صدرت جميعها عن قراءة واعية لاحتمالات ردود الأفعال العربية والإقليمية الفاترة.
وبالنسبة للمباغتات الإسرائيلية بالذات، تجدر الإشارة إلى أن تل أبيب استطلعت محدودية الاستنفار العربي ضدها، بناءً على تجربتها في صيف 2017، حين تحمل المقدسيون العبء الأكبر في التصدي لمحاولة حصار الحرم القدسي بالبوابات الإلكترونية وكاميرات المراقبة الذكية .. ولم تخرج المواقف العربية عن مألوفها من خلال إعلانات التنديد والإدانة والرفض عن بعد واستصراخ المجتمع الدولي، وحرصت العواصم على ضبط الغضب الشعبي وإبقائه تحت السيطرة.
إلى ذلك، شاع قبيل صدور القرارات أن ثمة تنسيقًا مسبقًا بشأن نية الرئيس الأمريكي تجاه القدس مع بعض هذه العواصم، وذلك ضمن ما وصف بالعكوف الأمريكي على إعداد خطة كبرى لتسوية القضية الفلسطينية (صفقة القرن)، مع منح أولوية لتطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، في إشارة إلى العمل بعكس ما تنص عليه مبادرة السلام العربية المعروضة منذ العام 2002، وهو البدء بالتسوية الفلسطينية. ويندرج تحت هذا التصور ما قيل حول وجود عرضٍ أمريكي بموافقة من بعض القوى الفاعلة عربيًا، باتخاذ أحد ضواحي القدس (غالبًا قرية أبو ديس) كعاصمة للفلسطينيين عوضًا عن شرقي المدينة وحرمها الشريف.
في كل حال، رفض النظام العربي، ممثلاً بأكثر من اجتماع لوزراء الخارجية، القرار الأمريكي وتوابعه الإسرائيلية بشكلٍ قاطع لا لبس فيه، على اعتبار أنها تتناقض مع الشرعية والقانون الدوليين، وتقوض جهود السلام. وفي السياق، تقرر رفع الأمر إلى مجلس الأمن لتعميد هذا الرفض دوليًا، وهو ما جرى بالفعل عبر مشروع مصري إلى مجلس الأمن، تم إحباطه بالفيتو الأمريكي الذي خالف إجماع بقية الأعضاء الأربعة عشر بالكامل. ثم إن القرار المصري ذاته جرى تحويله إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي أصدرته بأغلبية 129 دولة. وقد جرى ذلك في أجواء تصعيد وتحدٍ أمريكية، بحيث هددت واشنطن الدول المعترضة على موقفها في الأمم المتحدة بقطع مساعداتها لها.
على أن هذه الردود العربية الرسمية حاورت جميعها في حدود المتوقع .. ويقينًا أنها لم ترق إلى خطورة الخطوات الأمريكية والإسرائيلية تجاه زهرة المدائن .. فلا الدول قطعت علاقاتها مع الولايات المتحدة، وفقًا لقرارات سابقة عن القمم العربية نصت على هذا الإجراء مع أي دولة تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل أو تنقل سفارتها إليها، ولا هي سحبت سفراءها من واشنطن، ولا حتى هددت بذلك. وعوضًا عن ذلك، أكدت أكثر من عاصمة عربية أن الغضب تجاه سلوك واشنطن “.. لا يعني الاستغناء عن دورها في عملية السلام، حتى وإن اتجهت الجهود إلى توسيع دائرة الوسطاء في هذه العملية .. ويجب استثمار الوقت المطلوب للشروع في نقل السفارة الأمريكية للقدس، في الوصول إلى تصويب الوضع مع إدارة ترامب وليس خارج هذه الإدارة ..”. ومرد هذا التكييف هو سيطرة الفكرة القائلة بأنه لا فرصة أمام العرب في تحقيق مراداتهم، إذا ما توسعت المواجهة مع واشنطن. هذا بالإضافة إلى أن كل الأطراف الدولية المتفهمة للمطالب الفلسطينية وغير الراضية عن المواقف الأمريكية الإسرائيلية، ولاسيما دول الاتحاد الأوروبي، أعلنت صراحة أنها لن تكون بديلاً للولايات المتحدة في رعاية ملف التسوية الفلسطيني بسبب صلتها الخاصة بإسرائيل. كما أن أحدًا من هذه الأطراف لم يتبن عقوبات محددة بحق إسرائيل، تجبرها على تعديل سياساتها في القدس أو تعيدها للانصياع لحل الدولتين الذي يتعرض مع مرور الوقت للتآكل والأفول.
على الصعيد الشعبي، لم تكن احتجاجات وتظاهرات الشارع العربي بالحجم ولا بالكيفية المعبرة عن مكانة القدس في الموروث الديني أو الدنيوي .. بهذا الصدد، يصح الاعتقاد بأن المجال العربي والإسلامي العام قد انفعل بالتحولات الأمريكية والإسرائيلية؛ الزاحفة سريعًا نحو تهديد أولى قبلتي المسلمين وثالث حرميهم الشريفين .. لكنه ظل انفعالاً غاضبًا مكظومًا، وربما محجوبًا بفعل الأجواء المقبضة وكثرة الشواغل الداخلية في هذا المجال. وليس بلا مغزى أن بعض العواصم والحواضر العربية لم تشهد تظاهرة واحدة تفصح عن هذا الغضب. ولعل المبادرة غير الرسمية الأكثر تجليًا في هذا الإطار، هي “المؤتمر العالمي لنصرة القدس” الذي عقد في رحاب مؤسسة الأزهر الشريف، بدعوة من إمامه الدكتور أحمد الطيب، وبحضور الرئيس الفلسطيني محمود عباس في القاهرة يومي 18 و 19 كانون الثاني (يناير) 2018. وقد شارك في الفعالية وفود إسلامية عربية وغير عربية ومسيحية من 88 دولة ومنظمة من القارات الست، تبنت جميعها الموقف الفلسطيني بكامله، ووعدت بالدعم المادي والمعنوي للمقدسيين بوصفهم خط الدفاع الأول عن المدينة المقدسة؛ عاصمة فلسطين الأبدية.
الشاهد أن مثل هذا التجمع الكبير ينطوي على إشارات قوية على ديمومة الحميمية الشعبية العربية والإسلامية، بالمعنى الحضاري الذي يضم بعدًا مسيحيًا واضحًا .. لكن زمام المبادرة الفاعلة بالثواب والعقاب تجاه التحالف الأمريكي الإسرائيلي، وإطلاق الطاقة الشعبية من عقالاتها، يظل معلقًا بذمة القوى والنظم الحاكمة إلى حدٍ بعيد.
v v v
الأرجح، والحال كذلك، أن العبء الأكبر للدفاع عن فلسطينية القدس ومقامها العربي الإسلامي التاريخي، سيقع على الطرف الفلسطيني ذاته، المقدسيين منه بشكلٍ استثنائي. والأرجح أن السياسة الإسرائيلية ستعمل على جعل هذا العبء أكبر مما تتحمله طاقة هذا الطرف .. حتى ليصح التوقع بأنها سوف تطارد المقدسيين مؤسسة مؤسسة وشارعًا شارعًا ودكانًا دكانًا وعائلة عائلة وفردًا فردًا ..، وصولاً إلى بغيتها في ابتلاع المدينة في جوف مشروعها التوسعي والتهويدي. هذا بالطبع ما لم تقع تحولات في السياقات المحيطة بهذه القضية، تؤدي إلى كبح جماح هذه السياسة، حتى إفشالها كليًا.